وانت تقرأ هذا الموضوع استمع لتلاوة الشيخ علي جابر يعتبر من افضل القراء في العالم الاسلامي رحمه الله
حركات الإصلاح في العالم الإسلاميّ[1]
عباس أرحيلة
تمهيد: مفهوم الإصلاح
المادة اللغوية من لفظة إصلاح
تفيد جلب المنفعة والخير. والصلاح، ضد الفساد؛ فهو كل سلوك تستقيم به الحال على ما يدعو إليه الشرع والعقل، وتتحقق به المصلحة.
تفيد جلب المنفعة والخير. والصلاح، ضد الفساد؛ فهو كل سلوك تستقيم به الحال على ما يدعو إليه الشرع والعقل، وتتحقق به المصلحة.
والإصلاح مظهر من مظاهر الوعي بالذات، حين تواجه واقعاً متردِّياً متأزِّماً، وتتوق إلى إصلاحه وتطويره. وشهد تاريخ الإسلام، عبر تحوُّلاته وامتداداته، حركات إصلاحيّة لدعم الحضارة الإسلاميّة، وتوجيهها الوجهة الصحيّة، وترسيخ منهج الله في الأرض عقيدةً وشريعةً.
والمراد بالإصلاح هنا، ما أعربت عنه دعوات الإصلاح؛ التي انبثقت من داخل العالم الإسلاميّ في العصور الحديثة، وحدَّدتْ أهدافها ضمن محاولات التجديد والبعث للحضارة الإسلاميّة في مواجهة التحديات الأوربيّة، الغازية بجيوشها وبضاعاتها، وأنظمتها وأفكارها.
فارتبط مفهوم الإصلاح بالتغيير والتجديد والدخول إلى معترك الحضارة الحديثة بالصدام مع مدنيّة الغرب.
ودخول العالم الإسلاميّ إلى معترك العالم الحديث بعد الثورة الصناعيّة في الغرب، وبعد الحركات الاستعماريّة التي اجتاحت المعمور؛ جعله يُحسُّ بضرورة إصلاح ما أفسده التخلف والجهل والتقاعس عن أداء؛ المسؤولية التي من أجلها كانت أمّة الإسلام خير أمة أُخرجت للناس.
ومن داخل الشعور بأحوال المسلمين، وما هم عليه من تخاذل وضعف وهوان؛ انبثقت مظاهر الوعي لدى دعاة الإصلاح في العالم الإسلاميّ. فكانت الدعوة إلى التجديد وإلى الدخول في معترك الحضارة الحديثة، والعمل على بعث الروح الإسلاميّة في مواجهة الحضارة الغربيّة الغازية بجيوشها وأفكارها وبضائعها.
وقد انطلقت الحركات الإصلاحيّة في العالم الإسلاميّ – عموماً – خلال القرن التاسع عشر، وأوائل العشرين، وكان شعارها التغيير والتجديد، والإسهام في الحضارة الحديثة، مع الحفاظ على الهُوِيَّة الإسلاميّة. وقد اتخذت هذه الحركات توجُّهات بحسب أوضاعها، وعلاقاتها مع الحضارة الغربيّة.
أولا: بواعث الإصلاح في العالم الإسلاميّ
كانت الوضعية العامّة في العالم الإسلاميّ تستدعي الإصلاح.
هناك خصائص طبيعيّة وأسباب تاريخيّة تزيد من عوامل الاختلاف بين الشعوب؛ إذ تتميز هذه الشعوب بتوزيع جغرافيّ عبر مناطق شاسعة من العالم، وتتعدَّد أجناسُها وتختلف لغاتُها وحضارتُها، مما يصعب معه تصور تحقيق وحدة إسلاميّة، إلا إذا قامت على منهجيّة إسلاميّة قويّة وبرؤية شمولية دقيقة. وإلى جانب تردّي الأوضاع الداخليّة في العالم الإسلاميّ، وقع هذا العالم في عزلة اقتصاديّة إثر فتح الطريق البحريّ: رأس الرجاء الصالح. كما ازداد تأزُّماً بتغلغل الاستعمار الأوربيّ في أكنافه، واتخاذه مجالا للتوسع الاقتصاديّ والعسكريّ.
وكانت المواجهة بين عالم إسلاميّ يعاني من التخلف والانحطاط، وينهكه الفساد والاستبداد، وعالم أوربيّ تتحرَّك في ركابه حضارة مادِّيّة متطورة؛ وليدة ثورة صناعيّة تجتاح المعمور، وأخرى سياسيّة واجتماعيّة وفكريّة.
إثر هذا الصدام حاول العالم الإسلاميّ أن يخرج من جموده ومؤسساته التقليديّة العتيقة، ويطرد عنه الجهل، ليستأنف مسيرته الحضاريّة. وهكذا عبَّرت تيارات اليقَظة ودعوات الإصلاح على اختلاف مشاربها عن رغبتها في النهوض والتغيير ومواجهة تحدِّيات العصر.
ثانيا: من هم المُصلحون؟
كان هناك نوعان من الإصلاح في الشرق: نوع نابع من رغبة الشرق ومؤسساته، ونوعُ أُحدث خدمةً للاقتصاد الغربيّ وتوسعه في العالم الإسلاميّ، وخاصة ما يتعلق بالنقل والمواصلات وتحديث الموانئ...
ولما كانت الإمبراطورية العثمانيّة تقود العالم الإسلاميّ؛ فإنَّ مظاهر الإصلاح تُلتمسُ في مشاريعها وتخطيطاتها ومبادراتها أثناء صدامها مع العالم الأوربيّ، كما تُلتمس تلك المظاهر في الولايات العربيّة التابعة لها، كما أنَّ العالم الهنديّ شهد محولات إصلاحية رائدة.
والمصلحون - عموما – سواء كانوا من رجالات الحكم أو من المستنيرين المفكرين؛ تملَّكتْهم الرغبةُ في النهوض بأمر الشرق ومواجهة التحدِّيات الأوربيَّة اقتصاديّاً وفكريّاً، وكان لهم وعي بوضعية الشرق حيث شخَّصوا أمراضَه واقترحوا له العلاج المناسب تبعاً لكل حالة.
ولكل أمة مصلحوها؛ يعرفون طبيعة مشاكلها، وطرق التأثير فيها، ويرسمون الخطة لتغيير واقعها وتجديده. ويظل نجاحُ الإصلاح رهيناً بتوافر التربة الصالحة لإنجاز مشروع الإصلاح، مع استعداد المُصلِح لمواجهة العقبات التي يمكن أن تعترض مشروعَه الإصلاحيّ.
وظهر في العالم الإسلاميّ مُصلحون تنادَوْا ضرورة الإصلاح، وعملوا على تهيئ النفوس والعقول لمواجهة تحدِّيات العصر الحديث، وقدموا جهوداً رائدةً لإخراج الشرق من طور الانحطاط إلى مشارف المدنيَّة الحديثة مع الحفاظ على المقومات الإسلاميّة.
ثالثا: تيارات الإصلاح
انطلقت هذه التيارات داخل الإمبراطوريّة العثمانيّة ووِلاياتِها، وقامت بالأساس على فكرة الجهاد ضد البيزنطيِّين. وظلت مصدر تهديد للغرب بين القرنيْن الرابع عشر والسادس عشر. وفي القرن السادس عشر توسَّعتْ تلك التيّارات لتشمل البلاد العربيّة مشرقاً ومغرباً. ولمّا كانت السلطة العثمانيّة تحمل راية الإسلام في وجه الغرب؛ كان لا بدّ أن تتوالى دعوات الإصلاح لمواكبة ما يجري في الغرب. وهكذا كانت بداية التحديث عسكريّةً على أيدي كثير من الخلفاء العثمانيِّين.
فقد اتجه سليم الثالث (1789 – 1807م) إلى تحديث الجيش، وفي سنة 1793م أصدر سلسلة أوامر عُرفتْ باسم (نظامي جديد) تتعلق بإدارة الضرائب والولايات، واهتمَّ بإنشاء مدارس عسكريّة وبحريّة.
وإلى جانب العناية بالجيش بادر محمود الثاني (1808 – 1839م) بإرسال بعثات إلى أوربا لإعداد المُدرِّسين والضباط وعمل على توسيع المدارس التقنيّة العليا. وقد اعتَبَرَ التعليم الركيزة الأساس في الإصلاح. فتعددتْ المدارس الحديثة على عهده، وتحقّقت الازدواجية في التعليم. وتمَّ إنشاء مدرسة جديدة للعلوم الحربيّة، والمدرسة الشاهانيّة للطب ومدرسة للجراحة.
وتابع السلطان عبد المجيد (1839 – 1861م) الإصلاح فأصدر التنظيمات الخيريَّة، واتخذ تحديث الإدارة هدفاً، وفرض سلطة المركز على الولايات وحاول تكوين مجتمع يتساوى فيه المسلمون وغيرهم داخل جميع المرافق الحيويّة للدولة.
ويكفي القول إنَّ هذه الإصلاحات شملت جوانب الحياة واستهدفت تطويرها وتحديثها، وإنْ كانت الإمبراطورية أصبحت تعاني من التراجع تحت الضغوط الأوربيّة، ولا يمكن التعرف على محاولات الإصلاح إلا باستحضار الظروف العامّة التي مرت منها تركيا، وبالنظر إلى تكوينها العِرقيّ، والمذهبي، وموقعها في الصراع الدوليّ آنذاك.
وتكفي الإشارة إلى مصلح اجتماعي في إستانبول، وهو مدحت باشا (1822 – 1883م) الذي دعا إلى اختيار ما ينسجم مع الشرق من المدنيّة الحديثة، في كل ما يتعلق بتنظيم الحكم على أساس الشورى، وبتنظيم الحياة الدينيّة والعلميّة والاقتصاديّة والإداريّة.
والحق أنه من الصعوبة تحديد تيارات الإصلاح في العالم الإسلاميّ؛ إذ تنوعتْ هذه التيارات واختلفت باختلاف توجُّهاتها، ومنطلقاتها ومقاصدها، ومدى تجاوبها مع ظروفها العامّة، وتعدّدت زوايا النظر إلى الحركات الإصلاحيّة وطغى النزوع الإيديولوجيّ في تقويم جهود تلك الحركات. ولعل الوضعية الراهنة للعالم الإسلاميّ تجعلنا نراجع هذه التيارات الإصلاحية في أبعادها الدينيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، ونحاول أن نستفيد منها في اختياراتنا الحاضرة.
ويمكن تقسيم تيارات الإصلاح إلى:
أ – تيارات ذات نزعة سلفيّة.
ب – تيارات عقلانيّة ليبراليّة متفتِّحة.
ج – تيارات تغريبيّة عِلمانيّة.
رابعا: تيارات ذات نزعة سلفيّة
تربط التخلف بشيوع البدع والضلالات في العقيدة الإسلاميّة وتهدف إلى العودة بالدين الإسلاميّ إلى منابعه الأولى، ومن هنا رفضت الغرب من الناحية الحضاريّة. وتمثلت هذه الدعوات في:
1 - الدعوة الوهّابيّة:
نسبة إلى محمد بن عبد الوهاب (1115 – 1206هـ/1703 – 1791م)، وقد انتشرت في شبه جزيرة العرب، ودعت إلى اتِّباع السلف في مسائل العقيدة، وعملت على تنقيتها من شوائب الشرك وشبهات الوسائط بين الإنسان وخالقه، واعتبَرت الوهّابيَّة التوحيد أساس العقيدة، ورفضت الجمود والتقليد، وجعلت إصلاح العقيدة جوهر كل لإصلاح، وكما رفضت ما طرأ على الإسلام من عقليات، رفضت مدنيّة الغرب. وبلغت أصداء هذه الدعوة إلى الهند وشمال إفريقيا، وكانت مصدر إلهام لبعض المصلحين خلال القرن التاسع عشر.
2 - الحركة السّنوسيَّة:
لصاحبها محمد بن السنوسي 1202 – 1276هـ/1787 – 1809م، انطلقت من شمال إفريقيا باتجاه أواسط القارّة، واستقرت قي الأخير بليبيا، وهي حركة جمعت بين النزوع الوهّابيّ في الإصلاح الدينيّ، والنزوع الصوفيّ، وحاولت أن تعادي الاستعمار، وأن تنشر الإسلام بين القبائل الوثنيَّة في إفريقيا الوسطى، وأن تدخل إصلاحات على المجتمع الليبيّ.
3 - الحركة المَهديَّة بالسودان:
قام بها محمد أحمد المهدي 1160 – 1202هـ/1844 – 1885م، وهي حركة حاولت العودة إلى نقاء العقيدة، ودعت إلى توحيد المذاهب الأربعة وتحرير البلاد من الاستعمار.
خامسا: تيارات عقلانيّة ليبراليّة متفتِّحة
ضمَّت هذه التيارات أشهر المصلحين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى حدود أواسط القرن العشرين. وهي تيارات في مجملها حاولت التوفيق بين الهُوِيَّة الإسلاميّة والتمدن الأوربيّ بمؤسساته وقوانينه الوضعيّة. وتقرر لديها أنْ لا سبيل إلى مواجهة الغرب إلا بأساليب الغرب.
وقد انحصرت أهداف الإصلاح عند هذه التيارات في بعث النهضة الإسلاميّة والاستفادة من معارف العصر، مع السعي إلى الاستقلال من هيمنة الاستعمار ورفع الغشاوة عن العقول.
وهذه صورة مقتضبة عن بعض المصلحين الذين شاركوا في بناء النهضة الحديثة.
1 - جمال الدين الأفغاني (1254 – 1314هـ/1839 – 1897م)، عمل على إنهاض الشرق بأجمعه، رافعاً شعار الجامعة الإسلاميّة في شخص الخلافة العثمانيّة؛ إذ كان هدفه وحدة الشعوب تحت حكومة إسلاميّة. وقد اعتبر الثورة السياسيّة وسيلة لإصلاح الشعوب الإسلاميّة؛ فناهض الاحتلال الأجنبيّ، ودفع بالحركات التحرريّة الوطنيّة، التي كان يزخر بها العالم الإسلاميّ. ودعا الأفغانيّ إلى إصلاح المسلمين دينيّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً، ووضع خطته في جريدة «العروة الوثقى» لتنوير الرأي الإسلاميّ حتى يتفهم حقوقه وواجباته، في ظل حكم، يأتمّ بالقرآن؛ أساسه العدل والشورى ومجالس نيابية.
ويمكن اختصار مشروعه الإصلاحي في هدفيْن:
- بعث الشرق وتنقيةُ عقيدته وتكوينه تربويّاً وعلميّاً.
- مناهضة الاحتلال الأجنبيّ.
2 - الإمام محمد عبده (1266 – 1323هـ/- 1849 - 1905م) تشبَّع بآراء الأفغانيّ، وحاول تحرير الفكر من قيود التقليد وتطهير العقيدة من البدع والضلالات. فَهِمَ الدين على طريقة السلف وردَّ ضعف المسلمين إلى الجهل بأصول العقيدة. واعتبر إصلاح أحوال المسلمين الداخليّة هو الوسيلة لمناهضة الاستعمار. فانصرف إلى إصلاح العقيدة والمؤسسات الإسلاميّة كالأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعيّة. ونظراً لأهمية التعليم في مشروعه اعتبر إصلاح الأزهر بمثابة إصلاح لأحوال المسلمين عامّة. وفي مواجهة التيارات الغربيّة، دافع عن الإسلام، ودعا الأمة أن تعرف حقها على حاكمها.
يقول:«لو رزق الله المسلمين حاكماً يعرف دينه ويأخذهم بأحكامه لرأيتهم قد نهضوا والقرآن في إحدى اليديْن، وما قرَّرَه الأولون وما اكتشف الآخرون في اليد الأخرى، ذلك لآخرتهم وهذا لدنياهم يُزاحمون الأوربيِّين فيزحموهم»[2] .
وعموماً، كان محمد عبده مصلحاً دينيّاً واجتماعيّاً، يرى أنَّ الإسلام في أصوله الأولى لا يتنافى مع المدنيّة الحديثة. والملاحظ أنَّ مدرسته سادت العالم الإسلاميّ بعد موته. وحملت « مجلة المنار » لمحمد رشيد رضا ( 1865 – 1935م) النزوع الإصلاحي له ولكل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، لمدة خمسة وثلاثين سنة.
3 - عبد الرحمن الكواكبي (1265 – 1320هـ/1848 – 1902م) انفتح على علم الاجتماع الإنسانيّ، وسلط جام غضبه على الحكم المطلق وهيأ النفوس للمطالبة بالحقوق من خلال كتابه «طبائع الاستبداد»، وشخَّص أمراض المسلمين، ورسم طرق معالجتها في كتابه «أم القرى».
4 - رفاعة الطهطاوي (1216 – 1290هـ/1801 – 1873م) دعا إلى الانفتاح على الحضارة الأوربيّة الحديثة فيما لا يخالف ثوابت شريعة الإسلام، وبالرغم من إعجابه بالحضارة الأوربيّة؛ أدرك خطورة الاحتواء والتبعية لتلك الحضارة، فدعا إلى التمسّك بالسيادة والاستقلال. ورأى أن يبدأ الشرق من حيث انتهت أوربا، فطالب بتحقيق الحرية الأوربيّة في جميع المجالات الحيويّة. ودعا أن يصبح الشرق ليبراليّاً في سياسته وفي اقتصاده بإقامة الشركات وإنشاء البنوك، واعتبر حرية الفلاحة والتجارة والصناعة أعظم ما ينبغي تحريره في المملكة المتمدنة؛ حيث تتحقق أعظم المنافع العموميّة.
وقد تَرجم الدستور الفرنسيّ، كما ترجم ستة وعشرين كتاباً. وألف عشرين كتاباً في قضايا التمدُّن وعلم الاجتماع والتربية.
5 - خير الدين التونسيّ (1229 – 1308 هـ/1810 – 1890م) من رواد الإصلاح في العالم الإسلاميّ، تقلد مناصب سامية، وأدخل النظم الغربيّة الحديثة إلى تونس، مُدركاً أنَّ سرَّ تفوق أوربا كامنٌ في قوتها الاقتصاديّة. أراد خير الدين أن تشترك الرعية في توجيه سياسة الدولة. ورأى أنَّ الليبراليّة في الاقتصاد تؤدي إلى الاستثمار والرخاء، ووضع في مقدمة كتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» خلاصة آرائه في التمدن، فحفَّز هِمَم الساسة ورجال العلم للنهوض بالأمة الإسلاميَّة حتى تستعيد أمجادها، وفي عهد أحمد باي (1837 – 1855م) تحققت إصلاحات هامة في مجالات تنظيم الجيش، وإصلاح الأوضاع الإداريّة والجبائيّة، وإنشاء المصانع العصريّة، مع هياكل جديدة للدولة وتطوير نظام التعليم.
6 - محمد رشيد رضا (1282 – 1354 هـ/1865 – 1935م) أصدر «مجلة المنار» وقد حلت محل «العروة الوُثقى» في التجديد الدينيّ، والدعوة إلى الجامعة الإسلاميّة. وحاول بدوره تصحيح العقيدة والدفاع عن الإسلام، وإصلاح نظام التربية والتعليم، والانفتاح على تدريس العلوم العصريّة.
ولا يمكن اختصار جهود المصلحين ولا التعريف بهم؛ إذ لا بد من وضع موسوعة كبيرة لتقديم تيارات الإصلاح كما كشفت عنها كتابات المصلحين وآراؤهم ومواقفهم في جميع أنحاء العالم الإسلاميّ.
وماذا يمكن أن يُقال عن المحاولات الإصلاحيّة الأخرى على امتداد العالم الإسلاميّ؟ تكفي الإشارة هنا إلى أسماء بعض المصلحين من أمثال محمد علي باشا (1770 – 1849م) ومدحت باشا (1822 – 1883م) وعبد الله نديم (1845 – 1896م) وشكيب أرسلان (1869 – 1949م) ومحمد إقبال (1873 – 1938م) وعبد الحميد بن باديس (1889 – 1940م) ومالك بن نبي (1905 – 1973م) وأبي الأعلى المَودوديّ (1903 – 1979م) ...
إنَّ الحركات الإصلاحيّة في القارَّة الهنديَّة تحتاج إلى عناية خاصة لمعرفة وضعية المسلمين في مواجهة الأغلبية الهندوسيَّة، وتحت ضغوط الاستعمار البريطانيّ.
سادسا: تيارات تغريبيَّة علمانيَّة
إذا كانت التيارات الإصلاحيَّة قد حاولت الإفادة من الوضعية السائدة في أوربا مع التمسك بتعاليم الدين الإسلاميّ؛ فإنَّ فريقاً من الكتاب المسيحيِّين السوريِّين واللبنانيِّين، وفريقاً آخر من أبناء المسلمين قد عرفوا انفتاحاً واسعاً على الفكر الأوربيّ، واعتبروا العلم أساس المدنية، وقللوا من أهمية الدين، وفكروا في دولة تفصل بين السلطة الزمنيّة والسلطة الروحيّة، دولة يشترك فيها المسلمون والمسيحيُّون على قدم المساواة. ويمكن اختصار هذه التيارات في اتجاهيْن:
1 - اتجاه يمثله المسيحيُّون المغتربون الناطقون بالضاد، وكان لهم اتصال واسطة مدارس الإرساليات والتجارة. وكانت لهم مشاركة في تقريب الثقافة العصريّة من نفوس المشارقة، وفي مجالات ثقافيّة عديدة كالمسرح والرواية، وحاولوا من خلال بعض المجلات أن يقدموا العلوم التطبيقيّة الحديثة وكثيراً من النظريات العلميّة، وعموما، تمسكوا بالقيم المستمدة من أوربا، وربطوا مصيرهم بالحضارة الغربيّة. وبالنظر لوضعيتهم بالمشرق استمدّوا فرضياتهم الوجوديّة من الفكر الأوربيّ، واتجهوا نحو العقلانيّة متمردين على أشكال الفكر الغيبيّ، مدافعين عن النظريات العلميّة الاجتماعيّة السائدة في العالم الأوربيّ، ومتخذين من حياة أوربا النموذج الذي ينبغي أن يُحتذى.
وكانت آمال هؤلاء المسيحيِّين تتعلق بالعِلمانيّة الغربيَّة التي تقوم على الفصل بين الدين والدولة، وخير مثال يتمثل في مجلة «المقتطف»(1876 – 1952م) وانفتاحها على علوم الغرب وثقافته الحديثة، وقد كشف مؤسِّساها المسيحيَّان يعقوب صرّوف (1852 – 1927م) وفارس نمر (1856 – 1951م) عن أهمية العلم الحديث وأثره في نهضة الشعوب وإعادة تشكيل حياة المجتمعات وتقدمها.
لقد نقل المثقفون المسيحيُّون إلى الفكر العربيّ تيارات الفكر الأوربيّ وخاصة الجانب العقلانيّ الليبراليّ، وتناولوا علاقة العلم بالدين والمجتمع، فأسهموا في تحسين المجتمع العربيّ الإسلاميّ للعلم، وتركيز انتباهه على قضايا العلم بعيداً عن الدين، وتداولوا مقولات الفكر الاجتماعيّ قصد تغيير أوضاعهم الدينيّة والاجتماعيّة، واعتبروا أنَّ كل تقدم اجتماعيّ منوط بالعلم لا بالدين - وهذا التوجه لا شك له سلبياته ومضاره الدينيّة والخلقيّة – بل اعتبروا التعصب الدينيّ أساس البلاء والتأخر. والمثقفون المسيحيُّون هناك من غلب عليه الأدب واللغة من أمثال ناصف اليازجي (1800 – 1871م) وإبراهيم اليازجي (1847 – 1906م) وأديب إسحاق (1856 – 1885م) وفرانسيس مراش (1836 – 1873م). وهناك فئة اهتمت باللغة والتاريخ والتربية والمعرفة المعاصرة من أمثال بطرس البستانيّ (1819 – 1893م) وجورجي زيدان(1861 – 1914م) وعيسى إسكندر معلوف (1869 – 1956م)، وهناك من اهتم بالعلم وقضايا الفلسفة والسياسة والاجتماع من أمثال يعقوب صروف (1852 – 1927م) شميل (1860 – 1917م) فرح أنطوان (1871 – 1922م) سليمان البستانيّ (1856 – 1925م) وسلامة موسى (1887 – 1958م).
2 – ويمثِّل الاتجاه الثاني المثقفون المسيحيّون الذين غرَّبوا الثقافة الإسلاميّة، وتمثلوا الثقافة الغربيّة وبشّروا بقيمها؛ فبرزتْ كم خلال أعمالهم فئة من المسلمين العِلمانيِّين.
المسلمون العِلمانيُّون وإن ارتبطوا بالواقع الإسلاميّ؛ فإنَّ النظم العلمانيّة قد تغلبت على توجههم الفكريّ؛ فجعلوا في مواقعهم الإصلاحيّة بين الدعوة إلى تحديث المجتمع والتفكير في الجوانب العمليّة لإصلاح هذا المجتمع. وقد تفاعلوا مع القيم الأوربيّة بكثير من الاحتياط، وكان همهم تحقيق الإصلاح بأقرب وسيلة، والاستفادة من كل نافع ومفيد. وأرجعوا الشرور الاجتماعيّة إلى الاستبداد في الحكم والوقوع تحت هيمنة الإمبريالية، وطالبوا بتوفير الحرية السياسيّة، وحلْق توازن اجتماعيّ وعدالة بين ألأفراد، ورأوا أنَّ خلاص المجتمع في نشر المعرفة.
سابعا: مجالات الإصلاح
يتضح من طبيعة الحركات الإصلاحيّة في العالم الإسلامي، أنها عُنيت القضايا الدينيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، وقد عاصرت هذه الحركات الإصلاحيّة واقعاً إسلاميّاً متردِّياً، وواقعاً أوربيّاً متقدماً في تلك المجالات يتميز بالتفكير في تطوير الحياة المعاصرة مدنيّاً وقانونيّاً واجتماعيّاً وعلميّاً.
1 – دينيّاً:
حاولت الحركات الإصلاحيّة داخل الإمبراطورية العثمانيّة وفي القارة الهنديّة أن تعمل على بعث الحقيقة الإسلاميّة، وذلك بتنقية الدين مما علق به من بدع وضلالات، والعودة به إلى منابعه الأولى. فكان رفض الجمود والتقليد وفتح باب الاجتهاد، وتمَّ تفسير الدين تفسيراً جديداً يتلاءم مع حاجات العصر الحديث، مع الحفاظ على الهُوِيَّة الإسلاميّة وإثبات وجودها الحضاريّ.
2 - سياسيّاً:
كانت الحركات الإصلاحيّة تقوم بدور تشريح الأوضاع الداخليّة العالم الإسلاميّ، وتُنبّه إلى الأخطار المحدقة بالمشرق عموماً وتدعو إلى تحريره من السيطرة الأوربيّة، والتمسك بالخلافة الإسلاميّة ممثلَةً في الخلافة العثمانيّة. وقد انصرفت جهود المصلحين إلى معالجة نظام الحكم ووضع تصورات لعلاقة الحاكمين بالمحكومين وذلك بتنظيم الحكومات وتوفير المجالس النيابية والحرية السياسيَّة مع التثبت بالوحدة الإسلاميّة قصد مقاومة الغزو الأوربيّ، وتم نشر أفكار الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية والدستور.
3- اجتماعيّاً:
كان الانفتاح على التفكير الأوربيّ الدائر حول الحقوق والواجبات وطبيعة المجتمع، فدعا المصلحون إلى العناية بالفرد والجماعة وذلك بتحقيق الكفالة والعدالة الاجتماعييْن، وطالبوا بالحريات العامة مثل حرية التفكير والاجتماع، ودعَوا إلى خلق التجانس والتماسك بين المسلمين وإحلال قيم اجتماعية جديدة ومحاربة أسباب التخلف ومشكلة الغنى والفقر بأساليب مختلفة.
4 - اقتصاديّاً:
حاول بعض المصلحين الاستفادة من بعض النظريات الاقتصاديّة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وخاصة ما يتصل منها بالنزعة الاشتراكيّة، فكان الحديث عن رأس المال وفائض القيمة وتوزيع الإنتاج وتنظيم الثروات، وتوفير التجهيزات الأساسية بالنواحي الاقتصاديّة مع العناية بقضايا الفلاحة والتجارة.
5 - ثقافيّاً:
عُني المصلحون بقضايا التعليم بصفة خاصة في مشروعهم الإصلاحيّ، وعرف الشرق طفرة في مجالات المعرفة ما تزال آثارها بارزة في حياتنا اليوم.
خلاصة:
عبَّرت الحركات الإصلاحية عن يقَظَة العالم الإسلاميّ والدخول إلى معترك العصر الحديث، وقد ارتبط بالضغط الإمبرياليّ وبالواقع المتردي للشرق، فسعى المصلحون إلى نهضة شاملة وتنظيم البلاد اقتصاديّاً وسياسيّاً على الطراز الأوربيّ غير أنَّ بعض المصلحين انبهروا بإنجازات الغرب، وأسهموا في تغلغل الأفكار الغربيّة في المجتمع الشرقيّ، وحاولوا إضفاء الشرعية على المفاهيم الغربيّة التي نبتت في ظروف مغايرة وعبَّرت عن فلسفة خاصة.
ويلاحظ في الأخير أنَّ موضوع الإصلاح كان الباعث عليه ما طرحه الغرب من تحدِّيات أمام المجتمعات الإسلاميّة، وأنَّ الإصلاح تحكَّمتْ فيه نزعات قوميّة وتوجُّهات إيديولوجيَّة ولم يحظ موضوع الإصلاح بعدُ بالدراسة الموضوعية.
وسنرى فيما تبقى من فصول أنَّ مسألة الإصلاح في المغرب جزءٌ من وضعية تاريخيّة عرفها العالم الإسلاميّ إثر اصطدامه بالحضارة الأوربيَّة الحديثة. ونظراً لأوضاع العالم الإسلامي، وموقعه، وثقافته؛ كانت مسألة الإصلاح قضية حياة أو موت في قلب العرب والمسلمين في القرن 13 هـ/19م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق