4 – عهد التقليد 

- هذا هو العهد الذي فترت فيه همم العلماء عن الاجتهاد المطلق وعن الرجوع الي المصادر التشريعية الاساسية لاستمداد الاحكام من نصوص القرآن والسنة ، واستنباط الاحكام فيما لا نص فيه بأي دليل من الادلة الشرعية . والتزموا اتباع ما استمدوه من الائمة المجتهدين السابقين من الاحكام .
- ابتدأ هذا العهد من منتصف القرن الرابع الهجري بالتقريب حين طرأت علي المسلمين عدة عوامل سياسية ، وعقلية وخلقية واجتماعية ن أثرت في كل مظهر من مظاهر نهوضهم وأحالت نشاطهم التشريعي الي فتور .

وراض العلماء أنفسهم علي التقليد ، ورضوا أن يكونوا عالة علي فقه الائمة السابقين أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأقرانهم .وبلغ من ركونهم الي اقوال أئمتهم ان قال ابو الحسن الكرخي من علماء الحنفية ، كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ – وبهذا وقف التشريع عند ما وصل اليه أئمة العهد السابق وقصر عن مسايرة ما يجد من التطورات والمعاملات والاقضية والوقائع .

- أسباب وقوف حركة الاجتهاد :
وأهم العوامل التي أدت الي هذا الوقوف والتزام تقليد السابقين أربعة : 
أولا :انقسام الدولة الاسلامية الي ممالك يتناحر ملوكها وولاتها وافرادها ، مما شغل ولاة الامور وشغل الناس معهم بالحروب والفتن وإتقاء المكايد وتدابير وسائل القهر والغلبة ، فدب الانحلال العام وفترت الهمم والعلوم والفنون ، مما أدي الي وقف حركة التشريع .
وثانيا :
لما انقسم الائمة المجتهدون في العهد الثالث الي أحزاب ن وصار لكل حزب مدرسة تشريعية ، لها نزعتها وخطتها ، عني تلاميذ كل مدرسة او اعضاء كل حزب بالانتصار لمذهبهم وتأييد أصوله وفروعه بكل الوسائل ، وصرفهم ذلك عن الاساس التشريعي الاول وهو القرآن والسنة ، فكانوا لا يرجعون الي نص منهما الا ليلتمسوا فيه ما يؤيد مذهب إمامه ولو بضرب من التعسف والتأويل ، وبهذا فنيت شخصية العالم في حزبيته ، وماتت روح استقلالهم العقلي . وصار الخاصة كالعامة أتباعا ومقلدين .

وثالثا : لما أهمل المسلمون تنظيم السلطة التشريعية ولم يضعوا نظاما كفيلا بأن لا يجترئ علي الاجتهاد الا من هو أهل ، دبت الفوضي في التشريع والاجتهاد ، وادعي الاجتهاد من ليس أهلا له ، وتصدي لافتاء المسلمين جهال عبثوا بنصوص الشريعة وبحقوق الناس ومصالحهم ، وبهذا تعدد الاحكام في الاقضية ، حتي كان القضاء يختلف في البلد الواحد ، فتستحل دماء وأموال في ناحية من نواحي المدينة وتستباح في ناحية أخري ، وكل ذلك نافذ في المسلمين ، وكله يعتبر من أحكام الشريعة ، فلما فزع من هؤلاء العلماء حكموا في أواخر القرن الرابع بسد باب الاجتهاد ، وتقييد المفتين والقضاة بأحكام الائمة السابقين ، فعالجوا الفوضي بالجمود .

ورابعا : فشت في العلماء أمراض خلقية ، حالت بينهم وبين السمو الي مرتبة الاجتهاد ، فقد فشا بينهم التحاسد والانانية ، فكانوا إذا طرق أحدهم باب الاجتهاد ، فتح من نفسه أبوابا من التشهير به وحط أقرانه من قدره ، وإذا أفتي في واقعة برأيه ، قصدوا الي تسفيه رأيه وتفنيد ما أفتي به بالحق وبالباطل ، فلهذا كان العالم يتق كيد زملائه ، بأنه مقلد ناقل ، لا مجتهد ومبتكر ، وبهذ ا ماتت روح النبوغ ولم ترفع في الفقه رؤوس ، وضعفت ثقة العلماء بأنفسهم ، وثقة الناس بهم ، فولوا وجههم مذاهب الائمة السابقين .

- جهود العلماء التشريعية في هذا العهد : 
ولكن هذه العوامل التي قعدت بالعلماء عن الاجتهاد المطلق ، واستمداد الاحكام الشرعية من مصادرها الاولي ، لم تقعدهم عن بذل جهود تشريعية في دوائرهم المحدودة ولهذا قسم علماء كل مذهب طبقات 
الطبقة الاولي : اهل الاجتهاد في المذهب :
وهؤلاء لا يجتهدون في الشرع اجتهادا مطلقا ، وإنما يجتهدون في الوقائع من أصول الاجتهاد التي قررها أئمتهم ، وقد يخالف الواحد منهم مذهب زعيمه في بعض الاحكام الفرعية ، ومن هؤلاء الحسن بن زياد في الحنفية ، وابن القاسم وأشهب في المالكية ، والبويطي والمازني في الشافعية فهؤلاء قادرون علي استمداد الاحكام الشرعية من مصادرها الاولي ن ولكنهم الزموا انفسهم ان يكون استمدادهم علي وفاق استمداد أئمتهم ، وأساسهم هو اساسهم .

ولا يعد من هذه الطبقة أبو يوسف ومحمد بن زفر أصحاب أبي حنيفة لأن هؤلاء من أهل الاجتهاد المطلق في الشرع ، ولهم آراء مستقلة ومنزلتهم من أبي حنيفة منزلة الشافعي من مالك ، ومنزلة أحمد من الشافعي ، الا انهم مزجوا مذهبهم بمذهب زعيمهم وأطلق علي مجموعها اسمه ، ولو اراد كل منهم لكان له مذهب مستقل .

- الطبقة الثانية : أهل الاجتهاد في المسائل التى لا رواية فيها عن امام المذهب :
وهؤلاء لا يخالفون الأئمة في أحكام فرعية ولا في أصول اجتهادية ، وإنمايستنبطون أحكام المسائل التي لا رواية فيها حسب أصول أئمتهم وبالقياس علي فروعهم . كالخصاف والطحاوي والكرخي من الحنفية ، واللخمي وابن العربي وابن رشد من المالكية . وأبي حامد الغزالي والاسفراييني من الشافعية .

الطبقة الثالثة :أهل التخريج : 
وهؤلاء لا يجتهدون في استنباط أحكام المسائل ، ولكنهم لاحاطتهم بأصول المذهب ومأخذه يقتصرون علي تفسير قول مجمل من اقوال ائمتهم أو تعيين وجه معين لحكم يحتمل وجهيين . فاليهم المرجع في إزالة الخفاء والغموض الذي يوجد في أقول الائمة وأحكامهم ، كالجصاص وأضرابه من علماء الحنفية

- الطبقة الرابعة :أهل الترجيح : 
وهؤلاء يوازنون بين ما روي عن أئمتهم من الروايات المختلفة ويرجحون بعضها علي بعض من جهة الرواية ، او من جهة الدراية فيقولون هذا أصح رواية ، او هذا اولي النقول بالقبول ، او هذا أوفق للقياس او ارفق للناس , ومن هؤلاء القدوري وصاحب الهداية وأضرابهما من علماء الحنفية .

- الطبقة الخامسة : اهل التقليد المحض : 
وهو يميزون بين روايات النوادر وظاهر الرواية ، وبين القوي من الادلة والضعيف ، ومن هؤلاء أصحاب المتون المشهورة المعتبرة في مذهب ابي حنيفة كصاحب الكنز والوقاية .

- فمن هذا يؤخذ ان جهود العلماء في هذا العصر قصروا نظرهم علي أقوال الائمة وتعليلها والترجيح بين المتعارضات منها ، وصاروا كلهم مقلدين ، ونسي العلماء ما قاله أبو حنيفة فيمن سبقه من الفقهاء : "هم رجال ، ونحن رجال "، وما قاله مالك بن أنس :" ما من احد الا ويؤخذ من قوله ويترك الا المعصوم صلي الله عليه وسلم "، وقول الشافعي : "إذا صح الحديث فهو مذهبي ".

- بوادر النشاط التشريعي الحديث 

أواخر القرن الهجري الثالث عشر جمعت الحكومة العثمانية طائفة من كبار علمائها وكلفتهم وضع قانون في المعاملات المدنية تكون مآخذه الفقه الاسلامي ولو من غير المذاهب المعروفة متي كان الحكم المأخوذ يتمشي وروح العصر . وقد اجتمع هؤلاء العلماء وسنوا القانون الذي سمي ( مجلة الاحكام العدلية) في سنة 1286هـ وصدر العمل به في سنة 1292 هـ وأخذوا فيه احكام البيع بالشرط من مذهب ابن شبرمة . وهذه اول ثغرة في خط التقليد المحض للمذاهب الاربعة .
- وفي مصر خطت الحكومة في سنة 1920 م أولي خطواتها وأصدرت القانون رقم 25 لسنة 1920 الذي اشتمل علي بعض أحكام في الاحوال الشخصية تخالف مذهب ابي حنيفة ولكنها لم تخرج عن مذاهب الائمة الاربعة .
- وفي سنة 1229 م خطت خطوة ثانية واصدرت قانون الاحوال الشخصية الذي خالف في بعض مواده المذهب الاربعة ولكنه لم يخرج عن المذاهب الاسلامية .
- وفي سنة 1936 م كانت هناك خطوة اكثر تقدما في التشريعات القانونية .
وعسي أن نأخذ في سن قوانينا الشرعية التي تحقق مصالح الناس وتساير روح العصر وتطوراته ، بما لا يخالف نصا في القرآن والسنة ولو لم تكن مأخوذه من مذاهب السابقين ، وبهذا يبعث النشاط التشريعي الاسلامي من مرقده ويحيا الفقه الاسلامي بالتطبيق العملي والدراسة المقارنة وما ذلك علي الله بعزيز .
انتهي الكتاب بعون الله تعالي 


ترجمة الشيخ عبد الوهاب خلاف (1305 - 1375 هـ = 1888 - 1956 م)
هو 
المحدث، الأصولي، الفقيه، الفرضي ، الشيخ عبد الوهاب خلاف، عضو مجمع اللغةالعربية بالقاهرة ، ألف ونشر كثيرا من الكتب، من أبرزها : أصول الفقه

ولد الشيخ في شهر مارس سنة 1888 م ببلدة كفر الزيات.
التحق بالأزهر الشريف سنة 1900م بعد أن حفظ القرآن الكريم في أحد ((كتاتيب)) البلدة.
انتظم في سلك طلبة مدرسة القضاء الشرعي إثر افتتاحها وتخرج فيها عام 1915م وعين مدرساً بها في نفس السنة.
اشترك في ثورة 1919م فبرزت خلالها مواهبه الخطابية والكتابية وترك المدرسة أو أجبر على تركها فانتقل إلى القضاء الشرعي.
عين قاضياً بالمحاكم الشرعية سنة1920م ثم نقل مديراً للمساجد بوزارةالأوقاف سنة 1924م وبقي بها حتى عين مفتشاً بالمحاكم الشرعية في منتصفسنة1931م.
انتدبته كلية حقوق جامعة القاهرة مدرساً بها في أوائل سنة 1934م وبقي أستاذاً لكرسي الشريعة الإسلامية حتى أحالته إلى المعاش سنة 1948م وقد ظلت تمد مدة خدمته حتى بداية عام 1955-1956م حيث أقعده المرض عنإلقاء المحاضرات.
زار كثيراً من دول الوطن العربي للاطلاع على المخطوطات النادرة وإلقاء المحاضرات...
انتخب عضواً بمجمع اللغة العربية فأشرف على وضع معجم القرآن.
ترك عددا من المؤلفات امتازت بوضوح العبارة ، فله كتاب((أصول الفقه))،وكتاب ((أحكام الأحوال الشخصية))، وشرح واف لقانوني ((الوقف والمواريث))،وكتاب فريد عن ((السياسة الشرعية))، أو السلطات الثلاث في الإسلام، وكتيبفي تفسير القرآن الكريم بعنوان ((نور من الإسلام))، هذا عدا ما دبجه منبحوث ومقالات كثيرة نشرها في مجلة القضاء الشرعي ومجلة الأحكام ومجلة لواءالإسلام ومجلتي الثقافة والرسالة.
ألقى مجموعة من الأحاديث في الإذاعة المصرية في مختلف الموضوعات العلمية والدينية والاجتماعية وأخصها((من قصص القرآن)).
ألقى مجموعة من المحاضرات في المناسبات الدينية والاجتماعية، كما ألقىسلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم لعدة سنوات بدار الحكمة.
توفي - رحمه الله - في : 5 من جمادى الآخرة 1375هـ = 19 يناير 1956م، ودفن بمقابر الغفير.





شكرا لكل الاخوة الذين صبروا وأصروا علي قرآءة الموضوع ، والذين اهتموا بالتعليق ، والي كتاب جديد بإذن الله تعالي ، والله أسأل أن يجعل ذلك في صحيفة اليمين .