وانت تقرأ هذا الموضوع استمع لتلاوة الشيخ علي جابر يعتبر من افضل القراء في العالم الاسلامي رحمه الله
شرح الحديث إن الحلال بين وإن الحرام بين
الحديث السادس عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الحلال بين وإن الحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات ، لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب رواه البخاري ومسلم .
هذا الحديث صحيح متفق على صحته من رواية الشعبي عن النعمان بن بشير ، وفي ألفاظه بعض الزيادة والنقص ، والمعنى واحد أو متقارب . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر وعمار بن ياسر ، وجابر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وحديث النعمان أصح أحاديث الباب . [ ص: 194 ] فقوله صلى الله عليه وسلم : الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس معناه : أن الحلال المحض بين لا اشتباه فيه ، وكذلك الحرام المحض ، ولكن بين الأمرين أمور تشتبه على كثير من الناس ، هل هي من الحلال أم من الحرام ؟ وأما الراسخون في العلم ، فلا يشتبه عليهم ذلك ، ويعلمون من أي القسمين هي . فأما الحلال المحض : فمثل أكل الطيبات من الزروع ، والثمار وبهيمة الأنعام ، وشرب الأشربة الطيبة ، ولباس ما يحتاج إليه من القطن والكتان ، أو الصوف أو الشعر ، وكالنكاح ، والتسري وغير ذلك إذا كان اكتسابه بعقد صحيح كالبيع ، أو بميراث ، أو هبة ، أو غنيمة . والحرام المحض : مثل أكل الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وشرب الخمر ، ونكاح المحارم ، ولباس الحرير للرجال ، ومثل الأكساب المحرمة كالربا والميسر وثمن مالا يحل بيعه ، وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب أو تدليس أو نحو ذلك . وأما المشتبه : فمثل بعض ما اختلف في حله أو تحريمه ، إما من الأعيان كالخيل والبغال والحمير ، والضب ، وشرب ما اختلف في تحريمه من الأنبذة التي يسكر كثيرها ، ولبس ما اختلف في إباحة لبسه من جلود السباع ونحوها ، وإما من المكاسب المختلف فيها كمسائل العينة والتورق ونحو [ ص: 195 ] ذلك ، وبنحو هذا المعنى فسر المشتبهات أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة . وحاصل الأمر أن الله تعالى أنزل على نبيه الكتاب ، وبين فيه للأمة ما يحتاج إليه من حلال وحرام ، كما قال تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ( النحل : 89 ) قال مجاهد وغيره : كل شيء أمروا به أو نهوا عنه ، وقال تعالى في آخر سورة النساء ( الآية : 176 ) التي بين فيها كثيرا من أحكام الأموال والأبضاع : يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم وقال تعالى : وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ( الأنعام : 119 ) ، وقال تعالى : وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ( التوبة : 115 ) ووكل بيان ما أشكل من التنزيل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ( النحل : 44 ) وما قبض صلى الله عليه وسلم حتى أكمل له ولأمته الدين ، ولهذا أنزل عليه بعرفة قبل موته بمدة يسيرة : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ( المائدة : 3 ) . وقال صلى الله عليه وسلم تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك . وقال أبو ذر : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يحرك جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علما . [ ص: 196 ] ولما شك الناس في موته صلى الله عليه وسلم ، قال عمه العباس رضي الله عنه : والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ترك السبيل نهجا واضحا ، وأحل الحلال وحرم الحرام ، ونكح وطلق ، وحارب وسالم ، وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال يخبط عليها العضاه بمخبطه ، ويمدر حوضها بيده بأنصب ولا أدأب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيكم .
وفي الجملة فما ترك الله ورسوله حلالا إلا مبينا ولا حراما إلا مبينا ، لكن بعضه كان أظهر بيانا من بعض ، فما ظهر بيانه واشتهر وعلم من الدين بالضرورة من ذلك لم يبق فيه شك ، ولا يعذر أحد بجهله في بلد يظهر فيه الإسلام ، وما كان بيانه دون ذلك ، فمنه ما اشتهر بين حملة الشريعة خاصة ، فأجمع العلماء على حله أو حرمته ، وقد يخفى على بعض من ليس منهم ، ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة أيضا ، فاختلفوا في تحليله وتحريمه وذلك لأسباب : منها أنه قد يكون النص عليه خفيا لم ينقله إلا قليل من الناس ، فلم يبلغ جميع حملة العلم . ومنها أنه قد ينقل فيه نصان ، أحدهما بالتحليل ، والآخر بالتحريم ، فيبلغ طائفة منهم أحد النصين دون الآخر ، فيتمسكون بما بلغهم ، أو يبلغ النصان معا من لم يبلغه التاريخ ، فيقف لعدم معرفته بالناسخ . [ ص: 197 ] ومنها ما ليس فيه نص صريح ، وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس ، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيرا . ومنها ما يكون فيه أمر ، أو نهي ، فتختلف العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب ، وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه ، وأسباب الاختلاف أكثر مما ذكرنا . ومع هذا فلابد في الأمة من عالم يوافق الحق ، فيكون هو العالم بهذا الحكم ، وغيره يكون الأمر مشتبها عليه ولا يكون عالما بهذا ، فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة ، ولا يظهر أهل باطلها على أهل حقها ، فلا يكون الحق مهجورا غير معمول به في جميع الأمصار والأعصار ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في المشتبهات : لا يعلمهن كثير من الناس فدل على أن من الناس من يعلمها ، وإنما هي مشتبهة على من لم يعلمها ، وليست مشتبهة في نفس الأمر ، فهذا هو السبب المقتضي لاشتباه بعض الأشياء على كثير من العلماء . وقد يقع الاشتباه في الحلال والحرام بالنسبة إلى العلماء وغيرهم من وجه آخر ، وهو أن من الأشياء ما يعلم سبب حله وهو الملك المتيقن ومنها ما يعلم سبب تحريمه وهو ثبوت ملك الغير عليه ، فالأول لا تزول إباحته إلا بيقين زوال الملك عنه ، اللهم إلا في الأبضاع عند من يوقع الطلاق بالشك فيه كمالك ، أو إذا غلب على الظن وقوعه كإسحاق بن راهويه والثاني : لا يزول تحريمه إلا بيقين العلم بانتقال الملك فيه . وأما ما لا يعلم له أصل ملك كما يجده الإنسان في بيته ولا يدري : هل هو له أو لغيره فهذا مشتبه ، ولا يحرم عليه تناوله ، لأن الظاهر أن ما في بيته ملكه لثبوت يده عليه ، والورع اجتنابه ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : إنى لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ، ثم أخشى أن تكون من الصدقة فألقيها [ ص: 198 ] خرجاه في " الصحيحين " فإن كان هناك من جنس المحظور ، وشك هل هو منه أم لا ؟ قويت الشبهة . وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أصابه أرق من الليل ، فقال له بعض نسائه : يا رسول الله ، أرقت الليلة فقال : إني كنت أصبت تمرة تحت جنبي ، فأكلتها وكان عندنا تمر من تمر الصدقة ، فخشيت أن تكون منه .
ومن هذا أيضا ما أصله الإباحة كطهارة الماء ، والثوب ، والأرض ، إذا لم يتيقن زوال أصله ، فيجوز استعماله ، وما أصله الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان ، فلا تحل إلا بيقين حله من التذكية والعقد ، فإن تردد في شيء من ذلك لظهور سبب آخر رجع إلى الأصل فبنى عليه ، فيبني فيما أصله الحرمة على التحريم ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الصيد الذي يجد فيه الصائد أثر سهم غير سهمه ، أو كلب غير كلبه ، أو يجده قد وقع في ماء وعلل بأنه لا يدري : هل مات من السبب المبيح له أو من غيره ، فيرجع فيما أصله الحل إلى الحل ، فلا ينجس الماء والأرض والثوب بمجرد ظن النجاسة ، وكذلك البدن إذا تحقق طهارته وشك : هل انتقضت بالحدث عند جمهور العلماء خلافا لمالك رحمه الله إذا لم يكن قد دخل في الصلاة وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه شكى إليه الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة ، فقال : لا ينصرف حتى يسمع [ ص: 199 ] صوتا أو يجد ريحا وفي بعض الروايات : " في المسجد " بدل الصلاة . وهذا يعم حال الصلاة وغيرها ، فإن وجد سبب قوي يغلب معه على الظن نجاسة ما أصله الطهارة مثل أن يكون الثوب يلبسه كافر لا يتحرز من النجاسات ، فهذا محل اشتباه ، فمن العلماء من رخص فيه أخذا بالأصل ، ومنهم من كرهه تنزيها ، ومنهم من حرمه إذا قوي ظن النجاسة مثل أن يكون الكافر ممن لا تباح ذبيحته أو يكون ملاقيا لعورته كالسراويل والقميص ، وترجع هذه المسائل وشبهها على قاعدة تعارض الأصل والظاهر ، فإن الأصل الطهارة والظاهر النجاسة وقد تعارضت الأدلة في ذلك . فالقائلون بالطهارة يستدلون بأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب ، وطعامهم إنما يصنعونه بأيديهم في أوانيهم ، وقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم دعوة يهودي ، وكان هو وأصحابه يلبسون ويستعملون ما يجلب إليهم مما ينسجه الكفار بأيديهم من الثياب والأواني ، وكانوا في المغازي يقتسمون ما وقع لهم من الأوعية ، والثياب ويستعملونها ، وصح عنهم أنهم استعملوا الماء من مزادة مشركة . والقائلون بالنجاسة يستدلون بأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن آنية أهل الكتاب الذين يأكلون الخنزير ، ويشربون الخمر ، فقال : إن لم تجدوا غيرها ، فاغسلوها بالماء ثم كلوا فيها . وقد فسر الإمام أحمد الشبهة بأنها منزلة بين الحلال والحرام : يعني الحلال المحض والحرام المحض ، وقال : من اتقاها ، فقد استبرأ لدينه ، وفسرها تارة باختلاط الحلال والحرام . [ ص: 200 ] ويتفرع على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط ، فإن كان أكثر ماله الحرام ؛ فقال أحمد : ينبغي أن يتجنبه إلا أن يكون شيئا يسيرا ، أو شيئا لا يعرف ، واختلف أصحابنا : هل هو مكروه أو محرم ؟ على وجهين . وإن كان أكثر ماله الحلال ، جازت معاملته والأكل من ماله . وقد روى الحارث عن علي أنه قال في جوائز السلطان : لا بأس بها ، ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام . وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المشركين وأهل الكتاب مع علمهم بأنهم لا يجتنبون الحرام كله . وإن اشتبه الأمر فهو شبهة ، والورع تركه قال سفيان : لا يعجبني ذلك ، وتركه أعجب إلي . وقال الزهري ومكحول : لا بأس أن يؤكل منه ما لم يعرف أنه حرام بعينه ، فإن لم يعلم في ماله حرام بعينه ، ولكن علم أن فيه شبهة ؛ فلا بأس بالأكل منه ، نص عليه أحمد في رواية حنبل . وذهب إسحاق بن راهويه إلى ما روي عن ابن مسعود وسلمان وغيرهما من الرخصة ، وإلى ما روي عن الحسن وابن سيرين في إباحة الأخذ بما يقضي من الربا والقمار ، نقله عنه ابن منصور . وقال الإمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه : إن كان المال كثيرا أخرج منه قدر الحرام ، وتصرف في الباقي ، وإن كان المال قليلا ، اجتنبه كله ، وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئا ، فإنه تبعد معه السلامة من الحرام بخلاف الكثير ، ومن أصحابنا من حمل ذلك على الورع دون التحريم ، وأباح التصرف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه ، وهو قول الحنفية وغيرهم ، وأخذ به قوم من أهل الورع منهم بشر الحافي . ورخص قوم من السلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام ما لم يعلم أنه [ ص: 201 ] من الحرام بعينه ، كما تقدم عن مكحول والزهري ، وروي مثله عن الفضيل بن عياض . وروي في ذلك آثار عن السلف ، فصح عن ابن مسعود أنه سئل عمن له جار يأكل الربا علانية ولا يتحرج من مال خبيث يأخذه يدعوه إلى طعامه ، قال : أجيبوه فإنما المهنأ لكم والوزر عليه وفي رواية أنه قال : لا أعلم له شيئا إلا خبيثا أو حراما ، فقال : أجيبوه وقد صحح الإمام أحمد هذا عن ابن مسعود ولكنه عارضه عارض بما روي عنه أنه قال : الإثم حواز القلوب . وروي عن سلمان مثل قول ابن مسعود الأول ، وعن سعيد بن جبير ، والحسن البصري ، ومورق العجلي ، وإبراهيم النخعي ، وابن سيرين ، وغيرهم ، والآثار بذلك موجودة في كتاب " الأدب " لحميد بن زنجويه ، وبعضها في كتاب " الجامع " للخلال وفي مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم . ومتى علم أن عين الشيء حرام ، أخذ بوجه محرم ، فإنه يحرم تناوله ، وقد حكى الإجماع على ذلك ابن عبد البر وغيره ، وقد روي عن ابن سيرين في [ ص: 202 ] الرجل يقضى من الربا ، قال : لا بأس به ، وعن الرجل يقضى من القمار قال : لا بأس به ، خرجه الخلال بإسناد صحيح ، وروي عن الحسن خلاف هذا ، وأنه قال : إن هذه المكاسب قد فسدت ، فخذوا منها ما شبه المضطر . وعارض المروي عن ابن مسعود وسلمان ، ما روي عن أبي بكر الصديق أكل طعاما ثم أخبر أنه من حرام فاستقاءه .
وقد يقع الاشتباه في الحكم لكون الفرع مترددا بين أصول تجتذبه ، كتحريم الرجل زوجته ، فإن هذا متردد بين تحريم الظهار الذي ترفعه الكفارة الكبرى ، وبين تحريم الطلقة الواحدة بانقضاء عدتها الذي تباح معه الزوجة بعقد جديد ، وبين تحريم الطلاق الثلاث الذي لا تباح معه الزوجة بدون زوج وإصابة وبين تحريم الرجل عليه ما أحله الله له من الطعام والشراب الذي لا يحرمه ، وإنما يوجب الكفارة الصغرى ، أو لا يوجب شيئا على الاختلاف في ذلك ، فمن هاهنا كثر الاختلاف في هذه المسألة من زمن الصحابة فمن بعدهم . وبكل حال ، فالأمور المشتبهة التي لا تتبين أنها حلال ولا حرام لكثير من [ ص: 203 ] الناس ، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، قد يتبين لبعض الناس أنها حلال أو حرام ، لما عنده من ذلك من مزيد علم ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن هذه المشتبهات من الناس من يعلمها ، وكثير منهم لا يعلمها ، فدخل فيمن لا يعلمها نوعان : أحدهما : من يتوقف فيها ، لاشتباهها عليه . والثاني : من يعتقدها على غير ما هي عليه ، ودل كلامه على أن غير هؤلاء يعلمها ، ومراده أنه يعلمها على ما هي عليه في نفس الأمر من تحليل أو تحريم ، وهذا من أظهر الأدلة على أن المصيب عند الله في مسائل الحلال والحرام المشتبهة المختلف فيها واحد عند الله عز وجل ، وغيره ليس بعالم بها ، بمعنى أنه غير مصيب لحكم الله فيها في نفس الأمر ، وإن كان يعتقد فيها اعتقادا يستند فيه إلى شبهة يظنها دليلا ، ويكون مأجورا على اجتهاده ، ومغفورا له خطؤه لعدم اعتماده . وقوله صلى الله عليه وسلم : فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات ، وقع في الحرام قسم الناس في الأمور المشتبهة إلى قسمين ، وهذا إنما هو بالنسبة إلى من هي مشتبهة عليه ، وهو ممن لا يعلمها ، فأما من كان عالما بها ، واتبع ما دله علمه عليها ، فلذلك قسم ثالث ، لم يذكره لظهور حكمه ، فإن هذا القسم أفضل الأقسام الثلاثة ، لأنه علم حكم الله في هذه الأمور المشتبهة على الناس ، واتبع علمه في ذلك . وأما من لم يعلمه حكم الله فيها ، فهم قسمان : أحدهما من يتقي هذه الشبهات ، لاشتباهها عليه ، فهذا قد استبرأ لدينه وعرضه . ومعنى استبرأ : طلب البراءة لدينه وعرضه من النقص والشين ، والعرض : هو موضع المدح والذم من الإنسان ، وما يحصل له بذكره بالجميل مدح ، وبذكره بالقبيح قدح ، وقد يكون ذلك تارة في نفس الإنسان ، وتارة في سلفه ، أو في [ ص: 204 ] أهله ، فمن اتقى الأمور المشتبهة واجتنبها ، فقد حصن عرضه من القدح والشين الداخل على من لا يجتنبها ، وفي هذا دليل على أن من ارتكب الشبهات ، فقد عرض نفسه للقدح فيه والطعن ، كما قال بعض السلف : من عرض نفسه للتهم ، فلا يلومن من أساء به الظن . وفي رواية للترمذي في هذا الحديث : " فمن تركها استبراء لدينه وعرضه ، فقد سلم " والمعنى : أنه يتركها بهذا القصد - وهو براءة دينه وعرضه عن النقص - لا لغرض آخر فاسد من رياء ونحوه . وفيه دليل على أن طلب البراءة للعرض ممدوح كطلب البراءة للدين ، ولهذا ورد " أن ما وقى به المرء عرضه ، فهو صدقة " . وفي رواية في " الصحيحين " في هذا الحديث : " فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم ، كان لما استبان أترك " يعني : أن من ترك الإثم مع اشتباهه عليه ، وعدم تحققه ، فهو أولى بتركه إذا استبان له أنه إثم ، وهذا إذا كان تركه تحرزا من الإثم ، فأما من يقصد التصنع للناس ، فإنه لا يترك إلا ما يظن أنه ممدوح عندهم تركه . القسم الثاني : من يقع في الشبهات مع كونها مشتبهة عنده ، فأما من أتى شيئا مما يظنه الناس شبهة ، لعلمه بأنه حلال في نفس الأمر ، فلا حرج عليه من الله في ذلك ، لكن إذا خشي من طعن الناس عليه بذلك ، كان تركها حينئذ استبراء لعرضه ، فيكون حسنا ، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن رآه واقفا مع صفية : " إنها صفية بنت حيي " وخرج أنس إلى الجمعة ، فرأى الناس قد صلوا [ ص: 205 ] ورجعوا فاستحيا ، ودخل موضعا لا يراه الناس فيه ، وقال : " من لا يستحيي من الناس لا يستحيي من الله " وخرجه الطبراني مرفوعا ، ولا يصح . وإن أتى ذلك لاعتقاده أنه حلال ، إما باجتهاد سائغ ، أو تقليد سائغ ، وكان مخطئا في اعتقاده ، فحكمه حكم الذي قبله ، فإن كان الاجتهاد ضعيفا ، أو التقليد غير سائغ ، وإنما حمل عليه مجرد اتباع الهوى ، فحكمه حكم من أتاه مع اشتباهه عليه ، والذي يأتي الشبهات مع اشتباهها عليه ، قد أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقع في الحرام ، فهذا يفسر بمعنيين : أحدهما : أن يكون ارتكابه للشبهة مع اعتقاده أنها شبهة ذريعة إلى ارتكابه الحرام الذي يعتقد أنه حرام بالتدريج والتسامح . وفي رواية في " الصحيحين " لهذا الحديث : ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم ، أوشك أن يواقع ما استبان . وفي رواية : " ومن يخالط الريبة ، يوشك أن يجسر " أي : يقرب أن يقدم على الحرام المحض ، والجسور : المقدام الذي لا يهاب شيئا ، ولا يراقب أحدا ، ورواه بعضهم : " يجشر " بالشين المعجمة ، أي : يرتع ، والجشر : الرعي ، وجشرت الدابة : إذا رعيتها . وفي مراسيل أبي المتوكل الناجي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من يرعى بجنبات الحرام ، يوشك أن يخالطه ، ومن تهاون بالمحقرات ، يوشك أن يخالط الكبائر " . والمعنى الثاني : أن من أقدم على ما هو مشتبه عنده ، لا يدري : أهو حلال أو حرام ، فإنه لا يأمن أن يكون حراما في نفس الأمر ، فيصادف الحرام وهو لا [ ص: 206 ] يدري أنه حرام وقد روي من حديث ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات ، فمن اتقاها ، كان أنزه لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات أوشك أن يقع في الحرام ، كالمرتع حول الحمى ، يوشك أن يواقع الحمى وهو لا يشعر خرجه الطبراني وغيره .
واختلف العلماء : هل يطيع والديه في الدخول في شيء من الشبهة أم لا يطيعهما ؟ فروي عن بشر بن الحارث ، قال : لا طاعة لهما في الشبهة ، وعن محمد بن مقاتل العباداني قال : يطيعهما ، وتوقف أحمد في هذه المسألة ، وقال : يداريهما ، وأبى أن يجيب فيها . وقال أحمد : لا يشبع الرجل من الشبهة ، ولا يشتري الثوب للتجمل من الشبهة ، وتوقف في حد ما يؤكل وما يلبس منها ، وقال في التمرة يلقيها الطير : لا يأكلها ، ولا يأخذها ، ولا يتعرض لها . وقال الثوري في الرجل يجد في بيته الأفلس أو الدراهم : أحب إلي أن يتنزه عنها ، يعني : إذا لم يدر من أين هي . وكان بعض السلف لا يأكل إلا شيئا يعلم من أين هو ، ويسأل عنه حتى يقف على أصله وقد روي في ذلك حديث مرفوع ، إلا أن فيه ضعفا [ ص: 207 ] وقوله صلى الله عليه وسلم كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه : هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لمن وقع في الشبهات ، وأنه يقرب وقوعه في الحرام المحض ، وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سأضرب لكم مثلا ثم ذكر هذا الكلام ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم مثل المحرمات كالحمى الذي يحميه الملوك ، ويمنعون غيرهم من قربانه ، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حول مدينته اثني عشر ميلا حمى محرما لا يقطع شجره ولا يصاد صيده ، وحمى عمر وعثمان أماكن ينبت فيها الكلأ لأجل إبل الصدقة [ ص: 208 ] والله عز وجل حمى هذه المحرمات ، ومنع عباده من قربانها وسماها حدوده ، فقال : تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ( البقرة : 187 ) ، وهذا فيه بيان أنه حد لهم ما أحل لهم وما حرم عليهم ، فلا يقربوا الحرام ، ولا يعتدوا الحلال ، وكذلك قال في آية أخرى : تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ( البقرة : 229 ) ، وجعل من يرعى حول الحمى وقريبا منه جديرا بأن يدخل الحمى ويرتع فيه ، فلذلك من تعدى الحلال ، ووقع في الشبهات ، فإنه قد قارب الحرام غاية المقاربة ، فما أخلقه بأن يخالط الحرام المحض ، ويقع فيه ، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي التباعد عن المحرمات ، وأن يجعل الإنسان بينه وبينها حاجزا . وقد خرج الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن يزيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس [ ص: 209 ] وقال أبو الدرداء : تمام التقوى أن يتقي الله العبد ، حتى يتقيه من مثقال ذرة ، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال ، خشية أن يكون حراما ، حجابا بينه وبين الحرام . وقال الحسن : مازالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام . وقال الثوري : إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا مالا يتقى وروي عن ابن عمر قال : إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها . وقال ميمون بن مهران : لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال . وقال سفيان بن عيينة : لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال ، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه .
ويستدل بهذا الحديث من يذهب إلى سد الذرائع إلى المحرمات وتحريم الوسائل إليها ، ويدل على ذلك أيضا من قواعد الشريعة تحريم قليل ما يسكر كثيره ، وتحريم الخلوة بالأجنبية ، وتحريم الصلاة بعد الصبح وبعد العصر سدا لذريعة الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها ، ومنع الصائم من المباشرة إذا كانت تحرك شهوته ، ومنع كثير من العلماء مباشرة الحائض فيما بين سرتها وركبتها إلا من وراء حائل ، كما كان صلى الله عليه وسلم يأمر امرأته إذا كانت حائضا أن تتزر ، فيباشرها من فوق الإزار . [ ص: 210 ] ومن أمثلة ذلك وهو شبيه بالمثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم : من سيب دابته ترعى بقرب زرع غيره ، فإنه ضامن لما أفسدته من الزرع ، ولو كان ذلك نهارا ، وهذا هو الصحيح ، لأنه مفرط بإرسالها في هذه الحال . وكذا الخلاف لو أرسل كلب الصيد قريبا من الحرم ، فدخل فصاد فيه ، ففي ضمانه روايتان عن أحمد ، وقيل يضمنه بكل حال .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه ، واجتنابه المحرمات واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه . فإذا كان قلبه سليما ، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله ، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه ، صلحت حركات الجوارح كلها ، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها ، وتوق للشبهات حذرا من الوقوع في المحرمات . وإن كان القلب فاسدا ، قد استولى عليه اتباع هواه ، وطلب ما يحبه ، ولو كرهه الله ، فسدت حركات الجوارح كلها ، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب . ولهذا يقال : القلب ملك الأعضاء ، وبقية الأعضاء جنوده ، وهم مع هذا جنود طائعون له ، منبعثون في طاعته ، وتنفيذ أوامره ، لا يخالفونه في شيء من ذلك ، فإن كان الملك صالحا كانت هذه الجنود صالحة ، وإن كان فاسدا كانت جنوده بهذه المثابة فاسدة ، ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم ، كما قال تعالى : يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ( الشعراء : 88 - 89 ) ، [ ص: 211 ] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : " أسألك قلبا سليما " ، فالقلب السليم : هو السالم من الآفات والمكروهات كلها ، وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة الله وما يحبه الله ، وخشية الله ، وخشية ما يباعد منه . وفي " مسند " الإمام أحمد عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه . والمراد باستقامة إيمانه : استقامة أعمال جوارحه ، فإن أعمال جوارحه لا تستقيم إلا باستقامة القلب ، ومعنى استقامة القلب أن يكون ممتلئا من محبة الله ، ومحبة طاعته ، وكراهة معصيته . وقال الحسن لرجل : داو قلبك ؛ فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم : يعني أن مراده منهم ومطلوبه صلاح قلوبهم ، فلا صلاح للقلوب حتى يستقر فيها معرفة الله وعظمته ومحبته وخشيته ومهابته ورجاؤه والتوكل عليه ، وتمتلئ من ذلك ، وهذا هو حقيقة التوحيد ، وهو معنى قول " لا إله إلا الله " فلا صلاح للقلوب حتى يكون إلهها الذي تألهه وتعرفه وتحبه وتخشاه هو الله وحده لا شريك له ، ولو كان في السماوات والأرض إله يؤله سوى الله ، لفسدت بذلك السماوات والأرض كما قال تعالى :لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( الأنبياء : 22 ) . [ ص: 212 ] فعلم بذلك أنه لا صلاح للعالم العلوي والسفلي معا حتى تكون حركات أهلها كلها لله ، وحركات الجسد تابعة لحركة القلب وإرادته ، فإن كانت حركته وإرادته لله وحده ، فقد صلح وصلحت حركات الجسد كله ، وإن كانت حركة القلب وإراداته لغير الله تعالى ، فسد ، وفسدت حركات الجسد بحسب فساد حركة القلب . وروى الليث ، عن مجاهد في قوله تعالى ألا تشركوا به شيئا ( الأنعام : 151 ) قال : لا تحبوا غيري . وفي " صحيح الحاكم " عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء ، وأدناه أن تحب على شيء من الجور ، وأن تبغض على شيء من العدل ، وهل الدين إلا الحب والبغض ؟ قال الله عز وجل : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ( آل عمران : 31 ) فهذا يدل على أن محبة ما يكرهه الله ، وبغض ما يحبه متابعة للهوى ، والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي ، ويدل على ذلك قوله : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله فجعل الله علامة الصدق في محبته اتباع رسوله ، فدل على أن المحبة لا تتم بدون الطاعة والموافقة . قال الحسن : قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، إنا نحب ربنا حبا شديدا فأحب الله أن يجعل لحبه علما ، فأنزل الله هذه الآية : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ومن هنا قال الحسن : اعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته . [ ص: 213 ] وسئل ذو النون : متى أحب ربي ؟ قال : إذا كان ما يبغضه عندك أمر من الصبر . وقال بشر بن السري : ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك . قال أبو يعقوب النهرجوري : كل من ادعى محبة الله عز وجل ، ولم يوافق الله في أمره ، فدعواه باطل . وقال رويم : المحبة الموافقة في كل الأحوال ، وقال يحيى بن معاذ : ليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده ، وعن بعض السلف قال : قرأت في بعض الكتب السالفة : من أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من رضاه ، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه . وفي " السنن " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أعطى لله ، ومنع لله ، وأحب لله ، وأبغض لله ، فقد استكمل الإيمان ومعنى هذا أن كل حركات القلب والجوارح إذا كانت كلها لله فقد كمل إيمان العبد بذلك ظاهرا وباطنا ، ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح حركات الجوارح ، فإذا كان القلب صالحا ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده الله ، فسارعت إلى ما فيه رضاه ، وكفت عما يكرهه ، وعما يخشى أن يكون مما يكرهه وإن لم يتيقن ذلك . قال الحسن : ما ضربت ببصري ، ولا نطقت بلساني ، ولا بطشت بيدي ، ولا نهضت على قدمي حتى أنظر على طاعة أو على معصية ؟ فإن كانت طاعته تقدمت ، وإن كانت معصية تأخرت . [ ص: 214 ] وقال محمد بن الفضل البلخي : ما خطوت منذ أربعين سنة خطوة لغير الله عز وجل . وقيل لداود الطائي : لو تنحيت من الظل إلى الشمس ، فقال : هذه خطى لا أدري كيف تكتب . فهؤلاء القوم لما صلحت قلوبهم ، فلم يبق فيها إرادة لغير الله عز وجل ، صلحت جوارحهم ، فلم تتحرك إلا لله عز وجل ، وبما فيه رضاه ، والله تعالى أعلم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق