https://almwareeth.com/%D8%A3%D9%87%D9%85-%D9%85%D8%A7%D8%A6%D8%A9-100-%D9%85%D8%B3%D8%A7%D8%A6%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D9%85%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84%D9%88%D9%84
3كتب أبو الدرداء إلى بعض إخوانه، أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله، والزهد في الدنيا، والرغبة فيما عند الله، فإنك إذا فعلت ذلك أحبك الله لرغبت...
https://almwareeth.com/%D8%A3%D9%87%D9%85-%D9%85%D8%A7%D8%A6%D8%A9-100-%D9%85%D8%B3%D8%A7%D8%A6%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D9%85%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84%D9%88%D9%84
3
فقه النوازل / ضوابط الفتيا في النوازل المعاصرة |
|
|||||
|
المحتـوى
تقديم بقلم:
الاستاذ غانم حمودات |
7-9 |
مقدمة |
11-15 |
الفصل الاول:
الدعوة الى الله تعريف الدعوة – حكم الدعوة الى الله –
بين فرض العين وفرض الكفاية – الترجيح – ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب – هدف
المسلم في الدعوة – دعوة بلا انقطاع – الدعوة الى الله في كل وقت مناسب – الدعوة
للناس جميعا – التفرغ للدعوة – الدعوة والاستجابة - بين النجاح والإخفاق- لماذا
ندعو إلى الله – زاد الداعية - واجبات الداعية - اساليب الدعوة- من خصائص أسلوب
الدعوة- التلميح والتدرج- الترغيب والترهيب- البدء بالأهم واختيار المدعو- قضية
الدعاء- التربية والتعليم - قضية العقيدة - مع التربية والتعليم - الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر- متى نتصدى للمنكر- مراتب النهي عن المنكر - قبل
البدء بتغيير المنكر- شروط الناصح - شروط النصيحة - هل من شروط الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر أن يكون صاحبه كامل الحال - مع المحتسب - إبتلاء الداعية |
19-88 |
الفصل الثاني: من
صفات الداعية الاخلاص - الشعور
بمعية الله- الثقة بنصر الله- الالتجاء إلى الله تعالى- الصدق-الرحمة
والرفق-التواضع- الصبر- الشجاعة والثبات - الزهد بما في أيدي الناس - القول والعمل - حب الدعوة والرغبة في هداية
الناس |
91-154 |
الفصل الثالث: منهج
الدعاة الحكمة - التيسير لا
التعسير- التدرج في تبليغ الدعوة - الترغيب والترهيب - متابعة المدعو – التخطيط
- الإفادة من خبرات الآخرين- القصد والاعتدال - تأليف قلوب الناس بالمال والجاه
- التعميم في التوجيه والنقد غير المباشر – الوقاية - البديل عن المنهي عنه -
مخاطبة الناس على قدر عقولهم- مداراة الناس - الخلافات الفقهية والجدل المذموم -
النظر في عواقب الأمور- الحذر |
157-225 |
الفصل الرابع:صور من
جهاد النبيr في الدعوة الى الله الجهاد في سبيل الله- غزوات
النبيّr وسراياه- تدرج
مشروعية الجهاد- النبيّ المجاهد - ثبات النبي r - غزوة الأحزاب- غزوة حنين- دعثور بن الحارث يحاول قتل رسول
الله r- من صفات
الرسول القيادية- نماذج من قيادة النبي r في جهاده- غزوة أحد- غزوة الخندق- غزوة الحديبية- صلح الحديبية
والوفاء بالعهد
|
229-279 |
المصادر والمراجع |
281-290 |
إهداء
إلى الذي ملكت عليه الدعوة إلى الإسلام حياته
فكان المثل الأعلى للدعاة الصادقين الذين يدعون إلى الله بأفعالهم قبل أقوالهم ...
إلى الذي ضرب أروع الأمثلة في التجرد للدعوة
فقام بتربية جيل يعتز بإسلامه ويضحي من أجله ...
إلى الذي بذر بذرة طيبة في الموصل المسلمة
فأثمرت الصحوة الإسلامية المباركة فيها ...
إلى الذي أحببناه من أعماقنا وسرنا معه في طريق
الدعوة إلى الله ...
إلى أستاذي الكريم غانم سعد الله حمودات
أهدي
هذا البحث المتواضع
تقديم
بقلم
الداعية الإسلامي
الأستـاذ
غانم حمودات
الحمد لله حمداً
يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، وآله الطيبين،
وصحبه المخلصين، ومن دعا بدعوته واتبع سبيله إلى يوم الدين.!
أما بعد :
فإن الدعوة إلى الله
والتبشير بهديه، ودحض الشبهات المثارة حول دينه، وقذف الحق على الباطل حتى يدمغه
ويزهقه فرض على كل مسلم، كل على قدر علمه وطاقته. فقد قال الله تعالى لنبيه الكريم
صلوات الله وسلامه عليه:
ﭽ ﮀ ﮁ
ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ
ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮓ ﭼ
سورة يوسف / 108.
وقال صلوات الله
وسلامه عليه: ( بلغوا عني ولو آية ) .
وهذا الفرض يتأكد
اليوم، بسبب ما حشد أعداؤنا في أوربا وأمريكا وسواهما من قوى وجهود، وما تضع
مؤسسات ضخمة ذات قدرات هائلة منظورة وغير منظورة، وما تنفذ من خطط لصد الناس عن
الإسلام وفتنة شبابه – خاصة – وردهم عنه، تمهيداً لطيّ أعلامه ومواراته التراب، مع
تزيين النظم الفاسدة والأفكار الضالة وإحياء (الجاهلية)، والزعم بأنها لم تكن
(جاهلية)، والزعم بأن الإسلام تعبير عن نهضة العرب وانطلاقاتهم، فهو إذن ليس
سماوياً موحى به من الله! وتسخير أناس منا –حاكمين ومحكومين– لحرب هذا الدين
العظيم، والتضييق على حملته والدعاة إليه، وحشد أجهزة الدولة ووسائل الإعلام
المقروءة والمسموعة والمرئية جهودها حتى يحققوا لهم أهدافهم ويبلغوا غايتهم ..
رحم الله بقية السلف
الصالح الشيخ أمجد الزهاوي الذي قال فيه رائد النهضة الإسلامية في العصر الحديث
ومجدد الإسلام، الإمام الشهيد حسن البنا-رحمه الله- قال للأستاذ سعيد رمضان –رحمه
الله-: يا بني، إذا أردت أن تنظر إلى وجه
رجل من صحابة رسول اللهr، فانظر إلى وجه الشيخ أمجد قال: فقد قال الشيخ امجد –رحمه الله–
لجمع من الشباب الذين نذروا أنفسهم للدعوة إلى الله سبحانه وخدمة دينه عام 1955:
انتم تقومون اليوم بعمل هو أفضل من عمل الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم. لا أقول
أنتم أفضل منهم، بل هم أفضل منكم، إنهم عملوا للإسلام وللإسلام دولة وقوة، وأنتم
اليوم تعملون للإسلام وليس للإسلام دولة وقوة، ولو أني اليوم قاض وجاء رجل شاهد
يقطع الليل والنهار بالعبادة وأنا أعلم أنه لا يعمل اليوم للإسلام أردّ شهادته
وأعتبره فاسقاً. ولو جاءني إبراهيم بن أدهم شاهداً وأنا قاض فإذا علمت أنه لا يعمل
للإسلام أردّ شهادته وأعتبره فاسقاً ...
ولقد سمع كلام الشيخ
الجليل هذا أحد كبار العلماء والدعاة إلى الإسلام هو الدكتور عبد الكريم زيدان –وهو
يقِّدر علم الشيخ وورعه حق قدره– فقال: هذه فتوى من الشيخ أمجد.
إنّ الله –سبحانه–
يأبى أن يُطفأ نوره وتكسف شمس هدايته، ويحال بين الناس ودينه، فكانت هذه الصحوة
الإسلامية المباركة –بتوفيقه وهدايته– ونهض شيب وشبان استجابوا لله وللرسول يدعون
إلى الله، ويهيبون بالمسلمين أن يتمسكوا بدينهم، ويردوا عنه عادية المعتدين وتزييف
المبطلين حتى يعود للإسلام مجده، وللمسلمين قوتهم ووحدتهم.
ولما كان للدعوة إلى
الله –جلَّ وعلا– أصول وآداب، نفرت طائفة كريمة تهدي الدعاة وترشدهم إلى أقوم
السبيل وأنفع الوسائل في الدعوة إلى الله، مستهدية بكتاب الله وسنة رسوله، وما حفل
به تراثنا الخالد، منهم: البهي الخولي، صاحب تذكرة الدعاة، والدكتور عبد الكريم
زيدان صاحب أصول الدعوة، والدكتور مجدي الهلالي صاحب كتاب أضواء على طريق الدعوة،
والشيخ محمد أبو زهرة صاحب كتاب الدعوة إلى الإسلام، والدكتور صادق أمين صاحب كتاب
الدعوة الإسلامية فريضة شرعية وضرورة بشرية، والشيخ أبو الأعلى المودودي صاحب كتاب
تذكرة دعاة الإسلام... وسواهم ممن رسموا للدعاة طريقهم، وأفادوهم بعلمهم وتجاربهم
جزاهم الله خير الجزاء...!
أما كتاب الأستاذ
إبراهيم النعمة –هذا الذي بين أيدينا– فقد نهج فيه نهج السابقين، وأتى بالمفيد
النافع من الآداب والأصول بأسلوب واضح سلس، وحسن استدلال بآيات الله –سبحانه–
وأحاديث رسوله الكريمr، واستفادة واعية أمينة من أقوال الأئمة الأطهار والعلماء الأبرار،
مما يبهج الروح ويشرح الصدور، ويزود الداعية بزاد نافع لا غناء له عنه.
وعسى اللهU
أن يجزيه عن دينه خير الجزاء، وأن يثبته على الإسلام ويوفقه للمزيد في خدمته،
ويجعله قدوة للعلماء في استقامته ونزاهته وإبائه وتعففه إنه سميع مجيب، وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ...!
مقدمة
الحمد لله حمداً
يُبَلغني رضاه، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى
سائر أنبيائه ورسله، وآله الطيبين وصحبه المخلصين، الذين كرسوا حياتهم لنشر دعوة
الله في العالمين، ومن اتبع هداه إلى يوم الدين.. ونعوذ بك اللّهم أن تتطلع النفوس
إلى ما سواك، وأن تزل أقدامنا بعد ثبوتها على الصراط المستقيم! سبحانك اللّهم لا
حول لنا ولا قوة إلا بك، عليك توكلنا، وإليك أنبنا وإليك المصير...
أما بعد:
فإن المسلمين اليوم
يعيشون واقعاً سيئاً. فالبعد عن تحكيم شرع الله قد ضرب أطنابه هنا وهناك، والرذيلة
وجدت لها دعاة زُوّدوا بمهارات كثيرة وأموال طائلة، فتمكنوا من الهيمنة على أهم
مرافق التوجيه في البلاد: فصاروا يقومون بعملهم التخريبي جهاراً نهاراً، يؤيدهم في
ذلك أعداء ألداء من جانب، وناس فاسدون مفسدون محسوبون على هذه الأمة من جانب آخر..
هذا الواقع السيء
بحاجة إلى إصلاح يجتث الشرور، ويقوّم الميل، ويداوي السقم، ويعود بالأمة إلى
أصالتها الأصيلة، ومبعث قوتها وعزتها.. وليس في دنيا الناس من وسيلة لإصلاح ما فسد
وتقويم ما اعوج إلا الإسلام وحده.. ولكن الإسلام بحاجة إلى دعاة صادقين مضحّين
يقومون بأفضل عمل في هذا الوجود: وهو دعوة الناس إلى الله بالحكمة والموعظة
الحسنة. إنه وظيفة أنبياء الله ورسله. وكما أن أنبياء الله ورسله هم أشرف خلق
الله، وأن وظيفتهم أشرف الوظائف، فكذلك الدعاة إلى الله، فأن وظيفتهم أشرف الوظائف،
ومهمتهم أعظم المهمات: فهم الذين يقوّمون ميل الناس، ويداوون سقمهم، ويُسوُّون
زيغهم ويصلحون خللهم، ويسددون خطاهم ويشرفون على تربيتهم تربية صحيحة منبعثة من
هدى القرآن والسنة المطهرة، ويوجهونهم إلى ما فيه خيرهم في دنياهم وأخراهم.. هذه
الدعوة هي التي تبعث في الناس الحركة، وتؤمّن لهم ما تتطلع إليه قلوبهم وعقولهم من
سعادة عظمى، وطمأنينة كبرى، وراحة قلب وبال.. وقد أثمرت جهود الدعاة إلى الله في
مختلف العصور ثمرات يانعة، ومن ثمراتها تلك: انضواؤنا –نحن المسلمين– تحت لواء هذا
الدين، إذ لولا الدعاة الذين جاهدوا في الله حق جهاده وبخاصة صحابة النبيr
فبذلوا أرواحهم وأموالهم وما يملكون في سبيل الله، لما وُجد في الناس اليوم من
ينتسب إلى هذا الدين، ويرفع راية التوحيد.
والداعية الحق يعمل
ويعمل، ويتحمل من التعب والنصب ما يتحمل، متأسياً بأنبياء الله ورسله، فقد كان
الواحد منهم يقول لقومه:
ﭽ ﯵ ﯶ
ﯷ ﯸ ﭼ سورة الأنعام/90.
ولا يتنزه الداعية عن
طلب الأجر المادي وحده من الناس، بل يتنزه -أيضاً– عن طلب أية منفعة دنيوية تأتيه
بسبب الدعوة: فهو لا ينتظر كلمة شكر من أحد منهم، ولا مكافأة مادية، ولا يريد إلاّ
انضواء الناس تحت لواء هذا الدين، وتحكيمه في كل شأن من شؤون الحياة.
وإذا كان الدعاة إلى
الله يجدون في خضم دعوتهم ما يجدونه من تعب ونصب، وعذاب وألم، فإن الداعية يستعذب
كل ذلك، بل يحمله حبه للدعوة على التضحية بكل غال ونفيس، إذ يجد سعادته الحقيقية
فيها لا بسواها، ويوقن أن الفوز له والإخفاق سبيل غيره. وقد قص علينا القرآن
الكريم ما كان من أنبياء الله ورسله مع أقوامهم، ذاكراً كيف نجى الله المؤمنين
وأهلك الظالمين. ففي قصة نوحu مع قومه كانت النهاية:
ﭽ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ
ﮋ ﮌ ﮍ
ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ
ﮙ ﭼ سورة يونس/73.
وقال
تعالى في قصة هودu مع قومه: ﭽ ﮙ ﮚ
ﮛ ﮜ ﮝ
ﮞ ﮟ ﮠ
ﮡ ﮢ ﮣ
ﮤ ﮥ ﮦ
ﮧ ﭼ
سورة هود/58.
وفي
قصة شعيبu مع قومه قال المولى الكريم:
ﭽ ﮰ ﮱ
ﯓ ﯔ ﯕ
ﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ ﯚ ﯛ
ﯜ ﯝ ﯞ
ﯟ ﯠ ﯡ
ﯢ ﯣ ﭼ سورة
هود/94.
وقال
تعالى في قصة القرية التي كانت حاضرة البحر:
ﭽ ﭧ ﭨ
ﭩ ﭪ ﭫ
ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ
ﭱ ﭲ ﭳ
ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ
ﭹ ﭼ
سورة الأعراف/165.
هذه
الآيات الكريمات وغيرها كثير، تنص على أن اللهU نجّى الدعاة إليه، وهذا وعد من الله للمؤمنين:
ﭽ ﮩ ﮪ
ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ
ﮰ ﮱ ﯓ
ﯔ ﯕ ﭼ
سورة يونس/103.
ولابد لنا أن نشير
هنا إلى ما ينبغي أن يكون عليه كل من يريد أن يدعو إلى الله وتثمر دعوته ثمرات طيبة: وذلك بأن يضع له منهجاً في
تبليغ الدعوة، وأن يكون هذا المنهج واضحاً كل الوضوح، ودقيقاً كل الدقة. والخروج
عن ذلك الأسلوب والوسيلة لا يؤدي إلا إلى الإخفاق وعدم بلوغ الغاية..
وإذا كان الالتزام
الكامل بالمنهج الصحيح ليس بالأمر الهين؛ لكثرة الجزئيات التي تعتري الداعية
واختلاط تلك الجزئيات بعضها مع بعض، وصعوبة استنباط الحلول الجديدة من تلك
المعاني، فإن تقوى الله في السر والعلن، والالتجاء إليه –وحده– دون سواه ييسر عليه
كثيرا من الأمور. وما أروع قول الشاعر:
إذا لم يكن عون من
الله للفتى فأول ما يجني عليه
اجتهاده
والمسلمون اليوم في
حاجة ملحة ملحفة إلى ذلك النهج الدقيق الذي يرسم لهم طريق الدعوة، وكيفية مخاطبة
الناس، واختيار الموضوعات التي يحسن طرحها على المدعو، والبراعة في نقل الآراء الإسلامية
إلى الناس كلهم، وإعطاء المدعو ما يلزمه من أفكار وآراء، ولإقناعه بذلك وجذبه إلى
الصف الإسلامي.. ومن الضروري أن يكون أسلوب الدعوة إلى الله متجدداً ومتطوراً،
ولكن في حدود ما يسمح به هذا الدين..
إن الإسلام في هذا
العصر في حاجة إلى دعاة يحسنون عرض دعوتهم بأسلوب محبب إلى القلوب: يجمعون ولا
يفرقون، ويحسنون ولا يسيئون. واستمع إلى البهي الخولي وهو يتحدث في رسالة الداعية
فيقول:
( إن رسالتك –أخي
الداعية– تقتضيك أن تدخل على مشاعر جمهورك في حكمة، فتحرك وجدانهم وتستثير عواطفهم
إلى الله، فإذا تأتى لك ذلك، ولانت نفوسهم لقولك، فاصنع منهم ما تشاء صنعه: أبن
لهم عن غرضك، وأبعث بآمال قلوبهم إلى ما تحب أن يصلوا إليه، فإنهم مستجيبون لك إن
شاء الله... وحذار أن تقف موقفاً لا تنوي أن تخرج منه بصيد، أنت صياد ماهر، فأطرح
شبكتك، وأنقل ما يخرج لك منها إلى محيط آخر.. محيط دعوة الله ورسوله).
وفي هذه الرسالة
ملاحظات في فقه الدعوة والداعية، تضع أمام الدعاة المزيد من الوعي المنهجي في
تبليغ رسالة الله، والعودة بالأمة إلى أصالتها، وقد كتَبتُها لمن أراد أن يتشرف
بحمل دعوة الله إلى الناس، وينضوي في صفوف المخلصين الصادقين مصابيح الهدى.
ومما حملني على
كتابتها ما وجدته من أناس يتكلمون بالإسلام، لكنهم يشوهون صورته النقية البيضاء
بسوء عرضهم له، فكانوا من الذين أضروا بدعوة الإسلام وهم يحسبون أنهم يحسنون
صنعاً.
ولا أزعم أن هذا
الكتاب قد بلغ الكمال وجمع الحسن من أطرافه، وأتى بما لم يأت به الأوائل، فإن
الكمال لله وحده، وقد يكون في هذا الكتاب ما يكون من نقص وخلل وعيب وخطأ.. وسأقدم
خالص شكري لكل من يُسدد لي الخطأ، ويرشدني إلى النقص لأتداركه، فإن المؤمن مرآة
أخيه. ولقد انتفعت بكتب ورسائل من سبقني في الكتابة في هذا الموضوع، فلهم الفضل في
ذلك.
سائلاً من الله وحده
أن يجعل عملي هذا وغيره من الأعمال خالصاً لوجهه الكريم، مبرءاً من أية شائبة كانت
من شوائب الرياء وطلب السمعة، وأن يتقبله مني بقبول حسن وينفع به، ويكون في ميزان
حسناتي يوم الدين، والله يقول الحق، ومنه –وحده- الهداية والسداد.!
إبراهيم
النعمة
الفصل
الاول
الدعوة إلى الله
تعريف
الدعوة
يطلق
لفظ (الدعوة) في اللغة ويراد بها عدة معان منها:
1.
النداء،
تقول: دعوت فلاناً أي ناديته وطلبت إقباله. وقد تتعدى بحرف الجر (إلى) فتقول: دعاة
إلى الدين.
2.
الرغبة
إلى الله، والفعل منه (دعا)، ومصدره الدعاء: وهو جمع الناس على أمر من الأمور،
وحثهم على العمل به.
3.
السؤال
من الله تعالى، تقول: دعوت الله: أي ابتَهلت إليه بالسؤال، ورغبت فيما عنده من
الخير.
4.
المحاورة
القولية أو الفعلية لإمالة الناس إلى مذهب أو ملة([1]).
وأما
في الإصطلاح: فالمراد بها هداية الناس إلى طريق الله، وجمعهم على الخير، وإخراجهم
من ظلمات الشرك والجهالة وفوضى النظم والتشريعات إلى نور العقيدة الصحيحة والإيمان
الحق. ويُعرِّفها ابن تيمية فيقول:
(الدعوة
إلى الله: هي دعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله بتصديقهم فيما أخبروا به،
وطاعتهم فيما أمروا به)([2]).
أما
الدعاة: فيعرفهم ابن قيم الجوزية فيقول:
(الدعاة:
جمع داع، كقاض وقضاة، ورام ورماة، وإضافتهم إلى الله للإختصاص. أي الدعاة
المخصوصون به الذين يدعون إلى دينه وعبادته ومعرفته ومحبته، وهؤلاء هم خواص خلق
الله، وأفضلهم عند الله منزلة، وأعلاهم قدراً)([3]).
حكم
الدعوة إلى الله
كل
مسلم بالغ عاقل مكلف بالدعوة إلى الله ذكراً كان أو أنثى، إذا كان قادراً على
أدائها.
وهذا الواجب لا يختص به العلماء، بل هو واجب على
الناس كلهم كلٌ حسب علمه ومعرفته: فقد أمر الله به رسوله محمداًr
بقوله:
ﭽ ﭺ ﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ
ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ
ﮄ ﮅ ﮆ
ﮇ ﮈﭼ سورة
المائدة/67.
وقوله تعالى:
ﭽ ﮦ ﮧ
ﮨ ﮩ ﮪ
ﮫ ﮬﮭ ﮮ
ﮯ ﮰ ﮱ ﭼ
سورة النحل/125.
وقوله تعالى:
ﭽ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ
ﮋ ﮌ ﮍ ﭼ
سورة الحج/67.
وقوله تعالى:
ﭽ ﯦ ﯧﯨ ﯩ
ﯪ ﯫﯬ ﯭ
ﯮ ﯯ ﭼ سورة
الشورى/15.
وهذا الخطاب في الآيات الكريمات يفيد أن
الدعوة إلى الله فرض، ويحمل على معناه الحقيقي: فلا يحمل على أنه من خصوصياتهu
إذ ليس لدينا قرينة تدل على ذلك، بل القرائن تدل على أن الخطاب يتناول الأمة
الإسلامية كلها، وقد توجه(الخطاب) إلى النبيr من باب تحفيز همم الأمة للقيام بهذا الواجب. فإذا كان الرسول
الكريم قد أمر بهذا الواجب وهو الذي لا يتأتى منه تقصير، فإن الوجوب في حق
المسلمين أكثر وآكد
وفوق ذلك، فإن تكليف النبي تكليف لأمته.
يدل عليه قوله تعالى:
ﭽ ﯯ ﯰ
ﯱ ﯲ ﯳ
ﯴ ﯵ ﯶ
ﯷ ﯸ ﯹ
ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ
ﯾ ﯿﰀﭼ
سورة الأحزاب/21.
وقوله تعالى:
ﭽ ﮀ ﮁ
ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ
ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ
ﮎ ﮏ ﮐ
ﮑ ﮒ ﮓﭼ
سورة يوسف/108.
فكل من يتخلف عن دعوة الناس إلى الله قد
أصيب بخلل في إيمانه يجب عليه أن يتداركه قبل فوات الأوان. يقول ابن كثير في تفسير
هذه الآية:
(يقول
تعالى لرسولهr إلى
الثقلين: الإنس والجن، آمراً له أن يخبر الناس: إن هذه سبيله: أي طريقته ومسلكه
وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله
بها على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان، هو وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول
اللهr على بصيرة ويقين وبرهان شرعي وعقلي)([4])
وأما
السنة النبوية، فهي زاخرة في وجوب الدعوة إلى الله، ومن ذلك حديث رسول اللهr:
(ليبلغ الشاهد الغائبَ، فإن الشاهد عسى
أن يبلِّغ من هو أوعى له منه)([5]).
يقول الدكتور عبد الكريم زيدان:
(ويدخل
في معنى الشاهد: كل مسلم علم من أمر الإسلام شيئاً)([6]).
وقولهr:
(بلغوا
عني ولو آية..)([7])
وينقل ابن حجر في شرح الحديث قول
(المعافى النهرواني) في كتاب (الجليس) فيقول: (الآية في اللغة تطلق على ثلاثة
معان: العلامة الفاصلة، والأعجوبة الحاصلة والبلية النازلة ويجمع بين هذه المعاني
الثلاثة أنه قيل لها آية لدلالتها وفصلها وإبانتها. وقال في الحديث: (ولو آية) أي
واحدة، ليسارع كل سامع إلى تبليغ ما وقع له من الآي –ولو قلَّ– ليتصل بذلك نقل
جميع ما جاء عن النبيr)([8]).
وقولهr:
(نضَّر
الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه: فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب
حامل فقه ليس بفقيه)([9]).
ولقد بلَّغ رسول اللهr الدعوة بكل الأساليب الصحيحة التي أتيحت له آنذاك: من المشافهة
بالكلام، أو المشافهة بواسطة رسله، أو المكاتبة، أو بسلوكه التطبيقي.
بين فرض العين وفرض الكفاية
للعلماء مذهبان في حكم الدعوة إلى الله:
1.
أنها فرض عين.
2.
أنها فرض كفاية.
والذين
ذهبوا إلى أنها فرض عين قالوا: إن قوله تعالى: ﭽ ﮖ ﮗ ﮘ
ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ
ﮞ ﮟ ﮠﭼ سورة
آل عمران/104. واضحة الدلالة على الوجوب لمجيء لام الأمر في قوله (ولتكن). وفسروا
حرف الجر (من) في (منكم) في الآية نفسها بأنها بيانية مستدلين بدليلين:
أولهما: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد
أوجبه الله تعالى على الأمة المسلمة كلها، وذلك في قوله تعالى: ﭽ ﭞ ﭟ
ﭠ ﭡ ﭢ
ﭣ ﭤ ﭥ
ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭼ
سورة آل
عمران/110.
ثانيهما:
أن كل مكلف يجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إما بيده أو بلسانه أو
بقلبه. وهكذا يكون معنى الآية: كونوا -أيها المسلمون– أمة آمرة بالمعروف وناهية عن
المنكر.
أما
الذين ذهبوا إلى أنها فرض كفاية: إذا قام بها البعض قياماً كافياً سقط الطلب عن
الباقين، فقد فسروا الحرف (من) في (منكم) في آية آل عمران هذه بأنها تفيد التبعيض،
مستدلين بأن الناس فيهم من لا يقدر على القيام بأعباء الدعوة، ولا الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر لذلك قالوا: إن هذا التكليف مختص بالعلماء، لأن من يقوم بالدعوة
إلى الله يجب أن يكون عالماً بحكم ما يأمر به وينهى عنه ويدعو إليه: فيصير التكليف
متوجهاً إلى العلماء.
الترجيح
وإذا
كان لابد من الترجيح في هذه المسألة، فإن كثيراً من العلماء رجح المذهب الأول
فقالوا: إن الدعوة إلى الله واجبة على كل مسلم ومسلمة. يقول العلامة ابن كثير في
تفسيره لهذه الآية:
(...أن
تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من
الأمة بحسبه) ([10]).
على
إننا حين ننعم النظر في هذه القضية لا نرى تعارضاً بين القولين: فإن واجب كل مسلم
أن يدعو إلى الله على قدر طاقته ومعرفته: وهي تمثل مبادئ الإسلام على وجه الإجمال:
من فهم معنى الشهادتين، وأركان الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج والدعوة إلى مكارم
الأخلاق..وبهذا القدر تكون الدعوة إلى الله فرضاً على كل مسلم.
وحين ننظر نظرة ثانية إلى الأمة، نرى
أنها مكلفة بإعداد دعاة متخصصين بها: فلابد أن تكون لهم معرفة واسعة بأحكام
الإسلام، وأسرار التشريع، وعَظمة مبادئه، ليبعدوا عن هذا الدين إفتراءات المفترين
وليخلصوه مما عَلِقَ به أو يعلق من بِدع، وليحذروا أمتهم من الأخطار التي تقف أمام
المسلمين..وهذه قضايا مهمة، لابد أن يواجهها المسلم بالأسلوب العلمي الرصين. ولا
يتمكن من ذلك غير المتخصصين بهذه العلوم من الناس.
على أن الدعوة تكون فرض عين على الداعية
–أيضاً– إذا كثرت المنكرات، وغلب الجهل، وكان الداعية في مكان لا يستطيع أن يؤدي
مهمته سواه..وإلا كان فرض كفاية، فلا تعارض إذن بين القولين.
ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
إن آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسولr
صريحة كل الصراحة في وجوب الدعوة إلى الله. وحين ننظر في فقهنا الإسلامي، نرى أن
إقامة المجتمع على أساس الإسلام فرض وواجب وإقامة هذا الفرض أو الواجب من وسائله:
دعوة الناس إلى الإسلام. وعملاً بالقاعدة الأصولية:(ما لايتم الواجب إلا به فهو
واجب)، يكون حكم الدعوة -بصورة عامة– واجباً.
وفوق ذلك، فإن الاحتكام إلى شرع الله في
كل شأن من شؤون الحياة فريضة إسلامية، وتحقيق هذه الفريضة لا يكون إلا بوجود دولة:
فيصير العمل لإيجاد الدولة المسلمة التي تحكم بشرع الله فريضة واجبة، ومن أهم
وسائل إقامة دولة الإسلام: الدعوة إلى الله.
هدف
المسلم في الدعوة
إن
أعظم هدف للمسلم في هذه الحياة: هو عبادة الله وحده، وذلك لقول الله تعالى: ﭽ ﭳ ﭴ
ﭵ ﭶ ﭷ
ﭸ ﭹ ﭼ
سورة
الذاريات/56.
ومن
اجل هذا الهدف والحصول على رضوان الله وجنته، انطلق المسلمون يجاهدون أعداء الله،
ويبذلون دماءهم في سبيله، فقال ربعي بن عامر لرستم قائد الجيوش الفارسية: (الله
أبتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء: من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق
الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام..) ([11]).
هذا
هو هدف المسلم الرئيس. وهناك أهداف أخرى نجملها فيما يأتي:
1. تأسيس مجتمع يحكِّم شرع الله في كل
صغيرة وكبيرة، ولا يكون ذلك إلاّ إذا وجدت الجماعة المسلمة التي تمثل القدوة في
معنى من أسمى معانيها، ومظهر من أروع مظاهرها.. عند ذاك يرى الناس عظمة هذا الدين،
فيسارعون إلى الانضواء تحت لوائه.
2. إصلاح ما فسد من مجتمعاتنا المسلمة التي
أعرضت عن شرع الله، أو انحرفت عن نهجه المستقيم، متخذة لها أنظمة ومبادىء من صنع
البشر لا تَمت إلى الإسلام بصلة.
3. استمرار الدعوة إلى الله في المجتمعات
التي تقوم بتطبيق شريعة الله، واتخاذها منهج حياة لها، لتصون سلامتها، وتحافظ على
نقائها، وذلك بشتى أساليب الدعوة إلى الله.
دعوة
بلا انقطاع
وهناك
من الدعاة من يضيق ذرعاً بالناس إذا دعاهم مرة أو مرات فلم يستجيبوا له، فيصدر
حكمه عليهم بالضلال إن لم يكن بالكفر، ويُطمئن نفسه إلى أنه دعاهم ولم يُقصِّر في
دعوتهم.!
إلى هؤلاء الأخوة من الدعاة، نذكرهم
بالنبي الكريم يونسu الذي ذكره الله في ست سور من سور القرآن: فقد أرسله إلى أهل نينوى
من أرض الموصل، فدعا الناس الذين كانوا يعبدون الأصنام والأوثان إلى توحيد الله
وعبادته –سبحانه- وحده، فلم يستجيبوا له. وناظرهم سيدنا يونس، طالباً منهم
الهداية، مقيماً على ذلك الحجج الساطعة والبراهين القاطعة، لكنهم أصروا على كفرهم،
وتمادوا في ضلالهم، فغادرهم مغاضباً لهم بعد أن أنذرهم بعذاب قريب يحل بدارهم،
ظاناً أن اللهU لا يحمِّله أكثر مما تحمَّل، فإن أرض الله واسعة، فإن لم يستجب
هؤلاء فلعل غيرهم يستجيبون. ويتجه سيدنا يونس إلى البحر، ويركب في السفينة التي
مُلئت بالراكبين وأمتعتهم، وتهب على السفينة الرياح والأعاصير من كل جانب، وترتفع
الأمواج هنا وهناك، ويُوقن الراكبون بالموت لا محالة، ولم يجدوا طريقاً لنجاتهم
إلاّ بالتخفيف عن السفينة مما فيها من أمتعة وأثاث فرموا بها في البحر لينجو
الآخرون!! لكن الخطر ظل محدقاً بهم.. فلم يجدوا بدّاً من رمي بعضهم في البحر، لعل
الآخرين ينجون. ويقترع القوم، فيقع السهم على سيدنا يونس.. ويرمى النبي الصالح في
البحر وتلتقمه الحوت.. عند ذاك أدرك خطيئته حين ترك قومه من غير أن يأذن الله له
بالهجرة. وهناك في الظلمات اعترف بذنبه وتاب إليه وتضرع: ﭽﮘ
ﮙ ﮚ ﮛ
ﮜ ﮝ ﮞ
ﮟ ﮠ ﮡ
ﮢ ﮣ ﮤﭼ
سورة الأنبياء/87.
وقد
ذكر الله قصة سيدنا يونس في القرآن، لتكون مع مثيلاتها تسلية للنبيr
ومنهاجاً للدعاة إلى الله يسيرون على وفقه في كل زمان ومكان.
فإياك
–أخي الداعية– أن تشعر باليأس من الناس وأنت تدعوهم فلم يستجيبوا لك.. إنهم إن لم
يستجيبوا لك اليوم –إن كانت أساليبك في دعوتهم صحيحة سديدة-، فقد يستجيبون لك غداً
أو بعد غد، فإن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء.!
وإذا
كان الداعية يدعو إلى الله من غير كلال ولا ملال فلأن عمله عبادة من أجلَّ
العبادات، حتى ولو لم يستجب له أحد من الناس. ألم يمكث سيدنا نوحu
في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ولم يؤمن بدعوته إلاّ قليل؟.
قال
الله تعالى:
ﭽ ﯨ ﯩ
ﯪ ﯫ ﯬ
ﯭ ﯮ ﯯ
ﯰ ﯱ ﯲ
ﯳ ﯴ ﯵ
ﯶ ﯷ ﯸ ﭼ سورة
العنكبوت/14.
ومع
هذا المكث الطويل والدعوة المستمرة لم يؤمن من قومه إلا قليل. قال تعالى:
ﭽ ﭱ ﭲ
ﭳ ﭴ ﭵ
ﭶ ﭷ ﭸ
ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ
ﭿ ﮀ ﮁ
ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ
ﮈ ﮉ ﮊ
ﮋ ﮌ ﭼ
سورة
هود/40.
وهكذا
الأمر مع رسل الله –كلهم-: فمنهم من استجاب لدعوته كثير من الناس، ومنهم من لم
يستجب لدعوته إلاّ القليل، بل هناك من لم يستجب له أحد يقول الرسولr:
(عرضت
علي الأمم، فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط، والنبي ليس معه أحد)([12]).
ومع
ذلك فإن كل رسول من رسل الله لم يتوقف عن الدعوة. يقول الإمام النووي:
(قال العلماءy: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا
يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله، فإن الذكرى تنفع المؤمنين)([13]).
الدعوة
إلى الله في كل وقت مناسب
إذا
كان بعض العبادات لها أوقات محددة: كالصلاة والصيام والحج.. فإن الدعوة إلى الله
ليس لها وقت محدد تؤدى فيه، بل تؤدى في كل وقت مناسب.
وأسوتنا في ذلك: أنبياء الله ورسله، فهذا سيدنا
يوسفu يدخل السجن ولم يشغله ضيقه عن واجب الدعوة إلى الله، فأهتبل فرصة
سؤال السجينين عن رؤيين رأياها، فدعاهما إلى الله قبل أن يجيبهما عن تأويل ما
رأيا، قال تعالى على لسان سيدنا يوسفu:
ﭽ ﭮ ﭯ
ﭰ ﭱ ﭲ
ﭳ ﭴ ﭵ
ﭶ ﭷ ﭸ
ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ
ﭿ ﮀ ﮁ
ﮂ ﮃ ﮄ
ﮅ ﮆﮇ ﮈ
ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ
ﮎ ﮏ ﮐ
ﮑﮒ
ﮓ ﮔ ﮕ
ﮖ ﮗ ﮘ
ﮙ ﮚ ﮛ ﭼ سورة يوسف/39–40.
وهكذا
كان الأمر مع الرسول الكريمr: فكان يدعو إلى الله في كل وقت مناسب حتى في أحرج الأحوال. فلما
هاجر من مكة إلى المدينة ومعه أبو بكر لقي في طريقه (بريدة بن الحصيب الأسلمي) في
ركب من قومه، فدعاهم إلى الله فأسلموا([14]).
وهذا
لا يعني أن يتحدث الداعية مع الناس حديثاً مسهباً يدعو إلى السآمة أو الضجر. أو
يتحدث بحديث لم يكن المدعو مستعداً للإصغاء إليه أو قبوله.. لكنه يهتبل الفرصة
المناسبة فيتحدث الحديث المناسب، وأسوتنا في ذلك رسول اللهr
الذي كان يتخول الصحابة بالموعظة، خشية السآمة عليهم.
الدعوة
للناس جميعاً
والداعية
يدعو الناس جميعاً إلى هذا الدين لا يستهين بأحد منهم، لأنه يريد الخير للناس
كلهم.. وقد يكون المدعو إنساناً مغموراً، لكنه يستطيع أن يقدم خدمة عظيمة لدعوة
الإسلام. فهذا الرسول الكريمr عرض نفسه على القبائل في موسم الحج قبل الهجرة بثلاث سنين، فلم
يلاق أذناً صاغية، ولم يؤمن بدعوته أحد ولم ييأس الرسول الكريم.. وهناك لقي ستة
نفر من الخزرج عند العقبة وهم يحلقون رؤوسهم، فدعاهم إلى الله فآمنوا بدعوته، ثم
رجعوا إلى المدينة دعاة إلى الإسلام. فلم يستصغرu شأن أولئك النفر وهم يحلقون رؤوسهم بعد أن أعرضت القبائل عن قبول
دعوته. فعلى الداعية أن لا يستهين بأي إنسان كان، فقد يكون له شأن مهم في نصرة هذا
الدين.
التفرغ
للدعوة
إن
الدعوة إلى الإسلام بحاجة إلى أناس يتفرغون لها ويعطونها الكثير من أوقاتهم؛ إذ
صارت في عصرنا هذا علماً من العلوم التي ينبغي أن يتفرغ لها. ونظرة واحدة إلى
الحركات التنصيرية في العالم، ترينا حقيقة الجهود التي تبذل في هذا المجال، وترينا –في الوقت نفسه– كم نحن مقصرون في حق هذا
الدين. فينبغي على أغنياء المسلمين أن يمدوا أيديهم فيرصدوا جزءاً من أموالهم
للدعوة إلى الله، وليس صواباً أن تظل الدعوة معتمدة على فضلات أوقات الدعاة، بل إن
إيجاد المتفرغين لها صار واجباً من الواجبات -وبخاصة في عصرنا هذا- لأن (ما لايتم
الواجب إلا به فهو واجب).
الدعوة
والإستجابة
إذا
كان اللهU قد كلف المسلم بالدعوة إليه، فإنه لم يكلفه بحمل الناس على
الإستجابة له.. حتى رسل الله لم يكلفهمI إلا بالتبليغ قال تعالى:
ﭽ ﭥ ﭦ
ﭧ ﭨ ﭩ
ﭪ ﭼ
سورة النور/54.
وخاطب
الله نبيه محمداًr بهذا المعنى فقال له:
ﭽ ﮘ ﮙ
ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ
ﮠ ﮡ ﮢ ﭼ سورة الشورى/48.
كما
أن القرآن الحكيم نص على رفع الحرج عن نبيه إذا لم يستجب قومه، ولم يكلفه إلا بما
يستطيع، قال تعالى:
ﭽ ﭻ
ﭼ ﭽ ﭼ سورة البقرة/272.
وقال
مخاطباً رسوله محمداًr:
ﭽ ﭤ ﭥ
ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩ ﭪ ﭫ
ﭬ ﭭ ﭮ ﭼ سورة الكهف/6.
وقال
تعالى: ﭽ ﮞ
ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ
ﭼ سورة
فاطر/8.
بين
النجاح والإخفاق
يخطئ
بعض المسلمين حين يحكمون على الدعوة بالإخفاق، وعلى الداعية بالعجز، بعد أن ظل
يدعو إلى الله أمداً طويلاً من غير أن يستجيب له أحد مع التزامه المنهج السديد في
دعوته. وحين ننظر إلى القرآن الكريم، نرى أن اللهU ضرب المثل بنوحu الذي ظل يدعو قومه من غير ملل ألف سنة إلاّ خمسين عاماً.. لقد دعا
إلى الله ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً، ولم يترك وسيلة من الوسائل المشروعة في
الترغيب والترهيب وإقامة الحجة والبرهان إلا أتبعها في دعوة قومه، قال تعالى على
لسان نوحu:
ﭽ ﮱ
ﯓ ﯔ ﯕ
ﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ ﯚ ﯛ
ﯜ ﯝ ﯞ
ﯟ ﯠ ﯡ
ﯢ ﯣ ﯤ
ﯥ ﯦ ﯧ
ﯨ ﯩ ﯪ
ﯫ ﯬ ﯭ
ﯮ ﯯ ﯰ
ﯱ ﯲ ﯳ
ﯴ ﯵ ﯶ
ﯷ ﯸ ﯹ
ﯺ ﯻ ﭼ
سورة نوح/5-9.
لكن قومه بلغ بهم العناد والصلف مبلغه:
فلم يكتفوا بعدم إيمانهم بعد ذلك الجهد الجهيد الذي بذل من أجل هدايتهم، بل سخروا
منه، واتهموه كذباً وبهتاناً باتهامات كثيرة باطلة، ولم يؤمن بدعوته إلا قليل يقول
اللهU:
ﭽ ﮓ
ﮔ ﮕ ﮖ
ﮗ ﮘ ﮙ
ﮚ ﮛ ﮜ
ﮝ ﮞ ﮟ
ﮠ ﮡ ﮢ
ﮣ ﮤ ﮥ
ﮦ ﮧ ﮨ
ﮩ ﮪ ﮫ
ﮬ ﮭ ﮮ
ﮯ ﮰ ﮱﭼ سورة نوح/21-23.
إن هذا درس لكل داعية ينبغي أن يقف
أمامه متأملاً فيه، فإن نوحاًu لم يكن مخفقاً في دعوته ومقصراً فيها، حين أعرض قومه عنها ولم
يؤمن بها إلا قليل.. لأن الأمر أمر قلوب البشر التي لا يملكها إلا خالقها وهو
العليم بها... وتدخل الطمأنينة إلى قلب الداعية بعد أن يراجع نفسه، ويطمئن إلى صحة
أسلوبه في الدعوة.
لماذا ندعو إلى الله ([15])
طريق الدعوة إلى الله شاق وطويل، تكتنفه
العقبات، وتحف به المعضلات من كل جانب، ويذوق فيه الداعية ما يذوق من تعب ونَصَب!
ومع ذلك كله، فقد جبلت أرواحنا بهذه الدعوة المباركة: فنحن ندعو إلى الله من غير
كلال أو ملل، ولا سأم أو ضجر... فلماذا ندعو؟
وللجواب عن ذلك نقول: إننا رضينا أن
نسلك طريق الدعوة هذه لأسباب كثيرة منها ما يأتي:
1.
ندعو
إلى الله لأن الأمر من ذلك من الله ورسوله، قال الله تعالى:
ﭽ ﮦ ﮧ ﮨ
ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ
ﮯ ﮰ ﮱﭼ سورة النحل/125
وقال
رسول اللهr: (بلغوا عني ولو آية..)([16])
فصار
أمر تبليغ الدعوة فرضاً لازماً على كل مسلم، كل حسب علمه وقدرته وأسلوبه اللطيف
بالحكمة والموعظة الحسنة.
2.
نحن ندعو إلى الله لنحكِّم شرعهU في الأرض، بعد تلك الليالي الليلاء التي
أُبعد فيها شرع الله عن حكم المجتمعات، وحكَّمَ الناس فيهم أنظمة أرضية وقوانين
وضعية استمدوها من عقولهم القاصرة، مع أن اللهU أمرنا أن نحكِّم شرعه في كل صغيرة وكبيرة من
حياتنا، فقال تعالى:
ﭽ ﯚ ﯛ ﯜ
ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ
ﯢ ﯣ ﯤ
ﯥ ﯦ ﯧ
ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭼ سورة المائدة/49.
وقال تعالى:
ﭽ ﭿ ﮀ
ﮁ ﮂ ﮃ
ﮄ ﮅ ﮆ
ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ
ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ
ﮓ ﮔ ﮕ
ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ
ﮜ ﮝ ﮞ ﭼ
سورة المائدة/48.
وقد انكر الله تعالى على الذين يريدون
تحكيم أنظمة جاهلية في حياتهم ويُعرضون عن تحكيم شرع الله، فقال تعالى:
ﭽﯾ
ﯿ ﰀﰁ ﰂ
ﰃ ﰄ ﰅ
ﰆ ﰇ ﰈﰉﭼ سورة المائدة/50.
فوجب
على المسلم أن يقوم بالدعوة إلى الله ليحكِّم شرعه الشريف في الناس.
3. تعرَّض هذا الدين ويتعرض لهجمة شرسة من
أعداء في العالم كله، يملكون أساليب خلابة وطرائق جذابة في التضليل والخداع،
ويملكون –فوق ذلك– ميزانيات كبرى وُضعت تحت تصرفهم من أجل صدِّ الناس عن هذا
الدين، وكان ضحيته جيلاً خدع ببهارج الحضارة المادية التي لعبت بلبه، وملكت عليه
حياته كلها.. فهل يجوز لنا أن نترك هذا الجيل تلعب به أهواء الضالين، من غير أن
نستنقذه من تلك الحمأة التي تردَّى فيها، والضلال البعيد الذي أفقده معالم شخصيته
ومصدر قوته... إنه عمل كبير لا يتحقق إلاّ بالدعوة إلى الله.
4. نحن
ندعو إلى الله، لأن المعركة بيننا وبين أعدائنا قد فُرضت علينا ولا خيار لنا فيها.
فإن هؤلاء الأعداء لا يتركوننا إلاّ إذا تركنا ديننا، وسلكنا سبيل كفرهم وضلالهم
وفسادهم، قال الله تعالى:
ﭽ ﮎ ﮏ ﮐ
ﮑ ﮒﮓﮔﮕﮖﭼ سورة البقرة/217.
وقال تعالى:
ﭽ ﭑ ﭒ
ﭓ ﭔ ﭕ
ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ..
ﭼ سورة البقرة/١٢٠.
وهكذا
كتب لنا أن نعيش في القرن الواحد والعشرين، لنرى سِعة المخطط العالمي الذي يستهدف
هذا الدين، ويمكر به، ويبغي الإجهاز عليه.
5. يكتسب الداعية أجراً جزيلاً وخيراً كثيراً ويكون
من المفلحين حين يدعو إلى الله. وحسبه ما قاله رب العالمين في الدعاة من الآمرين
بالمعروف والناهين عن المنكر:
ﭽ ﮖ ﮗ
ﮘ ﮙ ﮚ
ﮛ ﮜ ﮝ
ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ
ﮣ ﮤ ﮥ ﭼ سورة آل عمران/١٠٤.
فقد وصف الله الدعاة إليه بوصف الفلاح،
وكفى به وصفاً جمع الخير من أطرافه!!
6.
نحن ندعو إلى الله خشية أن يدركنا ما أدرك بني
إسرائيل من اللعنة، فقد قال رسول اللهr:
(أن
أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا أتق
الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه في الغد وهو على حاله، فلا يمنعُه ذلك
أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم تلا: ﭽ ﭩ
ﭪ ﭫ ﭬ
ﭭ ﭮ ﭯ
ﭰ ﭱ ﭲ
ﭳ ﭴﭵ
ﭶ ﭷ ﭸ
ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ
ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ
ﮅ ﮆ ﮇ
ﮈ ﮉ ﮊ
ﮋ ﮌ ﮍﮎ
ﮏ ﮐ ﮑ
ﮒ ﮓ ﮔ
ﮕ ﮖ ﮗ
ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﭼ سورة المائدة/ ٧٨–٨٠.
ثم
قال:(كلاَّ والله لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتَنهَونَّ عن المنكر، ولتَأخُذنَّ على يد
الظالم، ولتأطرنَّه على الحق أطراً، ولتُقصرنَّ على الحق قصراً، أو ليضربنَّ الله
بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعننَّكم كما لعنهم)([17]).
7. نحن ندعو إلى الله لإيماننا الذي لا ريب
فيه أن المستقبل للإسلام وحده، وأن الأنظمة –كلها– والمبادئ –جميعها– والشعارات
برمتها سوف تتساقط تساقط أوراق الشجر، بعد أن ينكشف زيفها، وتبدو سوءاتها.. وهنا
يبدأ الناس في البحث عن المنقذ الحقيقي بعد أن أزيلت البراقع عن الوجوه. وهل هناك
من منقذ غير هذا الدين.. وقد بشَّرنا رسول اللهr بهذا فقال:
(تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم
يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن
تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً فيكون ما شاء الله
أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرية فتكون ما شاء الله أن
تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)([18]).
فالداعية الآن يضع بدعوته لبنةً في صرح
الخلافة الراشدة التي بشَّر بها الرسول.r
8.
نحن ندعو إلى الله تعالى لننجو بأنفسنا من ذلك الشر المستطير
والعذاب العظيم الذي سيحل بالمفسدين، فإن الله ينجي الذين ينهون عن السوء، ويأخذ
الظالمين بعذاب بئيس جزاءَ فسادهم وضلالهم قال تعالى:
ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ
ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ
ﭚ ﭛ ﭜ
ﭝ ﭞﭟ ﭠ
ﭡ ﭢ ﭣ
ﭤ ﭥ ﭦ
ﭧ ﭨ ﭩ
ﭪ ﭫ ﭬ
ﭭ ﭮ ﭯ
ﭰ ﭱ ﭲ
ﭳ ﭴ ﭵ
ﭶ ﭷ ﭸ
ﭹ ﭼ سورة الأعراف:
١٦٤–١٦٥.
لهذا
كله ولغيره ندعو إلى الله، ونشعر بلذة أية لذةٍ في دعوتنا، وكيف لا وقد صارت
الدعوة جزءاً من حياتنا، وإنّ خروج الروح منا أهون علينا من تخلينا عن الدعوة إلى
الله وانصرافنا عنها.!!
زاد
الداعية
ينبغي على الداعية أن
يتزود بزاد يؤهله للقيام بمهمته، فإن فَقَده كان كمن خاض لظى الحرب بلا سلاح ولا
عتاد: فلا يحقق نصراً، ولا يدفع عن نفسه، فضلاً عن أن يدفع عن غيره، ومن ذلك الزاد
ما يأتي:
1. حفظ
القرآن الكريم والإستشهاد به في الوقت المناسب، فإن لم يتيسر ذلك فعليه أن يلم
بقراءته قراءة صحيحة، وقراءة تفسير موجز له.
2. أن
يحفظ مجموعة من الأحاديث الصحيحة والحسنة، ويفهم معناها الإجمالي، وليكن بعيداً كل
البعد عن الإستشهاد بالأحاديث الموضوعة، فإن ذلك محرم إذا لم يذكر أنها موضوعة
ليحذر الناس منها.
3. أن
يحيط علماً بأصول العقيدة الإسلامية المنبعثة من القرآن والسنة النبوية: الإيمان
بالله وباليوم الآخر، وبنبوة محمد r.
4. تقوى
الله في السر والعلن، فإنها تقذف نوراً في قلب صاحبها، فيبصر الحق ويعمل به.
5. الالتجاء
الدائم إلى الله في كل صغيرة وكبيرة، والاعتماد عليه دون سواه في كل شأن من شؤونه
ليهديه الصراط المستقيم، ويوجهه إلى ما فيه الخير والنفع.
فهذا أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب t
لما تسَّلم الخلافة صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس: إني
داعٍ فأمَّنوا، فجاء في دعائه: (اللّهم إني ضعيف عند العمل بطاعتك فارزقني النشاط
فيها والقوة عليها بالنية الحسنة التي لا تكون إلاّ بعزتك وتوفيقك) ([19])
.
وهذا الإمام ابن
تيمية – رحمه الله – كان يخرج إلى الصحراء، ويضع خده على التراب ويقول: (يا معلِّم
إبراهيم علِّمني) يكررها مراراً...
وبهذا الالتجاء
الدائم، والارتماء بين يدي الله، والخروج من حظوظ النفس، يتغلب على ما يعترضه من
عقبات وما يلاقيه من آلام، فلا يخشى إلا الله وحده، ولا يعتمد إلا عليه، وقد وضع
نُصبَ عينيه قوله تعالى:
ﭽﮧ
ﮨ ﮩ ﮪ
ﮫ ﮬ ﭼ سورة الطلاق/٣ .
6. أن
يكون ملماً بأحكام العبادات من صلاة وصيام وحج... إلماماً جيداً، وكذلك ما يحتاج
إليه في المعاملات، وأن يعرف – كذلك – مقاصد الشريعة: أصولها وفروعها، وأن يدرك
شيئاً من أسرار التشريع. وبهذا تكون نظرته دقيقة في كل توجيه وكلام.
7. أن
يقرأ السيرة النبوية المطهرة قراءة صحيحة جيدة، ويقف أمام بعض حوادثها متأملاً في
الأحكام التي أستنبطها بعض علمائنا.
8.
أن
يلم – بعض الإلمام – بالتاريخ، وأخذ العبر من أحداثه، وهذا أسلوب رائع من أساليب
التربية يحقق المراد من أقصر السبل. ولا عجب - بعد ذلك – إذا علمنا أن والقصص
الواردة في القرآن الكريم بلغت ما يقرب من ربع القرآن.
9. أن
يكون على معرفة بمذهب فقهي إسلامي، مع إلمامه بأمهات المسائل التي تحدث فيها
الفقهاء، إذ كثيراً ما يتعرض لأسئلة من المدعوين تستشكل عليهم.
10. أن يكون على معرفة بالتيارات الفكرية
المعاصرة، إذ لا ينبغي للداعية أن يكون بعيداً عن واقعه الذي يعايشه. وإذا كان من
واجبه محاربة المذاهب الهدامة، فإن عمله
ذلك لا يحقق الهدف إلا إذا كان الداعية على معرفة بأصولها وفلسفاتها، فيعرض أصولها
وفروعها على الإسلام، ويرفض منها ما يتعارض مع دينه.
11. أن يعرف أساليب خصوم الإسلام، وكيفية تفكيرهم
في محاربة هذا الدين: من إثارة للقضايا الخلافية الفرعية بين المسلمين، أو زج
الدعاة في المعتقلات والسجون وحصرهم وراء القضبان، أو في قتلهم وتعذيبهم، أو في
إغرائهم بالأموال والشهوات والمناصب.
12. أن يكون على قدر كاف من علوم العربية:
بنحوها وصرفها وبلاغتها وأدبها، ليتمكن من صياغة العبارات الجميلة على المعنى
الصحيح، إذ الأسلوب الجميل يحبب المدعو إلى الدعوة فينبغي عليه أن يعرض دعوته
بأسلوب براق أخّاذ جذاب ليُقبل عليها الناس.
13.
أن
يخاطب الناس على قدر عقولهم، ويتحدث مع كل واحد منهم بما يناسبه، مقتدياً برسول
الله r الذي كان يقول:
(أُمرنا - معاشر الأنبياء – أن نحدِّث الناس على قدر عقولهم) ([20])
وروى
الإمام البخاري عن علي بن أبي طالب t قوله:
(حدثوا
الناس بما يعرفون،ودَعُوا ما ينكرون،أتُحبون أن يكذَّب الله ورسوله) ([21]).
وعن ابن مسعود t:
(ما أنت بمحدثٍ قوماً
حديثاً لا تَبلِغُهُ عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) ([22])
.
14. أن
تقدم الدعوة بأسلوب جميل، وأدب جم، وخُلُق رفيع يفتح القلوب ويشرح الصدور، سواء
كانت خطابة أو كتابة أو نقاشاً. والقرآن الكريم يشير إلى وصية الله لموسى وهارون –
عليهما السلام – باللين من القول لفرعون الطاغية، فقال لهما:
ﭽﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ
ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﭼ
سورة
طه/ ٤٣–٤٤.
ونستطيع أن نجد
لَفتات قرآنية ونبوية كثيرة تدعو إلى الرفق ومجانبة القسوة، ومن ذلك قول الله
تعالى:
ﭽﮦ ﮧ
ﮨ ﮩ ﮪ
ﮫ ﮬﮭ ﮮ
ﮯ ﮰ ﮱﭼ
سورة
النحل/ ١٢٥.
ويفسر العلامة
ابن كثير الآية فيقول: (أي من أحتاج إلى مناظرة وجدال، فلْيَكن بالوجه الحسن برفق
ولين وحسن خطاب) ([23]).
ومن إشارات
القرآن الواضحة التي تدل على أن اللين في القول والرفق في الأمور تؤدي إلى كسب
الناس وإلتفافهم حول الداعية، قول الله تعالى في رسوله r:
ﭽ ﭙ ﭚ
ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ
ﭡ ﭢ ﭣ
ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ
ﭼ سورة آل
عمران/١٥٩.
ويقول عبد الله
بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – في تفسير هذه الآية:
(اني أرى صفة
رسول الله r
في الكتب المتقدمة: انه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزئ بالسيئة
السيئة، ولكن يعفو ويصفح) ([24]).
وعن عائشة – رضي الله
عنها – قالت: كان النبي r
إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: "ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: ( ما بال
أقوام يقولون كذا وكذا ) ([25]).
ذلك أن
المواجهة المباشرة لا تتقبلها النفوس.
وهكذا يكون
الأسلوب الجميل في عرض الدعوة عاملاً مهماً من عوامل نجاحها، فيتقبلها المدعو من
أقصر الطرق بأقل التكاليف !
واجبات الداعية
واجبات الداعية التي ينبغي أن يقوم بها
كثيرة، وكيف لا تكون كذلك، وهو يريد أن يحدث انقلاباً شاملاً في قلوب الناس
وعقولهم؟ ومن أهم تلك الواجبات ما يأتي:
1. أن يخاطب الشباب
والشابات بما يناسبهم، ويهتم بمشكلاتهم، ويولي المرأة المسلمة اهتماماً خاصاً،
مبيناً المؤامرات الكبيرة التي تحاك لإفسادها وإنزالها من عليائها، وأن يقارن بين
الحقوق التي أعطاها الإسلام للمرأة، وحقوقها في المجتمعات الغربية المعاصرة.
2. أن يفتح حواراً مع
الشباب، يناقش فيه ما يدور بخلدهم، وما يعانونه من أزمات ومشكلات فكرية أو
اجتماعية أو جنسية... ويعمل على تخليصهم منها. وإذا كان على الداعية أن يهتم
بالناس عامة وبالشباب خاصة، فلأن الشباب واجهوا – ولا يزالون يواجهون كذلك – غزواً
فكرياً عنيفاً، هدفه أن يفقد الشاب المسلم ثقته يدينه وبذاته، وبخاصة بعض أولئك
الذين أرسلوا في بعثات علمية إلى أوربا وأمريكا وغيرهما، فعادوا دعاة إلى مناهج
وأفكار تلك الأمم، لجهلهم بالإسلام وما يحتاجونه من عقيدة وشريعة وأخلاق...
3. الرد على الشبهات
والمفتريات التي يقوم بالترويج لها وإذاعتها خصوم الإسلام، وتفنيدها تفنيداً
علمياً مدعماً بالحجج الساطعة والبراهين القاطعة.
4. إذا كانت المغريات
التي تقف أمام الشباب فتضله عن سواء السبيل، وتوقعه في حبائل الشيطان كثيرة كثيرة،
فإن على الداعية أن يفكر تفكيراً جاداً في إيجاد بدائل إسلامية لتلك المغريات ليظل
الشباب محافظاً على استقامته ومنهجه الإسلامي. فلما نهى الإسلام عن الزنا أعطى
البديل للشباب غير المتزوج: وهو غض البصر والزواج، فإن لم يستطع فعليه بالصوم، وإن
كان متزوجاً فبإتيان أهله، فقال الرسول r:
(يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة
فليتزوج، فأنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) ([26]).
وقال:
(.. إذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله، فإن ذلك
يرد ما في نفسه)([27]).
5. أن يبصِّر الناس
بالغزو الفكري الذي أخذ مأخذه في قلوب الناس وعقولهم فاستطاع أن يشوه فكرهم،
ويبعدهم عن هذا الدين، مبيناً كيد المنظمات التنصيرية والصهيونية والاستعمارية
لهذه الأمة، بعد أن عجزت قوة الحديد والنار عن النيل من الإسلام.
6. تعريف الناس بالمنهج
الماسوني وخطره على العالم بصورة عامة والمسلمين بصورة خاصة وبأن هذا المنهج يهدف
إلى تحلل الناس من قيمهم العالية ومبادئهم السامية. ويدخل في الماسونية اليهود
والنصارى والمسلمون وغيرهم. وبعد أن ينضم الواحد إليها تعمل بمغرياتها على إيقاعه
بجرائم أو نقائض تسجلها عليه، ثم تطلعه عليها لتضمن ولاءه للماسونية، لكي لا يخرج
عن مبادئها وامتثال أمرها. واستطاعت الماسونية أن توجد عدداً من الأنظمة والمناهج
والأفكار. وهل الرأسمالية والشيوعية والوجودية إلا من تخطيط الماسونية؟
هذه هي بعض الواجبات التي ينبغي على الداعية أن يقوم بها خير
قيام.
أساليب
الدعوة
يراد بأسلوب الدعوة:
عرض ما يراد عرضه من عقيدة الإسلام وشريعته وأخلاقه في عبارات واضحة المعاني، بينة
المراد، ويقوم أسلوب الدعوة على (الحكمة) و(الموعظة الحسنة) و(المجادلة بالتي هي
أحسن)، قال تعالى:
ﭽ ﮦ ﮧ
ﮨ ﮩ ﮪ
ﮫ ﮬﮭ ﮮ
ﮯ ﮰ ﮱﭼ سورة
النحل/ ١٢٥.
والحكمة: هي وضع
الأشياء في موضعها المناسب، فهي تشمل كل ما أنزله الله على رسوله من الكتاب، وما
نطق به r
من الحديث.
والموعظة الحسنة: هي
العبر الجميلة التي توجه الناس التوجيه الصحيح.
والجدال بالتي هي
أحسن: هي المناظرة بأحسن الوجوه، والرفق واللين وحسن الخطاب.
ويقسم الإمام أبو
حامد الغزالي المخاطبين بالدعوة إلى ثلاث طبقات، ولكل طبقة نوع من الخطاب:
فالأذكياء يخاطبون بالبرهان، والعوام يخاطبون بالخطابة، لأنهم لا يفقهون البراهين،
والمعاندون في الاعتقاد يخاطبون بالجدل، لأن الموعظة لا تنفع معهم([28]).
والداعية لا يقتصر
على أسلوب واحد في دعوته، بل يتبع أساليب كثيرة: فما يتكلم به مع الكبير غير ما
يتكلم به مع الصغير، وما يتكلم به مع المثقف غير ما يتكلم به مع الأمي... ويعتمد
الداعية الأساليب الحديثة في نشر دعوته وتطورها بما لا يتعارض وقواعد هذا الدين...
فلا يترك الداعية وقتاً مناسباً إلا اهتبله في دعوته: فقد لا تؤثر الدعوة في قلب
من كان مشغولاً بأمر يهمه، لكنها تؤثر فيه عند فراغه من شغله، وقد لا تؤثر الدعوة
في الإنسان الصحيح، لكنها تؤثر في المريض. وقد لا تؤثر في حالة غناه، لكنها تؤثر
في حالة فقره... وقد استعمل سيدنا نوح u: اساليب كثيرة في دعوته، يدلّ عليعا قول الله
تعالى على لسانهu :
ﭽ ﮱ ﯓ
ﯔ ﯕ ﯖ
ﯗ ﯘ ﯙ
ﯚ ﯛ ﯜ
ﯝ ﯞ ﯟ
ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ
ﯥ ﯦ ﯧ
ﯨ ﯩ ﯪ
ﯫ ﯬ ﯭ
ﯮ ﯯ ﯰ
ﯱ ﯲ ﯳ
ﯴ ﯵ ﯶ
ﯷ ﯸ ﯹ
ﯺ ﯻ ﯼ
ﯽ ﯾ ﯿ
ﰀ ﰁ ﰂ ﭼ سورة نوح/ ٥ - ١٠ .
وإذا كان الداعية قد
جعل مثله الأعلى رسول الله r
في كل أمر من أموره، فإن عليه أن يقتدي به في دعوته: فقد كان u
يأتي إلى الناس في بيوتهم وأسواقهم ومجالسهم يدعوهم إلى عبادة الله وحده. والداعية
يقتدي به في ذلك. فهو لا ينتظر من الناس أن يأتوا إليه ويسألوه فيجيبهم، بل عليه
أن يذهب إليهم في أماكنهم، يبلغهم رسالة الله.
ولابد لنا أن نشير
إلى أن الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة تجعل المدعو يُقبل على الدعوة،
ويحبها من أعماقه، وينضوي تحت لوائها بوجد وشوق... على حين أن الفظاظة والغلظة
تنفر من الداعية، وتجعل بينه وبين دعوته حجاباً مستوراً. وإذا كان أعداء الإسلام
يضعون العقبات تلو العقبات أمام دعوة الله، فإن المسلم قد يضع عقبات أمام دعوته من
حيث لا يشعر، ومن هذه العقبات ضجر الداعية وسآمته، وضيق صدره، والغلظة والفظاظة في
الكلام.
من خصائص أسلوب
الدعوة
(ولأسلوب الدعوة
خصائص كثيرة: منها بلاغته، ومراعاته لمقتضى الحال، وسوقه لمختلف القضايا سوقاً
متلائماً مع المخاطبين، قائماً على التدرج في فرض التكاليف المرادة والانتقال من
الأيسر إلى اليسير، ومن الأسهل إلى السهل، تيسيراً على الناس، وتخفيفاً على النفس،
محبباً لما يريده، ومنفراً مما لايريده عن طريق مخاطبة العقل، واستخدام المنطق، أو
عن طريق إثارة الوجدان والمشاعر، أو عن طريق الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد...
ضارباً الأمثال وسائقاً القصص، ليظهر الغامض ويوضح المبهم... وهو في كل ذلك مبرأ
من كل عيب، ومنزه عن كل ما يخدش الحياء، سواء في ألفاظه أو في عباراته أو في
معانيه)([29]).
التلميح والتدرج
وأسلوب التلميح
والتدرج مع المدعو من أنجح الأساليب التي تتقبلها النفس البشرية، لأنه لا يمس
إحساساً، ولا يصدم نفساً، وكثيراً ما كان الرسول الكريم r يتبع هذا الأسلوب.
ومن الأساليب الناجحة
– أيضاً – إظهار الداعية نفسه مستعيناً برأي المدعو في قضية يبحث فيها عن الحق.
وهذا الأسلوب يجعل المدعو يشارك الداعية في قضيته تلك، ويقبل عليها بإحساسه كله.
ويهتبل الداعية هذه الفرصة فيوجه المدعو التوجيه السديد بحكمته. وننظر في القرآن
الحكيم، فنجد أمر الله لرسوله بدعوة قومه إلى الله بأسلوب ظاهره أن الرسول لا يقطع
أن الهدى معه، تدرجاً معهم للوصول إلى الإيمان الصحيح، قال تعالى:
ﭽ ﭬ ﭭ
ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ
ﭷ ﭸ ﭹ
ﭺ ﭻ ﭼ
ﭽ ﭾ ﭿﭼ سورة سبأ/ ٢٤.
الترغيب والترهيب
أسلوب الترغيب
والترهيب من أنجح الأساليب – أيضاً – في الدعوة إلى الله، وقد ذكر كل منهما كثيراً
في القرآن الكريم السنة النبوية الشريفة، ولكن بأيهما يبدأ الداعية ؟
إن طبائع النفوس
مختلفة: فقد تجدي مع إنسان وسيلة الترغيب ولا تجدي مع غيره، وقد تنفع مع آخر وسيلة
الترهيب، ولا تنفع معه وسيلة أخرى... لكننا عند التأمل نرى أن أسلوب الترغيب أكثر
نفعاً. لذلك ينبغي على الداعية أن يبدأ بالترغيب قبل الترهيب: فيتحدث الداعية في
الصلاة وفضلها وما أعدّ الله للمصلين من الثواب الجزيل، قبل أن يتحدث في تركها وما
أعد الله للمفرِّطين أو المقصرين بها من العذاب العظيم. فإن لم يُجْدِ هذا الأسلوب
نفعاً مع المدعو انتقل إلى أسلوب الترهيب. وهذا الأسلوب في الدعوة نجده في القرآن
الكريم والسنة النبوية الشريفة: فالقرآن الكريم يرغب الناس في الخير لتتفتح قلوبهم
وتشتاق أنفسهم لذلك، فتقدم مسارعة إلى امتثال الأمر واجتناب النهي، من غير أن
يحملها أحد على ذلك.
ويحدثنا
القرآن الكريم أن الجن استمعوا القرآن من رسول الله r ثم عادوا إلى قومهم فبشروهم قبل أن ينذروهم، بعد أن شعروا بذلك
الواجب الثقيل الذي كلفوا بحمله: وهو تبليغ ما سمعوا، فقالوا كما حكى القرآن
الكريم:
ﭽ ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ
ﮁ ﮂ ﮃ
ﮄ ﮅ ﮆ
ﮇ ﮈ ﮉ
ﮊ ﮋ ﮌ
ﮍ ﮎ ﮏ
ﮐ ﮑ ﮒ
ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ
ﮙ ﮚ ﮛ ﭼ سورة الأحقاف / ٣١ - ٣٢.
وهذا
رسول الله r يبشر الناس في أحاديثه، فيقول في ترغيبه بالصلاة:
(أرأيتم
لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء ؟ قالوا:
لا يبقى من درنه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا) ([30]).
وهذا
سيدنا علي بن أبي طالب t يقتدي بأسلوب رسول الله r
بالترغيب في دعوته فيقول:
(ألا
أخبركم بالفقيه حق الفقيه ؟ الذي لا يُقَنِّط الناس من رحمة الله، ولا يُرَخِّص
للمرء في معاصي الله، ولا يدع القرآن رغبة فإنه لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا
خير في علم لا فقه فيه، ولا خير لقراءة لا تدبر فيها) ([31]).
وإذا كان هذا الأسلوب
في الدعوة مجدياً في كل عصر، فإن فائدته في هذا العصر أكثر، ذلك أن الناس قد
ابتعدوا عن منهج الله، وتغلبت على الكثير منهم المادية الجامحة... فأنت إذا دعوتهم
إلى الله وسوس لهم الشيطان، وخوفهم من سوء مصيرهم إن هم استجابوا لذلك، ظانين أن
أموالهم ستذهب، وأن سعادتهم ستطير، وينتقلون – عند ذاك – من سعة العيش إلى ضيقه،
ومن سعادة الحياة إلى شقائها... فينبغي على الداعية أن يبين للناس خطأ هذه الوساوس
الشيطانية... يحدثنا كتَّاب السير والمحدثون أن عدي بن حاتم الطائي كان ملكاً في قومه،
وقد جاء إلى النبي r
ليعلن إسلامه. وبينما كان قاعداً عنده إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه رجل
فشكا إليه قطع السبيل... فخشي النبي r
أن يفتّ في عضد عدي ما سمعه من فقر الناس المدقع، وحاجتهم الكاوية، وعدم انتشار
الأمن، فألقى إليه بالبشارات الآتية ترغيباً له في الإسلام فقال:
(ياعدي، هل رأيت
الحيرة) ؟ قال عدي: قلت لم أرها وقد أنبئت عنها. قال:(فإن طالت بك حياة لترين
الضعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله، ولئن طالت بك
حياة لتفتحن كنوز كسرى، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة
يطلب من يقبله منه فلا يجد أحداً يقبله منه...)([32]).
هكذا اتخذ الرسول
الكريم r
هذا الأسلوب الحكيم ليجذب عدياً للدخول في الإسلام، وليثبته عليه بعد ذلك، وهو u
لا يقول إلا حقاً ولا ينطق إلاَ صدقاً.! وهذا هو الأسلوب الحكيم في دعوة الناس.
فلا ينبغي للداعية أن يُقَنَّط الناس من رحمة الله، ولا أن يسد أمامهم أبواب
التوبة، وكيف يفعل هذا وهو يتلو قول الله U:
ﭽ ﮤ ﮥ ﮦ
ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ
ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ
ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ ﯚ ﯛ
ﯜ ﯝ ﯞ
ﯟ ﯠ ﯡ
ﯢ ﯣ ﯤ
ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ
ﯪ ﯫ ﯬ
ﯭ ﯮ ﯯ
ﯰ ﯱ ﯲ
ﯳ ﯴ ﯵ
ﯶ ﯷ ﯸ
ﯹ ﯺ ﯻ
ﯼ ﯽ ﯾ
ﯿ ﰀ ﰁ
ﰂ ﰃ ﰄ
ﰅ ﰆ ﰇ
ﰈ ﰉ ﭑ ﭒ
ﭓ ﭔ ﭕ
ﭖ ﭗ ﭘ
ﭙ ﭚ ﭛ
ﭜ ﭝ ﭞ
ﭟ ﭠ ﭡ
ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ ﭼ سورة الزمر/ ٥٣ – ٥٨.
وهذه
الآيات دعوة للعاصين والمذنبين يدعوهم فيها رب العالمين إلى التوبة، فإن بابها
مفتوح لا يغلق في ليل ولا في نهار، ولا يحتاج من يدخله إلى الاستئذان: فمن أراد أن
يدخل الباب فليدخل. !
وهكذا
يتبع الداعية أسلوب الترغيب قبل الترهيب فهو أن آنَسَ من مسلم خيراً عمل على
تشجيعه وتنمية ذلك الخير، وإذا ارتكب معصية أو معاصي فلا يقنطه من رحمة الله، بل
يتحدث معه عن طبيعة النفس البشرية التي تحمل في جنباتها الخير والشر:
ﭽ ﭨ ﭩ
ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ
ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ
ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭼ سورة الشمس/ ٧ - ١٠.
على
أننا لا نريد أن نهوِّن من أمر الترهيب، فقد تجدي مع المدعو
هذه الوسيلة، ولا تجدي معه وسيلة الترغيب، والداعية إنسان حكيم، يضع كل شيء في
موضعه المناسب.
البدء بالأهم واختيار
المدعو
الإسلام دين الله،
فيه واجبات وسنن، وأصول وفروع، وعلى الداعية أن يبدأ بمن يدعوه بالأصول قبل
الفروع، والفرائض قبل السنن، يستوي في ذلك الناس كلهم: المثقف منهم والأمي،
والبدوي والحضري... لأن القرآن الكريم دعا إلى ذلك، ودعا إليه رسول الله r،
بل إن كل رسول من رسل الله كان يبدأ دعوة قومه بقوله: ﭽ ﭬ
ﭭ ﭮ ﭯ
ﭰ ﭱ ﭲ ﭼ سورة الأعراف/٥٩.
ونريد بالأصول هنا:
أن يؤمن المسلم إيماناً عاماً بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر
خيره وشره، ويؤمن بأن الله قد فرض عليه فرائض منها: الصلاة والزكاة، والصوم والحج
لمن يستطيعه...
أما فروع الإسلام فلا
نبدأ بها مع المدعو: فلا نطالبه بتحديد معنى الألوهية، ولا نخوض معه في حقيقة
الصفات: أهي عين الذات أم غير الذات...؟!
على أن الداعية – فوق
ذلك – ينبغي أن يكون ذا معرفة جيدة بحقيقة واقعه الذي يعايشه فإن معرفته بالعلوم
الإسلامية والعربية والتاريخية والعلمية التجريبية لا تكفي إن لم يكن له معرفة
جيدة بحقيقة البيئة التي يدعو فيها، وبخاصة المبادىء والتيارات المتصارعة، وما
يعانيه الناس من مشكلات ومتاعب. في ضوء معرفته تلك يستطيع أن يقدم في دعوته ويؤخر،
فيقدم الأهم على المهم، وهذا الأسلوب في الدعوة نجده في سيرة رسول الله r:
فلما بعث الرسول الكريم r
معاذاً إلى اليمن قال له:
(إنك ستأتي قوماً أهل
كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله،
فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة،
فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد
على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم
فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) ([33]).
ونلاحظ في هذا الحديث
الشريف: التدرج في الخطاب والتلطف فيه، فإنه u لو طالب الناس مرة واحدة بذلك كله، لشق
عليهم،وقد تجد نفوسهم نفرة منه !
واقتداءاً برسول الله
r
ينبغي على الداعية أن يتدرج بالمدعوين: فيبدأ بالأهم قبل المهم، فيبدأ بالدعوة إلى
ترسيخ العقيدة السليمة في النفوس قبل بدئه بالدعوة إلى العبادة، والدعوة إلى
العبادة قبل الدعوة إلى الأخذ بمناهج الحياة، والدعوة إلى الكليات قبل الدعوة إلى
الجزئيات، وحين ننظر في القرآن الحكيم، نرى أن السمة العامة للآيات المكية كانت في
تأكيدها على جانب العقيدة: من الإيمان بالله واليوم الآخر والنبوة... وهكذا كانت
دعوة النبي r...
حتى إذا رسخ الإيمان في نفوس الناس، وهاجر u
إلى المدينة، نزلت آيات الأحكام: وهي منهج حياة للمسلمين.
أما عن اختيار
المدعو، فنجد في كل مجتمع من المجتمعات أصنافاً من الناس: ففيهم القريب والبعيد،
والشاب والشيخ، والمتواضع والمتكبر، والمثقف والأمي، والشجاع والجبان، والمستقل
ومن يحمل فكراً معيناً... فينبغي على الداعية أن يحسن اختيار من يدعوه، فبمن يبدأ؟
1. يبدأ
بالقريب قبل البعيد. ونعني بالقريب: من يمتُّ للداعية بصلة قرابة، ومن يكون قريباً
منه في السكن أو محل العمل أو الوظيفة، فإن الداعية يعرف عن كل واحد من هؤلاء أكثر
مما يعرف عن الإنسان البعيد. وهؤلاء يعتبون عليه أن أهمل شأنهم وأتجه بدعوته إلى
غيرهم، وقد أمر الله نبيه الكريم r
في فجر الدعوة الإسلامية الأول أن ينذر عشيرته الأقربين، فقال تعالى:
ﭽ ﭿ
ﮀ ﮁ ﮂ ﭼ
سورة
الشعراء/
٢١٤.
فإذا انضوى تحت لواء
دعوته الأقربون، فإن غيرهم من الناس يسهل أمر استجابتهم للدعوة وإلا كانوا حجاباً
يتعلل به الأبعدون عن عدم استجابتهم. ونقرأ في الحديث الشريف: أن النبي r
عتب على الذين لا يُفَقِّهون جيرانهم ولا يعلمونهم ولا يعظونهم، وتوعدهم بالعقوبة
فقال:
(ما بال أقوام لا
يُفَقِّهون جيرانهم، ولا يعلمونهم، ولا يعظونهم، ولا يأمرونهم ولا ينهونهم؟ وما بال
أقوام لا يتعلمون من جيرانهم، ولا يتفقهون ولا يتعظون ؟ والله لَيُعِّلمُن قوم
جيرانهم ويفقهونهم ويأمرونهم وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون، أو
لأعجلناهم بالعقوبة)([34]).
وفوق ذلك، فإن هذا
وذاك تربطه بك صلة، فتستطيع الحديث معه، وهو يقبل منك أكثر مما يقبل من إنسان بعيد
عنه، أو الذي لا تربطك به صلة مما ذكرنا: فلا تزرع الثقة المرجوة بين الداعي
والمدعو إلاّ بعد وقت ليس بالقصير.
2. إذا
كان هناك شخصان: أحدهما شاب والآخر شيخ كبير، فليبدأ الداعية بالشاب، لأن الشاب
يمتاز – بصورة عامة – بقبوله للدعوة وتجرده لها، وتضحيته من أجلها بالغالي
والنفيس. ونقرأ في السيرة النبوية أن
الدعوة الإسلامية في فجرها الأول حمل لواءها الشباب قبل غيرهم...!
3. وليبدأ
بالمتواضع قبل المتكبر، لأن الكبر داء وبيل يقف عائقاً أمام قبول دعوة الله، فإن
المتكبر يظن في نفسه الكمال، ولا يحتاج إلى نصيحة ناصح، وأما المتواضع، فشأنه غير
ذلك.
4. وليبدأ
بالمثقف قبل الأمي؛ لأن المثقف يستطيع أن يميز بين الأفكار، ويتخذ منها ما يراه
صالحاً عن وعي وإدراك، ويلتزم ذلك في الغالب، ويستطيع أن يقوم بدور كبير في إصلاح
المجتمع، وليس كذلك الأمي في الغالب.
5. وليبدأ
بالشجاع قبل الجبان، فإن الشجاع يملك طاقة كبيرة وحيوية جياشة ينفع بها دعوته، على
أن يكون حكيماً في شجاعته غير متهور.
6. وليبدأ
بالمستقل قبل المنتمي إلى جهة ما، لأن غير المنتمي قد صار في مركز وسط بين
المذاهب، وأما المنتمي، فقد انتقل إلى الطرف ألآخر. وعلى هذا، فإن المنتمي يحتاج
من الجهد أضعاف ما يحتاجه المستقل.
7. وليبدأ
بذي التأثير في قومه قبل دعوة من لا تأثير له، لأن الأول يستطيع أن يؤثر في محيطه،
فيكسب لدعوة الله ما لا يكسبه غيره، مقتدياً برسول الله r الذي كان يدعو ربه بقوله:
(اللّهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك:
بأبي جهل، أو بعمر بن الخطاب)([35]).
واقتداءاً بما فعله
(مصعب بن عمير) سفير رسول الله r
في المدينة. إذ لما أسلم على يديه (أسيد بن حضير) و (سعد بن معاذ) أسلم بإسلامهما
سائر بني عبد الأشهل. فينبغي على الداعية أن يتخير لدعوته الأكثر أهمية، والأكثر
تأثيراً والأسرع استجابة.
قضية
الدعاء
وبعد
أن يختار الداعية من يدعوه، يقوم بدعاء الله له من أعماق قلبه: أن يفتح قلبه،
ويشرح صدره للهداية، ويفقهه في ذلك، والدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، وعدة
المؤمنين الصادقين، وبه يستنزل النصر من السماء... انه سلاح لا يفل – وان غفل عنه
كثير من الناس - !.
إن
عدداً ليس بالقليل من الدعاة يظن أنه حين يتجه إلى دعوة إنسان ما أنه يقدر على
ذلك... ألم يدع إلى شريعة إلهية أنزلها الحكيم الخبير، تحمل معها كل عناصر القوة
والبقاء ؟... لكن الداعية يصاب بخيبة أمل مريرة، حين يعرض المدعو عن دعوته...وفي
هذه اللحظات العصيبة يتذكر الداعية ضعفه وقلة حيلته، فيهرع إلى الدعاء، طالباً منه
– سبحانه– أن يفتح له مغاليق القلوب، فيتم له ذلك. !
إن الدعاء عبادة من
أجلِّ العبادات، بل هو مخ العبادة، فعلينا أن نلزمه في حياتنا كلها في كل صغيرة وكبيرة.
فإذا اشتبهت عليك الأمور – أخي الداعية – وكثرت الاجتهادات، وتملكتك الحيرة في
معرفة الصواب فلتلتجيء إلى الدعاء الخالص الذي كان يدعو به رسول الله r:
(اللّهم رب جبرائيل
وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين
عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من
تشاء إلى صراطٍ مستقيم)([36]).
ومن أروع ما قاله عمر
بن الخطاب t:
(أنا لا أحمل همَّ
الإجابة، ولكني أحمل همَّ الدعاء). ومما قاله عبد الله بن مسعودt:
(من أدمن قرع الباب
يوشك أن يفتح له).
التربية والتعليم
إذا شرح الله صدر
المدعو إلى الإسلام واستجاب لما يدعو إليه هذا الدين، فعلى الداعية أن يقوم
بتربيته وتعليمه.
قضية العقيدة
وأول
ما يحاول الداعية التأكيد عليه: تثبيت العقيدة الإسلامية بأصولها الثلاثة: الإيمان
بالله، وباليوم الآخر، وبنبوة محمد r
في قلب من يدعوه، لأن القرآن الكريم عني بذلك كثيراً: (فقلما تخلو سورة من سور
القرآن من ذكرها ودعوة الناس إلى الإيمان بها. وتظهر هذه القضية ظهوراً واضحاً
بَيِّناً في السور والآيات المكية: فقد كانت هذه السور والآيات تتنزل على رسول
الله r
في ثلاث عشرة سنة، وهي تُعَرِّف الناس بالعقيدة الإسلامية، ولم تنزل أكثر آيات
الأحكام إلاّ في العهد المدني بعد هجرة الرسول الكريم r) ([37]).
بل إن التأكيد على العقيدة الإسلامية الصحيحة ظل مستمراً حتى بعد هجرة الرسول r
إلى المدينة، فكانت آيات المعاملات تختم بذكر العقيدة وأصولها.
ونحن حين نؤكد على
موضوع العقيدة لا نتهم المسلمين بالردة عن دينهم، فإن شروط الردة معروفة مشهورة...
لكننا نبغي من وراء ذلك تصحيح عقيدة الناس بالله وتفهيمهم أركان الإيمان الستة كيف
تكون.
وإذا كان الإسلام قد
أهتم هذا الاهتمام الكبير بجانب العقيدة، فإنه لم يكن بدعاً من الأديان، ولم يكن
رسول الله r
بدعاً من الرسل حين أكد على هذا الأصل الأصيل من أصول الإسلام، بل إن كل رسول من
رسل الله دعا قومه الى ذلك، فقال تعالى عن نوح u
ﭽ ﭥ ﭦ ﭧ
ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ
ﭭ ﭮ ﭯ
ﭰ ﭱ ﭲ
ﭳ ﭴ ﭵ
ﭶ ﭷ ﭸ
ﭹ ﭼ
سورة
الأعراف/ ٥٩.
وقال عن دعوة شعيب u:
ﭽ ﭩ ﭪ
ﭫ ﭬﭭ ﭮ
ﭯ ﭰ ﭱ
ﭲ ﭳ ﭴ
ﭵ ﭶ ﭼ سورة هود/٨٤.
وهكذا دعا سيدنا
(هود) و (صالح) و (إبراهيم) وكل رسول من رسل الله، لأن التوحيد أساس كل رسالة من
رسالات الله، قال تعالى:
ﭽ ﭴ ﭵ
ﭶ ﭷ ﭸ
ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ ﭼ سورة النحل/٣٦.
ولابد من إقامة
الأدلة البينات والحجج الواضحات على صحة العقيدة الإسلامية، فيقوم الداعية بتقرير
ما في هذا الكون من سماوات وكواكب وأقمار، والأرض وما فيها من محيطات وأنهار،
والإنسان وما أودع الله فيه من أسرار... والنباتات والحيوانات... فينتزع منها أدلة
كثيرة في تثبيت العقيدة، وما أكثر تلك الآيات التي أشارت إلى ذلك.. قال الله
تعالى:
ﭽ ﮌ ﮍ ﮎ
ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ
ﮔ ﮕ ﮖ
ﮗ ﮘ ﮙ
ﮚ ﮛ ﮜ
ﮝ ﮞ ﮟ
ﮠ ﮡ ﮢ
ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ
ﮨ ﮩ ﮪ
ﮫ ﮬ ﮭ
ﮮ ﮯ ﮰ
ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ
ﯘ ﯙ ﯚ
ﯛ ﯜ ﯝ
ﯞ ﯟ ﯠ
ﯡ ﯢ ﯣ
ﯤ ﯥﯦ ﯧ
ﯨ ﯩ ﯪ
ﯫ ﯬ ﯭ
ﯮ ﯯ ﯰ
ﯱ ﯲ ﯳ
ﯴ ﯵ ﭑ ﭒ
ﭓ ﭔ ﭕ
ﭖ ﭗ ﭘ
ﭙ ﭚ ﭛ
ﭜ ﭝ ﭞ
ﭟ ﭠ ﭡ
ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ
ﭨ ﭩ ﭪ
ﭫ ﭼ
سورة
الحج/ ٥ - ٧.
وإذا كانت العقيدة
أساساً مهماً تبنى عليه صحة الأعمال وقبولها، فإن من لوازم الإيمان بالله: مراقبته
مراقبة مستمرة، والخضوع له، وعبادته – وحده – دون سواه. وإن من لوازم الإيمان
باليوم الآخر: الحرص على العمل الصالح، وأن من لوازم الإيمان بنبوة محمد r:
إتباعه في كل أمر ونهي وتوجيه، وقبول حكمه مطلقاً، واعتبار كل ما جاء به الإسلام
ميزاناً يزن به المسلم كل قول وعمل ومبدأ ومنهج وسياسة، قال تعالى:
ﭽ ﯜ ﯝ
ﯞ ﯟ ﯠ
ﯡ ﯢ ﯣ
ﯤ ﯥ ﯦ
ﯧ ﯨ ﯩ
ﯪ ﯫ ﯬ
ﯭ ﯮ ﯯ ﭼ
سورة
النساء/ ٦٥.
فإذا آمن المدعو
إيماناً صحيحاً سهل إقناعه بمعاني الإسلام الأخرى... وإلاّ فقد يرفض بعض ما جاء به
الدين.!
وليس صواباً أن يهمل
الداعية هذا الأصل الأصيل، وينجرّ فيما يهواه الناس مما يسمى بالسياسة وتحليلها
تحليلاً بعيداً عن العقيدة... فإذا فعل الداعية ذلك فقد أبعد النجعة، ولم يأت بشيء
جديد لا يعرفه الناس...
ولابدّ لنا أن نقرر
هنا أن العقيدة التي ندعو إليها هي عقيدة ربانية، مصدرها الوحي لا تجاوزه، ولا أثر
لآراء البشر فيها، وهي بعيدة عن الخلافات الفلسفية التي خاض غمارها علماء الكلام
ثم ندموا على ما كان منهم: كالإمام (الغزالي) و (ابن رشد الحفيد) و (الآمدي) و
(الرازي) و (الجويني) و (الشهرستاني)...
مع التربية والتعليم
وإذا شرح الله صدر
المدعو لقبول الدعوة، فليس صواباً أن يتركه وشأنه، بل عليه أن يتعهده بالتربية
والتعليم: فيزيل من عقله وقلبه ما علق بهما من شوائب الشرك وأنواع الشبهات التي
تعرض له في طريقه. فإن لم يفعل الداعية ذلك، فقد يصاب المدعو بنكسة، فيرجع عن هداه
إلى الضلالة، وحين نقرأ السنة النبوية المطهرة، نجد أنه u كان يتعهد من يدخل في الإسلام بالتربية
والتعليم، فقال لأصحابه حين أسلم
(عمير بن وهب):
(فقهوا أخاكم في دينه
وأقرئوه القرآن) ([38]).
ويدل على ذلك – أيضاً
– أن الرسول r
بعث مصعب بن عمير إلى المدينة ليفقه من دان بالإسلام، ولقد ضرب الرسول r
أروع الأمثلة في التربية والتعليم، حيث جاءه
(أبو رفاعة تميم بن أسيد) t
والرسول الكريم r
يخطب. قال أبو رفاعة: (فقلت يا رسول الله، رجل جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه.
قال: فأقبل علي رسول الله r
وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها) ([39]).
فلو لم يكن تعليم
الناس أمراً ضرورياً لا يقبل التأخير لما ترك الرسول الكريم خطبته ونزل يعلم السائل.
فعلى الداعية أن يولي
قضية تربية وتعليم المقبلين على الدعوة كل اهتمام، فإن العاطفة الطيبة منهم وحدها
لا تكفي، ما لم يتعلموا عقيدة الإسلام وشريعته وأخلاقه، ليكونوا دعاة له فيما بعد.
وعلى الداعية أن لا
يكتفي بتعليم المدعو هذا الدين، بل عليه أن يعمل – أيضاً – على تطبيق ما يتعلمه
على نفسه ومن يعول: فيتعلم العلم والعمل به في آن واحد. وهكذا كان أمر سلفنا الصالح
y،
قال أبو عبد الرحمن السلمي: (حدثنا الذين كانوا يقرئوننا (القرآن) أنهم كانوا...
إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها (يتركوها) حتى يعلموا بما فيها من العمل فتعلمنا
القرآن والعمل جميعاً) ([40]).
أما تربية الداعية
لمن يدعوه، فهي مهمة عظمى، لأنها قاعدة أصيلة من قواعد دعوة الإسلام، فهو رحيم به،
ساتر لعيوبه غير مشهر بها، ويظل في تربيته إلى أن يصير داعية من دعاة الإسلام،
وقدوته في ذلك رسول الله r
الذي تحمل من صلف بعض الناس حتى تمكن من تربيتهم التربية الصحيحة. وإليك – أخي
الداعية – هذا المثال من أمثلة كثيرة لتربية رسول الله r:
فعن أبي أمامة t
أن فتىً شاباً أتى النبي r
فقال: يا رسول الله، أئذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه مه، فقال
(ادنه)؛ فدنا منه قريباً، قال: فجلس، قال: (اتحبه لأمك؟) قال لا والله، جعلني الله
فداءك، قال (ولا الناس يحبونه لأمهاتهم) قال: (افتحبه لأبنتك؟) قال لا والله يا
رسول الله، جعلني الله فداءك، قال:
(ولا الناس يحبونه لبناتهم). قال: افتحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك،
قال: (ولا الناس يحبونه لأخواتهم) قال: (افتحبه لعمتك) قال: لا والله، جعلني الله
فداءك، قال: (ولا الناس يحبونه لعماتهم) قال: افتحبه لخالتك قال: لا والله، جعلني
الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه وقال: (اللهم
اغفر ذنبه، وطهر قلبه وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت الى شيء)([41]).
هذا الموقف التربوي
ينبغي على الداعية أن يضعه نصب عينيه دائماً وهو يدعو إلى الله، فلا يخرج عن اتزانه وهدوئه إذا رأى من
المدعوين انحرافاً في السلوك، أو خروجاً عن المنهج القويم.
وهذا
(حاطب بن أبي بلتعة) -وهو صحابي بدري- يرسل كتاباً إلى قريش يخبرها بأن المسلمين
يريدون غزوها، وقد حملت الكتاب امرأة مسافرة إلى مكة، ونزل الوحي على رسول الله r
يخبره بذلك، فأرسل النبي r
علياً والزبير والمقداد، فأمسكوا بالمرأة في (روضة خاخ) على بعد اثني عشر ميلاً من
المدينة، وهددوها أن يفتشوها إن لم تخرج الكتاب، فسلمته لهم، فقال رسول الله r:
يا
حاطب ما هذا ؟ قال: يا رسول الله، لا تعجل علي. إني كنت أمرءاً ملصقاً في قريش ولم
أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم،
فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي، ولم أفعله
إرتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله r:
إنه صدقكم. فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: إنه قد شهد
بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدراً فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت
لكم، فأنزل الله السورة: ﭽﭑ ﭒ ﭓ
ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ
ﭙ ﭚ ﭛ
ﭜ ﭝ ﭞ
ﭟ ﭠ ﭡ
ﭢ ﭣ ﭤﭥ
ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩ ﭪ ﭫ
ﭬ ﭭ ﭮ
ﭯ ﭰ ﭱﭲ
ﭳ ﭴ ﭵ ﭼ إلى قوله تعالى: ﭽﮀ
ﮁ ﮂ ﮃﭼ سورة الممتحنة/١ ([42]).
إن حاطباً كان من
المؤمنين الأوائل: فهو من المهاجرين الذين شهدوا بدراً وجاهد في الله حق جهاده،
ولكن نفس المؤمن قد تصاب بهزال وضعف في حالات خاصة. ويسأل الرسول الكريم هذا
الصحابي عما حمله على صنيعه، ويجيبه الصحابي إجابة صادقة، فلا يطارده الرسول
الكريم، ولا يَدَعُ أحداً يطارده أو يعنفه على ما صنع، بل يصدقه في قوله، ليأخذ
بيده وينهضه من كبوته...
إنه أسلوب من أساليب
التربية، وعلى الداعية أن يتخذه منهجاً له: فلا يملكه الغضب، ويحمرّ وجهه، ويغلي
الدم في عروقه لمخالفة خالفها أخوه، بل عليه أن يحيط علماً بسبب مخالفته، وأن يكون
به رحيماً. !
وسائل الدعوة
وسائل الدعوة التي
يتوصل بها إلى هداية الناس كثيرة، منها ما يأتي:
1. الإعلام:
كالصحف اليومية، والمجلات الأسبوعية، أو الشهرية، والإذاعة والتلفزيون، (فالمذياع
يسمعه الموظف والعامل والتاجر والمزارع والرجل والمرأة والمثقف وغير المثقف... أما
التلفزيون، فشأنه أكثر أهمية وخطورة، إذ يجلس أفراد العائلة أمامه كل يوم ساعات
كثيرة، يتلقون منه تربيتهم وثقافتهم، شعروا بذلك أم لم يشعروا... فلا عجب أن يطلق
على التلفزيون بعض علماء الغرب اسم ثالث الأبوين)([43]).
كل
هذه الوسائل الإعلامية تقوم بدور مهم في إصلاح المجتمع إذا أحسن الدعاة القيام
بذلك وينبغي على من يقوم باستخدام هذه الوسائل: أن يدرس رغبات الناس، فيتوصل إلى
الأساليب التي تؤثر فيهم، وتنقذهم من حياة التيه والضلال إلى حياة الإسلام الذي به
لا بسواه يجد الإنسان سعادته وهناءه.
2. الرسائل الصغيرة والكتب:
وهي تؤدي دوراً مهماً في الدعوة إلى الإسلام إذا استعملت في كتاباتها الأساليب
الممتعة والمشوقة التي يفهمها الناس ليقبلوا على قراءتها والإفادة منها. وينبغي أن
تحمل هذه الرسائل والكتب الموضوعات المهمة،
وبخاصة ما يتعلق بعقيدة الأمة التي هي أساس الايمان، والنظم الإسلامية
ومقارنتها بالأنظمة الوضعية. وسياسة الحكم، والأنظمة الاقتصادية، والتأمين
الصحي...
3. الدعاة:
ويُقصد بهم أولئك الذين يحملون دعوة الإسلام إلى الناس بأعمالهم قبل أقوالهم،
وبسيرتهم قبل محاضراتهم، أولئك الذين يعيشون للإسلام وحده، ويموتون من أجله، ولذلك
كان الاهتمام بأمر إعداد الدعاة وتربيتهم أمراً ذا بال، ذلك أن الدعاة هم القدوة
المثلى التي تحتذى في خلقها وسيرتها. ولقد كان رسول الله r يعنى بهذا الأمر: فيختار الدعاة، ويرسل الواحد منهم إلى المكان
المناسب: فقد أرسل (مصعب بن عمير) إلى المدينة المنورة داعياً إلى الله، وأرسل
(معاذ بن جبل) إلى اليمن. أما مجالات عمل الداعية فكثيرة، ومن أهمها ما يأتي:
أ- الاتصالات
الفردية:
وتكون بعملية إنشاء صداقات بين الداعية والمدعو. وينبغي أن تتوافر في الداعية صفات
كريمة مؤثرة، ليستولي على قلوب من يتصل بهم، فيكون ذا سجايا ناصعة، وصدر رحب،
وبشاشة وجه، واطلاع واسع وحسن حديث، يجعل المدعو يستمع له ويذعن، ويهتبل الداعية
الفرصة المناسبة، فيعرض دعوته ويظهر محاسنها، مستدلاً بأدلة نقلية وعقلية على ما
يقول. وهكذا تتحول الصداقة إلى محبة تأخذ بمجامع القلوب، فيتحقق الغرض المرجو من
ذلك.
ب- المحاضرات
والندوات
([44]):
الدعاة العاملون عليهم أن يذهبوا إلى الأماكن العامة، وينتهزوا فرصة اللقاءات
والاجتماعات، بل عليهم أن يرتبوا لإيجاد هذه المناسبات، ليلتقوا الناس، ويعرضوا
عليهم أفكارهم ومبادئهم في محاضرات وندوات، وليس كل إنسان يستطيع القيام بهذه
المهمة، بل هناك شروط ومواصفات لابد من تحققها، منها ما هو موضوع المحاضرة، ومنها
ما هو في الداعية.
فأما التي في الموضوع
فنجملها فيما يأتي:
1. يجب
أن يكون الموضوع متناولاً المشكلات التي يعاني منها الناس في المجتمع الذي يعيشون
فيه، ويقدم حلولاً لها في ضوء الإسلام.
2. أن
يكون الموضوع مشتملاً على مسائل يجب أن يعرفها المسلمون، لتوضيح النظم الإسلامية
المختلفة، وإظهار أن في تطبيقها سعادة لهم.
3. أن
يكون في الموضوع مقارنات بين النظم الإسلامية وغيرها من النظم القائمة، على أن
يبرز فيها محاسن النظم الإسلامية.
4.
أن تشتمل على ما
يُظهر فضل الإسلام على غيره، وحرصه على تحقيق الخير للناس أجمعين.
5. إظهار
الحضارة التي وضع على أساسها القرآن والسنة النبوية الشريفة، وإبراز القواعد الإنسانية
السامية التي قامت عليها تلك الحضارة التي سعدت بها البشرية مدة من الزمن... إلى
غير ذلك من الموضوعات المهمة.
وأما التي في
الداعية، فتتلخص فيما يأتي:
1. أن
يكون إنموذجاً لما يدعو إليه، مطبقاً له في سلوكه وخلقه ومعاملاته، متخلقاً بأخلاق
القرآن في كل ما يدعو إليه.
2.
أن يهتم بمظهره
الإسلامي العام: فلا يبدو مخالفاً لسنة مشهورة، أو متخلفاً عن خير يدعو الناس
إليه.
3.
أن يتمسك بالإسلام
نظاماً شاملاً لنواحي الحياة كلها، كما يتمسك به عقيدة صحيحة وشريعة محكمة.
4. أن
يحترم عقول الناس وأوقاتهم: فيعد الموضوع الذي سيحاضر فيه أعداداً وافياً ويدعمه
بالأمثلة المقنعة، والأدلة العقلية القاطعة، مبرهناً على صدق ما يقول بما حدث
فعلاً في العصر الذي كان فيه للإسلام دولة قائمة وحكومة مسيطرة... ولا يتكلم فيما
لا فائدة فيه، ولا يدخل في مناقشات لا يترتب عليها عمل مثمر، ولا يتناول موضوعات تافهة
لا ترفع من مستوى الناس، ولا موضوعات فلسفية تضرب في متاهات، ولا يعرف العقل منها
مخرجاً.
5. أن
يتحرى الأسلوب السهل الممتع الذي يستفيد منه البسطاء، ولا يمله العلماء، وأن يراوح
فيه بين الفكاهة المرحة، والجد الحاسم، كما يراوح في المعاني بين الترغيب والترهيب،
وأن يتناول الحقائق العلمية ببساطة في الأسلوب، وخفة في الألفاظ، حتى تتقبلها
النفوس، ولا تنفر منها العقول.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاعدة مهمة من قواعد الإسلام،
وعبادة من أجل العبادات، وهو لب الدعوة إلى الله، وبه يشيع الأمن والاستقرار في
المجتمع ويشيع الرضا والطمأنينة بين الناس... وهو تربية للروح، إذ يتحمل فيه
المسلم ما يتحمل وهو يقوم بهذا الواجب، وقد ميَّز الله به الأمة المسلمة عن أهل
الملل الأخرى، وأمر به الحكيم العليم في قرآنه، ودعا إليه آمراً به رسوله محمداً r. فمن آيات القرآن قول الله تعالى:
ﭽ ﮖ
ﮗ ﮘ ﮙ
ﮚ ﮛ ﮜ
ﮝ ﮞ ﮟ
ﮠﮡ ﮢ ﮣ
ﮤ ﮥ ﭼ سورة آل عمران/ ١٠٤.
وقوله:
ﭽ ﮑ
ﮒ ﮓ ﮔ
ﮕﮖ ﮗ ﮘ
ﮙ ﮚ ﮛ ﭼ سورة التوبة/ ٧١.
وقوله:
ﭽ ﭩ
ﭪ ﭫ ﭬ
ﭭ ﭮ ﭯ
ﭰ ﭱ ﭲ
ﭳ ﭴﭵ ﭶ
ﭷ ﭸ ﭹ
ﭺ ﭻ ﭼ
ﭽ ﭾ ﭿ
ﮀ ﮁﮂ ﮃ
ﮄ ﮅ ﮆ
ﮇ ﭼ سورة المائدة/
٧٨ – ٧٩.
وأما أحاديث رسول الله r
فكثيرة منها قوله u:
(والذي
نفسي بيده لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم
عذاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)([45]).
وقوله:
(إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن
يعمهم الله بعقاب)([46]).
وقوله:
(ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان
له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره،ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف
يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا
يؤمرون: فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه
فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)([47]).
ومن أوضح أحاديث رسول الله r في هذا قوله:
(مَنْ رأى منكم
منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف
الإيمان)([48]).
والطلب في هذا الحديث يحمل على الوجوب، ويشمل كل مخاطب
مكلف من الذكور والإناث([49]).
فهو من قبيل الفرائض على جماعة المسلمين. والمراد باليد: القوة بأنواعها. والمراد
باللسان النطق وما يلحق به من كتابة ونحو ذلك، والقاعدة الفقهية تقول: الكتاب
كالخطاب، والتغيير باليد يحصل به المراد، والتغيير باللسان مظنة حصول التغيير،
وأما القلب، فلا سلطان لأحد عليه، ولا يتحمل الإنسان أي جهد كان في الإنكار بقلبه،
لذلك جعل الحديث الحد الفاصل بين أضعف الإيمان وما عداه: هو الإنكار القلبي وعدمه:
فلا يسع المسلم عدم إنكار المنكر بقلبه، لذلك قال علي بن أبي طالب t:
(أول ما تغلبون عليه من الجهاد: الجهاد بأيديكم، ثم
الجهاد بألسنتكم، ثم الجهاد بقلوبكم، فإذا لم يعرف القلب المعروف ولم ينكر المنكر
نُكس فجعل أعلاه أسفله)([50]).
وهكذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاعدة مهمة
من قواعد الإسلام لها أصولها، والجهل بهذه الأصول يؤدي إلى أضرار بالدعوة والدعاة:
فينشأ حاجز كبير بين الدعاة والمدعوين. فلا عجب إذا علمنا أن الإمام أبا حامد
الغزالي يتحدث فيه فيقول:
(إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم
في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه، وأهمل
علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت
الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا
بالهلاك إلاّ يوم التناد)([51]).
متى نتصدى للمنكر
هناك قضايا مهمة ينبغي ملاحظتها قبل التصدي
لإنكار المنكر:
1. أن يحدد المراد بالمنكر: وهو ما نهى الشرع
عنه بنص لا يقبل التأويل ولا الاجتهاد. أما ما يكون منكراً عند بعض الفقهاء وغير
منكر عند البعض الآخر، فإن الإنكار فيه غير واجب، وهذا ما قرره الأئمة: (أحمد بن
حنبل) و (الماوردي) و (ابن الجوزي) و (النووي)...
2. أن يظهر صاحب المنكر منكره بين الناس من غير
تجسس: فلا يجوز الدخول على صاحب المنكر من غير إذن، كما لا يجوز التجسس عليه إذا
ستر معصيته وأغلق بابه.
3. لا يختص إنكار المنكر بارتكاب الكبائر
وحدها، بل يشمل الصغائر – أيضاً – فإن كشف العورة في الطريق، وتعمد النظر إلى
النساء الأجنبيات مما يجب إنكاره ولو كان من الصغائر، لأن المعاصي مفسدة لأخلاق
الأمة.
مراتب النهي عن المنكر
وإنكار المنكر ليس في مرتبة واحدة، بل هو في
مراتب ثلاث:
1- التغيير باليد: ولا يكون إلاّ بعد أن يستنفد
الناهي عن المنكر كل نوع من أنواع النصيحة المباشرة وغير المباشرة: من التعريف،
والوعظ، والتعنيف بالقول، واتباع أساليب الرفق واللين، والترغيب والترهيب كما
سنتحدث عنه فيما بعدان شاء الله. فإن لم تجد هذه الأساليب كلها نفعاً، وبقي
مُصرّاً على اقترافه المنكر، وغلب على ظن الداعية أن المنكر لا يزول إلا باليد،
فعلى المسلم أن يقوم بذلك: كإراقة الخمر، وكسر التماثيل على أن لا يؤدي ذلك
التغيير إلى منكر أشد منه. يقول ابن قدامة المقدسي:
(فمن
غلب على ظنه أنه يصيبه مكروه لم يجب عليه الإنكار، وإن غلب على ظنه أنه لا يصيبه
وجب، ولا اعتبار بحالة الجبان، ولا بالشجاع المتهور، بل الاعتبار بالمعتدل الطبع،
السليم المزاج، ونعني بالمكروه: الضرب أو القتل، وكذلك نهب المال، والإشهار في
البلد مع تسويد الوجه، فأما السب والشتم، فليس بعذر في السكوت، لأن الآمر بالمعروف
يلقى ذلك في الغالب) ([52]).
وينبغي أن لا يغرب عن بالنا: أن التغيير
باليد لا يكون إلا عند القدرة عليه: فهو يشمل أولي الأمر بمعناه الواسع، كما يشمل
الوالد في بيته، لأنه راعٍ ومسؤول عن رعيته.
2- الإنكار بالقلب: وهو واجب على كل مسلم مكلف
لا يعفى منه أحد، ويعزم عزماً صادقاً على أنه لو قدر على الإنكار بيده أو بلسانه
لفعل. وليس وراء إنكار القلب من الإيمان حبة خردل كما قال رسول اللهr:
(... فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم
بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)([53]).
وعلى
من ينكر بقلبه أن يغادر ذلك المكان الذي وقع فيه المنكر، وأن لا يمكث فيه، فإن لم يفعل، فقد اقرهم على منكرهم بجلوسه معهم بنوع من
الإقرار. كما أن عليه أن لا يظهر الرضا والسرور بذلك المنكر.
3- التغيير باللسان: وكثير من الناس يقدر على
ذلك.
قبل البدء بتغيير
المنكر
وهناك قضايا لابد من
ملاحظتها قبل البدء بتغيير المنكر باليد وهي:
أ- التعريف:
ويكون بتعريف صاحب المنكر بأن ما يقترفه حرام وقد نهى الشرع عنه. وتعريفه بذلك أمر
ضروري، إذ إن بعضاً من الناس يقع في المنكر وهو لا يعلم حكم ما يقع فيه. وهذا
التعريف لا يكون إلا باللين من القول، لأن الطبيعة البشرية جُبلت على النفرة ممن
يرشدها بأسلوب فيه غلظة وفظاظة، بل ان بعضاً من الناس لا يرضى أن يوصف بالجهل، ولو
كان في حقيقة الأمر غارقاً في بحر من الجهالة وشارباً من دنانها المعتقة.!
ب- الوعظ: إذا
اقترف الإنسان المنكر، فيجب على الداعية أن يخوفه بعذاب الله وعقابه بقول لين،
وأسلوب ليس فيه شيء من التجريح والتعنيف، إذ الغرض من الوعظ: هو إقلاع أصحاب
المنكر عن منكرهم ليس إلاّ.
ج- التعنيف
بالقول: وحين يقدم الداعية نصحه وإرشاده ووعظه الجميل للعاصين، لكن لا يزيدهم
ذلك إلاّ إصراراً على عصيانهم وتهكماً على الداعية وسخرية به... عند ذلك يحق
للداعية أن يعنفه بقوله، من غير أن يفحش في ذلك: فيقوم بزجره بألفاظ تتناسب
وطبيعته، ولا يكون في تعنيفه إلا صادقاً، كما لا يكون التعنيف إلا عند الضرورة
القصوى. ولا يجوز له بعد أن يعنفه أن يشهِّر به بين الناس. وهناك شروط ينبغي أن
تتوافر في الناصح،وشروط في النصيحة ينبغي مراعاتها:
شروط الناصح
أ- أن
يكون عالماً بالحكم الشرعي لما يأمر به أو ينهى عنه، لأنه إن لم يكن كذلك، فقد
يتعرض للخلط بين الأحكام: فيحسب المكروه حراماً، والسنة واجباً، فيقع في الخطأ
الكبير ويكون عرضة للسخرية منه.
ب – أن يتحرى الطريقة
المناسبة في أمره ونهيه، مراعياً أحوال الناس: فلا يشتدُّ في موضع اللين فينفر
الناس منه، ولا يلين في موضع الشدة، فلا ينتفع المنصوح، وعليه أن يختار الأمر
المناسب في أمره ونهيه، فيختار وقت هدوء صاحب المنكر وانبساطه، ولا يختار وقت غضبه
أو انشغاله، بل يهتبل الوقت المناسب، فيتحدث الحديث المناسب أمراً ونهياً. يقول
عبد الله بن مسعود t:
(إن
للقلوب شهوة وإقبالاً، وفترة وإدباراً، فخذوها عند شهوتها وإقبالها، وذروها عند
فترتها وإدبارها) ([54]).
وكمثال على ذلك: ما
كان من أمر (صلة بن أشيم) فقد (مر عليه رجل قد أسبل إزاره – إشارة إلى التكبر –
فهمَّ أصحابه أن يأخذوه بشدة، فقال: دعوني أنا أكفيكم، فقال صلة للرجل: يا ابن
أخي، إن لي إليك حاجة. قال: وما حاجتك يا عم ؟ قال: أحب أن ترفع من إزارك. فقال:
نعم وكرامة، فرفع إزاره. فقال لأصحابه: لو قرعتموه لقال: لا ولا كرامة وشتمكم) ([55]).
ج – أن يعمل الناصح
بما ينصح به الناس، مطبقاً ذلك على نفسه وكل من يعول. فإن لم يفعل ذلك: فلا يؤثر
نصحه في الناس. وقد نعى الله على بني إسرائيل ذلك الخلق الذميم فقال تعالى:
ﭽ ﮤ
ﮥ ﮦ ﮧ
ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯﭼ سورة البقرة/
٤٤.
وقال:
ﭽ ﮛ
ﮜ ﮝ ﮞ
ﮟ ﮠ ﮡ
ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ
ﮧ ﮨ ﮩ
ﮪ ﮫ ﮬ
ﮭ ﭼ سورة الصف/ ٢ –
٣.
شروط
النصيحة
1. ان تقدم في سرية تامة، لأن كثيراً من
النفوس تبدو ناقصة أمام الناس الآخرين إذا قدمت لها النصيحة علنية، حتى ولو كان
النقد في مكانه المناسب، فكيف إذا كان أمام الناس ؟ يقول الإمام الشافعي t:
تعمدني النصيحة في إنفرادي |
|
وجنبني النصيحة في الجماعة |
ومن
الأمثال التي تداولها الناس، وسار بذكرها الركبان: من نصح أخاه سراً فقد أكرمه
وزانه، ومن نصحه جهراً فقد أهانه وشانه.!
ومن
الضروري أن تستخدم الأساليب غير المباشرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد
قيل لإبراهيم بن أدهم: الرجل يرى من الرجل الشيء ويبلغه عنه أيقول له ؟ قال: (هذا تبكيت، ولكن تعريض) ([56]).
أما
إذا تكرر المنكر مرات كثيرة، فلا بأس من تحذير الناس منه. وحين يجهر الناصح لا
يسمي شخصاً معيناً، بل ينبهه تنبيهاً عاماً. فليست السرية شرطاً لازماً في النصيحة
كلها بل كل حالة لها طريقة أدائها.
2. أن لا تؤدي النصيحة إلى ضرر أكبر، فإن
أدت إلى ذلك، فإن المعروف هو ترك الأمر بالمعروف. يقول الإمام ابن تيمية:
(..... فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة، ودفع
مفسدة،، فينظر في المعارض له: فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من المفاسد
أكثر، لم يكن مأموراً به، بل محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار
مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة) ([57]).
3. أن يقدمها في صورة جميلة مشرقة، لا لوم
فيها ولا تعنيف ولا تجريح، وأن لا يظهر الناصح بمظهر الأستاذية ولا بمظهر
الاستعلاء بعلم أو بغيره، فإن من قصد التشهير بمن يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر،
فقد خان أمانة النصيحة. فإذا تحققت هذه الشروط أتت النصيحة ثمراتها
الطيبة بإذن الله.
وينبغي
أن تبذل النصيحة للناس جميعاً: حاكمهم ومحكومهم، والناصح إذا قتل وهو يؤديها صار
من سادة الشهداء: يقول الرسول r:
(سيد
الشهداء حمزة بن عبد المطلب،ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)([58]).
ولا بد للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن
يقدم الأهم على المهم. وليس صواباً أن ينشغل الداعية بفرع من فروع الشريعة، تاركاً
المنكرات في حياة الناس من غير أن يقوم بتغييرها بالطرق المشروعة.
هل من شروط الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون صاحبه كامل الحال؟
يظن
بعض الناس أن المسلم لا يجوز له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلاّ إذا أصلح
نفسه وأوصلها إلى الكمال أو ما يقاربه، وصار مبرَّءاً من كل عيب، وخالياً من كل
نقص، ومطبقاً للأحكام الشرعية كلها: لا يقترف صغيرة فضلاً عن اقترافه الكبيرة...
وهذا وهم كبير وفهم خاطئ، فإن كل واحد من الناس معرَّض لارتكاب الخطأ إلاّ الرسل
فيما يبلغونه عن الله. ألم يقل الرسول r:
(والذي نفسي بيده لو
لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) ؟ ([59]).
على أن هذا الفهم
الموغل في الخطأ إلى الأذقان يؤدي إلى نتائج سيئة، إذ يرفع الفاسد رأسه عالياً حين
يمتنع الدعاة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فلا يشترط إذن في
الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يلتزم كل ما يأمر به أو ينهى عنه، فإن للفاسق
أن يأمر بالمعروف. قال سعيد بن جبير – رحمه الله -:
(لو كان المرء لا
يأمر بالمعروف ولا ينهي عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى
عن منكر) ([60]).
وقال الحسن لمطرف بن
عبد الله: عظ أصحابك، فقال إني أخاف أن أقول ما لا أفعل ! قال: يرحمك الله...
وأيُّنا يفعل ما يقول... ويود الشيطان أنه قد ظفر بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف ولم
ينه عن منكر) ([61]).
ويتحدث الإمام النووي
في هذا فيقول: (لا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال: ممتثلاً ما يأمر
به، مجتنباً ما ينهى عنه، بل عليه الأمر (بالمعروف) وإن كان مخلاً بما يأمر به،
والنهي وإن كان متلبساً بما ينهى عنه، فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاه، ويأمر غيره
وينهاها، فإذا أخل بأحدهما، كيف يباح له الإخلال بالآخر)([62])
؟!
ويقول محمد بن أحمد
القرطبي:
(وأعلم –وفقك الله–
أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الأمر بالبر، ولهذا ذم الله تعالى
في كتابه قوماً كانوا يأمرون بأعمال البر ولا يعملون بها) ([63]).
وقال أبو الثناء
الآلوسي:
(إن العاصي يجب عليه
أن ينهى عما يرتكبه، لأنه يجب عليه نهي كل فاعل. وترك نهي بعض – وهو نفسه – لا
يسقط عنه وجوب نهي الباقي. وكذا يقال في جانب الأمر. ولا يعكر على ذلك قوله تعالى:
ﭽ ﮞ ﮟ ﮠ
ﮡ ﮢ ﭼ،
لأنه مؤول بأن المراد نهيه عن عدم الفعل لا عن القول، ولا قوله سبحانه: ﭽ ﮤ
ﮥ ﮦ ﮧ
ﮨ ﭼ،
لأن التوبيخ أنما هو على نسيان أنفسهم لا على أمرهم بالبر. وعن بعض السلف: مروا
بالخير وإن لم تفعلوا) ([64]).
مع
المحتسب
هناك عقوبات يقوم بها
المحتسب لا يقوم بها غيره: كتهديد صاحب المنكر وتأديبه،
ومن ذلك ضربه باليد إلا في حالات معينة: كضرب
الوالد ولده والزوج زوجته،
وكضرب سارق يضبط في
سرقته، فينهال من ضبطه عليه ضرباً.. ففي هذه الحالات ومثيلاتها يجوز الضرب لدفع
الشر وإزالة المنكر.
إبتلاء
الداعية
يراد
بابتلاء الدعاة: امتحانهم واختبارهم في الشدة والرخاء، فأنهم أكثر الناس تعرضاً
لذلك. فهم الذين يدعون إلى الله، فيحاربهم كل طاغوت عنيد، ويحملون لواء الحق
ويدعون إليه، فيقاومهم أهل الباطل، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فيخاصمهم
أهل الشرور والفساد... أنهم يحملون الإيمان الحق الذي يحضهم على الدعوة إلى الله
فيقومون بها، فيتصدى لهم أهل الشرور والضلال: ﭽ ﭯ ﭰ
ﭱ ﭲ ﭳ
ﭴ ﭵ ﭶ
ﭷ ﭸ ﭼ سورة البروج/ ٨.
وهكذا
أصبح إبتلاء الدعاة سنة من سنن الله، وميزاناً للمسلم يعرف به صبر الداعية وتعلقه
بالله، وصقلاً لنفسه، ورفعاً لمنزلته عند الله، وتنقية له مما قد أصابه أو يصيبه
من أدران وبه يميز الله الصادقين من غيرهم... وهو- قبل ذلك وبعده – طريق من طرق
الجنة التي حفت بالمكاره. وكلما كان إيمان الداعية أكبر كان بلاؤه أشد. يقول
الرسول r:
(أشد
الناس بلاءاً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل: يبتلى الرجل على حسب دينه، فان كان في
دينه صلباً اشتد بلاؤه)([65]).
فليس
الداعية بأول من يبتلى ولا آخر من يبتلى... فهل يظن (الداعية) أن طريق الدعوة فرش
بالأزهار والرياحين؟ يقول ابن قيم الجوزية – رحمه الله -:
(أين
أنت والطريق طريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمي في النار الخليل، واضجع للذبح
إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح
السيد الحصور يحيى، وقاسى أيوب، وزاد على المقدار بكاء داوود، وسار مع الوحش عيسى
وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد r تزهو أنت باللهو واللعب...
فيا دارها بالحزن إن مزارها قريب،
ولكن دون ذلك أهوال ([66]).
فهذا
سيدنا إبراهيم u
يتعرض لمحنة قاسية... لقد وقف وحيداً يدعو إلى الله ليس وراءه جماعة ولا أنصار ,
وليس معه سلاح ولا قوة، وتصدى لذلك المجتمع المشرك بكل قوة وشجاعة... ويلقى في
النار، ويرضى بقضاء الله، لكن الله تعالى لا يتخلى عن نبيه فخلصه مما أراد به
المشركون: ﭽ ﯗ ﯘ ﯙ
ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ
ﯟ ﯠ ﯡ
ﯢ ﯣ ﯤ
ﯥ ﯦ ﯧ
ﯨ ﯩ ﯪ
ﯫ ﯬ ﯭ ﭼ سورة الأنبياء/ ٦٩ – ٧١.
وهذا
سيدنا موسى يتعرض للمحنة في حياته كلها: تعرض للمحنة وهو فتى من فرعون الذي وصفه
الحكيم الخبير بقوله: ﭽ ﮮ ﮯ ﮰ
ﮱ ﯓ ﯔ
ﯕ ﯖ ﯗ
ﯘ ﯙ ﯚ
ﯛ ﯜ ﯝﯞ
ﯟ ﯠ ﯡ
ﯢ ﯣ ﭼ سورة القصص/٤.
ويمضي سيدنا موسى في
حمل رسالته وتبليغها معتمداً على الله وحده، واثقاً من نصره، لقد كانت محنة - بحق
- يوم سار سيدنا موسى بقومه من (مصر) إلى
(فلسطين)، واتبعه فرعون وجنوده يريدون استئصال موسى ومن معه، حتى إذا بدت لهم
صحراء سيناء ووصلوا إلى البحر، واقترب جنود فرعون من موسى ومن آمن معه، أصاب أصحاب
موسى من الخوف ما أصابهم ... ويطمئنهم سيدنا موسى:
ﭽ ﭑ
ﭒ ﭓ ﭔ
ﭕ ﭖ ﭗ
ﭘ ﭙ ﭚ ﭛﭜ ﭝ ﭞ
ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ
ﭤ ﭥ ﭦ
ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ
ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ
ﭰ ﭱ ﭲ
ﭳ ﭴ ﭵ
ﭶ ﭷ ﭸ
ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ ﭼ سورة الشعراء/٦١-٦٦.
أما رسول الله r،
فقد واجه أنواعاً كثيرة من الابتلاء: واجه السخرية والاستهزاء من هؤلاء الذين جاء
لهدايتهم، وواجه التهم الباطلة والشائعات الكاذبة من المشركين الذين أرادوا صد
الناس عن هذا الدين، كما حاولوا اغتياله مرات ومرات: فقد تعرض إلى ثلاث عشرة
محاولة اغتيال في المدينة المنورة فقط ([67]) .
أما
أصحابه الكرام، فقد تعرضوا لأقسى أنواع الإبتلاء فصبروا. فهذا بلال بن رباح يخرج
به أمية إلى رمال مكة حين يشتد حرها، ويأمر بالصخرة فتوضع على صدره، ثم يتهدده
قائلاُ: ستظل هكذا في العذاب الأليم، حتى تكفر بمحمد r وتؤمن باللات والعزى، فما يزيد بلال على قوله أحد... أحد !!
وهؤلاء آل ياسر يخرج بهم بنو مخزوم إلى رمضاء مكة، فيحرقون أجسادهم باللهب المنبعث
من رمالها وبالحديد المحمى: يعذب الأب والأم والولد. أما الأب، فقد أستشهد من شدة
العذاب، وأما الأم فقد أغلظت القول لأبي جهل بعد عذابها الشديد فطعنها في حربة في
أحشائها فماتت، فكانت أول شهيدة في الإسلام...!
وهكذا عذب كثير من
صحابة رسول الله yوأستشهد
من استشهد منهم...
إنه طريق الدعوة الذي
فرش بالتضحيات والأهوال... ولكن ما موقف الداعية من ذلك الإبتلاء: هل يتمناه
ويجلبه ويعتقد بوجوبه أواستحبابه ؟
من كان يظن ذلك، فقد
وقع بالخطأ الجسيم والفهم السقيم، ولا يشفع له اندفاعه وحماسة لنصرة هذا الدين.
ذلك أن الشارع الحكيم ندبنا إلى الوقاية من الإبتلاء خشية أن يقع، فكيف بمن يحاول
جلبه إليه ؟
إن مثل الإبتلاء كمثل
الأمراض التي تصيب الإنسان، فإن الوقاية منها أمر ضروري، بل هو واجب، والمسلم مدعو
أن يسأل الله أن لا يمتحنه بما يشق عليه، وأن يقيه الفتن ما ظهر منها وما بطن.
يقول الرسول r
:
(لا تمنوا لقاء
العدو، فإذا لقيتموه فاصبروا)([68]).
قال ابن بطال في شرحه
لهذا الحديث:
(حكمة النهي: أن
المرء لا يعلم ما يؤول إليه الأمر. وهو نظير سؤال العافية من الفتن. وقد قال أبو
بكر الصديق t:
{لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر}. وقال غيره: إنما نهى النبي r
عن تمني لقاء العدو لما فيه من صورة الإعجاب والاتكال إلى النفوس بالوثوق بالقوة
وقلة الاهتمام بالعدو، وكل ذلك يباين الاحتياط والأخذ بالحزم) ([69]).
وروى سعيد بن منصور
حديثاً مرسلاً عن النبي r:
(لا تمنوا لقاء العدو، فإنكم لا تدرون عسى أن تبتلوا بهم) ([70]).
قال ابن دقيق العيد: (لما
كان لقاء الموت من أشق الأشياء على النفس، وكانت الأمور الغائبة ليست كالأمور
المحققة، لم يؤمن أن يكون عند الوقوع كما ينبغي، فيكره التمني لذلك، ولما فيه لو
وقع من احتمال أن يخالف الإنسان ما وعد من نفسه) أي من الثبات عند لقاء العدو([71] ).
ومن دعاء رسول الله r:
(اللّهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم، ومن فتنة القبر وعذاب
القبر، ومن فتنة النار وعذاب النار، ومن شر فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر،
وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال)([72] ).
وبعد الأخذ بالأسباب
كلها، فإن الإبتلاء إذا وقع فعلى الداعية أن يقابله بالصبر؛ ونقرأ في القرآن
الكريم قول الله تعالى:
ﭽ ﮡ ﮢ ﮣ
ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ
ﮩ ﮪ ﮫ
ﮬ ﮭ ﮮ
ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ
ﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ ﯚﭼ سورة العنكبوت/١–٣.
وقوله:
ﭽ ﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ
ﯟ ﯠ ﯡ
ﯢ ﯣ ﯤ
ﯥ ﯦ ﯧ
ﯨ ﯩ ﯪﯫ
ﯬ ﯭ ﯮ
ﯯ ﯰ ﭑ ﭒ ﭓ
ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ
ﭙ ﭚ ﭛ
ﭜ ﭝ ﭞ
ﭟ ﭠ ﭡ
ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭼ سورة آل عمران/١٤٠-١٤٢.
وقوله:
ﭽ ﭠ ﭡ ﭢ
ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ
ﭨ ﭩﭪ ﭫ
ﭬ ﭼ سورة البقرة/ ١٥٥.
وقوله:
ﭽ ﯢ ﯣ ﯤ
ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ
ﯪ ﯫ ﯬ
ﯭ ﯮﯯ ﯰ
ﯱ ﯲ ﯳﯴ
ﯵ ﯶ ﯷ
ﯸ ﯹ ﯺ ﭼ سورة الأنعام/
٣٤.
ويروي خباب بن الأرت t هذا الحديث
فيقول:
(شكونا إلى رسول الله r
وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا
تدعو لنا ؟ فقال: ( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم
يوتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد – ما دون لحمه
وعظمه – ما يصده ذلك عن دينه. والله لَيُتَمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من
صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلاّ الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)([73]).
ولما سئل الشافعي أَيُمَكَّن المؤمن أم يبتلى ؟ فقال: لن يُمَكَّن المؤمن
حتى يبتلى.
وتختلف طرق الإبتلاء وتتعدد صوره: فكما يكون الإبتلاء
بالشر ويكون بالخير-أيضاً- قال تعالى:
ﭽ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ
ﰀ ﰁ ﰂﰃ
ﰄ ﰅ ﰆ ﭼ سورة الأنبياء/ ٣٥.
إنها صور تتعدد في الإبتلاء: فهناك (إبتلاء للصبر، وإبتلاء للشكر، وإبتلاء
للأجر، وإبتلاء للتوجيه، وإبتلاء للتأديب، وإبتلاء للتمحيص، وإبتلاء للتقويم)
([74]).
وهكذا فإن إبتلاء الدعاة طريق عام سلكه الدعاة من قبلنا، فالداعية اليوم
ليس أول من يبتلى ولا آخر من يبتلى...!!
الفصل الثاني
من
صفات الداعية
للداعية
الحق صفات كثيرة ينبغي أن يتصف بها، فإن فقد بعضها فقد فَقَد عنصراً مهماً من
عناصر دعوته... وعند ذلك يخفق في مهمته، ولا يتمكن من التأثير بالناس التأثير
المطلوب. وليس للداعية صفات يتحلى بها غير الصفات التي مدح الله المتحلين بها من
أنبيائه ورسله وعباده الصالحين، وتمثل بها النبي r وصحابته الكرام وعملوا بها... إنه يتخذ ذلك
منهاجاً له يسلكه في دعوته ومقياساً يقيس به الأمور، ونبراساً يضئ له الطريق، وهذه
الصفات كثيرة كثيرة، ومن أهمها:
1.الإخلاص
ويراد
به أن يكون قصد الداعية وجه الله في كل عمل يقوم به: في وعظه ونصحه وقوله وفعله:
فهو يرجو بذلك رضوان الله وحده، واضعاً نصب عينيه قول الله تعالى: ﭽ ﯓ ﯔ ﯕ
ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ
ﯛ ﯜ ﯝ
ﯞ ﯟﯠ ﯡ
ﯢ ﭼ سورة الأنعام/ ١٦٢ - ١٦٣.
وقوله:
ﭽ ﰐ ﰑ ﰒ
ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ
ﰘ ﰙ ﰚ
ﰛ ﰜ ﰝ ﭼ سورة الكهف/ ١١٠.
فلا
يريد الداعية من دعوته ثناء الناس عليه، وإعجابهم به، ومدحهم واحترامهم، كما لا
يريد من هذا كسباً مادياً، فما أسوأ حظ الذين يأكلون الدنيا بالدين، ويزعمون أنهم
لله مخلصون... وليعلم الداعية: أن العمل لا يكون مقبولاً عند الله إلاّ إذا توافر
فيه ركنان: النية الصالحة، وأن يكون العمل على طريق الشرع الشريف.
ويدل
على الركن الأول حديث رسول الله r:
(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)([75]).
وأما الركن الثاني، فيدل عليه حديث رسول الله r:
(من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)([76]).
ونجد هذين الركنين قد
جمعا في قول الله U:
ﭽ ﮉ
ﮊ ﮋ ﮌ
ﮍ ﮎ ﮏ
ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﭼ سورة لقمان/٢٢.
وإسلام الوجه لله: هو إخلاص النية له سبحانه، والعمل له وحده، والإحسان
فيه: أداؤه بإتقان، وأن يكون على وفق الشرع الشريف.
والإخلاص محله القلب، فلا يطلع عليه أحد من الناس، لكن ثمرته تبدو واضحة في
الدعوة: فإن للمخلصين أثراً كبيراً في استجابة المدعوين الذين يميزون بين الطيب
والخبيث. فينبغي على الداعية أن يروض نفسه ويحملها على الإخلاص. يقول الشيخ
النحاس:
(من أخلص لله النية أثر كلامه في القلوب القاسية فلينها، وفي الألسن الذربة
فقيدها، وفي أيدي السلطة فعقلها) ([77]).
وبمقدار ما يحمل الداعية من إخلاص يكون تأثيره في الناس. فهذا (ذر بن عمر)
يسأل والده: ما بال المتكلمين يتكلمون ولا يبكي أحد، فإذا تكلمت أنت سمع البكاء من
هنا وهنا؟ فيرد عليه والده: (يا بني، ليست النائحة المستأجرة كالنائحة الثكلى) ([78]).
ولا يجتمع الإخلاص وحب الثناء والطمع عند الناس إلاّ إذا اجتمع الماء
والنار. يقول العلامة ابن قيم الجوزية – رحمه الله -:
(لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس
إلاّ كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص، فأقبل
على الطمع أولاً فأذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فأزهد فيهما زهد
عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح، سهل
عليك الإخلاص)([79]).
والداعية يخشى على نفسه من الشهرة لئلا يدخله العجب والغرور. وكيف لا يخشى
من ذلك وهو يوقن أنه لو لم يخلص النية لم ينفعه ثناء الناس عليه وحمدهم له ولو
طبقت شهرته الآفاق، لذلك كان علماء السلف يخشون على قلوبهم من فتنة الشهرة ويحذرون
تلاميذهم من ذلك، يقول إبراهيم بن أدهم: (ما صَدَقَ الله من أحبَ الشهرة) ([80])
وقال سليم بن حنظلة:
(بينا نحن حول أبي بن كعب نمشي خلفه إذ رآه عمر فعلاه بالدرة، فقال: انظر
يا أمير المؤمنين ما تصنع؟ فقال: إن هذه ذلة للتابع، وفتنة للمتبوع) ([81]).
وقال أيوب السختياني: (والله ما صدق الله عبد إلاّ سره
أن لا يشعر بمكانه) ([82]).
وكان أيوب السختياني قد خرج في سفرٍ فشيعه ناس كثيرون، فقال: (لولا أني أعلم أن
الله يعلم من قلبي أني لهذا كاره لخشيت المقت من الله U) ([83]).
وقال بشر: (ما أعرف رجلاً أحب أن يعرف إلا ذهب دينه
وافتضح)([84]).
وقال الفضيل بن عياض: (إن قدرت على أن لا تعرف فأفعل،
وما عليك أن لا تعرف، وما عليك أن لا
يثنى عليك أن تكون مذموماً عند الناس إذا كنت محموداً عند الله تعالى) ([85]).
وقال ابن مسعود: (كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى،
أحلاس البيوت، سرج الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء وتخفون
في أهل الأرض) ([86]).
ومن
تمام الإخلاص أن يكون العمل الخفي عند الداعية أحب إليه من العمل الظاهر المعلن،
خشية أن يصيبه بعمله المعلن شيء من الرياء. فقد خرج عمر بن الخطاب t
إلى المسجد، فوجد معاذ بن جبل قاعداً عند قبر النبي r يبكي: فقال: ما يبكيك؟ قال: يبكيني شيء
سمعته من رسول الله r.
سمعت الرسول r
يقول: (إن يسير الرياء شرك، وإن من عادى لله ولياً، فقد بارز الله بالمحاربة، إن
الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم
يدعوا ولم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة)([87]).
إن
هذه الآثار وأمثالها لتدعو الداعية إلى أخذ الحذر واليقظة من مداخل الشيطان، فما
أكثر مداخله في قلوب البشر!.
والشهرة
ليست بمذمومة، ولكن المذموم أن يحرص الإنسان عليها، أما إذا وجدت من غير حرص وتكلف
فلا شيء فيها، ولم يشتهر أحد من الناس كما أشتهر أنبياء الله ورسله...
وهكذا
فأن الداعية المخلص يهتم برضا الله قبل أن يهتم برضا الناس، متذكراً حديث رسول الله
r:
(من ألتمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن ألتمس رضا الناس
بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط الناس عليه)([88]).
وشعار
الداعية دائماً مع الله:
فليتك تحلو والحياة مريرة |
|
وليتك ترضى والأنام غضاب |
وأسمع
- أخي الداعية – إلى قصة صاحب النقب لعلك تكون من أمثاله: استعصى على (مسلمة بن
عبد الملك) فتح حصن من الحصون. فنظر طويلاً في الحصن، فوجد نقباً (فتحة يمكن
الدخول منها) فندب الناس للدخول منه، فخرج رجل من الجيش، ودخل النقب ففتح الله على
يديه الحصن. فأراد (مسلمة) أن يعرف مَن صاحب النقب، فأمر أن ينادي المنادي في
الناس فيقول: إن الأمير يعزم على صاحب النقب أن يدخل عليه ليكافئه على فعله فخرج
من عرض الجيش رجل ملثم غير معروف، ووقف
عند باب القيادة، وأراد الاستئذان بالدخول على الأمير، قال له الحاجب: أنت صاحب
النقب؟ قال: أنا أخبركم به، ولما مثل بين يدي (مسلمة) قال له: أيها الأمير: أن
صاحب النقب يشترط عليكم ثلاثة شروط حتى يعرفكم بنفسه.
قال
مسلمة: له ذلك. قال:
1-
أن
لا تسألوه عن اسمه واسم أبيه.
2-
أن
لا ترسلوا أسمه للخليفة.
3-
أن
لا تأمروا له بعطاء.
ثم
كشف الرجل عن وجهه وقال: أنا صاحب النقب.
فبكى (مسلمة) لإخلاص
الرجل وكان إذا صلى يدعو الله قائلاً: اللّهم أجعلني مع صاحب النقب... اللّهم
احشرني مع صاحب النقب ([89]).
فعليك – أخي الداعية –
أن تحترز من غرور نفسك وتقطع الطمع عن الدنيا، وتتجرد للآخرة وتحاسب نفسك على كل
صغيرة وكبيرة ليسهل انقيادها لك، ولتأخذ في نهج الاستقامة. يقول الحسن البصري في
قوله تعالى: ﭽ ﮏ
ﮐ ﮑ ﮒ ﭼ
ويقول:
(ولا
يلفي المؤمن إلاّ يعاتب نفسه ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ ماذا أردت
بشربتي؟ والفاجر يمضي قدماً لا يعاتب نفسه)([90]).
ويقول ميمون بن مهران – رحمه الله –
(لا يكون الرجل تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من
الشريك لشريكه) ([91]).
وبهذا
يتيسر الإخلاص. ويخطئ بعض الدعاة حين يتصورون أنفسهم قد دخلوا في حلبة صراع مع من
يدعونهم، وهدفهم هو الانتصار عليهم، والتفوق في الحجة والبرهان ليس إلاّ... إن
الداعية يبتغي من دعوته هداية الناس إلى الخير، فعليه أن يخلص النية في دعوته، وأن
لا يجعل لنفسه حظاً فيها.
من ثمرات الإخلاص ([92])
للإخلاص
ثمرات طيبة في النفس والحياة نجملها فيما يأتي:
أ
_ السكينة النفسية: فهو يمنح صاحبه سكينة نفسية، وطمأنينة قلبية، تجعله
منشرح الصدر، مستريح الفؤاد، فقد اجتمع قلبه على غاية واحدة: هي رضا الله U
وانحصرت همومه في هم واحد: هو سلوك الطريق الذي يوصل إلى مرضاته. ولاريب أن وضوح
الغاية واستقامة الطريق إليها يريح الإنسان من البلبلة والاضطراب بين شتى
الاتجاهات، وتنازع الرغبات، وتعدد السبل...
ب
_ القوة الروحية: والإخلاص يمنح المخلص قوة روحية هائلة، من سمو الغاية
التي اخلص لها نفسه، وحرر لها إرادته: وهو رضا الله ومثوبته، فإن الطامع في مال أو
منصب أو لقب أو زعامة ضعيف كل الضعف إذا لاحت له بادرة أمل تحقيق ما يطمع فيه من
دنيا، ضعيف أمام الذين يملكون إعطاءه ما يطمع إليه، ضعيف إذا خاف فوات مغنم يرجوه،
أما الذي باعها لله، فهو موصول بالقوة التي لا تضعف، والقدرة التي لا تعجز. ولهذا
كان في تجرده وإخلاصه أقوى من كل قوة مادية يراها الناس.
المخلص
لله لا يلين للوعد، ولا ينحني للوعيد... لا يذله طمع، ولا يثنيه خوف... أسوته في
ذلك النبي rالذي
عرض عليه الملك والمال وسائر أعراض الدنيا ليكف عن دعوته، فقال في إصرار
وصلابة: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما
تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه. أما لو كان للنبي r شهوة خفية في مال أو ملك أو سيادة، لضعفت
مقاومته أمام العروض المغرية التي يقدمها له سادة قريش، ولكنه عرف غايته فأخلص
لها، وعرف ربه فلم يشرك به شيئاً.
ج
_ الاستمرار في العمل: ومن آثار الإخلاص أنه يمد العمل بقوة الاستمرار، فإن
الذي يعمل للناس، والذي يعمل لشهوة البطن أو الفرج، يكف إذا لم يجد ما يشبع شهوته،
والذي يعمل أملاً في شهرة أو منصب، يتراخى ويتثاقل إذا لاح له أن أمله بعيد
المنال. والذي يعمل لوجه الرئيس أو الأمير، ينقطع أو يتوانى إذا عُزل الرئيس أو
مات الأمير.
أما الذي يعمل لله،
فلا ينقطع ولا ينثني ولا يسترخي أبداً، لأن الذي يعمل له لا يغيب ولا يزول: فوجه
الله باقٍ إذا غابت وجوه البشر أو هلك الخلق – كل الخلق- ﭽ ﮖ ﮗ ﮘ
ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ
ﮞ ﮟ ﭼ
سورة القصص/ ٨٨.
ولهذا قال الصالحون:
ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل... وهذا ما صدقه الواقع،
وما رأيناه ولمسناه، ومازلنا نراه ونلمسه في كل زمان ومكان.
د _ تحويل
المباحات والعادات إلى عبادات: والإخلاص هو (أكسير) الأعمال الذي إذا وضع على
أي عمل ولو كان من المباحات والعادات، حوله إلى عبادة، وقربة لله تعالى... وفي
الحديث أن النبي r قال لسعد: (إنك ما تنفق نفقة تبغي بها وجه الله تعالى إلا كان لك
بها صدقة، حتى إن اللقمة تضعها في فم امرأتك)([93]).
هـ _ إحراز ثواب
العمل وإن لم يتمه أو يعمله: ومن بركات الإخلاص لله: أن المخلص يستطيع أن يحرز
ثواب العمل كاملاً وإن لم يقدر على إتمامه بالفعل. لنستمع إلى قول الله تعالى:
ﭽ ﯧ
ﯨ ﯩ ﯪ
ﯫ ﯬ ﯭ
ﯮ ﯯ ﯰ
ﯱ ﯲ ﯳ
ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ
ﯹ ﯺ ﯻ
ﯼ ﭼ سورة النساء/ ١٠٠.
بل يستطيع المسلم
بنيته الخالصة أن يدرك ثواب العمل كاملاً وإن لم يؤده، ولم يشرع فيه. ولهذا أمثلة
كثيرة جاءت بها الأحاديث... روى النسائي وابن ماجه بإسناد جيد عن أبي الدرداء
مرفوعاً: (من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى أصبح كتب
له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه)([94]).
الرياء
ويقابل الإخلاص
الرياء: وهو نوع من أنواع الشرك في العبادة. وقد سماه رسول الله r بالشرك الأصغر، وهو محبط للعمل، وليس له ثواب. وصورته: أن يطلب
الإنسان المنزلة والتعظيم عند الناس بعمل الآخرة: كالذي يصوم ويصلي ليعظمه الناس
ويثنوا عليه. يقول الله U:
ﭽ ﰐ
ﰑ ﰒ ﰓ
ﰔ ﰕ ﰖ
ﰗ ﰘ ﰙ
ﰚ ﰛ ﰜ ﭼ سورة الكهف/١١٠.
وقد ورد في سبب نزول
الآية: (أن رجلاً قال للنبي r: يا نبي الله، إني أحب الجهاد في سبيل الله، وأحب أن يرى مكاني،
فأنزل الله تعالى هذه الآية) ([95]).
وقال تعالى:
ﭽ ﭶ
ﭷ ﭸ ﭹ
ﭺ ﭻ ﭼ
ﭽ ﭾ ﭿ
ﮀ ﮁ ﮂ
ﮃ ﮄ ﮅ ﭼ سورة الماعون/ ٤ - ٧.
وقد
كان r
يخاف على أمته من الشرك الأصغر. ومن أحاديثه في هذا قوله:
(إن
أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر). قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: (الرياء. إن
الله – تبارك وتعالى – يقول يوم تجازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم
تراءون بأعمالكم في الدنيا فانظروا: هل تجدون عندهم جزاءاً)([96]).
وقوله
– صلوات الله وسلامه عليه -:
(إذا
جمع الله U
الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان اشرك في عمل عمله لله – تبارك
وتعالى – احداً فليطلب ثوابه من عند غير الله U
فإن الله U
أغنى الشركاء عن الشرك)([97]).
وقوله
r:
(من
تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلاّ ليصيب عرضاً من
الدنيا
لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)([98]).
آثار الرياء
وللرياء آثار سيئة
ينالها المراءون منها:
1.
عدم
قبول أعمالهم. قال الله U:
ﭽ ﭲ ﭳ
ﭴ ﭵ
ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ سورة الفرقان/ ٢٣
فلم
تنفع هذه الأعمال أصحابها، لأنها كانت خالية من الإخلاص لله وحده، وقد سئل الفضيل
بن عياض –رحمه الله– عن العمل المقبول عند الله فقال: هو أخلصه وأصوبه. قالوا: يا
أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: (إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم
يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى لم يقبل يكون خالصاً صواباً.
والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة) ([99]).
2.
يكون المرائي مبغوضاً
عند الناس، لأن الله يبغضه. قال النبي r:
(إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إني أحب فلاناً فأحبه،
قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه
أهل السماء. قال: ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فقال:
إني أبغض فلاناً فأبغضه. قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض
فلاناً فأبغضوه. قال: فيبغضونه ثم توضع له البغضاء له في الأرض)([100]).
3.
المراءون أول من تسعر
بهم نار جهنم يوم القيامة. قال النبي r:
(إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجلٌ أستشهد، فأتي به فعرفه
نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك
قاتلت لأن يقال جرئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجل
تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟
قال: تعلمت العلم، وعلمته، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال
عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في
النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها
قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك،
قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد
قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار)([101]).
هذه
الآثار السيئة للمرائين وغيرها، هي التي جعلت الصحابة يخافون من هذا الداء، فكانوا
يدعون الله أن تكون أعمالهم خالصة لوجه الله، لئلا يصيبهم من آثار هذا المرض ما
يصيبهم، فكان من دعاء سيدنا عمر بن الخطاب t:
(اللّهم اجعل عملي
كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً)([102]).
لذلك على الداعية أن
يكون يقظاً في كل قول يقوله وعمل يعمله، بل في كل خلجة من خلجات نفسه، ليطرد ما
يعكر على القلب إيمانه، ويشوه نقاءه، فلا يعمل العمل إلاّ لله.
علاج الرياء
إن حمل المسلم نفسه
على الإخلاص وتصفيتها من أية شائبة كانت من شوائب الرياء ليس بالأمر الهين، لأن
ذلك يعني أن يتغلب المسلم على حظوظ نفسه وأغراضها الدنيوية؛ فلا يستطيع أن يصل إلى
الإخلاص الصحيح إلا بالمجاهدة الشديدة والمراقبة الدائمة للشيطان ومداخله وما أكثر
مداخله! فإذا أصيب الداعية بهذا الداء الوبيل والشر المستطير الذي يورد صاحبه موارد
الهلكة إذ يقوده إلى جهنم وبئس المصير، فلا بد له أن يعمل على التخلص منه،ودفعه
بأية وسيلة كانت، وأهم تلك الوسائل وسيلتان:
الأولى:
اقتلاع جذوره من النفوس، ويكون في الخطوات الآتية:
1.
أن
يراقب الداعية ربه U مراقبة دقيقة في كل أقواله وأعماله ونياته، متذكراً أنه –تبارك وتعالى– يعلم خائنة الأنفس وما تخفي
الصدور: فيراقب الداعية نفسه قبل أن يأتي العمل، وحين البدء، وفي أثنائه سائلاً
نفسه: هل كانت نيتي في الإقدام على العمل أو الإحجام رضوان الله أم لا؟
2.
أن يتذكر أن الرياء
محبط للعمل، وان مصير المرائين إلى جهنم... وأنه الخطر الكبير الذي يهدد مستقبل
المرائين، فكيف لا يعمل على التخلص منه؟
3.
أن يُعوِّد نفسه على
القيام بأعمال خفية بعيدة عن أنظار الناس، ليكون بعيداً عن الرياء: كصلاة النافلة،
والتصدق على الفقراء... الخ.
الثانية: دفع ما يخطر في باله في الحال، وذلك
بتذكره أن الله U
عالم بحال الإنسان، مطلع على أعماله: فهو
يرجو رضوان الله فقط، لايهمه أطلع الناس على ما يقدمه من طاعات أم لم يطلعوا، ما
دام يبتغي رضوان الله، ويطمع في جنته.
وبهذا
التفكير ومجاهدة النفس من نزغات الشيطان، يتخلص الإنسان من الرياء أو
يكاد...!
ولا
تظنن أخي – الداعية – أن الشيطان يتركك إن لم يفلح في إغوائك مرة واحدة، بل يعود
إليك مرات ومرات، ملقياً ما يستطيع إلقاءه من نزغات النفس، وحين يعمل الداعية بجد
على دفع ما يخطر في باله في الحال يتمكن من مقاومة هذا الداء الوبيل داء
الرياء...!
2
– الشعور بمعية الله
يراد
بالشعور بمعية الله: اعتقاد الداعية الجازم بأن الله معه لا يتخلى عنه: فهو الذي
يهديه ويسدده؛ وأنه معه يسمع ويرى، ويدفع عنه شر الأعادي ومكرهم، وينصره نصراً
عزيزاً مؤزراً... ولولا هذا الشعور بمعية الله، لما تمكن من تمكن من سلفنا من
الوقوف بوجه الطغاة والمتجبرين... انه يفعل ذلك. لاعتقاده المطلق بأن الله معه،
وأنه القادر على كل شيء، وما عداه لا يقدر أن يفعل شيئاً... هذا الشعور بمعية
الله، سبب من أسباب نجاح الداعية، فهو الذي يبعث فيه صفات القوة والجرأة والثبات
على الحق، والثقة بنصره، والصبر على ما يلاقيه، فإن فَقَدَ الداعية هذا الشعور فقد
فَقدَ القوة التي لا تغلب... وعند ذاك يصيب الداعية ما يصيبه من الخوف والجبن
والخور والهلع. ولا يتكون في قلب الداعية هذا الشعور إلاّ بالتربية الايمانية
ومجاهدة النفس، والتفكير العميق الكثير بقدرته I. وكمثال على ذلك: ما كان من سيدنا موسى u
مع قومه: فقد أمره الله أن يهاجر بقومه من مصر إلى فلسطين، واستجاب سيدنا موسى
لذلك وباشر في الهجرة. وقد عز على فرعون أن يتركه ومن آمن معه من غير أن يستأصلهم
أو يلحق بهم أذىً كثيراً، فأتبعهم فرعون وجنوده، وسار خلفهم حتى إذا وصلوا إلى
البحر، وتقارب الفريقان – فريق سيدنا موسى وفريق فرعون – ورأى كل منهما الآخر، أصاب الخوف جماعة سيدنا موسى وقالوا
له:لقد كاد العدو يدركنا فماذا نفعل؟
ويجيبهم
سيدنا موسى الذي تلقى الوحي من ربه إجابة الواثق بنصر ربه: ﭽ ﭛﭜ
ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭼ.
إن ربي هو الذي يدلني على طريق النجاة، فلا نكون مدركين ولا نكون هالكين ولا نكون
ضائعين: ﭽ
ﭝ
ﭞ ﭟ ﭠﭼ إنه
يمدني بنصره وعونه ويحفظني من عدوه فعلام الخوف؟
ويشتد
الكرب على بني إسرائيل، فيأمر الله نبيه موسى أن يضرب البحر بعصاه، فتجيء المعجزة
التي تقوي إيمان بني إسرائيل: فينشق البحر، وينفلق الماء، ويصير فيه اثنا عشر
طريقاً يبساً... وسار بنو إسرائيل في ذاك الطريق فأتبعهم فرعون وجنوده، فجاءهم
الماء من كل جانب فأغرقهم أجمعين، وأما موسى ومن معهم، فقد نجاهم الله إلى البر.
قال تعالى:
ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ
ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ
ﭙ ﭚ ﭛﭜ
ﭝ ﭞ ﭟ
ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ
ﭨﭩ ﭪ ﭫ
ﭬ ﭭ ﭮ
ﭯ ﭰ ﭱ
ﭲ ﭳ ﭴ
ﭵ ﭶ ﭷ
ﭸ ﭹ ﭺ
ﭻ ﭼ ﭽﭾﭼ سورة الشعراء/ ٦١ -٦٦).
وهذا
رسول الله rفي
هجرته الميمونة إلى المدينة المنورة ومعه أبو بكر الصديق، يقترب منهما المشركون
الذين خرجوا في طلبهما، بل يقفون على باب الغار.
ويشتد
الكرب بأبي بكر، خوفاً على رسول الله r
فيقول له: (يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا، فيرد عليه الرسول الكريم قائلاً:(أسكت
يا أبا بكر، اثنان ألله ثالثهما)([103]).
وإلى
هذا يشير قول الله U:
ﭽ ﮥ ﮦ ﮧ
ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ
ﮭ ﮮ ﮯ
ﮰ ﮱ ﯓ
ﯔ ﯕ ﯖ
ﯗ ﯘ ﯙ
ﯚ ﯛ ﯜﯝ
ﯞ ﯟ ﯠ
ﯡ ﯢ ﯣ
ﯤ ﯥ ﭼ سورة التوبة/ ٤٠.
وكمثال
آخر على الشعور بمعية الله ما كان من أمر (ابن تيمية) مع (غازان التتري): ففي سنة
699 هزم جيش غازان التتري جيش الناصر بن قلاوون، وخلت دمشق من حاكم أو أمير؛
فاجتمع ابن تيمية بمن بقي صامداً من الناس وأتفق معهم على أن يتولى هو الأمور، وأن
يذهب بنفسه مع وفد من الشام لمقابلة (غازان) في بلدة (النبك) فكان مما قاله ابن
تيمية لغازان التتري وترجمانه يترجم حين التقيا: أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام
وشيخ ومؤذن – على ما بلغنا – فغزوتنا وبلغت بلادنا على ماذا؟ وأبوك وجدك كانا
كافرين وما غزوا بلاد المسلمين بعد أن عاهدونا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت) ([104]).
هذه
اللهجة هي التي خاطب فيها ابن تيمية ملكاً من أعظم ملوك التتار... أولئك الذين
عاثوا في الأرض فساداً، فدخلوا بغداد، وأعملوا سيوفهم قتلاً بأهلها، وسالت دماء
الناس أنهاراً، وأحرقوا الكتب وحطموا حضارة من أعظم حضارات الدنيا... وقرب (غازان)
إلى الوفد طعاماً فأكلوا إلا ابن تيمية. فقيل له: ألا تأكل؟ فقال: (كيف آكل طعامكم
وكله مما نهبتم من أغنام المسلمين، وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس)؟
هذا
الشعور بمعية الله هو الذي جعل (غازان التتري) يعجب بهذه الشخصية الفذة كل
الإعجاب، فسأل قائلاً: (من هذا الشيخ؟ إني لم أر مثله، ولا أثبت قلباً منه، ولا
أوقع من حديثه في قلبي، ولا رأيتني أعظم انقياداً لأحد منه...).
وقد
طلب غازان من ابن تيمية أن يدعو له فقام الشيخ يدعو فقال: (اللّهم إن كان عبدك هذا
إنما يقاتل لتكون كلمتك العليا، وليكون الدين كله لك فانصره وأيده وملكه البلاد
والعباد، وإن كان قد قام رياءاً وسمعة وطلباً للدنيا، ولتكون كلمته هي العليا،
وليذل الإسلام وأهله، فأخذله وزلزله ودمره واقطع دابره) وغازان يؤمن على دعائه
ويرفع يديه ([105]).
إن
الشعور بمعية الله قوة عظيمة لا تقهر تعين الداعية على مواصلة دعوته.
3 – الثقة بنصر
الله
يؤمن الداعية إيماناً
منبعثاً من أعماقه بانتصار الإسلام، وأن الشعوب المسلمة لابد لها أن تعود إلى الله
فتحكّم شرعه في كل صغيرة وكبيرة في حياتها، وتتحرر دوله من ذلك الاستعمار الفكري
الذي غزانا فيما غزانا به أعداء الله وأعداء رسوله، وأن هؤلاء الأعداء مهما مكروا
وبيتوا وخططوا لمحاربة هذا الدين، فإن محاولات مكرهم السيء ستبوء بالإخفاق ﭽ ﯣ ﯤ
ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ
ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ
ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ
ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﭼ سورة فاطر/ ٤٣.
وهذا الإيمان العميق بنصر الله حقيقته قد تأصلت وثبتت في قلب الداعية، وآمن
بها إيماناً عميقاً لاشك فيه ولا ريب... وكيف يساور الداعية شك وهو يقرأ حديث رسول
الله r وقد أشتد بالمسلمين الكرب، وضاقت الأنفاس بما يعانونه من
تعذيب واضطهاد، وقلة عدد واستهزاء: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء
إلى حضرموت لا يخاف إلاّ الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)([106]).
وقد تحقق ما أخبر به رسول الله r.
وحقيقة
الثقة بنصر الله، يجدها المسلم في آيات كثيرة، من كتاب الله U وهو يقص علينا ما كان من أنبيائه ورسله مع
أقوامهم، وكيف نصر الله أنبياءه وخذل المكذبين الضالين قال تعالى:
ﭽ ﮝ ﮞ ﮟ
ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ
ﮥ ﮦ ﮧ
ﮨ ﮩﮪ ﮫ
ﮬ ﮭ ﮮ
ﮯ ﮰ ﭼ سورة الروم/ ٤٧.
فلا
يخالج المسلم، أي شك كان وهو يتلو هذه الآية التي قطع الله فيها عهداً على نفسه أن
ينصر المؤمنين. ونتأمل في نتيجة أنبياء الله مع المكذبين من أقوامهم، فماذا نرى؟
قال تعالى في نوح u
والمكذبين من قومه:
ﭽ ﮩ ﮪ ﮫ
ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ
ﮱ ﯓﯔ ﯕ
ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﭼ سورة الأعراف/ ٦٤.
ﭽ ﮙ ﮚ ﮛ
ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ
ﮡ ﮢ ﮣ
ﮤ ﮥ ﮦﭼ سورة هود/ ٥٨.
وقال في قوم صالح u:
ﭽ ﮈ ﮉ ﮊ
ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ
ﮐ ﮑ ﮒ
ﮓ ﮔﮕ ﮖ
ﮗ ﮘ ﮙ
ﮚ ﮛ ﮜ
ﮝ ﮞ ﮟ
ﮠ ﮡ ﮢ
ﮣ ﮤ ﭼ سورة هود/ ٦٦ – ٦٧.
وقال في قوم لوط u:
ﭽ ﭠ ﭡ ﭢ
ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ
ﭨ ﭩ ﭪﭫ
ﭬ ﭭ ﭮ
ﭯ ﭰ ﭱ ﭼ سورة الأعراف/ ٨٣ – ٨٤.
وقال في قوم شعيب u:
ﭽ ﮰ ﮱ ﯓ
ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ ﯚ ﯛ
ﯜ ﯝ ﯞ
ﯟ ﯠ ﯡ
ﯢ ﯣ ﭼ سورة هود/ ٩٤.
ومهما استعلى الطغيان، ونفش ريشه، وتجبر في الأرض، فإن
النصر في النهاية لا يكون إلاّ للمؤمنين، وإن الخسارة والخذلان لا يكون إلاّ
للمتجبرين الطاغين. وقد قص علينا القرآن الكريم، ما كان من فرعون وعلوه في الأرض،
وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم، يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، فماذا كانت
النتيجة بعد ذلك؟ قال تعالى:
ﭽﯤ ﯥ ﯦ
ﯧ ﯨ ﯩ
ﯪ ﯫ ﯬ
ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭑ ﭒ ﭓ
ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ
ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭼ سورة القصص/ ٥ - ٦ .
وهكذا تحققت إرادة الله: ﭽ ﮩ
ﮪ ﮫ ﮬ
ﮭ ﮮ ﮯ
ﮰ ﮱ ﯓ
ﯔ ﯕ ﯖ
ﯗ ﯘ ﯙ
ﯚ ﯛ ﯜ
ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ
ﯣ ﯤ ﯥ
ﯦ ﯧ ﯨ
ﯩ ﯪﯫ ﯬ
ﯭ ﯮ ﯯ
ﯰ ﯱ ﯲ
ﯳ ﯴ ﯵ ﭼ سورة الأعراف/ ١٣٦ - ١٣٧.
وهكذا ينصر الله الدعاة إليه: ﭽ ﮮ
ﮯ ﮰ ﮱ
ﯓ ﯔ ﯕ
ﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ ﯚ ﯛ
ﯜ ﯝ ﭼ الصافات/ ١٧١ -
١٧٣.
فلا يجوز للداعية بعد هذا البيان أن يشك في نصر الله
للمؤمنين الصادقين – ولو بعد حين – إنه وعد مشروط بإذعان المسلمين لهذا الدين،
واستجابتهم لله وللرسول، وصدق الله القائل:
ﭽ ﭬ ﭭ ﭮ
ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ
ﭴ ﭵ ﭶ
ﭷ ﭸ ﭹ
ﭺ ﭻ ﭼ
ﭽ ﭾ ﭿ
ﮀ ﮁ ﮂ
ﮃ ﮄ ﮅﮆ
ﮇ ﮈ ﮉ
ﮊ ﮋﮌ ﮍ
ﮎ ﮏ ﮐ
ﮑ ﮒ ﮓ
ﮔ ﭼ سورة النور/٥٥.
إن هذا الإيمان بنصر الله للمؤمنين الصادقين يدفعنا إلى
العمل الجاد المتواصل لنصرة هذا الدين.
وقد يقول قائل: ما معنى: ﭽ ﭥ
ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭼ؟ وقد علمنا أن
منهم من قتله أعداؤه ومثلوا به كأشعياء، ويحى بن زكريا وأشباههما، ومنهم من يهم
بقتله قومه، فكان أحسن أحواله أن يخلص منهم حتى فارقهم ناجياً بنفسه كإبراهيم الذي
هاجر إلى الشام من أرضه مفارقاً لقومه، وعيسى الذي رفع إلى السماء، إذ أراد قومه
قتله، فأين النصرة التي أخبرنا أنه ينصرها رسله والمؤمنين في الحياة الدنيا،
وهؤلاء أنبياؤه قد نالهم من قومهم ما قد علمت، وما نصروا على ما نالهم بما نالهم
به)؟
والجواب: (إن الله I ينصر رسله والمؤمنين به في الحياة الدنيا – وإن اختلفت صورة النصر
– فمنهم من يمكِّنهم الله I حتى يظهروا
على عدوه ويغلبوه وينتصروا عليه، ومنهم من يعجِّل الله العذاب لأقوامهم المكذبين
لهم، ومنهم من يسلط عليهم – بعد قتلهم أنبياءهم – من ينتقم للأنبياء منهم) ([107]).
ويؤكد هذا المعنى العلامة ابن كثير في تفسيره فينقل عن
السدي قوله:
(لم يبعث اللهU رسولاً قط فيقتلونه، أو
قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون فيذهب ذلك القرن، حتى يبعث الله – تبارك
وتعالى – من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك في الدنيا. قال: فكانت الأنبياء
والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها) ([108]).
وهكذا ينتقم الله U للداعية ممن ظلمه في حياته أو بعد وفاته.
4 – الالتجاء إلى الله تعالى
يراد بالالتجاء إلى الله تعالى: الإعتصام بحبله المتين،
وطلب النصر منه – وحده – والإيمان الحق الذي لاشك فيه ولاريب: أنه تعالى هو الذي
يقدر ويملك كل شيء، وأن غيره لا يملك شيئاً ولا يقدر على شيء. وحين يقيس الداعية
قوته المجردة أمام قوة الأعداء، يشعر بالضعف الشديد، إذ يجد قوته المادية لا تساوي
شيئاً أمام ما يملكه الأعداء من قوة، وما يُبيِّتونه من مكر...
ولكن حين يلجأ الداعية إلى الله، يجده دائماً معه. ولكن
هل يكفي للداعية أن يلجأ إلى ربه من غير أن يأخذ بالأسباب، ويُعد لكل أمر عدته؟
لقد دعانا القرآن الكريم إلى الأخذ بالأسباب، كما دعانا r إلى ذلك. ألم يقل اللهU: ﭽ ﯘ
ﯙ ﯚ ﯛ
ﯜ ﯝ ﯞ
ﯟ ﯠ ﯡ
ﯢ ﯣ ﯤ
ﯥ ﭼ سورة الأنفال/ ٦٠.
فلا يكون اللجوء الحقيقي إلى الله إلاّ بعد أن يستكمل
الداعية الأخذ بالأسباب وإعداد العدة لكل ما يواجهه في حياته... وعند ذاك يلتجئ
الداعية إلى الله يطلب منه النصر فيأتيه بإذن الله. ونقرأ في القرآن الكريم قصة
أصحاب موسى، وقد كانوا مستضعفين في الأرض، ولكنهم حين لجأوا إلى الله ولاذوا
بحماه، صرخوا في وجه فرعون: ﭽ ﮥ ﮦ ﮧ
ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ
ﮭ ﮮ ﮯ
ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﭼسورة يونس/٨٥ – ٨٦.
وهنا تتدخل العناية الإلهية، فتنجي موسى ومن آمن معه،
وتدمر فرعون وجنوده... أما مؤمن آل فرعون، فقد ختم تحديه لفرعون وملئه بقوله: ﭽ ﮃ
ﮄ ﮅ ﮆﮇ
ﮈ ﮉ ﮊ
ﮋﮌ ﮍ ﮎ
ﮏ ﮐ ﮑ ﭼ سورة غافر/ ٤٤.
ولما أحاطت الأحزاب بالمدينة المنورة تمكنت من إغراء يهود بنو قريضة فنقضوا
عهدهم مع رسول الله r وانضموا إلى الأحزاب وكان عدد المسلمين قليلاً: كانوا ثلاثة آلاف
مجاهد، بينما عدد المشركين يزيد على عشرة الآلاف. وقد قام المسلمون بحفر الخندق
بعد أن أشار سيدنا سلمان الفارسي على الرسول r بذلك. وهكذا صار المسلمون
يواجهون عدوين: عدوا خارجياً يضم قريشاً، وغطفان، وبني فزارة، وبني مرة، وعدواً
داخلياً هم يهود بني قريضة... وتحرج موقف المسلمين بتكالب المنافقين ومشركي العرب
واليهود عليهم، وأصابهم ما أصابهم من الخوف والهلع والفزع الذي يصيب البشر... عند
ذاك توجه الرسول الكريم إلى ربه داعياً متضرعاً، فنصر الله عبده، وأعز جنده ورجعت
الأحزاب خائبة، بعد أن أرسل الله عليها ريحاً وجنوداً لم يروها: قال تعالى:
ﭽ ﭮ
ﭯ ﭰ ﭱ
ﭲ ﭳ ﭴ
ﭵ ﭶ ﭷ
ﭸ ﭹ ﭺ
ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ
ﮀ ﮁ ﮂ
ﮃ ﮄ ﮅ
ﮆ ﮇ ﮈ
ﮉ ﮊ ﮋ
ﮌ ﮍ ﮎ
ﮏ ﮐ ﮑ
ﮒ ﮓ ﮔ
ﮕ ﮖ ﮗ
ﮘ ﮙ ﮚ
ﮛ ﮜ ﭼ سورة الأحزاب/ ٩ – 1١.
5 – الصدق
يراد بالصدق: الإخبار بالحق الذي يعلمه الإنسان ولا يعلم غيره: فهو استواء
السر والعلانية، وقد وصف الله نفسه بهذه الصفة فقال: ﭽ ﭟ ﭠ
ﭡ ﭢ ﭣ
ﭤ ﭼ سورة النساء/ ٨٧.
ووصف بها رسله، فقال تعالى:
ﭽ ﯰ ﯱ ﯲ
ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﭼ سورة يس/ ٥٢.
ونص I في قرآنه
على أن الصدق صفة الأبرار من عباد الله الطائعين، فقال تعالى:
ﭽ ﮁ
ﮂ ﮃﮄ ﮅ
ﮆ ﮇ ﮈ ﭼ سورة البقرة/ ١٧٧.
وأمر عباده المؤمنين به فقال تعالى:
ﭽ ﭲ ﭳ ﭴ
ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ
ﭺ ﭼ سورة التوبة/ ١١٩.
ومما قرره علماء العقائد: أن صفة الصدق واجبة في حق كل
رسول من رسل الله. وحين نقرأ سيرة رسول الله r نجده المثل الأعلى في كل جانب من جوانب الصدق وقد عرف بـ (الصادق
الأمين) منذ نشأته، ووصفه بذلك من آمن بدعوته ومن لم يؤمن، فقالت خديجة زوجه عند بدء نزول الوحي
عليه لما عاد إليها خائفاً، قالت له: (كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل
الرحم وتصدق الحديث) ([109]).
وقال له قومه: (ما جربنا عليك كذباً).
وقال فيه أبو جهل: ( إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به)
([110]).
وقال – أيضاً -: (والله إني لأعلم أن ما يقول (محمد) حق،
ولكن يمنعني شيء:
أن بني قصي قالوا فينا الحجابة فقلنا: نعم، ثم قالوا:
فينا السقاية فقلنا: نعم، ثم قالوا فينا الندوة، فقلنا: نعم،ثم قالوا: فينا
اللواء، فقلنا: نعم، ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبي...
والله لا أفعل)([111]).
وحين نتأمل في هذا الدين نرى أنه قائم على الصدق، لذلك
يحرص عليه الداعية كل الحرص وما أروع ما قاله ابن قيم الجوزية – رحمه الله-:
(به تميز أهل النفاق من أهل الأيمان، وسكان الجنان من
أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلاّ قطعه، وما واجه
باطلاً إلاّ أرداه وصرعه؛ من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم
كلمته فهو روح الأعمال، ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي
دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين،
ودرجته تالية لدرجة (النبوة) التي هي
أرفع درجات العالمين...) ([112]).
والصدق أنواع منها:
1. صدق الحديث: فلا يتكلم الداعية إلاّ بالصدق الذي يعلمه،
ويحترز عن المعاريض إلاّ عند الضرورة، وإذا ناجى ربه يكون صادقاً في مناجاته: فهو
لا يقول (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض...) وقلبه منصرف عن الله، مشغول
بالدنيا وشهوتها... وهو لا يقول: ﭽ ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭼ،
وقد صار عبداً لدرهمه وديناره، وانحرف في عقيدته
الصحيحة، فصار يستعين بالأموات في قضاء حوائجه، وجلب النفع له، ودفع الضر عنه...
2. صدق الوفاء بالوعد: فهو إذا وعد لا يخلف في وعده،
متذكراً ما مدح به نبيه إسماعيل u بقوله: ﭽ ﭡ
ﭢ ﭣ ﭤﭥ
ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩ ﭪ ﭫ
ﭬ ﭭ ﭼ سورة مريم/ ٥٤.
3. صدق الوفاء بالعهد: فلا يخلف عهده إذا عاهد ربه، متذكراً
ما مدح الله به رجالاً من المؤمنين لصدقهم بما عاهدوا الله عليه، فقال تعالى:
ﭽ ﭑ
ﭒ ﭓ ﭔ
ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭼ
سورة الأحزاب/ ٢٣ .
وكمثال على صدق الوفاء بالعهد ما كان من أنس بن النظر الذي لم يشهد أول
غزوة غزاها رسول الله r وشق عليه ذلك فقال: (غبت عن أول مشهد شهده رسول الله r، والله لئن أشهدني الله I قتالاً ليرين الله ما أصنع).
فلما كان يوم أحد أنكشف المسلمون فقال: (والله إني أبرأ إليك مما جاء هؤلاء
المشركون، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء – يعني المسلمين – ثم مشى بسيفه، فلقيه سعد
بن معاذ، فقال: أي سعد، والذي نفسي بيده، إني لأجد ريح الجنة دون أحد) فقاتلهم حتى
قتل، قال أنس - راوي الحديث – فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة: من بين
ضربة بسهم، وطعنة برمح، ورمية بسهم، وقد
مثلوا به، فما عرفناه حتى عرفته أخته
ببنانه، ونزلت هذه الآية:
ﭽﭑ
ﭒ ﭓ ﭔ
ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭼ
سورة الأحزاب/ ٢٣ ([113]).
4. الصدق في
الأعمال: فلا يختلف ظاهره عن باطنه، بل يستويان، أو يكون باطنه خيراً من ظاهره،
ومن الأدعية المأثورة: اللّهم اجعل باطننا خيراً من ظاهرنا، واجعل ظاهرنا صالحاً!
وأخيراً: فإن صدق الداعية يظهر في وجهه ونبرات صوته، فيؤثر في المدعو،
فيكون سبباً في احترامه وكسبه إلى صفه.
6- الرحمة والرفق
معنى الرحمة قريب من الرفق. والرحمة فضيلة إسلامية، وصفة
كريمة من الصفات التي يجب أن يتحلى بها الداعية المسلم، وهي تبعث على بذل المعروف،
وإعانة الضعيف، والحرص على هداية الناس خشية أن يصيبهم ما يصيبهم من عذاب أليم،
والله تعالى هو الرحمن الرحيم وسعت رحمته كل شيء، وقد جعل الرحمة مائة جزء فأمسك
عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، وقد وردت آيات كثيرة في
الرحمة: فقد أرسل الله رسوله رحمة للعالمين، قال تعالى: ﭽ ﮐ
ﮑ ﮒ ﮓ
ﮔ ﮕ ﭼ سورة الأنبياء/ ١٠٧.
وكان صلوات الله وسلامه عليه رحيماً بهذه الأمة فقال
تعالى:
ﭽ ﮬ ﮭ ﮮ
ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ
ﯕ ﯖ ﯗ
ﯘ ﯙ ﯚ
ﯛ ﭼ سورة التوبة/ ١٢٨.
أما الرسول r فقد دعا إلى
الرحمة وحث عليها فقال: (الراحمون يرحمهم الرحمن، إرحموا أهل الأرض يرحمكم من في
السماء)([114]).
ولا تقتصر رحمة المؤمن على الذين يدينون بدينه فقط، بل
تشمل حتى على الأعداء في الحرب. فلا تقتل فيها النساء، ولا المتفرغون للعبادة، ولا
المرضى، ولا الصبيان قال الإمام الغزالي بعد أن شرح معنى الأسمين (الرحمن الرحيم):
(وحظ العبد من اسم (الرحمن): أن يرحم عباد الله
الغافلين، فيصرفهم عن طريق الغفلة إلى الله بالوعظ والنصح، بطريق اللطف دون العنف،
وأن ينظر إلى العصاة بعين الرحمة لا بعين الإيذاء، وأن يرى كل معصية تجري في
العالم كله كمعصية له في نفسه، فلا يألو جهداً في إزالتها بقدر وسعه، رحمة لذلك
العاصي من أن يتعرض لسخط الله تعالى أو يستحق البعد عن جواره. وحظ العبد من اسم
(الرحيم): لا يدع فاقة لمحتاج إلاّ ويسدها بقدر طاقته. ولا يترك فقيراً في جواره
أو في بلده إلاّ ويقوم بتعهده: إما بماله
أو بجاهه أو الشفاعة إلى غيره. فإن عجز عن جميع ذلك فيعينه بالدعاء وإظهار الحزن،
رقة عليه وعطفاً، حتى كأنه مساهم له في ضره وحاجته) ([115]).
والداعية يدعو الناس ولا يسأم من ردهم والإعراض عن دعوته، لأنه رحيم بهم،
يعلم أن عاقبتهم ستكون إلى جهنم – إن لم يستجيبوا لله وللرسول – لذلك كان الرسول r يتحمل أذى قريش ويكرر دعوته
لهم لينقذهم من عذاب الجحيم. ومن مستلزمات الرحمة: العفو والصفح عن أصحاب الإساءة.
وإذا كانت الرحمة من أهم أخلاق الداعية، فإن الغلظة والفظاظة لا تنتج إلا الشر
والسوء والإعراض عن دعوة الله – ولو كان ما يقوله حقاً وصدقاً – وقد مدح الله
رسوله محمداً r بقوله: ﭽ ﭙ
ﭚ ﭛ ﭜ
ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ
ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ
ﭪ ﭫ ﭬ
ﭭ ﭮ ﭯ ﭼ سورة آل عمران/ ١٥.
وفوق ذلك، فإن الداعية ذو رحمة حتى بأعدائه. فهذا سيدنا
علي بن أبي طالبt وقد ضربه
ابن ملجم بباب المسجد، فماذا قال في قاتله؟ لقد قال: (إن أعش فالأمر لي، وإن أصبت
فالأمر لكم، فإن آثرتم أن تقتصوا فضربة بضربة، وإن تعفو أقرب للتقوى)([116]).
فعلى الداعية أن يتحلى بهذا الخلق النبيل ويُكلِّف نقسه
أن يكون رحيماً إن لم يكن كذلك... فإن عجز عن اكتساب هذا الخلق، فليعمل على
الانصراف إلى علاج نفسه! وأما الرفق في الدعوة، فهو خلق إسلامي كريم، أمر الله به
في آيات كريمات، كما أمر به رسول الله r، وإذا كانت
ملاطفة من يرجى إسلامه خلقاً كريماً دعا إليه الإسلام، فكيف بالمسلم الذي شهد أن
لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله؟ أليس هو أحق بالرفق من الكافر؟ إن طبيعة
هذا الدين قائمة على الرفق، ولم يذكر الله الغلظة والشدة إلاّ في موضعين:
الأول: في مواجهة
المسلمين لأعدائهم في قلب المعركة، فأن الغلظة عند اللقاء أمر لابد منه حتى تضع
الحرب أوزارها، قال تعالى:
ﭽ ﭔ
ﭕ ﭖ ﭗ
ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭼ
سورة التوبة/١٢٣.
الثاني: في تنفيذ
العقوبات الشرعية على مستحقيها، قال تعالى:
ﭽ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩ ﭪ ﭫ
ﭬ ﭭ ﭮ
ﭯ ﭰ ﭼ سورة النور/٢.
أما ما عدا ذلك، فإن القرآن يدعو إلى الرفق في الأمر كله، فقد أمر الله
موسى وهارون بالرفق بفرعون وهما يدعوانه إلى الله قال تعالى:
ﭽ ﮢ
ﮣ ﮤ ﮥ
ﮦ ﮧ ﮨ
ﮩ ﮪ ﮫ
ﮬ ﮭ ﮮ
ﮯ ﮰ ﭼ سورة طه/٤٣–٤٤.
وهذا القول اللين الذي ذكرته الآية: هو ما ذكره الله U في سورة النازعات قال تعالى: ﭽ ﭞ ﭟ ﭠ
ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ
ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩ ﭼ سورة النازعات/
١٨–١٩.
وقد بلغت الرقة في التعبير القرآني في هذه الآية مبلغها، فليس فيه أية
إثارة كانت. كما نجد القرآن الكريم يحذر فرعون تحذيراً لطيفاً غير مباشر، وذلك في
قوله تعالى:
ﭽ ﯾ
ﯿ ﰀ ﰁ
ﰂ ﰃ ﰄ
ﰅ ﰆ ﰇ
ﰈ ﭼ سورة طه/ ٤٨.
وإذا كان الأمر هكذا بالنسبة إلى موسى u وهو رسول من رب العالمين فغيره
من الناس أولى بأخذ الرفق واللين، لأن المدعو ليس بأسوأ من فرعون!
وننظر إلى أحاديث رسول الله r التي تدعو إلى الرفق فإذا هي
كثيرة كَثيرة، ومنها قوله:
(إن الله رفيق يحب الرفق ويرضاه ويعين عليه ما لا يعين على العنف)([117]).
وقوله:
(إذا أراد الله U بأهل بيت
خيراً أدخل عليهم الرفق)([118]).
وقوله:
(إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي
على العنف، وما لا يعطي على ما سواه)([119]).
وقوله:
(إن الرفق لا يكون في شيء إلاّ زانه،
ولا ينزع من شيء إلاّ شانه)([120]).
وقوله:
(إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق)([121]).
ويتجلى شيء من رفق رسول الله r بتلك الواقعة من الأعرابي
الذي دخل المسجد فبال في جانب من جوانبه، فزجره المسلمون وأرادوا أن يقعوا به
فنهاهم النبي r عن ذلك وقال:
(دعوه وأريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء،
فإنما بُعثتم ميسرين ولم تُبعَثوا معسرين)([122]).
لو حدث هذا في زماننا لرأيت السب والشتم ينهال على من
فعل هذا من كل جانب، وقد ينهال عليه بعض من الشباب ضرباً باليدين وركلاً بالأقدام،
معتقداً أن هذا جهاد في سبيل الله...أما رسول الله r فلم يعنف الرجل، بل أمر صحابته أن يكفوا عن تعنيفه.
وعن عائشة – رضي الله عنها – أن يهوداً أتوا النبي r فقالوا: السأم عليكم، فقالت عائشة: عليكم ولعنكم الله، وغضب الله
عليكم. فقال النبي r: (مهلاً يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش)، قالت: أو
لم تسمع ما قالوا؟ قال:(أو لم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا
يستجاب لهم في)([123]).
وفي رواية: (مهلاً يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر
كله)([124]).
وعن أبي هريرة t أن أعرابياً جاء إلى النبي r يستعينه في
شيء فأعطاه شيئاً، ثم قال: أحسنت إليك؟ فقال الأعرابي: لا ولا أجملت! قال: فغضب
المسلمون وقاموا إليه فأشار إليهم أن كفوا. ثم قام النبي r فدخل منزله، ثم أرسل إلى الأعرابي فدعاه إلى البيت فقال: إنك
جئتنا فسألتنا فأعطيناك، فقلت ما قلته، فزاده رسول الله r شيئاً ثم قال: أحسنت إليك؟
قال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً. فقال له النبي r: إنك كنت جئتنا فسألتنا فأعطيناك، وقلت ما قلت وفي أنفس أصحابي
شيء من ذلك، فإن أحببت فقل بين يديهم ما قلت بين يدي، حتى تذهب من صدورهم ما فيها
عليك. قال: نعم. فلما كان الغد أو العشي، جاء فقال: رسول اللهr : أن صاحبكم هذا كان جاء فسألنا فأعطيناه، وقال ما قال، وإنا
دعوناه إلى البيت فأعطيناه فزعم أنه قد رضي، أكذلك؟ قال الأعرابي: نعم فجزاك الله
من أهل وعشيرة خيراً، فقال النبي r:
(ألا أن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة
فشردت عليه، فأتبعها الناس، فلم يزيدوها إلا نفوراً، فناداهم صاحب الناقة، خلوا
بيني وبين ناقتي، فأنا أرفق وأعلم، فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها، وأخذ لها من
قمام الأرض فردها هوناً هوناً حتى جاءت وأستناخت وشد عليها، وإني لو تركتكم حيث
قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار)([125]).
وهذا الرفق الذي دعا إليه رسول الله r في أحاديثه الكثيرة عام في كل أمر من أمور الحياة: فإذا ذكر
الداعية الناس فليكن بهم رفيقاً فلا يطِّول في تذكيره خشية السآمة. فهذا سيدنا عمر
بن الخطاب t يقول على المنبر
(أيها الناس، لا تُبَغِّضوا الله إلى عباده، فقيل له كيف
ذلك أصلحك الله؟ قال: يجلس أحدكم قاصاً فيطول على الناس، حتى يبغض إليهم ما هم
فيه، ويقوم أحدكم إماماً يطول على الناس، حتى يبغِّض إليهم ما هم فيه) ([126]).
وفي الصحيحين عن أبي وائل شفيق بن سلمة: كان ابن مسعود t يذكرنا في كل خميس مرة، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت
أنك ذكرتنا كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم
بالموعظة كما كان النبي r يتخولنا بها مخافة السآمة علينا).
ويقول ابن عباس t:
(حدّث الناس كل جمعة، فإن أكثرت فمرتين، فإن أكثرت
فثلاثاً، ولا تمل الناس من هذا القرآن، ولا تأت القوم في حديث فتقطع عليهم حديثهم.
وقال: أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، وإياك والسجع في الدعاء فإني عهدت
رسول الله r وأصحابه لا يفعلونه) ([127]).
ويقول أحد علماء السلف:
(لا يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر إلاّ من كان فقيهاً
فيما امر به، فقيهاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه،
حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهى عنه) ([128]).
فلا نعجب – بعد ذلك – إذا علمنا أن بعضاً من الناس الذين
اعرضوا عن قبول دعوة الله كان بسبب غلظة من دعاهم وعدم رفقه بهم!
7 - التواضع
التواضع خلق رفيع وثمرة من ثمرات المعرفة بالله وبالنفس،
والمراد به لين الجانب، وخفض الجناح، وعدم الاغترار بالنفس. وهو من أهم الصفات
التي تجعل المسلم محبوباً في قومه. وقد وردت آيات كريمة وأحاديث شريفة تدعو إلى
ذلك، ومن تلك الآيات قول الله تعالى مخاطباً رسوله محمداً r: ﭽ ﯱ ﯲ ﯳ
ﯴ ﭼ سورة الحجر/ ٨٨.
وقوله تعالى في عباد الله المتقين:
ﭽ ﮱ ﯓ ﯔ
ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ ﯚ ﯛ
ﯜ ﯝ ﯞ ﭼ سورة الفرقان/ ٦٣.
ومن أحاديث الرسول r قوله:
(أن الله أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد،
ولا يبغي أحد على أحد)([129]).
وإذا كان الداعية قد جعل مثله الأعلى وأسوته العظمى رسول
الله r في كل حركة من حركاته وعمل من أعماله، فكيف كان تواضع رسول الله r؟
لقد جمع u التواضع
كله: فكان يبدأ أصحابه بالسلام، ولا يسحب يده إذا صافح أحداً إلاّ بعد أن يسحبها
من يصافحه، ويجلس حيث ينتهي به المجلس، وينزل إلى السوق، ويحمل بضاعته بنفسه،
ويجيب دعوة الحر والعبد والأمة، وكان يُرِّقع ثوبه بنفسه، ويخصف نعله، ويأكل مع
الخادم... وحين فتح الله عليه مكة، دخلها متواضعاً لله، وقد خفض رأسه حتى كاد يمس
واسطة رحله، ولما كلمه رجل يوم فتح مكة، وقد أخذته الرعدة من شدة الخوف، قال له
الرسول الكريم: (هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل
القديد)([130]).
وقد تأسى سلف هذه الأمة برسول الله r، فتحلوا بالتواضع في مظهر من أجمل مظاهره، فهذا أبو بكر الصديق t كان قبل أن يتولى الخلافة تاجراً، وكان يحلب للحي أغنامهم. فلما
بويع بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لا تحلب لنا منائح دارنا، فلما سمعها أبو بكر قال: بلى لأحلبنها
لكم، واني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه، فكان يحلب لهم!
وهذا عمر بن الخطاب t يلبس
المرقع، ويعالج إبل الصدقة، من الجرب بنفسه، فيطليها بالقطران لتبرأ من جربها،
وينفخ في النار لينضج الطعام للأطفال الفقراء!
وهذا عمر بن عبد العزيز يجلس مع قومه، ويحتاج سراجه إلى
إصلاح فيقوم ويصلحه فيقول له بعض من معه: كنا نكفيك ذلك. فيرد عليه قائلاً: ليس من
كرم الرجل أن يستخدم ضيفه: قمت وأنا عمر، ورجعت وأنا عمر، ما نقص مني شيء.!
وهذا سلمان الفارسي t- وقد كان
أميراً على المدائن- يأتيه رجل من أهل الشام معه حمل تين ويقول لسلمان: تعال احمل،
ظناً منه أن سلمان يعمل حمالاً للناس، ويحمل سلمان الحمل، ويراه الناس ويقولون:
هذا الأمير... ويعتذر الرجل الشامي بقوله: لم أعرفك، فيرد سلمان: لا عليك... لا
أتركك والحمل حتى أوصلك إلى منزلك.!
ولقد تحدث سلفنا الصالح في التواضع: فقد سُئل الفضيل بن
عياض عن التواضع فقال أن تخضع للحق وتنقاد له، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته.
ولما سُئل الحسن البصري عن التواضع أجاب:
(يخرج من بيته، فلا يلقى مسلماً إلاّ ظنه خيراً منه) ([131]).
وليس معنى التواضع أن يذل المسلم نفسه، بل هو يؤدي إلى
العز الحقيقي عند العقلاء من الناس، ولذلك قال ابن عطاء الله السكندري: العز في
التواضع. فمن طلبه في الكبر فهو كتطلب الماء في النار.
فينبغي على الداعية أن يتحلى بهذا الخلق النبيل فيتواضع
للناس، وهذا التواضع ليس ذلاً كذل الضعيف للقوي، ولا ذل الفقير للغني، وإنما هو ذل
المؤمن لأخيه الذي يريد أن ينقذه من النار ويضمه إلى صفه.
وعلى العكس من ذلك الكبر، فإنه يشكل حاجزاً بين الداعية
والناس، ويجعله معزولاً عنه وغير مألوف ممن حوله. وداء الكبر هو الذي أوقع إبليس
في حمأة المعصية، فلم يسجد لآدم، وقال فيما قال: ﭽ ﭙ
ﭚ ﭛ ﭜ
ﭝ ﭞ ﭟ
ﭠ ﭡ ﭢ
ﭣ ﭼ سورة الأعراف/ ١٢.
وننظر في القرآن الكريم فإذا هو يذم المتكبرين، أولئك
الذين يرون منزلتهم فوق منزلة الناس الآخرين، فيرتفعون عليهم، ويحبون التصدر في
المجالس، والتبختر والاختيال في المشي، وهؤلاء خسروا نعيم الآخرة. قال تعالى:
ﭽ ﯧ ﯨ ﯩ
ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ
ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ
ﯵ ﯶ ﭼ سورة القصص/ ٨٣.
ومما خسره المتكبرون محبة الله لهم، قال تعالى: ﭽ ﯷ
ﯸ ﯹ ﯺ
ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ
ﰄ ﰅ ﰆ
ﰇ ﰈ ﭼ سورة لقمان/١٨.
والمتكبرون تغلف قلوبهم عن الحق، وتحجب عن النور، جزاءاً
من الله وعقاباً لهم قال تعالى:
ﭽ ﭲ ﭳ ﭴ
ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ
ﭻ ﭼ ﭽ
ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ
ﮅ ﮆ ﮇ
ﮈ ﮉ ﮊ
ﭼ سورة غافر/٣٥.
وقال:
ﭽ ﰁ ﰂ ﰃ
ﰄ ﰅﰆ ﰇ
ﰈ ﰉ ﰊ
ﰋ ﰌ ﰍ
ﰎ ﰏ ﰐ
ﰑ ﰒ ﰓ
ﰔ ﰕ ﰖ
ﰗ ﭼ سورة الإسراء/ ٣٧ – ٣٨
.
ولما عرض زعماء قريش على الرسول r أن يجعل لهم مجلساً خاصاً بهم لا يشاركهم فيه أرقاء المسلمين
وفقراؤهم، تكبراً من عند أنفسهم، أمر الله نبيه محمداً r أن يرد على طلبهم بآيات تتلى آناء الليل وأطراف النهار فقال
مخاطباً نبيه محمداً r:
ﭽ ﯲ ﯳ ﯴ
ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ
ﯽ ﯾ ﯿ
ﰀ ﰁ ﰂ
ﰃ ﰄ ﰅ
ﰆ ﰇ ﰈ
ﰉ ﰊ ﰋﰌ ﭼ سورة
الأنعام/ ٥.
أما السنة النبوية، فهي زاخرة بالحديث عن التكبر وذمه،
قال r:
(لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه
ما أصابهم)([132]).
وقال:
(لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)([133]).
وعن أبي هريرة t قال قالَ رسول الله r قال
الله U:
(العز
إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني في واحد منهما فقد عذبته)([134]).
وقال:
(ثلاثة
لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان،
وملك كذاب، وعائل مستكبر)([135]).
وقال:
(من
تعظم في نفسه، أواختال في مشيته لقي الله U وهو عليه غضبان)([136]).
كيف يصاب الداعية بداء الكبر؟
لما
كان الداعية يملك علماً وثقافة وشخصية قوية مؤثرة تميزه عن الناس الآخرين، صار
أكثر تعرضاً من غيره لمكايد الشيطان ونزغات النفس: فيعمل الشيطان على أن يزله،
لينزلق في مهاوي الغرور -وهو طريق إلى الكبر-: فينظر الداعية إلى علمه وثقافته
وشهادته، فيستشرف إلى مدح الناس وثنائهم، فيصاب بهذا الداء الوبيل.
علاج الكبر
ولابد
للداعية الذي يحس من نفسه انه معرض للإصابة بهذا الداء، أن يعالج نفسه قبل استفحال
المرض فيه، وإلاّ ظهر أثره في سلوكه فحبط عمله، ومعالجتة تكون بوسائل كثيرة منها:
1.
أن ينظر الداعية إلى
قدرة الله، ويتأمل في عظمته، فإن الذي أعطاه الشخصية المؤثرة، والعلم النافع،
والثقافة الواسعة، قادر على أن يسلبها منه، وأن الذي أعطاه البلاغة والفصاحة، قادر
على أن يأخذها منه، فإن الله على كل شيء
قدير!
2.
أن يتأمل الداعية في
الآيات والأحاديث الواردة في ذم الكبر والتنفير منه، وأن يتذكر دائماً: أن الله
يسخط على المتكبرين، ويعذبهم، ويجعلهم يوم القيامة كأمثال الذر، جزاء استكبارهم
على عباد الله.
3.
أن يفكر تفكيراً
سوياً في حياته منذ نشأته إلى أن يقبضه الله إليه: انه لم يكن شيئاً مذكوراً، ثم
خلقه الله من نطفة مذرة تعافها الناس، ثم خرج من مخرج البول مرتين، وسيكون في آخره
جيفة قذرة، وهو بين ذلك يحمل في أمعائه ما يحمل من الجيف...
4.
أن يبحث في سبب
تكبره، فإن كان بسبب علمه الغزير، وثقافته الواسعة، فليعلم أنه يجهل الكثير
الكثير... وإن كان تكبره بسبب قوة شخصيته، فليعلم أن مآله إلى الموت والقبر، وسيظل
هناك فريداً وحيداً... وإن كان سببه في نشاطه الإسلامي، وجهاده في سبيل الله،
فليعلم أنه بتكبره حبط عمله، فليكن الداعية على بينة من أمره، وليحذر مزالق
الشيطان، فإنها كثيرة كثيرة.
8 – الصبر
الصبر:
فضيلة من الفضائل الخلقية، يتحلى بها من يملك عزيمة قوية، وإرادة ماضية يعتصم بها
الداعية، فتخفف عنه ما يلاقيه في دعوته:
(أنه
حبس النفس عن المكروه، وعقد اللسان عن الشكوى، والمكابدة في تحمله وانتظار الفرج) ([137]).
والصبر:
زاد الداعية في الدعوة إلى الله، وطريقها الشاق الذي تكتنفه العقبات وتحف به
الأشواك من كل جانب... وهو طريق فرش بالدماء والأذى ولم يفرش بالأزهار والرياحين:
فإن أمزجة الناس شتى، وعيوبهم كثيرة، وطبائعهم مختلفة وهمومهم ومشكلاتهم لا تعد
ولا تحصى .!
ولا
بد للداعية أن يتسم بالصبر، ليتمكن من مواصلة دعوته على ما يلاقيه من جهل الناس
وغرورهم، وانحراف طبائعهم، وقلة الناصر وضعف المعين... والصبر على ما يلاقيه
الداعية في طريقه الطويل هذا ليس بالأمر الهين، فلا يعرف طعم المرارة التي يشعر
بها الداعية إلاّ من كابد دعوة الناس إلى هذا الدين، وذاق ما يلاقيه الدعاة، لذلك
جاء في وصية لقمان لأبنه:
ﭽ ﯤ ﯥ ﯦ
ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ
ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ
ﯲ ﯳ ﯴ
ﯵ ﯶ ﭼ سورة لقمان/ ١٧.
فقد
جاء الأمر بالصبر بعد الأمر باقام الصلاة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن
طريق الدعوة لا يستطيع أن يسلكه الداعية إلاّ إذا تذرع بالصبر، ذلك أن الذين يقفون
محاربين لدعوة الله أناس كثيرون: يحاربها أصحاب الباطل والطغيان، ويحاربها
المستغلون والجشعون، ويحاربها الظالمون والمستكبرون، ويحاربها المستهترون
والمنحلون... ولابد من مجاهدة هؤلاء جميعاً، ولا يستطيع ذلك إلاّ من تحلى بالصبر
والمصابرة، وأسوة الداعية في ذلك رسول الله
r
فإن سيرته حافلة بأمثلة كثيرة، هذا خباب بن الأرت t يروي هذا الحديث فيقول:
(شكونا إلى رسول الله r وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟
فقال: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار
فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد – ما دون لحمه وعظمه – فما يصده
ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف
إلاّ الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)([138]).
وعن ابن مسعود t قال: كأني
أنظر إلى النبي
r يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه
ويقول: (اللّهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)([139]).
وننظر إلى سيرة رسول
الله r مرة أخرى، فإذا هي حافلة بتلك
الأمثلة الكثيرة لصبره الجميل.فكم لاقى r من التكذيب والأذى والاستهزاء
وهو يسدي إلى قومه النصيحة؟..
ألم يطرح عليه أحدهم رحم شاة وهو يصلي؟...
وماذا لاقى صحابته الكرام من الأذى، وهم صابرون على ما يلاقون من العذاب؟
ألم يمر صلوات الله وسلامه عليه بآل ياسر وهم يعذبون فيقول لهم:
(أبشروا آل عمار وآل ياسر، فإن موعدكم الجنة)([140]).
فلا نعجب – بعد ذلك – إذا علمنا أن القرآن الكريم ذكر الصبر فيما يقرب من
سبعين موضعاً، وذكره رسول الله r في أحاديث كثيرة...
إن الداعية يواجه معارضة كثيرة أو قليلة ممن يدعوهم، إذ دعوته تخالف أهواء
الناس وما اعتادوا عليه... لكنه لا يلتفت إلى ذلك، لأن من عاهد الله أن يكون
جندياً من جنود الإسلام، ينبغي له أن يُوطِّن نفسه على تحمل ما يلقاه من أذى.
يقول الصحابي الجليل (عمير بن خماشة) في وصيته لبنيه:
(إذا أراد أحدكم أن يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فليوطن نفسه
على الصبر على الأذى، وليوقن بالثواب من الله، فأنه من يثق بالثواب من الله لا يجد
مس الأذى) ([141]).
والصبر ينقسم إلى ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر
على معصية الله، وصبر على المصائب والبلاء.
والصبر على طاعة الله لا يكون إلاّ بالإخلاص في عبادته،
ووقوعها على ما يقتضيه الشرع، والصبر على المعصية، يكون بترك المعاصي واستحضار ما
أعده الله للعاصين من عذاب شديد، وأما الصبر على البلاء والمصائب فيكون باحتمال ما
تكره النفس، وما أكثر الإبتلاء الذي يصاب به الدعاة في أولادهم وزوجاتهم وأهليهم
والناس المدعوين؟...
ومما يعين على هذا اللون من ألوان الصبر: استحضار ما
أعده الله للصابرين في الجنة، فتهون أمامه العقبات التي يلاقيها في طريقه.
والداعية لا يتمكن من الصبر إلاّ إذا أعانه الله عليه،
ولا يثاب عليه إلاّ إذا كان باعثه طلباً لمرضاة الله.!
وإذا كان الصبر ضرورياً لكل إنسان وكل مسلم – بصورة عامة
– فإن المسلم الداعية أكثر حاجة من غيره لأن عمله يكون في ميدانين:
الأول: يتعلق بنفسه فيجاهدها ويحملها على طاعة الله.
الثاني: في دعوته الناس إلى الإسلام، فإنه يحتاج إلى قدر كبير منه.
والداعية المسلم لابد له أن يلاقي ما يلاقي من صنوف
الإبتلاء ومثله الأعلى أنبياء الله ورسله
الذين أصابهم ما أصابهم من بلاء كبير فصبروا على ما أصابهم: صبروا على التكذيب،
وصبروا على الأذى، وصبروا على طغيان الطغاة وتجبر المتجبرين، وصبروا على أخلاق
الناس وطبائعهم المنحرفة... إنه امتحان واختبار لا ينجح فيه غير الصابرين، قال
تعالى:
ﭽ ﮡ ﮢ ﮣ
ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ
ﮩ ﮪ ﮫ
ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ
ﮱ ﯓﯔ ﯕ
ﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ ﯚ ﭼ سورة العنكبوت/١-٣.
وقال:
ﭽ ﯖ
ﯗ ﯘ ﯙ
ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ
ﯠ ﯡ ﯢ
ﯣ ﯤ ﯥ
ﯦ ﯧ ﯨ
ﯩ ﯪﯫ ﯬ
ﯭ ﯮ ﯯ
ﯰ ﭑ ﭒ ﭓ
ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ
ﭙ ﭚ ﭛ
ﭜ ﭝ ﭞ
ﭟ ﭠ ﭡ
ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭼ سورة آل عمران/١٤٠–١٤٢
ولقد سُئِل الإمام الشافعي: أيُمَكَّن المؤمن أم يُبتلى؟
قال: لن يُمَكَّن المؤمن حتى يُبتلى.!
إن إبتلاء الدعاة سنة طبيعية من سنن الله في هذه الحياة:
فهم يُبتلون من الكفار والعصاة بالقول والفعل والكيد... وليعلم الداعية أن طريق
الدعوة شاق وطويل، فلا يحمله ذلك على الكسل أو التوقف في منتصف الطريق، ذلك لأنه
لا يعمل ليحصل على النجاح وحده بل للحصول على رضا الله، فإنه غاية الغايات.
9 – الشجاعة والثبات
يراد بالشجاعة: الإقدام ورباطة الجأش في المواقف الصعبة
وعند اشتداد الخطوب: وهي ركن شخصية الداعية التي تجعله يقف صامداً أمام ما يعترضه من
مشكلات وخطوب في طريق دعوته التي لا تقتصر على دخول معامع الحروب، بل تشمل–أيضاً–
الدعوة إلى الدين الذي يدعو إليه بثبات ورباطة جأش من غير ملل أو ضجر مما يلاقيه
من معارضة لدعوته ووقوف في وجهها.
وتختلف الشجاعة عن التهور والاندفاع دون تغيير النتائج،
فإن الداعية الحكيم لا تستفزه الكلمات والمواقف، ولا يندفع وراء عاطفته، من غير أن
يقدِّر للأمور عواقبها، بل يحسب لكل شيء حسابه، ويأخذ بالحذر، لأن الأخذ به قد
يكون من الشجاعة، بل ان الرأي الصحيح المناسب يُقدَّم على الشجاعة ولله در القائل:
الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني
إن الداعية إذا امتلأ قلبه إيماناً أيقن أن الحياة
والموت، والنفع والضر بيد الله وحده لا يملكه غيره... إنه يتذكر وصية رسول
الله rلابن عباس: (إحفظ الله يحفظك، إحفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله،
وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك
إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلاّ بشيء قد
كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)([142]).
والداعية الذي يؤمن بهذا ينطلق مُبلِّغاً دعوة الله، لا يخشى غيره تعالى.
والناس يهابون الدعاة بقدر إيمانهم بالله وصدعهم بكلمة الحق، لذلك كان أجلاّء
الصحابة قد فتحوا صدورهم لسماع كلمة الحق والنصح، وشجعوا المسلمين على ذلك، ألم
يقل أبو بكر الصديق t في أول خطبة له بعد أن ولي الخلافة: (... فإن أحسنت فأعينوني، وإن
أسأت فقوموني)([143]).
ألم يقل فاروق الإسلام عمر بن الخطاب t: من رأى منكم فيَّ اعوجاجاً فليقومه... فيقوم إليه رجل من عرض
المجلس قائلاً له: والله يا أمير المؤمنين، لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقوَّمناه
بسيوفنا... فيحمد الله سيدنا عمر ويقول: الحمد لله الذي جعل من يُقوِّم اعوجاج عمر
بالسيف... والمسلمون اليوم بحاجة ماسة إلى نماذج مؤمنة تُبلِّغ شرع الله بكل جرأة
وشجاعة وثبات، من غير أن تخاف أو يصيبها وجل، إذ أنها تبغي إحدى الحسنيين: استجابة
للدعوة، فيكتب لها الفوز بالخير العميم، لأن رسول اللهr قال لسيدنا علي بن أبي
طالب t: (فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)([144]).
وإما أن يفوز بالشهادة، ويكون مع سيد الشهداء. يقول:
الرسول اللهr:
(سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام
جائر فأمره ونهاه فقتله)([145]).
وأما إذا كُتب للداعية أن يُمتحن فعليه بالثبات. وقد ضرب
الرسول r أروع الأمثلة في الشجاعة والثبات على المبدأ الحق: فقد وقف في وجه
قريش في مكة داعياً إلى الله، متحدياً عقيدتهم الفاسدة، كاشفاً عن زَيفها مقيماً
الأدلة على ذلك، مجادلاً لهم بالتي هي أحسن في كل مكان، على الرغم من إيذائهم له
بأساليب كثيرة.!! لكنه u لم يبال بذلك، بل مضى يدعو إلى الله بشجاعة لا نظير لها،
غير ملتفت إلى تهديدات المشركين.
أما في ميدان المعارك، فقد كان القائد القدوة في شجاعته،
يدلنا على ذلك حديث علي بن أبي طالب t:
(إنا كنا إذا حمي البأس، وأحمرَّت الحدق، اتقينا برسول
الله r فما يكون أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ
بالنبي r وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس بأساً) ([146]).
اما في غزوة حنين – وقد فر المسلمون – فقد ظل رسول الله r ثابتاً في قلة من أهل بيته، يدل العدو على نفسه فيقول: أنا النبي
لا كذب، أنا ابن عبد المطلب... وحدّث ما شئت أن تحدّث عن شجاعة صحابته رضوان الله
عليهم...!
ونُقلِّب صفحات التاريخ، فإذا بأمثلة كثيرة لا تعد من
جرأة وشجاعة سلفنا وأئمتنا العظام... لقد كانوا يمثلون الشجاعة في صورة من أجمل
صورها.
هذا الإمام (ابن تيمية) وقد علم بما فعله التتار في
بغداد وهم في طريقهم إلى الشام، يركب من دمشق على راحلته متوجهاً إلى مصر، وقد قطع
فيافي فلسطين ورمال سيناء في أيام قليلة، إذ كان يواصل سيره ليلاً ونهاراً... حتى
إذا وصلها واستصرخ أهلها لحرب التتار، ووجد له آذاناً صاغية، فالتف الناس حوله.
فلما قام السلطان(قطز) بتجهيز حملته لمنازلة التتار بقيادة (الظاهر بيبرس)، وقد
أراد (قطز) أن يفرض ضرائب على الشعب لتمويل الحملة، وقف (العز بن عبد السلام) ذلك
الموقف الشجاع، وقال له فيما قال:
(إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على الناس قتالهم، وجاز
لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط أن لا يبقى في بيت المال
شيء من السلاح والسروج الذهبية والفضية، وإسقاط السيوف وغير ذلك، وتبيعوا ما لكم
من الحوائص الذهبية والآلات النفيسة، ويقتصر كل جندي على سلاحه ومركوبه، أما أخذ
الأموال من العامة، مع بقاء ما في أيدي الجند من ألأموال والآلات الفاخرة فلا.
فكان قول العز هو القول الفصل) ([147]).
وكان (ابن تيمية) في مقدمة الصفوف: يجاهد بنفسه ويحض على
الجهاد صارخاً: وامحمداه... واأسلاماه... حتى أرتد المجاهدون على العدو، وأوقعوا
به هزيمة منكرة.!!
أما في الحروب الصليبية، فكان للعلماء الدعاة دورهم الكبير
في تلك المعارك الضارية، وإن ينس الناس شيئاً فلن ينسوا (عز الدين بن عبد السلام)
وموقفه الشجاع من الملك الصالح إسماعيل – ملك دمشق – الذي خان الله ورسوله، وتحالف
مع الصليبيين ضد نجم الدين أيوب ملك مصر، وقام بتسليمهم قلعتي (صيدا) و (الشقيف)
وغيرهما من حصون المسلمين، فأفتى الشيخ ابن عبد السلام بحرمة بيع السلاح إلى
الصليبين، وانتقد الملك الصالح الذي تحالف مع الصليبيين من فوق منبر جامع دمشق في
يوم الجمعة، وذمه على فعلته الشنيعة تلك... واستجاب الناس لفتواه: فلم يبع احد
السلاح للصليبيين، فعزل الشيخ عن الخطابة والإفتاء، ووضع تحت الإقامة الجبرية،
وتحمل ما تحمل من غير أن يطأطئ رأسه لظالم خان الله ورسوله والمؤمنين.!
ولم يكتف الشيخ بذلك، بل كان يحارب بنفسه: ففي معركة
دمياط، كان تجاه الريح ضد مراكب المسلمين. فلما رأى الشيخ ذلك، هتف قائلاً: (يا
ريح خذيهم) – مشيراً إلى الفضاء – وإذا بالريح تنقلب ضد مراكب الصليبيين. فلما رأى
المسلمون ذلك هتفوا: (الحمد لله الذي أرانا في أمة محمد من سُخرت له الريح)!
وأندفع المسلمون يقاتلون حتى تحقق النصر.
ولابد لنا أن نشير هنا إلى أن الشجاعة لا نريد بها
منازلة العدو بحزم ورباطة جأش أو الوقوف بوجه الظالمين وحدها، بل نعني بها: كل ما
تحمله هذه الكلمة من معنى، فإن الرجوع عن الخطأ لون من ألوان الشجاعة! هذا (عز
الدين بن عبد السلام) يُفتي مرة بشيء، ثم يظهر له أنه أخطأ في فتواه، فما كان منه
إلاّ أن نادى في مصر على نفسه: (من أفتى
له ابن عبد السلام بكذا فلا يعمل به، فإنه أخطأ فيه). إنها أمانة في العلم قلَّ
نظيرها، وشجاعة في الرجوع إلى الحق في صورة من أجمل صورها.
ونستطيع أن نرى أثر الشجاعة والجرأة لدعاة الإسلام
وعلمائه في كل بلد من بلاد المسلمين منذ عدة قرون إلى يوم الناس هذا.
فليحذر الداعية أن يكون جباناً، يخاف أن يصدع بالحق في
موطن يجب أن يصدع به، وليعمل على أن يُعيد للمسلمين ذكريات سلفنا الصالح في
شجاعتهم وجرأتهم وثباتهم على المبدأ الحق. إنه إن فعل ذلك، فقد يُعيد إلى الناس
الأمل في عودة الإسلام حاكماً في الأرض، بعد أن فرض عليهم أن يتحاكموا إلى الطاغوت
وقد أمروا أن يكفروا به.
10 – الزهد بما في أيدي الناس
الزهد صفة مهمة من صفات الداعية. وليس المراد بها:
الإعراض عن الطعام الطيب واللباس الجميل، لكن المراد: أن يفرغ (الداعية) قلبه من
حب الدنيا. فليس زاهداً من ملك قلبه كسب المال وتحسين الحال... وليس زاهداً من
تطلع إلى حب الرئاسة والجاه والسمعة، فلا بد أن يكون عازفاً عما في أيدي الناس من
مال غيره: فهو يدعو إلى الله، ولا يريد من وراء ذلك جزاءاً ولا شكوراً. متمثلاً
بأنبياء الله ورسله الذين كانوا يقولون لأقوامهم:
ﭽ ﰆ ﰇ ﰈ
ﰉ ﰊﰋ ﰌ
ﰍ ﰎ ﰏ
ﰐ ﰑﭼ قالها (نوح) و(هود) و (صالح) و (شعيب) ومن جاء من بعدهم
من أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وقد تنبهت (بلقيس) بحدة
ذكائها إلى هذا الأمر المهم، فأرادت أن تختبر سليمان u بإرسالها هدية له بعد أن دعاها إلى الدين الحق: فإن قبل الهدية فهو
رجل دنيا، وإن لم يقبلها، فهو صاحب عقيدة ورسالة لا يساوم عليها. فلما رفض هديتها
تيقنت أنه صاحب عقيدة، فجاءت إليه مؤمنة به قائلة: ﭽ ﰘ
ﰙ ﰚ ﰛ
ﰜ ﰝ ﰞ
ﰟ ﰠ ﰡ
ﰢ ﰣ ﭼ سورة النمل/ ٤٤ .
فلابد أن يكون الداعية زاهداً بما في أيدي الناس، ليظل
مرفوع الرأس، قادراً على أن يُبلِّغ ما يريد إبلاغه، ويقول ما يريد قوله، من غير
أن يكون في عنقه منَّة لأحد تجعله مغلول اللسان. وكلما كان زاهداً بما في أيديهم
كان أقدر على التأثير فيهم وكسب ودهم ومحبتهم ثم جلبهم إلى دعوته. يقول الرسول r:
(أزهد في الدنيا يحبك الله، وأزهد بما في أيدي الناس
يحبك الناس)([148]).
ويقول الحسن البصري – رحمه الله -:
(لا يزال الرجل كريماً على الناس حتى يطمع في دينارهم.
فإذا فعل ذلك استخفوا به وكرهوا حديثه وأبغضوه...) ([149]).
ويحدثنا التاريخ أن أكثر الدعوات التي تقبَّلها الناس
بقبول حسن كان دعاتها من أشد الناس زهداً بما في أيديهم – الناس – فتمكنوا من جمع
الناس حولهم. وفي التاريخ القديم والحديث أمثلة كثيرة لدعاة وفدوا على الخلفاء
والأمراء والملوك، مسدين إليهم النصيحة، ولما أراد هؤلاء الحكام مكافأة الدعاة
بمال امتنعوا عن أخذه: فكان ذلك سبباً مهماً في الأخذ بنصائحهم. فهذا أحد الدعاة
يدخل على هارون الرشيد واعظاً فيقول:
يا أمير المؤمنين، من رزقه الله مالاً وجمالاً، فعف في
جماله، وواسى في ماله، كتب في ديوان الله من الأبرار.
فظن الرشيد أنه يريد شيئاً، فقال: إنا قد أمرنا بقضاء
دينك.
فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، لا يُقضى دين بدين،
أردد الحق إلى أهله، واقض دين نفسك من نفسك.
قال الرشيد: إنا أمرنا أن يجري عليك رزق تقتات به.
قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فأنه – سبحانه – لا
يعطيك وينساني.. وها أنا قد عشت عمراً لم تجر عليَّ رزقاً... أنصرف ولا حاجة لي في
جرايتك.
قال: هذه ألف دينار خذها.
فقال: أرددها على أصحابها فهو خير لك، وما أصنع أنا بها؟
([150]).
فكََبِر الرجل في عين الرشيد وتأثر بنصيحته...
فإذا أراد الداعية أن يؤثر في الناس، فليكن زاهداً بما
في أيديهم، غير متطلع إلى ما عندهم من زهرة الحياة الدنيا.
11 – القول والعمل
ولا يكون الداعية داعية بحق، ويتمكن من التأثير في الناس
إلاّ إذا عمل بما يقوله ويدعو إليه، فإن أثر الأفعال أكثر من أثر الأقوال. والقرآن
الكريم يحدثنا عما قاله شعيب u لقوله:
ﭽ ﯩ
ﯪ ﯫ ﯬ
ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ
ﯳ ﯴ ﯵ
ﯶ ﯷﯸ ﯹ
ﯺ ﯻ ﯼﯽ
ﯾ ﯿ ﰀ
ﰁ ﰂ ﭼ سورة هود/ ٨٨.
ولقد بين لنا رسول الله r مصير من يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهي عن المنكر ويأتيه، فقال:
(يجاء بالرجل يوم القيامة، فيُلقى في النار، فتندلق
أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي
فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم
بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)([151]).
ولقد تحدث
الحسن البصري في هذه القضية كثيراً فقال:
(عِظ الناس بفعلك ولا تعظهم بقولك) ([152]).
وقال:
(الواعظ من وعظ الناس بعمله لا بقوله، وكان ذلك شأنه إذا
أراد أن يأمر بشيء بدأ بنفسه ففعله، وإذا أراد أن ينهي عن شيء انتهى عنه) ([153]).
والداعية لا يكتفي بأخذ اليسير مما يأمر وينهى عنه، بل
عليه أن يكون أكثر الناس أخذاً بذلك. قال الحسن البصري:
(إذا كنت آمراً بالمعروف فكن من آخذ الناس به، وإلاّ هلكت،
وإذا كنت ممن ينهى عن المنكر فكن من أنكر الناس له وإلاّ هلكت) ([154]).
وهذا سيدنا عمر بن الخطاب t كان قبل أن يأمر الناس أو ينهاهم يجمع أهل بيته ويقول لهم:
(أما بعد: فأني سأدعو الناس إلى كذا وكذا، وأنهاهم عن
كذا وكذا وإني أقسم بالله العظيم لا يبلغني عن أحد منكم أنه فعل ما نهيت الناس
عنه، أو ترك ما أمرت الناس به إلاّ نكلت به نكالاً شديداً) ([155]).
إن الناس إذا وجدوا مخالفة بين قول الداعية وعمله لم
يلقوا له – عند ذلك – إذناً صاغية، وإذا سمع الناس قوله لا يصدقونه، وإذا صدقوه
فلا يؤثر فيهم لأنهم يقولون: لو كان هذا صادقاً فيما يقول لرأينا أثره فيه. ونقل
(الماوردي) قول علي بن أبي طالب t:
(إنما زهد الناس في طلب العلم لما يرون من قلة انتفاع من
علم بما علم) وكان يقال: خير من القول فاعله، وخير من الصواب قائله، وخير من العلم
حامله... وقال بعض الصلحاء: العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلاّ أرتحل ([156]).
إن الداعية الحق يكون داعية بعمله قبل قوله فما أسهل
القول وأشق العمل... لذلك نعى القرآن الكريم على أولئك الذين يقولون ما لا يفعلون
فقال U:
ﭽ ﮛ ﮜ ﮝ
ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ
ﮣ ﮤ ﮥ
ﮦ ﮧ ﮨ
ﮩ ﮪ ﮫ
ﮬ ﮭ ﭼ سورة الصف/ ٢ – ٣.
كما وجه I لومه
وتقريعه إلى بني إسرائيل لأنهم كانوا يأمرون الناس بالبر ولا يأتونه فقال تعالى:
ﭽ ﮤ ﮥ
ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ
ﮮ ﮯ ﭼ سورة البقرة/ ٤٤.
ذلك أن البر ليس كلمة تُقال باللسان، أو مقالة تُكتب
بالأقلام، وإنما هو عمل يُطبق... فينبغي على الداعية أن يكون تقياً قبل أن يدعو
إلى التقوى، وأن يكون على جانب كبير من الخلق قبل أن يدعو إلى مكارم الأخلاق...
وبذلك يكون داعياً بسلوكه قبل قوله. وما أروع ما قاله أبو الأسود الدؤلي:
يا أيها
الرجل المعلم غيره |
|
هلا لنفسك
كان ذا التعليم |
وقال آخر:
لا تلم المرء على فعله |
|
وأنت منسوب
إلى أهله |
وقال الجماز:
ما أقبح
التزهيدَ من واعظٍ |
|
يُزهِّد
الناس ولا يزهدُ |
ولقد أمتثل سلفنا ذلك، فكانوا أمثلة طيبة في تطبيق ما
يقولون، وهذا مثال على ذلك:
كان نور الدين محمود الشهيد عظيماً من عظماء حكام
المسلمين، وكان يدعو الناس إلى امتثال الشرع، والحضور إلى مجالس القضاء الشرعي...
وكان يقول: لا فرق بين كبير وصغير. وبينما
كان نور الدين يقوم بتمرينه الحربي، إذ رأى رجلاً يحدث آخر ويومئ إلى نور الدين،
فبعث الحاجب ليسأله: ما شأنه؟ فإذا هو رجل معه رسول من جهة القاضي يطلب منه الحضور
أمام القاضي لشكوى قدمت عليه، فألقى نور الدين ما كان بيده من أدوات التمرين، وأقبل
مع خصمه ماشياً إلى القاضي، وأرسل نور الدين إلى القاضي يقول له: لا تعاملني إلاّ
معاملة الخصوم. وقد وقف نور الدين مع خصمه أمام القاضي؛ شأنه في ذلك شأن الناس
الآخرين. وبعد التقاضي تبين أن ليس للرجل على نور الدين حق، بل ثبت الحق للسلطان
على الرجل. ولما أصدر القاضي حكمه بذلك قال نور الدين: (إنما جئت معه لئلا يتخلف
أحد عن الحضور إلى الشرع إذا دعي إليه، فإنما – نحن معاشر الحكام – خدم لرسول
الله، وحراس لشرعه، وقائمون بين يديه وطوع
مراسيمه، فما أمر به امتثلناه. وما نهانا عنه اجتنبناه. وأنا أعلم أنه لا
حق للرجل عندي، ومع هذا أشهدكم أني قد ملكته ذلك الذي أدعى به ووهبته له) ([157]).
ويطلق ابن قيم الجوزية على الذي تُخالف أقوالهم أفعالهم
بأنهم قطاع الطرق فيقول:
(علماء السوء جلسوا على باب الجنة، يدعون إليها الناس
بأقوالهم، ويدعون إلى النار بأفعالهم: فكلما قالت أقوالهم للناس هلموا، قالت
أفعالهم للناس: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقاً كانوا أول المستجيبين
له: فهم في الصورة أدلاء، وفي الحقيقة قطاع الطرق) ([158]).
فكن –أخي الداعية– عاملاً بما تقول، ليصل نصحك إلى
سويداء القلوب..
12 – حب الدعوة والرغبة في هداية الناس
والداعية الحق يكون محباً لدعوته عاشقاً لها، وقد ملكت
عليه حياته كلها، وصارت جزءاً من كيانه: فهو يتحدث بها في الوقت المناسب: يفرح
لها، ويبكي ويحزن من أجلها، ويفكر دائماً في اتخاذ أساليب نافعة، لعل الله يفتح
قلوب الناس لها، ويدعو الله في سجوده أن يهدي الناس ويرجعهم إلى صراطه المستقيم،
وقدوته في ذلك رسول الله r في حياته كلها. تحدثنا
كتب السيرة أن النبي r لما هاجر إلى المدينة المنورة ومعه أبو بكر الصديق لقي في الطريق
(بريدة بن حصيب الأسلمي) في ركب من قومه فيما بين مكة والمدينة، فدعاهم إلى الإسلام
هو ومن معه – وكانوا زهاء ثمانين بيتاً – وصلى رسول الله r العشاء فصلوا خلفه([159]).
وكان – صلوات الله وسلامه عليه – في سفر فأقبل أعرابي.
فلما دنا منه قال له رسول الله r: أين تريد؟
قال: الى أهلي.
قال: هل لك إلى خير؟
قال: ما هو؟
قال: تشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأن
محمداً عبده ورسوله.
قال: هل من شاهد على ما تقول؟
قال: هذه الشجرة. فدعاها رسول الله r وهي على شاطئ الوادي فأقبلت تخذّ الأرض خداً، فقامت بين يديه،
فاستشهدها ثلاثاً، فشهدت أنه كما قال، ثم أنها رجعت إلى منبتها، ورجع الأعرابي إلى
قومه فقال: إن يتبعوني أتيتك بهم، وإلاّ رجعت إليك وكنت معك ([160]).
فلا نعجب إذا علمنا أن سيد الدعاة r كان يصيبه من الهمِّ والحزن ما
يصيبه لعدم إيمان الناس بدعوته، فيسلي الله نبيه، ويخفف عنه الهم فيقول له:
ﭽ ﭤ ﭥ ﭦ
ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ
ﭭ ﭮ
ﭯ ﭼ سورة الكهف/٦.
ان الداعية يحرص على هداية الناس، مقتدياً بسيد الدعاة
محمد r الذي وصفه ربه بهذه الصفة، فقال تعالى:
ﭽ ﮬ ﮭ ﮮ
ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ
ﯕ ﯖ ﯗ
ﯘ ﯙ ﯚ
ﯛ ﭼ سورة التوبة/ ١٢٨.
ويبلغ بالداعية من الألم أشده، حين ينصرف الناس عن دعوته
معرضين عنها مستكبرين، ونجد الحرص على قبول الناس لدعوة الله متمثلة في كل نبي من
أنبيائه ورسول من رسله، حتى من أعدائهم والمعرضين عن دعوتهم. ألم يقل رسل الله لمن
بُعثوا فيهم: ﭽ ﭳ ﭴ ﭵ
ﭶ ﭷ ﭸ ﭼ سورة الأعراف/ ٥٩.
إن الداعية ليتألم وهو يرى إعراض الضالين عن دعوته... لكن
الذي يسليه ويُخفف عنه: علمه أنه يقوم بواجبه، فإن عليه أن يدعو إلى الله، وما
عليه إذا لم يستجب له الناس، فإن هدايتهم بيد الله وحده:
ﭽ ﮏ ﮐ ﮑ
ﮒ ﮓ ﮔ
ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﭼ سورة القصص/٥٦.
و قال تعالى:
ﭽ ﮓ ﮔ ﮕ
ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ
ﮛ ﮜ ﭼ سورة النحل/ ٣٧.
وكمثال على ذلك: ما كان من أمر رسول الله r وقد كسرت رباعيته وشج رأسه يوم أحد... ويمسح الرسول الكريم الدم
عن وجهه وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم، فنزل
قول الله U:
ﭽ ﮧ ﮨ ﮩ
ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ
ﮯ ﮰ ﮱ
ﯓ ﯔ ﭼ سورة آل عمران/ ١٢٨.
وهذا أبو هريرة t كان حريصاً
على هداية أمه، يحكي قصة إسلامها فيقول: (كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة،
فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله r ما أكره، فأتيت رسول الله r وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله، إني أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى
علي، فدعوتها اليوم، فأسمعتني فيك ما أكره، فأدع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال:
(اللّهم أهد أم أبي هريرة)، فخرجت مستبشراً بدعوة نبي الله r... فلما جئت وصرت إلى الباب... فإذا هو مجاف (مردود) فسمعت أمي
خشف قدمي (صوتها) فقالت: مكانك يا أبا
هريرة، وسمعت خضخضة الماء – أي تحريكه – قال: فاغتسلت ولبست درعها، وعجلت إلى
خمارها، ففتحت الباب ثم قالت: يا أبا هريرة: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً
عبده ورسوله... قال: فرجعت إلى رسول الله r فأتيته وأنا
أبكي من الفرح. قال قلت يا رسول الله، أبشر، قد استجاب الله دعوتك، وهدى الله أم
أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيراً). ([161]).
وإذا كان الداعية يحرص هذا الحرص على هداية الناس، فلأن
الله تعالى أمر بذلك، وأمر به رسوله محمد r، ولأن له في
هداية الإنسان الواحد من الأجر ما لا يعلمه إلاّ الله U.ولا ينقطع عمل الداعية بعد موته، بل يكتب له أجر أعمال من كانت
هدايته على يديه. يقول الرسولr:
(من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا
ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)([162]).
الفصل الثالث
منهج الدعاة
هناك منهج عام ينبغي
لكل داعية أن يسير على وفقه: كاتخاذه الحكمة في كل قولٍ من أقواله وعمل من أعماله،
والتيسير في الدعوة لا التعسير، والتدرج في تبليغ الدعوة، والتعميم في التوجيه
والنقد غير المباشر، والقصد والاعتدال في حياته، ومداراة الناس، ومخاطبتهم على قدر
عقولهم، وان يكون له ميزان دقيق يرجح به بين المصالح والمفاسد في الأمور
الاجتهادية، ويقدم أو يحجم وفق ذلك الميزان، وأن يكون مبتعداً عن الخلافات الفقهية
والجدل المذموم...
وهناك منهج آخر ينبغي
لكل داعية أن يلاحظه في دعوته، ويتمثل: في اختياره الموضوعات التي يتحدث فيها،
فيقدم الأهم على المهم. وأسوتنا في ذلك رسول الله؛ فانه لما بعثه الله بهذا الدين
كان أول ما دعا إليه (التوحيد الخالص) وتثبيته في قلوب الناس، وذلك بذكر
صفات الله، والتأكيد على أنه – سبحانه – الواحد ألاحد، الفرد الصمد، ليس كمثله
شيء، وهو القادر على النفع والضر، وغيره لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً عن
أن ينفع غيره أو يضره … وربما كان التأكيد على جانب العقيدة الصحيحة في أول بعثة
النبي محمد r؛
لأنها هي التي تنبثق عنها العبادة الصحيحة، وتحمل صاحبها على التضحية بكل ما يملك
من أجلها. وما أصاب المسلمين ما أصابهم من ضعف وهزال وتذبذب في هذا العصر إلا لضعف
العقيدة في نفوس كثير من الناس. وحين ننظر في عقيدتنا هذه، نرى أنها واضحة لا خفاء
فيها، وسهلة لا تعقيد فيها، واستطاعت هذه (العقيدة) بيسرها ووضوحها وقوتها
أن تؤثر بالناس، وصارت - فيما بعد - أساساً في نفس كل فرد مسلم، وفي كيان الأمة،
ولن يقوم بناء بغيرها.
لقد
أكد القرآن الكريم في عهده المكي تأكيداً كثيراً على العقيدة بأركانها وكأن (مكة)
عند إشراق شمس الدعوة الإسلامية كانت مركزاً لتدريب الصحابة الذين أعدهم القرآن
الحكيم والرسول الكريم هذا الإعداد من الجانبين الروحي والبدني؛ ليتحملوا – فيما
بعد – مشاق الجهاد المضني. فلم ينشغل رسول الله r بالتهديم في العهد المكي، بل اهتم ببناء الإيمان الحق، ولم يشغل
صـحابته بالسـياسة وأمور الحكم - آنذاك - بل كان التركيز على تثبيت الإيمان في
النفوس.
وهكذا
كان العهد المكي قاعدة مهمة أرسى أسسها رسول اللهr ، وكانت تلك الأسس قوية ومتينة صلبة، اسـتطاعت أن تتحمل البناء
الضخم الذي أقيم عليها بعد ذلك. أما السور والآيات المدنية، فجاءت بعد أن رسخ
الإيمان في نفوس الناس، تتحدث في تشريعات مختلفة من سياسية وحربية واجتماعية
واقتصادية ...
إن
منهج الآيات المكية والمدنية وسيرة الرسول r في هذين العهدين، ينبغي أن يتخذها الداعية المسلم منهاجاً لدعوته،
وهو إنسان حكيم يضع كل شيء في موضعه المناسب. وهذه مقتطفات من منهج الدعاة:
1- الحكمة
الحكمة في اللغة والاصطلاح:
ورد
لفظ الحكمة في اللغة في عـددٍ من المعاني منها: إحكام الأمر: أي إتقانه، ومنعه من
الفساد، ومعرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، وإصابة الحق بالعلم والعقل([163]).
أما في الاصطلاح، فقد
عرفت بتعاريف كثيرة، والذي نختاره: هو الإصابة في الأقوال والأفعال، ووضع كل شيء
في موضعه المناسب.
والحكمة شرط أساسـي
في منهج الدعاة، من فقدها فقد أخفق في دعوته. ومن أركانها: العلم الشرعي: فلا يكون
الداعية حكيماً إلا به. والحكمة هبة من الله يهبها لمن يشاء من عباده، بعد أن
يسدده في أقواله وأعماله، وهي –مع ذلك- تكتسب بتوفيق الله بعدة طرق منها: العلم
النافع، والصبر، والاستقامة، وجهاد النفس، والاستشارة … ومن تتبع دعوة الرسول r
وجد الحكمة ملازمة له في كل قولٍ من أقواله أو عملٍ من أعماله –وبخاصة في دعوته
الى الله-: فلا نعجب إذا علمنا أنه حقق من النجاح ما لم يحققه غيره، فأقام صروح
دولة صارت وأصبحت وأضحت مضـرب الأمثال في كل جانبٍ من جوانب الكمال، ودخل الناس في
دين الله أفواجاً.
ولم يكن النبي r
لينجح هذا النجاح في دعوته لو لم يكن رسولاً من رب العالمين، أرسله بعقيدة وشريعة،
وجملة بمكارم الأخلاق ليهدي البشرية الحائرة، وينقذها من ضلال الكفر والشرك الى
الإيمان الحق الذي به لا بغيره يسعد الإنسان السعادة الحقيقية. ولم يكن صلوات الله
وسلامه عليه لينجح هذا النجاح في دعوته، لو لم يسدد الله خطواته كلها، ويملأ صدره
حكمةً وإيماناً. يقول الرسول r
متحدثاً عن نفسه: (فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري، ثم غسله من ماء
زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمةً وإيماناً فأفرغها في صـدري، ثم طـبقه، ثم
أخـذ بيدي فعرج بـي الى السماء…)([164]).
وتتجلى في هذا الحديث
أهمية الحكمة وعظيم شأنها في منهج الدعاة: فان الله -عز وجل - أرسل جبريل u
فملأ صدر رسول الله r
حكمةً
وإيماناً وفي ذلك الخير - كل الخير - كما قال تعالى:
ﭽ ﯩ ﯪ
ﯫ ﯬ ﯭ
ﯮ ﯯ ﭼ سورة البقرة / 269.
ولقد أخطأ كثيرٌ من
الناس حين ظنوا أن الحكمة تقتصـر على العفو والحلم والكلام اللين والرفق …! إن هذا
قصور في النظر؛ ذلك أن هذا الأسلوب من أساليب الدعوة يستعمل مع الناس الأذكياء من البشر: أولئك الذين يستمعون القول
فيتبعون أحسـنه، ولا يجادلون في باطـلٍ ولا يعاندون ...
وهناك من الناس من
يقبل الحق ويعترف به، ولكن فيهم شهوات أو غفلة تصدهم عن اتباعه، فان الداعية
يستخدم معهم الموعظة الحسنة التي تشتمل على الترغيب والترهيب.
وقد يكون المدعو
معانداً أو جاحداً، فيستخدم الداعية جداله بالتي هي أحسن، فيدعوه الى الحق، ويأتيه
بالأدلة العقلية والنقلية التي تقيم عليه الحجة، وتزيل الشبهات التي علقت بذهنه،
وذلك بأسلوب هادئ، على أن لا تكون غاية الداعية مجرد الغلبة، بل بيان الحق؛ لأن
المسلم يريد الخير للناس كلهم.
أما المعاند الجاحد
الظالم الذي ركب رأسه، فان الحكمة قد تكون بالكلام القوي والضرب والتأديب إذا
اقتضت الضرورة.
إن الحكمة في الداعية
تجعله يضع كل شيء في موضعه المناسب: فلا يدعو الناس الى التبتل والانقطاع عن
الحياة وقد أحاط الأعداء بالبلد المسلم إحاطة السوار بالمعصم، بل يدعوهم الى
الدفاع عن بلادهم أولاً، ويكون في مقدمة الصـفوف المقاتلة. وليس صواباً أن يبدأ
بتعليمهم أحكام الرقيق والمواريث، وهم بحاجة ماسة الى تعلم أحكام الوضوء والصلاة.
ومن مقتضى الحكمة:
مراعاة الداعي لطبائع المدعوين، والوسائل التي تؤثر بهم: فلا يثقل عليهم بالتكاليف
قبل أن تستعد نفوسهم لقبولها، ويبدأ بالأهم قبل المهم، ويخاطبهم على قدر عقولهم
وبهذا ينفذ الى قلوب الناس وينجح في دعوته.
2- التيسير لا التعسير
التيسير سمة واضحة من
سمات شريعتنا الغراء، وفيها ما فيها من المرونة. ويستطيع الداعية أن ينتفع من تلك
المرونة. وهذا لا يعني أن يداهن المسلم على حساب دينه بحجة التيسير والمرونة، بل
ينتفع من مرونة الشريعة ويسرها في حدود ما أباحته. وتقرأ في القـرآن الكريم قوله
تعالى تعقيباً على إيجاب الصوم مع رعاية المشقة في السفر والمرض:
ﭽ ﯗ ﯘ ﯙ
ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﭼ سورة
البقرة
/ 185.
ويقول
- سبحانه -:
ﭽ ﭟ ﭠ ﭡ
ﭢ ﭣﭤ ﭥ
ﭦ ﭧ ﭼ سورة
النساء/28.
ويقول
عند انعدام الماء، أو العجز عنه لمرض:
ﭽ ﮂ ﮃ ﮄ
ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﭼ سورة المائدة / 6.
ويقول :
ﭽ ﭝ ﭞ
ﭟ ﭠ ﭼ سورة الأنعام / 152.
ويقول :
ﭽ ﮨ ﮩ
ﮪ ﮫ ﮬ
ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﭼ سورة الحج / 78.
وذكر العليم الخبير
أن العسر مطارد بيسرين، فقال تعالى:
ﭽ ﮥ ﮦ
ﮧ ﮨ ﮩ
ﮪ ﮫ ﮬ
ﮭ ﮮ ﮯ
ﮰ ﮱ ﯓ
ﯔ ﯕ ﯖ
ﯗ ﯘ ﯙ
ﯚ ﯛ ﯜ
ﯝ ﯞ ﯟ
ﯠ ﭼ سورة
الشرح/1–6.
أما السنة النبوية،
فجاءت زاخرة بهذا الأصل المهم من أصول الإسلام، داعية الى الاعتماد عليه، من ذلك:
حديث رسول الله r:
(يسروا ولا تعسروا،
وبشروا ولا تنفروا)([165])
(بعثت بالحنيفية
السمحة)([166])
(إن هذا الدين يسر،
ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه؛ فسددوا وقاربوا)([167])
(خير دينكم ايسره)([168])
(إن الله يحب أن تؤتى
رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته)([169])
(ما
أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم)([170])
(إياكم
والغلو في الدين؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين)([171]).
وتروي السيدة عائشة رضي الله عنها
فتقول:
(ما
خيّرَ رسول الله r بين أمرين قط إلا أخذ أيسـرهما ما لم يكن إثماً فأن كان إثماً
كـان أبعـد الناس منه)([172]).
وإذا
كان من حق الداعية أن يشدد على نفسـه ويأخذها بالأحوط دائما ليربي نفسه على
الأفضل، فليس من حقه أن يشدد على المدعو والناس الآخرين - وبخاصة الذين لا يزالون
في أول طريق الهداية ولم تتمكن المعاني الروحية في نفوسهم - بل عليه أن يتدرج في
تربيتهم، ويرتقي بتوجيههم خطوة بعد خطوة؛ ذلك أن الأخذ بالتشدد يؤدي الى النفور من
هذا الدين. وأسوتنا في ذلك رسول الله r: فقد كان يطيل الصلاة إذا صلى لنفسه، ويخففها إذا أم غيره، وكان
يغضب إذا علم من صحابي تطويلاً في صلاته – وبخاصة إذا أدى ذلك الى ترك صلاة
الجماعة – فعن ابن مسعود الأنصاري t قال: قال رجل: يا رسول الله، لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا
فلان فما رأيت النبي r في موعظة أشد غضباً من يومئذ فقال:
(أيها الناس، إنكم
منفرون. فمن صلى بالناس فليخفف؛ فإن فيهم المريض والضـعيف وذا الحاجة)([173]).
ولقد امتثل الصحابة
هذه المعاني في التيسير، فقال عبد الله بن مسعود t:
(أولئك أصـحاب محمد:
كانوا أفضـل هذه الأمة: أبرها قلوباً وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً)([174]).
وهكذا كان منهج السلف
فمما قاله سفيان الثوري رحمه الله:
(إنما العلم عندنا
الرخص عن الثقة، فأما التشديد، فكل إنسان يحسنه)([175]).
وانطلاقاً
من هذا الأصل، فإن على الدعاة أن ينتهجوا هذا النهج في التيسير. كيف لا والرسولr
يقول:
(إنما بعثتم ميسرين
ولم تبعثوا معسرين)([176])
(ولئن كان التيسير مطلوباً في كل زمان، فانه في
زماننا ألزم وأكثر تطلباً؛ نظراً لما نراه ونلمسه من رقة الدين، وضعف اليقين،
وغلبة الحياة المادية على الناس، وعموم البلوى بكثير من المنكرات، حتى أصبحت كأنها
القاعدة في الحياة وماعداها هو الشاذ، واصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر.
وكل هذا يقتضي التسهيل والتيسير ولهذا قرر الفقهاء: أن المشقة تجلب التيسير، وأن
الأمر إذا ضاق اتسـع، وأن عموم البلوى من موجبات التخفيف)([177]).
حول تتبع الرخص
(وإذا كان التيسير في
الدين أمراً مطلوباً،
فإن تتبع رخص الفقهاء أمر
غير مسـتحب، بل هو باب من أبواب اتباع الهوى: فان الفقهاء قد اختلفوا في قضايا
فقهية كثيرة، ففي المسألة الواحدة وقف بعضهم عند ظاهر النصوص، فلم يجاوزوها فقالوا
بتحريمها، ونظر غيرهم نظرة أخرى فقالوا بحلها وهكذا صارت المسألة الواحدة حراماً
في مذهب وحلالاً في مذهب آخر وهناك من يتنقل بين المذاهب الإسلامية هنا وهناك:
فيأخذ من كل مذهبٍ ما كان أيسر له من غير أن ينظر في قوة دليل ذلك المذهب أو ضعفه:
فهو لا يأخذ به إلا ليسره! وقد حذر أهل العلم من تتبع الرخص فقال ابن عبد البر:
(لا اعلم فيه خلافاً بين أهل العلم)([178]).
وهكذا
قال ( ابن حزم ) و( الباجي ) و( ابن الصلاح ) ... فلا ينبغي للمسلم أن يعمد الى
الشاذ من الأقوال والمرجوح منها، فيأخذ بها دائماً لمجرد أنها أيسر من غيرها، بل
لابد من عرضها على أصول الإسلام العامة: فيأخذ بما هو الأرجح أو الأصلح لما
يعايشـه الناس؛ إذ تتبع الرخص يؤدي إلى تميع أحكام الدين والاستهانة بها،
والانسلاخ من الإسلام باتباع ما هو الأيسر دائما من غير نظرٍ الى قوة الدليل أو
ضعفه؛ لذلك صرح ابن قيم الجوزية بفسق من يفعل ذلك وحرمة استفتائه. وذكر الشوكاني
أن البيهقي حكى عن أبي إسماعيل القاضي قال: (دخلت على المعتضد، فرفع إلي كتابا قد
جُمعتْ له فيه الرخص من زلل العلماء، وما
أحتجَّ به كل منهم فقلت: مصنف هذا الكتاب زنديق … وما من عالم إلا وله زلة، ومن
جمع زلل العلماء ثم اخذ بها ذهب دينه فأمر بإحراق الكتاب)([179]).
3-
التدرج في تبليغ الدعوة
من
المناهج التي ينبغي على الداعية أن يضعها نصب عينيه: التدرج في تبليغ الدعوة، فلا
يلقي الى المدعو بالأوامر والنواهي جملة واحدة؛ وذلك لتتقبل نفسه ما يلقى إليه؛
فلا يجد حرجاً في الأخذ بها وتطبيقها بعد ذلك. وأسوتنا في ذلك القرآن الكريم
وأحاديث الرسول r وسيرته، فان بعض أحكام القرآن نزلت متدرجة؛ لئلا يصعب على الناس
الأخذ بها جملة واحدة؛ ذلك أن العرب حين بعثة النبي r كانوا في إباحة من أمرهم: فلو نزلت الأحكام جملة واحدة لشق عليهم
ذلك، ولنفرت نفوسهم من قبولها كما كان الأمر في الأمم الماضية التي أعرضت عن
الاستجابة لما جاء به الأنبياء السابقون. يقول العلامة ابن قيم الجوزية - رحمه
الله-:
(ومن هذا أنهم أمروا بالصلاة أولا ركعتين ركعتين، فلما ألفوها زيد
فيها ركعتين أخريين في الحضر ومن هذا أنهم أمروا أولاً بالصيام وخيروا فيه بين
الصوم عيناً، وبين التخيير بينه وبين الفدية فلما ألفوه أمروا بالصوم عيناً ومن
هذا أنهم أذن لهم بالجهاد أولاً من غير أن يوجبه عليهم، فلما توطنت عليه نفوسهم،
وباشروا حسن عاقبته وثمرته أمروا به فرضاً)([180]).
وما أروع ما روته
السيدة عائشة - (رضي الله عنها) - فقالت:
(إنما نزل أول ما نزل
من سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس الى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو
نزل أول شىء: لا تشـربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبداً ولو نزل لا تزنوا
لقالوا لا ندع الزنا أبداً ...)([181]).
مراتب التدرج في تبليغ الدعوة
نزل القرآن الحكيم
موجها نبيه محمداً r
أن يكون تبليغه للدعوة في خطوات. فلم يكلف الله نبيه r
في أول نزول الوحي أن يبلغ الناس كلهم ما يلقى عليه، بل كان ذلك في مراحل، أولها:
البدء بالأقربين، وآخرها بتبليغ الناس كافة يقول العلامة ابن قيم الجوزية:
(فصل في ترتيب الدعوة
ولها مراتب: المرتبة الأولى: النبوة. الثانية: إنذار عشيرته
الأقربين. الثالثة: إنذار قومه. الرابعة: إنذار قوم ما أتاهم من
نذير من قبله وهم العرب قاطبة. الخامسة: إنذار جميع من بلغته دعوته من الجن
والأنس الى آخر الدهر)([182]).
التدرج
في مقدار البلاغ:
حقائق الدين كثيرة،
وأحكامه متعددة. والداعية الحكيم يتدرج بتبليغ الناس بقدر ما يحتاجون إليه أول
الأمر، مراعياً حال المدعو: هل هو حديث عهد بالإسلام؟ وهل يستطيع أن يتحمل ما يلقى
إليه من البلاغ كله أو بعضه .. ؟! الخ ذلك أن من أقبل على هذا الدين حديثا لابد أن
يجزأ له البلاغ: فيبلغه الداعية بما يكون به الإنسان مسلماً أول الأمر، ثم الأهم
فالمهم، والأيسر فاليسير من أحكام الشريعة. أما الذي ابتعد عن الدين سنوات وسنوات،
فلا يستطيع أن يتحمل التكاليف كلها جملةً واحدةً، فلابد من التدرج معه أيضا. ونجد
الرسول الكريم r
قد اتبع التدرج في مقدار البلاغ، وذلك بوصيته لمعاذ بن جبل حين بعثه الى اليمن،
فقد حدد له بأي شىء يبدأ، وكيف يبلغ؟ فأوصاه بقوله:
(إنك
ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم الى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن
محمداً رسول الله. فان هم أطاعوا لك، فاخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلواتٍ في
كل يوم وليلة. فان هم أطاعوا بذلك، فاخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من
أغنيائهم فترد على فقرائهم. فان هم أطاعوا
لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعـوة
المظلوم؛
فانه ليس بينها وبين الله حجاب)([183]).
ويوضح هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية
فيقول:
(....
فكذلك المجدد لدينه، والمحيي لسنته، لا يبلغ إلاّ ما أمكن علمه والعمل به، كما أن
الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه، ويؤمر بها كلها ...
وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم، والمسترشد، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع
الدين، ويذكر له جميع العلم؛ فانه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في
هذه الحال، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداءاً، بل
يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله الى وقت الإمكان…)([184]).
حكمة
التدرج في التبليغ
من
الطبائع التي جبلت عليها النفوس البشرية: عدم قبولها التكاليف جملة واحدة فهي لا
تقلع عن مألوفاتها وما أعتادت عليه دفعةً واحدةً، وإنما يروض الإنسان على قبول
التكاليف، ويتدرج به شيئاً فشيئاً، حتى يتقبل التكاليف عن قناعة ويذعن لتطبيقها،
من غير أن يكون في صدره ضيق أو حرج منها؛ لذلك كان التدرج في التبليغ والتطبيق
أمراً ضرورياً فلا يستطيع الداعية أن يحكم شرع الله في الناس بين عشية وضحاها؛ ذلك أن عوامل الهدم في هذا
الدين ظلت تعمل مئات السنوات؛ فلابد أن يروضهم على قبولها أولاً، ثم يأمرهم بها
بعد ذلك فهذا عبد الملك بن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز يأتي أباه طالباً منه
أن يقف موقفاً حدياً من أية مخالفة كانت للشريعة الإسلامية؛ فيقول لوالده بعد أن
تسلم الخلافة: (ما يمنعك أن تمضي لما تريده من العدل؟ فوالله ما كنت أبالي لو غلت
بي وبك القدور في ذلك) يريد الشاب التقي الغيور من والده أن يرد المظالم، ويقضي
على الفساد وآثاره دفعة واحدة، وليكن بعد ذلك ما يكون. فيرد عليه الأب الفقيه
قائلا :
(يا بني، إنما أروض
الناس رياضة الصعب إني أريد أن أحيي الأمر من العدل؛ فأؤخر ذلك حتى أخرج معه طمعاً
من طمع الدنيا، فينفروا من هذه ويسكنوا لهذه. يا بني، لا تعجل؛ فان الله ذم الخمر
في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس علـى الحق جملة
فيَدَعُوه جملة، فيكون من ذا فتنة)([185]).
وهكذا الخليفة الراشد
يعالج انحرافات دولته بالتدرج: فهو يريد أن يسقيهم طريق الرشد جرعة جرعة، ويسير بهم
في الطريق الصحيح خطوة خطوة.
ثم
انظر الى هذا الابن الذي يتوقد حماسةً وغيرةً على هذا الدين، يدخل على والده
غاضباً فيقول:
(يا
أمير المؤمنين، ما أنت قائلٌ لربك غداً إذا سألك فقال: رأيت بدعة فلم تمتها، أو
سنة فلم تحيها؟!). فقال أبوه:
(رحمك الله وجزاك من
ولد خيراً! يا بني، إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى أردت
مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا علي فتقا في الدعاء والله
لزوال الدنيا أهون علي من أن يراق في سببي محجمة من دم! أوما ترضى أن لا يأتي علـى
أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة، ويحيي فيه سنة)([186]).
إن الطريقة التي
اتبعها عمر بن عبد العزيز t:
في إماتة كل يوم بدعة وإحياء كل يوم سنة، هي الطريقة المثلى التي تجعل الداعية
ينجح في دعوته.
ونستطيع أن نجد
حِكَماً للتدرج في التشريع والتبليغ، منها:
أ- ان التدرج من أسباب قبول الدعوة فان الله - عز
وجل - لما أنزل القرآن لم ينزله جملة واحدة، بل أنزله في ثلاث وعشرين سنة على وجه
التقريب. فلو أنزله جملةً واحدةً وطالب الناس بكل ما فيه من أحكام، لشق ذلك عليهم،
ولما استجاب اسـتجابة صـحيحة إلا النـادر الأندر، ولكنـه -سبحانه- راعى فطر الناس
فخاطبهم بما يوافقها، وبما ييسر ويسهل على المدعوين الدعوة بعد ذلك. وهكذا اصبح
التدرج علاجاً ناجعاً لإصـلاح النفوس، وتقبل التكاليف، من غير حرج ولا ضجر ولاعنت.
ب-
التدرج مع المدعو يؤدي الى تربيته تربية قوية؛ ليتمكن من حمل الدعوة وتبليغها بعد
ذلك. وهكذا فعل رسول الله r مع صحابته الكرام. وقد أدى ذلك الإعداد وتلك التربية الهادفة الى
تكوين جيل فريد، استطاع في نصف قرن من الزمن أن يفتح نصف الكرة الأرضية ولو لم يكن
ذلك الإعداد والاستعداد والتدرج، لما استطاع المسلمون أن يحققوا ذلك أو شيئاً منه.
يقول العلامة ابن قيم الجوزية - رحمه الله -:
(إن
حكمة هذا التدريج: التربية على قبول الأحكام والإذعان لها والانقياد لها شيئاً
فشيئاً)([187]).
ج-لقد
جبلت نفوس الكثرة الكاثرة من الناس على عدم تحمل التكاليف الكثيرة جملة واحدة؛ فان
نفوسهم لا تطيقها فإذا حصل ذلك، كان النفور والإدبار عن الدعوة. يقول الإمام
القرطبي في تفسير قوله تعالى: ﭽ ﭜ ﭝ
ﭞ ﭟ ﭠ
ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥﭼ ([188])
قال: ﭽ ﭣ ﭤ ﭼ..
أي أنزلناه نجما بعد نجم ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا([189]).
4-
الترغيب والترهيب
كثيراً
ما يتخذ الداعية في دعوته أسلوبي الترغيب والترهيب ونجد في القرآن الكريم والسنة
النبوية من ذلك الكثير، قال الله تعالى:
ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ
ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ
ﮆ ﭼ
سورة البقرة/213.
وقال
Y:
ﭽ ﭛ ﭜ ﭝ
ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭼ سورة الأحزاب/45.
ولكن
بأيهما يبدأ الداعية؟
إن
الداعية إنسان حكيم يدرك أن طبائع الناس مختلفة: فقد ينفع الترغيب مع إنسان ولا
ينفع مع إنسان آخر. وقد تنفع وسيلة الترهيب مع شخص ولا تنفع مع شخص آخر. لكن منهج
الداعية أن يبدأ منهجه بالترغيب قبل الترهيب بصورة عامة. ونقرأ القرآن الكريم،
فنجد هذه السمة واضحة كل الوضوح، قال الله تعالى:
ﭽ ﭛ ﭜ
ﭝ ﭞ ﭟ
ﭠ ﭡ ﭢ
ﭣ ﭤ ﭥ
ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩ ﭪ ﭫ
ﭬ ﭭ ﭮ
ﭯ ﭰ ﭱ
ﭲ ﭼ سورة
الأحزاب/45-47.
ولقد
أنزل الله القرآن بشـرى للمسـلمين، قال
تعالى:
ﭽ ﯰ ﯱ ﯲ
ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ
ﯸ ﯹ ﯺ
ﯻ ﯼ ﯽ ﭼ سورة النحل/102.
وقال
تعالى:
ﭽ ﭛ ﭜ
ﭝ ﭞ ﭟ
ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭼ سورة
مريم/97.
ونجد النبي r
في كثير من أحاديثه يبشر الناس فيقول في
ترغيبه بالصلاة :
(أرأيتم لو أن نهراً
بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مراتٍ هل يبقى من درنه شىء؟ قالوا: لا يبقـى مـن
درنه شـىء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)([190]).
إن
هذا الأسلوب من أساليب الترغيب يحث المسلم على كثرة الطاعات، والمسارعة الى
الخيرات، بل قد يبذل نفسه في الموت؛ حباً في أن ينال تلك المنزلة التي يرغب فيها.
أما أسلوب الترهيب في غير موضعه، فلا يؤثر في نفس المدعو، بل يظل خائفاً يترقب،
ولا يدفعه خوفه هذا – في كثير من الأحيان- الى التقدم في مجال الطاعة والاستجابة
لله والرسول.
وحين ننظر في أسلوبي
الترغيب والترهيب نجد أسلوب الترهيب في الدعوة قد شاع في عصور التخلف والانحطاط
وانهزامية الدعوة أما أسلوب الترغيب، فقد شاع -غالباً- في عصر الصحوة والنهضة:
فيكون أسلوب الترغيب هو الأصل في الدعوة الى الله؛ لأنه الأنفع للنفس الإنسانية؛
لذلك بدأ به رسول الله r
في دعوته، فكان يخاطب الكفار والمشركين والناس
كلهم بقوله: (يا أيها الناس، قولوا لا اله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها
العرب، وتدين لكـم بها العجم، فإذا متـم كنتم ملوكـا في الجنة)([191]).
إنها دعوة واضحة
للتبشير فلم يجابه الرسول الكريم الكفار والمشركين بما كانوا عليه من كفر وشرك،
ولم يقل لهم: إن مصيركم الى النار، بل كان يبشر به الناس ليقبلوا على هذا الدين.
ولم يكتف الرسول الكريم بذلك، بل كان إذا أرسل الدعاة الى الأمصار أوصاهم
بالتبشير: فقد أوصى أبا موسى الأشـعري ومعاذ بن جبل r حين بعثهما الى اليمن
بقوله:
(يسرا ولا تعسرا،
وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا)([192]).
ولقد كان حديث رسول
الله r
لكل داعية من دعاة الإسلام حين قال: (يسروا ولا تعسروا، وسكنوا ولا تنفروا)([193]).
ومن
منهج الداعية: أنه إن آنس من مسلم خيراً شجعه عليه، وإذا ارتكب معصيةً لا يقنطه من
رحمة الله.
ومع ذلك، فنحن لا
نريد أن نهون من مكانة الترهيب؛ إذ المدعو قد تنفع معه هذه الوسيلة ولا تنفع معه
وسيلة الترغيب والداعية إنسان حكيم يضع كل شىء في مكانه المناسب.
5-
متابعة المدعو
يقوم الداعية بمتابعة
المدعو- بعد أن يشرح الله صدره للدعوة - وذلك بتربيته وتعليمه، ثم بإزالة الشبهات
والشوائب التي علقت بذهنه أو استقرت في قلبه عن هذا الدين وهذه المتابعة ضرورية
جداً؛ ذلك أن المدعو إن لم يتابع يرجع الى ضلاله وعند ذاك يكون الداعية قد أخفق في
دعوته لتقصيره هو. وحتى لو لم يرجع الى ضلاله فستعلق بفكره وتربيته شوائب تؤثر في
فكره وسلوكه المستقبلي. وهكذا كان يفعل رسول الله r بمن يدخل حديثا في دين الله. فلما أسلم
(عمير بن وهب) قال الرسول الكريم لأصحابه:
(فقهوا أخاكم في دينه وأقرئوه القرآن)([194]).
ولأهمية تربية وتعليم
من يدخل في الإسلام ومتابعته: أرسل الرسول r مصعب بن عمير t إلى المدينة المنورة؛ ليقوم بتربية وتعليم
من يهديه الله لهذا الدين.
ويدل على أهمية
متابعة المدعو: ما رواه الإمام مسلم أن إبا رفاعة تميم بن أسيد t
دخل مسجد النبي r
والرسول الكريم يخطب قال أبو رفاعة: فقلت يا رسول الله، رجل جاء يسأل عن دينه لا
يدري ما دينه قال: فاقبل عليَّ رسـول r
وجعل يعلمني مما علمه
الله، ثم أتى خطبته
فأتم آخرها([195]).
وهكذا
نجد النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه يتابع المدعو حتى في الأوقات الحرجة،
فينزل عن منبره، ويقطع خطبته، ويُقبِل على رفاعة فيعلمه مما علمه الله، ثم يعود
فيتم خطبته!
إن
هذا منهاج للداعية ينبغي أن يتخذه في دعوته؛ إذ العاطفة –وحدها- لا تكفي لو لم يكن
معها علم صحيح يأخذ بيده في دروب الإعداد؛ ليصير المدعو داعية بعد ذلك.
ولا يكتفي الداعية
بتعليم المدعو وتربيته نظرياً، بل عليه أن يتابعه في تطبيق ما يتعلمه على نفسه ومن
يعول. وهكذا يتعلم العلم والعمل معاً قال أبو عبد الرحمن السلمي:
(حدثنا الذين كانوا
يقرئوننا (القرآن): أنهم كانوا يستقرئون من النبيr وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها
(يتركوها) حتى يعملوا بما فيها من العمل؛ فتعلمنا القرآن والعمل جميعا)([196]).
ومـن
نهج الداعية أن يكون رقيقاً رحيماً فـي متابعته للمدعو، فيظل صابراً على أخطائه،
مقوماً لزلاته، ساتراً لعيوبه غير مشهر بها .. حتى لو وقعت منه أخطاء وأخطاء، فانه
يقومها بأسلوبه الحكيم بمتابعته له ..
ولا
يظننَّ أحد أن أي إنسان كان معصوم عن الزلات والأخطاء اللهم إلا الأنبياء فيما
يبلغونه عن الله عز وجل .. حتى صحابة رسول الله
y
لم يسلموا من الوقوع بأخطاء وزلات. فهذا الصحابي الجليل (حاطب بن أبي بلتعة) وهو
من هو في الفضل والمكانة في الصحابة، ويكفيه فضلاً انه اشترك في غزوة بدر، يقوم
هذا الصحابي بإرسال كتاب إلى قريش، يخبرها بما عزم عليه المسلمون في غزوها وحملت
الكتاب امرأة مسافرة إلى مكة، ويأتي الوحي يخبر النبي r بذلك.
فأرسل
النبي rعلياً
والزبير والمقداد y
فامسكوا بها في (روضة خاخ) -على بعد اثني عشر ميلاً من المدينة- فأنكرت المرأة،
فهددوها أن يفتشوها إن لم تخرج الكتاب؛ فأخرجته وسلمته لهم. ويستدعي النبي الكريم
حاطباً ويسأله: ما هذا يا حاطب؟ فيجيبه يا رسول الله، لا تعجل علي؛ إني كنت امرءاً
ملصقاً بقريش، ولم أكن من انفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم
وأموالهم؛ فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي،
ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام؛ فقال رسول الله r:
إنه صدقكم..([197]).
فإذا
كان هذا الصحابي ممن شهد بدراً وجاهد في الله حق جهاده قد أصيبت نفسه بحالة من حالات
الضعف، فكيف بغيره من الناس؟!
إنه
أسلوب تربوي فريد – ما أحوج الداعية أن يتخذه منهجا له في دعوته- فلا يتملكه الغضب
وتحمر أوداجه لمخالفة خالفها المدعو .. بل عليه أن يتحلى بالصبر على ما يلاقيه منه
ويكون رحيماً به، رفيقاً بحاله، آخذاً بيده في الطريق الذي يعده إعداداً صحيحاً
ليكون داعية يقوم بالمهمة نفسها التي قام بها أنبياء الله ورسله.
6-
التخطيط
لا يقوم الداعية على
تنفيذ عمل من الأعمال أو موقف من المواقف إلا بعد أن يخطط لذلك العمل تخطيطاً
دقيقاً: فيدرسه دراسة جادة من جوانبه كلها؛ ذلك أن الارتجال في الأعمال والمواقف
يؤدي إلى الإخفاق في الغالب فلا يترك الداعية الأمور تجري في اعنتها كيفما اتفق،
بل لابد له أن ينتفع بتجارب الأمس، وان يعرف ما لديه من إمكانات مادية ومعنوية،
ومصادر القوة والضعف فينا وفي خصومنا ولا يعرف ذلك إلا بالدراسة الدقيقة البعيدة
عن العواطف. وأسوة الداعية في ذلك رسول الله r الذي كان يخطط لكل عمل من أعماله، والسيرة النبوية غنية بالأمثلة:
ففي هجرتهr إلى المدينة المنورة، جعل علي بن أبي طالب t ينام على فراشه ويتسجى ببرده الحضرمي الأخضر للتمويه والتعمية على
المشركين الذين اجتمعوا أمام باب داره يريدون قتله. ولمَّا أتى أبا بكر يريد
الهجرة أتاه مقنعاً خشية أن يراه أحد فيعرفه، وأتاه بالهاجرة؛ إذ كان الناس في
قيلولة وقلما يخرج أحد خارج بيته في مكة من شدة الحر وفي الهجرة لم يخرج مع أبي
بكر من الباب الرئيس، بل خرج من فتحة في ظهر البيت؛ لأن بيت أبي بكر قد يكون
مراقباً. وقد بدأ هجرته من غير الطريق الاعتيادي، فاتجه في هجرته نحو الجنوب -وهو
طريق معاكس لطريق المدينة- ليفوت الفرصة على المشركين الذين سيبحثون عنه ولا
يجدونه، وهكذا خرج إلى غار ثور مع أبي بكر.
ومن ذلك التخطيط: أن أبا بكر أمر ولده
عبد الله أن يتسمع ما يقوله الناس فيهما في النهار، ثم يأتيهما بالخبر إذا أمسى.
وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام إذا أمست، وكذلك الإفادة من خبرة
المشركين: فقد استأجر عبد الله بن أريقط -وكان مشركاً- ليدلهما على الطريق...الخ.
إنه تخطيط دقيق قام به النبي الكريم في هجرته.
واقتداءاً به صلوات الله وسلامه عليه في سيرته كلها، فان على الداعية أن يجعل
التخطيط الدقيق من منهجه في كل عمل من أعماله وموقف من مواقفه. وليس صواباً أن
يتعلل بعض الدعاة بالقدر على تقصيرهم وهم المقصرون في عدم التخطيط.
7-
الإفادة من خبرات الآخرين
الإفادة
من خبرات الآخرين أمر مهم لابد أن يضعه الداعية نصب عينيه دائماً وأبداً، وأن يكون
ذلك من منهجه في دعوة الناس الى الإسلام، ويكون ذلك بمخالطة الناس ومعرفة عاداتهم
وتقاليدهم وأخلاقهم وأوضاعهم ومشكلاتهم، ويكون -أيضاً- بدراسة الأفكار والأنظمة
الأخرى، ودراسة حياة الناس الذين أثروا بمجتمعاتهم.
إن
معرفة ذلك يكسب الداعية خبرة، فيكون سبباً من أسباب نجاحه في دعوته، وابتعاده عن
الوقوع بالخطأ الذي وقع به غيره. ولا تقتصر الإفادة من خبرات الناس الآخرين على من
سبقه من الدعاة الى الله، بل تشمل - أيضاً - الاستفادة من تجارب الأفكار الأرضية
والنظم الوضعية، على أن لا يصطدم ذلك بأي حكم من أحكام الإسلام؛ فان المسلم يسير
وفق قواعد الشريعة الإسلامية، ولا يجوز له أن يخالف حكماً من أحكامها.
إن
استفادة الداعية بتجربة من سبقه من عوامل نجاحه؛ إذ تجعله يتجنب تلك الأخطاء التي
وقع بها من سبقه. وبهذا يختصر كثيراً من الطريق، ويتخلص من كثير من المتاعب التي
يلاقيها في دعوته لو لم يستفد من تجارب من سبقه ومن عاصره، وقد قال الشاعر:
علمتني الحزم لكن بعد مؤلمة إن المصائب أثمان التجاريب
ونستطيع أن نقول: إن
أعداء الإسلام في كيدهم لهذا الدين، كان من عوامل نجاحهم: استفادتهم من تجارب من
سبقهم في الكيد والتآمر. أفلا يجدر بالمسـلم أن ينتفع مـن تجـارب الناس الآخـرين، وبخاصـة
تجارب إخوته في الدعوة الى الله؟!
8-
القصد والاعتدال
يتخذ
الداعية الوسط في أمور حياته: فهو يبتعد عن الغلو والتنطع، مقتدياً بحديث رسول
الله r:
(إياكم
والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم بالغلو في الدين)([198]).
وقال:
(ليس
خيركم من ترك دنياه لآخرته، ولاآخرته لدنياه، حتى يصيب منهما جميعاً؛ فان الدنيا
بلاغ الآخرة، ولا تكونوا كلاّ على الناس)([199]).
ولما
جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي r، يسألون عن عبادته صلوات الله وسلامه عليه؛ فلما أخبروا كأنهم
تقالوها. فقالوا: وأين نحن من رسول الله r؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا
فأصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا اعتزل
النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله r فقال:
(أنتم الذين قلتم كذا
وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله واتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد،
وأتزوج النساء: فمن رغب عن سنتي فليس مني )([200]).
فما على الداعية إلا
أن يقتدي برسول الله r
في توجيهه، فيترك التشدد والغلو، ويستمر في عبادته التي يستطيع أن يداوم عليها؛
ذلك أن التشدد والغلو قصير العمر، وقد قال النبي r:
(أيها الناس، عليكم
من الأعمال ما تطيقون؛ فأن الله لا يمل حتى تملوا، وان أحب الأعمال الى الله ما
دووم عليه وإن قل … )([201]).
وهكذا
يكون اعتدال الداعية في أموره كلها من أسباب نجاحه في دعوته؛ إذ يستطيع أن يجمع
الناس كلهم تحت لواء دعوته المباركة.
9- تأليف قلوب الناس بالمال والجاه
كان الرسول الكريم
صلوات الله وسلامه عليه يحرص كل الحرص على هداية الناس، حتى قال له رب العزة:
ﭽ ﭤ ﭥ ﭦ
ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ
ﭬ ﭭ ﭮ
ﭯ ﭼ
سورة الكهف/6.
وكان – عليه الصلاة
والسلام – يسلك أساليب متنوعة بغية انتشالهم من ضلال عقائدهم وفكرهم المنحرف: فقد
كان كالطبيب الذي يشخص الداء، ثم يصف الدواء الشافي بإذن الله. فقد أمره الله أن
يُعطي المال للمؤلفة قلوبهم وهم أصناف: منهم أُناس كفار، ولكن يرجى إيمانهم بتأليف
قلوبهم بالمال مثل (صفوان بن أُمية) الذي أمَّنَهُ النبي r يوم فتح مكة، وأمهله أربعة أشهر لينظر في
أمره، لعله ينضوي تحت لواء الإسلام، وأعطاه إبلاً محملةً فقال: هذا عطاءُ من لا
يخشى الفقر. وظل النبي الكريم يعطيه ويعطيه حتى أسلمَ وحَسُنَ إسلامه.
ومن (المؤلفة قلوبهم)
ناسٌ آخرون دخلوا في دين الله، لكن إسلامهم كان ضعيفاً: فصار الرسول الكريم يعطيهم
من المال، ليظلوا ثابتين على الهداية. فقد أعطى الرسول عطايا وافرةً من غنائم
(هوازن) إلى بعض الطلقاء من أهل مكة، وكان منهم المنافق ومنهم ضعيف الإيمان. وقد
ثبت كثير منهم بعد ذلك على الإسلام. وهكذا جاء التشريع القرآني ليعطي للمؤلفة
قلوبهم نصيباً من الزكاة. ولذلك كان الرسول الكريم r يقول:
(إني لأعطي الرجلَ
وغيرُهُ أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار)([202]).
وإذا كان عدد ليس
بالقليل من أشراف مكة قد امتلأت قلوبهم حقداً على هذا الدين، فقد كان –عليه
السلام– يتألفهم بالعطاء لينزع الحقد من قلوبهم، ولعل ذلك –أيضاً– يكون سبباً في
إعادة نظرهم في الإسلام.
ولم يكن النبي r
يتألف قلوب الناس بالمال وحده، بل كان يتألفهم بالجاه –أيضاً– فقد قال للأنصار لما
آثر غيرهم عليهم بالعطاء:
(أما ترضون أن يذهب
الناس بالأموال، وترجعوا إلى رحالكم برسول الله r؟ فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به)
(قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا…)([203]).
ويقول صلوات الله
وسلامه عليه:
(لو سلك الناس وادياً
أو شعباً، وسلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار)([204]).
إن هذه العبارة
النبوية لتأخذ بالقلوب، وتنعش الأرواح، وتصعد بالنفوس البشرية، وتقتل الفتنة في
مهدها. إنها دليل واضح على سعة صدره وحسن تصرفه صلوات الله وسلامه عليه. وبهذا
جَمَعَ النبي الكريم الأمة على أمر لم تجتمع على مثله من قبل.
10- التعميم في التوجيه والنقد غير
المباشر
أساليب الرسول r
في التربية كثيرة، ومنها تعميمه في التوجيه والنقد غير المباشر، فكان إذا سمع
قولاً أو رأى عملاً لا يعجبه، لا يذكر اسمَ من قام بذلك، بل يُعمِّمُ في توجيهه
ونقده. وهذا أُسلوب من أساليب التربية، ويتضمن فوائد كثيرة منها:
أ-
أن النقد المباشر قد
يكون ثقيلاً على بعض النفوس، فيصاب من تُوجَّه له النصيحة المباشرة بالخجل.
ب- أراد
الرسول r
أن يكون دافعُ المسلم إلى العمل خالياً من أيِّ ضغط خارجي كان: كالحياء والمجاملة.
ج- التوجيه
المباشر على الفور يكونُ المسـلم ملزماً به، ويأثمُ بامتناعه أو تأخيره، أما
التوجيهُ غيرُ المباشر، فإن تنفيذه يكون على التراخي في بعض الأحيان.
د- معالجة
المخطئ بالتعميم في التوجيه يحفظُ للمسلم شخصيته عند أصحابه، فلا يقلُّ شأنه
بينهم.
ه- يؤدي
هذا الأسلوب في التوجيه إلى تصحيح خطأ المخطئ، وتصحيح أخطاء قد تكون موجودة في ناس
آخرين، ومنع مَن تسوِّلُ لهم أنفسهم أن يقعوا بما وَقَعَ به غيرهم من خطأ. فعندما
يقول النبي الكريم: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا)، فإن هذا يجعل الناس يتهيبون
من ذلك القول ويحجمون عنه.
و- يؤدي
هذا اللون في التوجيه إلى زيادة المحبة بين الموجِّه ومَن تُوَجَّهُ له النصيحة.
لذلك نجد الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه إذا رأى خطأ أو تقصيراً من واحدٍ
من المسلمين، وأراد تأديبه أو زجره عن مقالةٍ قالها أو فعلة فعلها، لا يذكر اسمه
على رؤوس الأشهاد، بل كان يتحدث حديثاً عاماً ما دام ذلك الحديث فيه الكفاية. فلما
فقد الرسول r
بعضاً من الناس من الصلاة في المسجد قال:
(والذي
نفسي بيده، لقد هَمَمتُ أن آمُرَ بحطب فيحطب، ثم آمرَ بالصلاة فيؤذنَ لها، ثم آمر
رجلاً فيؤمَّ الناس، ثم أُخالفَ إلى رجال (يتخلفون عنها) فأحرقَ عليهم بيوتهم)([205]).
لقد كان النبي الكريم
r
حريصاً كل الحرص على أن يصلي المسلمُ الصلوات الخمس في أوقاتها في المسجد جماعة.
ولما عَلِمَ أنَّ أناساً يتخلفون عنها تحدَّثَ حديثاً عاماً: فكان ذلك سبباً في أن
يصلي هؤلاء الصلوات كلها في المسجد، ذلك أن التصريح بأسماء المقصرين يترك آثاراً
مؤلمة في نفوسهم، والرسول الكريم لا يريد أن يؤذي أحداً بكلام.
ولما رأى الرسول r
قوماً يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة قال:
(ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم) فاشتد قوله في ذلك حتى قال :
( لينتهن عن ذلك أو
لَتُخطَفَنَّ أبصارهم)([206]).
وقالت عائشة – رضي
الله عنها -:
(صَنَعَ النبي r شيئاً فرخَّصَ فيه، فتنزَّهَ عنه قوم. فبلغ
ذلك النبي r،
فخطب فحمد الله ثم قال: (ما بال أقوام ينزهون عن الشيء أصنعه، فو الله إني لأعلمهم
بالله وأشدهم له خشيةً)([207]).
ومن توجيهاته r:
ذكره لما وقعت به الأمم الماضية من معاصٍ أوجبت غضب الله. ويريد الرسول الكريم من
ذلك أن يُحَذرَ أصحابه وأمته من فعل مثلها، فقد قال صلوات ربي وسلامه عليه:
(لعن الله اليهودَ
والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)([208]).
وقال:
(رحم الله رجلاً
سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى)([209]).
وقال:
(إنَّ أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)([210]).
11- الوقاية
ما أكثر الأساليب
التي اتبعها رسول الله r
للوقاية من المصائب خشية أن تقع، وذلك ليحصن الفرد والأمة من الوقوع بما يجرُّ
عليها الشرَّ والأذى. وقد دعا الرسول r
في توجيهاته ونصائحه إلى توقي الأخطار المتوقعة لئلا تقع. ولو أخَذَ المسلمون بتلك
التوجيهات، لما آلَ حالُ المسلمين إلى ما آل إليه من الضعف والذلة، ولما استطاع
الأعداء أن ينالوا منا ما يريدون. يقول الرسول r:
(يوشك
الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلةُ إلى قصعتها ) فقال قائل: ومن قلةٍ نحن
يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور
عدوكم المهابة منكم، وَليَقذِفَنَّ الله في قلوبكم الوهن) فقال قائل: يا رسول
الله، وما الوهن؟ قال: (حبُّ الدنيا وكراهية الموت)([211]).
ففي
هذا الحديث الشريف نبَّه صلوات الله وسلامه عليه إلى أعراض الضعف الذي يجب على
المسلمين أن يتوقوا منه خشية أن يصيبهم فتذهب ريحهم وقوتهم، ولم يبق لهم كرامة ولا
عزة؟
ومن
تحذيراته r لأخذ الوقاية قوله:
(تكونُ
فتنةٌ النائمُ فيها خيرٌ من اليقظان، واليقظانُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ
فيها خيرٌ من الساعي: فمن وَجَدَ ملجأً أو معاذاً فليستعذ).
وفي رواية:
(إنها ستكون فتن، ألا
ثم تكون فتنة، القاعدُ فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خيرٌ من الساعي
إليها، ألا فإذا نزلت أو وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم
فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه) قال: فقال : رجل يا رسول الله، مَن
لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: (يَعمَدُ إلى سيفه فيدق على حدِّه بحجر، ثم
لينجُ إن استطاع النجاء. اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟) قال: فقال
رجل يا رسول الله، أرأيتَ إن أُكرهتُ حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى
الفئتين، فضربني رجل بسيفه، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: (يبوء بإثمه وإثمك ويكون من
أصحاب النار)([212]).
ولقد كان لهذه
التحذيرات وأمثالها وقع كبير في نفوس الصحابة: فلم يشتركوا في الفتن التي وقعت بعد
مقتل سيدنا (عثمان بن عفان) رضي الله عنه. وعدد هؤلاء الصحابة كثير، منهم سعد بن
أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة… وغيرهم رضي الله عنهم
أجمعين.
ومن الوقاية هذه:
مَنْعُ الرسول r
الخلوة
بالنساء، وأن تسافر المرأةُ وحدها، وذلك خشية وقوع الرذيلة فقال r:
(لا يَخلُوَنَّ رجل
بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأةُ إلاَّ مع ذي محرم)([213]).
وفي رواية لمسلم:
(إياكم والدخول على
النساء). فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيتَ الحمو! قال: (الحمو الموت)([214]).
ومن
الوقاية التي اتبعها الرسول r:
الأمر باجتناب سوء الظن بالمسلمين، وأن لا يعطي المسلم الفرصة للشيطان ليبث وساوسه
الخبيثة: فقد روى الأمام البخاري أنَّ صفية زوج النبي r
جاءتْ إلى رسول الله r
تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان. فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت
تنقلب، فقام النبي r
معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أُم سلمة، مرَّ رجلان من الأنصار،
فسلما على رسول الله r،
فقال لهما النبي r:
على رسلِكما، إنما هي صفيةُ بنتُ حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله وكَبُرَ
عليهما! فقال النبي r:
(إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم، وإني خَشِيتُ أن يَقذِفَ في قلوبكما
شيئاً) وفي رواية مسلم (شراً)([215]).
12- البديل عن المنهي عنه
بُعثَ النبيr
في مجتمع جاهلي، فسدت عقائده وانحرفت أخلاقه، فكانوا يقضون أعيادهـم ومواسمهم
بالإجتماع على موائد الخمر، وسماع الشعر الضال. والرسول r كان إذا نهى عن شيء أوجَدَ البديل لما نهى
عنه. فسدَّ الرسول الكريم فراغهم هذا بأن جَمَعَهم على الصلاة في المسجد يؤدونها
في أوقاتها جماعة، ويَتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، ويقومون بزيارة الناس.
وكمثال على ذلك: أن النبي r
لمّا نهى عن الزنا أوجَدَ البديل للشاب غير المتزوج: وهو غضُّ البصر والصوم، أما
إذا كان متزوجاً فدعاه إلى إتيان أهله فقال r:
(يا معشر الشباب من
استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغضُّ للبصر وأحصنُ للفرج، ومَن لم يستطع فعليه
بالصوم، فإنه له وجاء)([216]).
ودعا r
من رأى امرأة فأعجبته أن يأتي أهله، لأنَّ ذلك يردُّ ما في نفسه فقال:
(إن المرأة تُقبِلُ
في صورة شيطان، وتُدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدُكُم امرأةً فليأت أهله، فأنَّ
ذلك يردُّ ما في نفسه)([217]).
أما مشكلة الفقر،
فكان يعالجها بإيجاد العمل لمن يقدر عليه. ومن أحاديثه r قوله:
(لأن يحتطبَ أحدُكُم
على ظهره خيرٌ له من أن يسألَ أحداً فيعطيه أو يمنعه)([218]).
وأما الحب والعشق،
فكان يعالجه بالزواج، فقال r:
(لم يُرَ للمتحابين
مثلُ النكاح)([219]).
13- مخاطبة الناس
على قدر عقولهم
الداعية
الموفق في دعوته: من يخاطب الناس على قدر عقولهم، مقدرا أعمار المدعوين ودراساتهم
وثقافاتهم.. فإن لم يكن كذلك اخفق في دعوته، ولم ينتفع المدعو من تلك الدعوة، بل
قد يكون كلام الداعية ذاك فتنة يصد الناس عن طريق الهداية، لذلك قال رسول اللهr:
(أمرنا
-معاشر الأنبياء- أن نحدث الناس على قدر عقولهم)([220]).
وروى
الإمام البخاري عن علي بن أبي طالب t:
(حدثوا
الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله)([221]).
وقال
ابن مسعودt:
(ما
أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)([222]).
وروى
الحاكم في تاريخه عن النضر بن شميل قال:
سئل
الخليل عن مسألة فأبطأ بالجواب فيها. قال: فقلت: ما في هذه المسألة كل هذا النظر.
قال: (فرغت من المسألة وجوابها، ولكني أريد أن أجيبك جوابا يكون أسرع الى فهمك)([223]).
وقال
عبد الرحمن بن الجوزي:
(ولا
ينبغي أن يُملي ما لا يحتمله عقول العوام)([224]).
وهذا
الإمام الشافعي كان قد درس على محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة.
وكان الشافعي ذا رأي سديد وفكر رشيد، وفطنة قلّ مثيلها.. ولا عجب فهو واحد من
الأئمة الأربعة..ومع ذلك، فقد كان معجبا كل الإعجاب بعلم محمد بن الحسن الجم،
وأسلوبه الفذ، فكان مما قاله:
(لو
أنّ محمد بن الحسن كان يكلمنا على قدر عقله ما فهمنا عنه، لكنّه كان يُكلّمنا على
قدر عقولنا فنفهمه)([225]).
فسبحان
من قسم بين الناس عقولهم كما قسم أرزاقهم..
إنّ
هذا ليدلنا على فهم السلف السديد: فقد كانوا فقهاء حكماء، يخاطبون النّاس على قدر
ما تحتمله عقولهم. وننظر في عصرنا هذا، فنجد كم من أناس ظلّوا السبيل وتمادوا في
غيّهم، ولم ينتفعوا بما كان يحمله الداعية من علم وهداية حين أخفق في دعوتهم،
وتحدّث معهم حديثا لا تحتمله عقولهم..
إنّ
الداعية يخفق في دعوته –كل الإخفاق- إذا تحدّث مع أُناس أميين لا يقرؤون ولا
يكتبون في الذرّة وأسرارها، والكواكب وأبراجها، أو حدثهم عن الفلسفات العالمية
ونقضها أو المذاهب الاجتماعية الحاضرة، وتناقضها مع بعضها..كما يكون مخفقا في
دعوته –أيضا- إذا تحدّث عن سؤال الملكين في القبر، والجنة والنّار، وكرامات
الأولياء مع أُناس ملاحدة لا يؤمنون إلا بما قد يقع في حواسهم..
على
أنّ الداعية –أيضا- ينبغي عليه ألا يخاطب النّاس –كلهم- بأسلوب واحد، بل عليه أن
يلاحظ مستواهم الفكري والثقافي وقابلياتهم على تلقّي الحديث واستيعابه: فلا يتحدّث
مع العالم كما يتحدّث مع الجاهل، ولا يتحدّث مع الأمي كما يتحدّث مع المتعلم، ولا
يتحدّث مع الحضري كما يتحدّث مع الريفي. وبهذا يستطيع الداعية أن يملك قلوب الناس
ويؤثر فيهم..وإلا رجع بخُفي حنين، ورضي من الغنيمة بالإياب كما يقول المثل العربي
القديم..
14-
مداراة الناس:
يراد
بالمداراة التلطف بالناس، وخفض الجناح لهم، والبشاشة عند لقائهم من غير تحسين
لباطل، أو إقرار على منكر. وقد جاء اللفظ من داريته: أي لاطفته ولاينته (وهي وجه
من وجوه التأليف، إذ هي مراعاة لمكانة الفرد أو بعض جوانب شخصيته، حتى لا تتاح
الفرصة لنوازع النفس، أو وساوس الشيطان، أو المغرضين لاستثمار موقف معين استثمارا
سلبيا يؤثر في الدعوة بشكل عام، وفي الشخص نفسه بشكل خاص)([226]).
وتختلف
المداراة عن المداهنة، إذ المداهنة هي المجاملة المحرّمة والمديح الكاذب من
الدهان: وهو الذي يظهر شيئا ويبطن غيره.
وتحدثنا
السيرة النبوية أنّ الرسولr
هادن مشركي المدينة، وتفادى الصدام معهم طمعا في إسلامهم، ومراعاة لمن آمن به من
أهلهم وعشائرهم، وكانu
يتآلف كبار المشركين في القول ويظهر لهم احتراما كثيرا تأليفا لقلوبهم أو اتقاءاً
لشرهم. روت السيدة عائشة: أنّ رجلا استأذن على النبيr فقال (ائذنوا له فبئس ابن العشيرة –أو بئس أخو
العشيرة- فلمّا دخل ألان له الكلام)، فقلت له: يا رسول الله، قلت ما قلت، ثم ألنت
له في القول؟ فقال: (أي عائشة إنّ شر الناس منزلة عند الله من تركه –أو ودعه-
الناس اتقاء فحشه)([227]).
وعن
أبي الدرداء: ( إنّا لنكشر –نبتسم- في وجوه قوم وإنّ قلوبنا لتلعنهم)([228]).
وتحدثنا
السيرة النبوية –أيضا- أنّ النبيr
اهتم بيهود المدينة بعد هجرته، فميزهم في المعاملة عن المشركين، وتلطّف بهم، وأحسن
إليهم طمعا في إسلامهم: فقد كان يذهب إليهم في أسواقهم يدعوهم إلى الله ويذكرهم.
لكنّ هذه الوسائل في استمالة اليهود لم تجد معهم نفعا. ولم يكتف هؤلاء بعدم
إيمانهم بما جاء به الرسولr،
بل ناصبوا المسلمين العداء، وحاولوا تشكيك المسلمين بدينهم، بل حاولوا –فوق ذلك-
قتل رسول اللهr،
مرّات عديدة، وألبوا المشركين على الرسول الكريم ومن آمن معه..ولمّا أخفقت الجهود
كلها في استمالتهم، وصارت تلك الأساليب لا تزيدهم إلا تكبرا وعتوا وتماديا في
الباطل –عند ذاك ترك الرسول الكريم مداراتهم، بل دعا إلى مخالفة أهل الكتاب في
أحكام كثيرة زادت على ثلاثين حكما.
أمّا
المنافقون، فقد اتبع الرسولr
طرقا كثيرة في مداراتهم: من الصفح عنهم، والتجاوز عن هفواتهم، مع علمه بكيدهم وتآمرهم.
وهكذا
نجد الرسولr
يداري المشركين واليهود والمنافقين طمعا بإسلامهم أو اتقاءاً لشرّهم: فقد كان كثير
من هؤلاء يقفون (حجر عثرة) أمام دعوة الله يصدّون الناس عنها: فلابد من مجاملتهم
المجاملة المشروعة في حدود ما أباحه الشرع الحنيف لدفع أذاهم.
وإذا
كانu
قد وصل إلى ما وصل إليه من مداراته المشركين والمنافقين واليهود، فإنّه قد ضرب
المثل الأعلى في مداراته للمسلمين، ليتمكن الإيمان في قلوبهم. وكمثال على ذلك ما
قاله الرسول الكريم للسيدة عائشة:
(لولا
حداثة قومك بالكفر لنقضت البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيمu)([229]).
وفي
رواية:
(لولا
أنّ قومك حديث عهدهم بالجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت، وأن
ألصق بابه في الأرض)([230]).
ومن
المداراة: استعمال الرسولr
لعتّاب بن أُسيد على أهل مكة -وهو من الطلقاء- استمالة لقريش وترضية لهم([231])،
وإقرار ملوك حمير على ملكهم. وإقراره (باذان) على ملك اليمن، ولمّا مات أمّر ابنه([232]).
وإذا كانت مداراة
الناس أمرا محببا، فإنّ مجاراتهم في الباطل مما نهى عنه شرعنا الشريف. روى الإمام
البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ ناسا قالوا له: إنّا ندخل على سلاطيننا
فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم. قال ابن عمر: كنّا نعد هذا نفاقا
على عهد رسول اللهr.
إنّ الداعية إنسان
حكيم يلتزم الاعتدال في كل أمر من أمور حياته: فلا يغالي في مدحه وثنائه، ولا
يجامل أي إنسان على حساب دينه. إنّه إن استقام على ذلك، فقد أرضى ربّه، ورضي عنه
الناس فأحبوه، واستطاع أن يبوّأ مكانة طيبة في قلوبهم، وإلا بدت عليه أمارات
التناقض والازدواجية في حياته، وأصبح مثلا سيئا لمن يحمل دعوة ويدعو إليها.
15- الخلافات الفقهية والجدل المذموم
هناك أمور كثيرة
اضعفت المجتمع وأوهنته ومزقته شر ممزق ومنها:
تخاصم الناس
واختلافهم وجدالهم العقيم في قضايا فقهية. ووصل الأمر ببعضهم أن فاصل أخاه من
أجلها.
ونحن حين ننظر في
أحكام الإسلام، نرى أنّها: إمّا أن تكون أصلية أو فرعية: أمّا الأحكام الأصلية
فمتفق عليها، وأمّا الأحكام الفرعية فمختلف فيها. وهذا الاختلاف الفقهي لا يعد
منكرا يجب محاربته، ذلك أنّ كل واحد من الفقهاء المتبوعين بذل جهده في استنباط
الأحكام في كتاب الله وسنة رسولهr ليصل إلى الحكم الصحيح، يقول الإمام النووي:
(إنّ المختلف فيه لا
إنكار فيه، لكنّ ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب
إلى فعله برفق)([233]).
ويقول
ملا علي القارئ:
(لا
إنكار في المختلف فيه، بناء على أنّ كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد إلا أنّ المخطئ
غير متعيّن لنا، مع أنّ الإثم موضوع عنه وعمّن تبعه)([234]).
ويضيف
قائلا:
(ليس
للمجتهد –على الأصح- أن يحمل النّاس على مذهبه سواء كان مجتهدا أو مقلدا فلم يزل
الخلاف بين الصحابة والتابعين)([235]).
ويقول
يحيى بن سعيد:
(أهل
العلم أهل توسعة، وما برح المفتون يختلفون: فيحلل هذا ويحرّم هذا، فلا يعيب هذا
على هذا)([236]).
ويقول
عمر بن عبد العزيز:
(ما
أحب أنّ أصحاب محمد لم يختلفوا، لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق)([237]).
ويقول
الإمام الغزالي في شروط تغيير المنكر:
(أن
يكون المنكر منكرا بغير اجتهاد. فكل ما هو محل اجتهاد فلا حسبة فيه)([238]).
وهذه
كتابات الإمام ابن تيمية في كتبه كلها، وهذه كتابات تلميذه ابن قيّم الجوزية وابن
كثير، وغير هؤلاء ممن تحرروا من ذلك التعصّب المقيت: نجد الواحد منهم يعرض آراء
الفقهاء في المسألة الواحدة، ودليل كل فقيه منهم، ثمّ يرجح ما يراه راجحا حسب ما
وصل إليه فقهه واجتهاده..يعرض كل ذلك بأدب جم، وخلق رفيع، من غير أن يطعن أحدهم
بإمام أو فقيه.
ويُنكر
الإمام ابن تيمية على من يختلف مع أخيه: فيوالي من وافقه ويعادي من خالفه فيقول:
(أمّا
من بلغ به الحال إلى الإختلاف والتفرّق إلى درجة أن يوالي من وافقه ويعادي من
خالفه، بل ربما يقابله على مثل هذا ونحوه مما جوّزه الله سبحانه كما يفعل بعض أهل
بلاد الشرق: فهؤلاء من [الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا].
فالواجب
عدم السير وراء متعصبي المذاهب، لأنّ منهم من عمدته العمل الذي وجده في بلده، فجعل
ذلك هو السنة دون ما خالفه مهما صح دليله، مع العلم بأنّ النبيr
قد وسّع في ذلك فكل سنّة).
(ويجب
أن يعلم هؤلاء المتعصبون أن الصحابة تفرّقوا في الأقطار، فكلٌ روى ما شاهد وقد
يكون بعضهم شاهد شيئا، وشاهد غيرُه غير ما شاهده، فالعمدة على صحة الروايات فإذا
صحّت بصفات متعددة، كان ذلك دليلا على أنّ الأمر واسع والكل سنّة متبعة)([239]).
هذا
هو رأي الجهابذة من العلماء في القضايا الفرعية المختلف فيها، فأين هذا الفهم
الدقيق من الإخوة الذين يفاصلون إخوة لهم في الله، لمجرّد اختلافهم معهم في بعض
القضايا الفقهية المختلف فيها: كالأذانين يوم الجمعة، والقنوت في الصلاة، أو إسبال
الثوب، وتحريك الأصبع، ولفظ السيادة للرسولr في التشهد وفي قراءة القرآن: هل يصل ثوابه
إلى الميت أم لا؟
إنّ
الاختلاف الفقهي أمر اعتيادي وقع بين الصحابة بعضهم مع بعض، وكذلك مع التابعين
وتابعيهم، ولا يزال الاختلاف قائما إلى يوم النّاس هذا، وذلك لاختلاف أفهام
الفقهاء، وتنوّع البيئة، وأنّ الحديث قد يصل إلى بعضهم ولم يصل إلى البعض الآخر.
وهذا الاختلاف في الفهم عامل مهم من عوامل مرونة الشريعة الإسلامية وصلاحها للتطبيق
في كل زمان ومكان فليس الاختلاف الفقهي عيباً، ولكنّ العيب –كل العيب- أن يتعصّب
المسلم لرأي من هذه الآراء، ويُنكر على أصحاب الآراء الأخرى ما ذهبوا إليه.
ألا
ليت شبابنا يفقه هذه الحقيقة، ويكون شعاره: (نتعاون فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا
بعضا فيما اختلفنا فيه). وإذا ما ابتلي الداعية بأناس همّهم إثارة القضايا
الخلافية في الفروع الفقهية، فعليه أن يتخلّص من ذلك بأسلوب حكيم ومخرج حسن: بأن
يدعو النّاس إلى الحب والوحدة ونبذ الفرقة والخلاف، وأن يوجههم إلى أن يتعلّموا
أصول الإسلام وقواعده، ويجادلهم بالتي هي أحسن، إن غلب على ظنّه أنّ في هذا الجدل
خيرا، وأنّ المجادل يبحث عن الحق ولا يكون ذلك إلا بالاسلوب الحكيم المتسم بالأدب
الرفيع، والحجة البالغة، والبرهان الساطع، والدليل القاطع، بعيدا عن الفظاظة
والغلظة وحب الانتصار للرأي.... فإن أصر المجادل على عناده، فليقطع الداعية معه
النقاش، لكيلا يحدث بينهما خصومة أو شجار، ولكيلا يضيّع الداعية وقته وجهده سدى!
فليكن
الداعية على بينة من أمره، فيتجنّب الخوض في القضايا الخلافية التي توغر الصدور
وتقسي القلوب، ويكون ضرها أكثر من نفعها.
16-
النظر في عواقب الأمور
والداعية
لا يقدم على عمل من الأعمال إلا بعد دراسته دراسة جيدة، مقدرا نتائجه من حيث
الفوائد والمفاسد. وفي السيرة النبوية نجد الرسولr منع المسلمين من الرد على أذى المشركين بما
يماثله، وأمرهم بالصبر الجميل وتحمّل أذاهم ونزلت آيات القرآن في ذلك. مع أنّ من
الصحابة من بلغ القمة في النخوة والشهامة والإباء وعدم الصبر على الضيم: كعمر بن
الخطابt،
وحمزة بن عبد المطلب، وسعد بن أبي وقاص..ذلك أنّ المواجهة مع قريش –آنذاك- ليست في
مصلحة المسلمين. فلو رد المسلمون على المشركين بما يماثله، لاستطاعت قريش –إذ ذاك-
أن تجمع قواها، وتؤلب الناس لاستئصال العصبة المؤمنة..بل لو حصل ذلك، لترك بنو
هاشم نصرة رسول اللهr،
ولتمكن المشركون من استئصال المسلمين آنذاك.. وفوق ذلك، فإنّ المواجهة مع المشركين
في بدء الدعوة الإسلامية لو حصلت، لتشكّلت حوادث كثيرة تصد الناس عن الدخول في هذا
الدين، ذلك أنّ جهود النّاس ستنصرف إلى الأخذ بالثأر، وما يترتب على ذلك من حقد
وضغائن! لقد كان الرسولr
يولي النظر في عواقب الأمور اهتمام. فلمّا أرادu أن يثأر للصحابة الذين قتلوا في حادثة (بئر
معونة) خرج في أربعمائة مقاتل، ولقي جمعا عظيما منهم، وتقرّب الفريقان، حتى صلى
بهمr
صلاة الخوف، لكنّهu
عاد بالصحابة ولم يصطدم بهم، مع أنّه كان يريد الثأر منهم، لأنّه نظر إلى نتائج
تلك المعركة وآثارها، إذ لم تكن في مصلحة المسلمين..
ومن
النظر في عواقب الأمور صبرهu
على عبد الله بن أُبي وغيره من المنافقين الذين آذوا المسلمين أذى شديدا. فلم يقم
بالانتقام منهم. ولو فعل ذلك لحدثت فتنة كبيرة في المدينة، يتحمّل مأساتها
المسلمون أكثر مما يتحمّل غيرهم، وذلك ليس في مصلحة دعوة الإسلام.
ومن
النظر في عواقب الأمور: قوله u
لعائشة:
(ألم
تري أنّ قومك لمّا بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم؟ فقلت: يا رسول الله ألا
تردها على قواعد إبراهيم، قال: "لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت")([240]).
فلم
يُقدم رسول اللهr
على هدم الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم لأنّ النّاس سيفتنون، إذ هم حديثو عهد
بالكفر، ويرون هدم الكعبة وتغييرها أمرا عظيما يؤدي إلى أضرار كثيرة بدعوة
الإسلام، فتركها الرسولr
على ما هي عليه.
ومن
ذلك –أيضا- سماح الرسولr
للمسلمين أن ينطقوا بكلمة الكفر إذا كانت حياتهم مهددة بالموت، أو كانوا تحت وطأة
التعذيب الشديد، على أن يكون قلب قائلها مطمئنا بالإيمان، كما حدث لعمار بن ياسر
الذي لم يكف المشركون عن تعذيبه حتى نطق بتلك الكلمة التي نال فيها من رسول اللهr.
ولم يغضب عليه الرسول الكريم، بل أذن له بذلك ودعاه إلى العودة إلى القول إن
عادوا..
17-
الحذر
الداعية
كيّس فطن، يأخذ بالأسباب خشية أن يقع فيما يكره، أو لتقليل أضرار ما يقع إن كان
لابد أن يقع. والذي يدل على وجوب أخذ الحذر آيات كريمات، منها قوله تعالى:
ﭽ
ﮖ ﮗ
ﮘ ﮙ ﮚ
ﮛ ﮜ ﮝ
ﮞ ﮟ ﭼ سورة النساء/ ٧١
وقوله
تعالى:
ﭽ
ﭑ ﭒ
ﭓ ﭔ ﭕ
ﭖ ﭗ ﭘ
ﭙ ﭚ ﭛ
ﭜ ﭝ ﭞ
ﭟ ﭠ ﭡ
ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ
ﭨ ﭩ ﭪ
ﭫﭬ ﭭ ﭮ
ﭯ ﭰ ﭱ
ﭲ ﭳ ﭴ
ﭵ ﭶ ﭷ
ﭸﭹ ﭺ ﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ
ﭿ ﮀ ﮁ
ﮂ ﮃ ﮄ
ﮅ ﮆ ﮇ
ﮈﮉ ﮊ ﮋﮌ
ﮍ ﮎ ﮏ
ﮐ ﮑ ﮒ ﭼ سورة النساء/
١٠٢
وهذا
الخطاب الإلهي وُجه إلى الرسول الكريمr،
وفيه تبيان لكيفية الصلاة والمسلمون في مواجهة العدو للقتال.. وعند التأمّل في
الآية نرى أنّ الله تعالى جعل الحذر أداة من أدوات الحرب، يستعملها المسلم في
القتال. وهذه هي علة جمع (الحذر) بينه وبين الأسلحة في الأخذ. وإذا كان الله تعالى
قد رخّص للمسلمين بوضع السلاح في حالة المطر وحالة المرض فقد أمرهم مرّة أخرى أن
يكونوا في يقظة، مبالغة في الحذر لئلا يطمع فيهم العدو فيميل عليهم ميلة واحدة.
وحين
نولي وجوهنا شطر السنة النبوية، نرى أنّ الرسول الكريمr كان يأخذ بالحذر في حياته كلها. ويتجلى شيء
من ذلك بهجرته الشريفة: فقد بذلu
كل ما في وسعه لتتم عملية الهجرة بنجاح، ويفوّت الفرصة على المشركين في سجنه أو
اغتياله أو صدّه عن الهجرة. ونجد الرسول الكريم قد خطط لهجرته تخطيطا دقيقا،
تُحدثنا كتب السيرة عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت:
(أتانا
رسول اللهr
بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها. فلمّا رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول اللهr
هذه الساعة إلا لأمر حدث. فلمّا دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول اللهr
وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول اللهr:
أخرج من عندك. فقال: يا رسول الله، إنّما هما ابنتاي وما ذاك فداك أبي وأمّي؟
فقال: إنّ الله قد أذن لي في الخروج والهجرة..)([241]).
ولقد
كان صلوات الله وسلامه عليه حذرا في هجرته، فخرج مع أبي بكر من باب صغير في ظهر
بيت أبي بكر، ومضيا إلى غار بجبل ثور وقد أصابهما ما أصابهما من الجهد والتعب في
صعودهما الغار، حتى قطرت قدما رسول اللهr دما. وهذا الخبر فيه ما فيه من أخذ الحذر،
ومنه:
1-
مجيء الرسولr إلى أبي بكر في وقت الظهيرة الذي ينقطع فيه سير النّاس أو يقل
لشدة الحرارة، ليفوّت الفرصة على جواسيس قريش الذين كانوا يراقبونه بكرة وعشيا.
2-
جاء الرسول
الكريم إلى أبي بكر مقنّعا خشية أن يراه أحد فيعرفه، وذلك زيادة في أخذ الحيطة.
3-
طلب الرسول
الكريم من أبي بكر أن يخرج من عنده، خشية أن يطّلع المشركون على ما عزم عليه.
فلمّا أعلمه أبو بكر أنّهما ابنتاه لم ير بأسا ببقائهما.
4-
لم يخرجا من
الباب الرئيس، بل خرجا من باب في ظهر دار أبي بكر، وذلك زيادة في التخفي وتمويها
على من يرصده.
5-
إتجه الرسولu في هجرته نحو الجنوب -وهو طويل معاكس لطريق المدينة-، ليفوّت
الفرصة على المشركين الذين سيبذلون جهدهم في البحث عنه في طريق الشمال.
6-
إختفاء الرسول في
غار في جبل ثور الذي عُرف بصعوبة السير فيه وارتفاعه وبعده عن الطريق الذي يسلكه
المسافرون تمويها على المشركين.
7-
أمر عليه الصلاة
والسلام علي بن أبي طالب أن ينام في فراشه ويتغطى ببرده لمّا حاصر فتيان قريش بيته
وأرادوا قتله. وفي ذلك إيهام له أنّه لا يزال في بيته.
ومن أخذ الرسولr الحذر: تكتمه عن نجاته يوم أحد، بعد أن أشيع في قريش أن رسول اللهr قتل: فقد تقدم أبو سفيان –ولم يكن قد أسلم بعد- نحو المسلمين
وخاطبهم قائلا: أفي القوم محمد؟ فقالu: لا تجيبوه، وما ذلك إلا لأخذ الحيطة والحذر، لئلا تستأنف قريش
هجومها مرّة أخرى، محاولة قتل رسول اللهr.
ومن ذلك –أيضا- حراسة الصحابة للرسول الكريم كما حدث في غزوة بدر، وقد قام
بحراسته أبو بكر الصديق وسعد بن معاذ([242]).
لقد فعل الرسول الكريم ذلك وهو رسول من رب العالمين أيده الله بالوحي. ولقد
فقه المسلمون أهمية أخذ الحذر فكانوا يدعون جنودهم إلى الأخذ به. يقول ابن كثيرفي
أخبار معركة اليرموك مع الروم في فتوح الشام:
(ولمّا تراءى الجمعان، وتبارز الفريقان، وعظ أبو عبيدة المسلمين فقال:
"عباد الله أنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم. يا معشر المسلمين، أصبروا،
فإنّ الصبر منجاة من الكفر، ومرضاة للرب، ومدحضة للعار..وشرّعوا الرماح، واستتروا
بالدرق، والزموا الصمت إلا من ذكر الله في أنفسكم حتى آمركم إن شاء الله تعالى)([243]).
ونلاحظ هنا أنّ أبا عبيدة أمر جنده بأخذ الحذر المشروع، فيقاس عليه كل حذر
مشروع، وبخاصة في أحوال المعركة مع العدو.
ولا يظنن أحد أنّ أخذ الحذر يعني الخوف والجبن والخور، بل هو من ألوان
الشجاعة فإنّ الداعية يقدّر نتائج الأمور فيحسب حسابها: فلا يُقدم على عمل إذا
ترتبت عليه أضرار لا تُحمد عقباها.
ولمّا كان أخذ الحذر مشروعا –كما مرّ بنا- فإنّ على الداعية أن يأخذ به إن
كان في حاجة إليه، إذ إن تركه قد يؤدي إلى التهلكة، أو عدم القدرة على مواصلة
الجهاد في سبيل الله. فإذا كان التحرّز ممكنا فيصير واجبا في مثل هذه الأحوال.
إرشاد
في كيفية دعوة الناس
هذه وصايا نقدمها إليك –أخي
الداعية- للأخذ بها، فلعلّك تجد فيها ما يُيسر عليك أمر القيام بواجب الدعوة بصورة
أمثل، والله تعالى هو الموفق للخير والصواب.
1-
أن يكون نشرك
للدعوة بين النّاس وتعريفهم بها على أساس العقيدة الإسلامية ولا تُفكّر أبدا أن
تدعوهم على أساس محاسن الدعوة من حيث تنظيماتها الاجتماعية أو الاقتصادية أو
السياسية، دون أن تربط هذا بالعقيدة، لأنّ الشخص الذي لا ينجذب إلى الدعوة على
أساس العقيدة الإسلامية إنّما هو رجل لا خير فيه، ولا يصلح أن يكون لبنة صالحة في
بناء الدعوة. والرسولr يوم دعا النّاس إلى الإسلام إنّما دعاهم إلى العقيدة الإسلامية
المتضمنة الإيمان بالله ورسالاته وباليوم الآخر وما يتعلّق بهذا كله، ولم يعدهم إن
آمنوا إلا بالجنة ورضوان الله سبحانه وتأييده لهم في الدنيا لنشر دينه. على أننا
لا نمنعك من ذكر محاسن تشريعات الإسلام وحلّها لمشكلات النّاس وتأمين الرفاه لهم،
لكن يجب أن يكون ذلك مربوطا بالعقيدة الإسلامية، بحيث يكون أثرا من آثارها ونتيجة
من نتائجها. فعليك أن تعالج مشكلات النّاس عند اصطدامك بها على أنّها مظهر من
مظاهر ضحالة العقيدة الإسلامية في النفوس وابتعاد النّاس عن الإسلام.
2-
إنّ درجة تعلّق
النّاس بك وبدعوتك تتوقف أولا وقبل كل شيء على درجة تعلقك أنت بدعوتك واجتهادك في
صدق تمثيلها، وقيامك بفرائضها على أحسن وجه ممكن. وقدوتك وأسوتك الحسنة هو الرسولr فقد كان خلقه القرآن كما وصفته السيدة عائشة رضي الله عنها. أمّا
الصحابة الكرام فكانوا يوصفون بأنهم إسلام يمشون على الأرض هونا، حتى كانوا موضع
ثناء الله في كتابه العزيز. فاحرص –أخي الداعية- على فهم دعوتك والقيام بحقها بجد
وقوة في خاصة نفسك أولا: بالصلاة والصيام وتلاوة القرآن..ومع النّاس ثانيا وذلك
بالإحسان إليهم في معاملتهم ودعوتهم إلى الحق.
3-
قدّم النية
الخالصة لله حين تتصل بمن تدعوه، وكن له ناصحا أمينا، واسأل الله العون والتسديد
والتبصرة، وكن –دائما- مترفقا به، صابرا على ما تلقى منه من عنت وغلظة وجفاء
وإعراض، فإنّ ذلك شأن الصادقين المخلصين من الدعاة، وقدوتك المثلى في ذلك كله:
الأنبياء والرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم والتابعون لهم بإحسان.
4-
لا تنس –أخي
الداعية- ما للرسائل الصغيرة والنشرات المركزة التي تشرح الدعوة بيسر ووضوح من أثر
في قبول دعوتك. فليكن معك عدد منها لتهديها أو تعيرها أو تتلوها أمام من تدعوه.
فتخيّر منها ما يناسب ثقافة المدعو ورغبته، فإنّ ذلك أسرع في التأثير.
5-
لا تدع مجالا
للنّاس أن يخاصموك لنقص في أسلوبك، أو عيب في شخصيتك، أو مأخذ في سلوكك، أو انحراف
في طبعك، بل حاول أن يكون الخصام –إن وُجد- حول دعوتك ومبادئها..وعند ذلك ستكون
أنت الرابح: فمن غالب الحق غلبه، ولاتكن حجابا يحجب الحق عن طالبيه بتصرفاتك
المتناقضة مع ما تدعو إليه.
6-
حاول أن تكون
دعوتك والحديث عنها شغل النّاس الشاغل: فلا يخلو من ذكرها مجلس ولا منتدى، ولا
يترك الخوض في شأنها عدو ولا صديق، فإنّ ذلك يدل على أنّك تعمل وأنّك تتعرّض لمدح
النّاس أو قدحهم، وكل ذلك خير لدعوتك. فاغتنم الفرصة في المجالس لتجعل الكلام يدور
حول الإسلام وأوضاع المسلمين، واستعن بحسن لباقتك في إدارة دفة الحديث وتوجيهه
لمصلحة دعوتك، وما أيسر ذلك على من تسلّح بسلاح العلم فالفقر والجهل والمرض
والفساد الذي ضرب أطنابه في مجالات الحياة كلها، والأزمات المستحكمة أمور تدور
حولها أحاديث النّاس في مجالسهم. وتستطيع أنت بفطنتك أن تشير إلى الحل الذي وصفه
الإسلام لكل هذه المشكلات، وتعرض دعوتك من خلال ذلك عرض العارف المتبصّر. ستلقى
تأييدا كما تلقى نقدا، ولكنّك ستخرج بنتيجة طيبة مهما كانت صغيرة: فقد تكسب مؤيدا
أو صديقا، أو سيكون كلامك مجرد إلفات أنظار السامعين إلى الإسلام وأثره. وفي ذلك
كله خير وأي خير لدعوتك التي تسعى إلى إعلاء كلمة الله في الأرض، فضلا عن أجرك عند
الله.
7-
للمجاملات
الاعتيادية أثرها في نفوس من تدعوه: فالسلام الحار والمصافحة عند اللقاء بوجه طلق،
واهتمامك بمشكلات من تلقى وما يهمه من أمر، ومشاركته الفرح والحزن..كل ذلك يزيد في
أُلفة القلوب، ويربط بينها برباط من المحبة وثيق، وهي قبل ذلك من سنن الإسلام
المحمودة. فاغتنم فرصة نجاحه لتقدّم إليه هدية فإنّها مهما كانت متواضعة فسيكون
لها في نفسه أثر طيب، ولا تنس أن تتقدم بفروض العزاء وإظهار المشاركة في الحزن عند
حدوث ما يدعو إلى ذلك، وأن تقف إلى جانبه إن وقع في ضيق، وتمد له يد العون ما
استطعت، فذلك من صميم الدعوة، كما أنّه من حقوق الأخوّة الإسلامية.
8-
عند تعرّضك
لمسألة ما مع من تدعوه، تجنّب أن تثير إحساسه بأنّك تقف منه موقف الأستاذ وهو
التلميذ، فإنّ ذلك يدعوه إلى الاعتزاز بنفسه والاعتداد بما عنده من معلومات حتى لو
كانت خاطئة باطلة..وعندئذ يصعب عليك إقناعه بما عندك من حق وصواب. عليك أن تقبل
منه بتعقّل كما تريد أن يقبل منك، واجتنب أن تصادم أفكاره مباشرة وتهدمها دفعة
واحدة، بل عليك أن تبيّن له خطأها وفسادها، وصحة أفكارك وقوتها بطريقة غير مباشرة
وبأسلوب حكيم بعيد عن مثيرات الجدل. وإيّاك أن تثور أعصابك، وتفقد اتزانك، ليكن
رائدك الصبر والحكمة. واستعن بضرب الأمثال والاستشهاد بالتاريخ واستعمل أسلوب
موافقته على بعض ما يقول، ثم عد واستثن ما تراه خطأ، مصححا ذلك كما جاء به الإسلام
كأن تقول له: (إنّ رأيك الفلاني صحيح، ولكن ألا ترى لو أن كان كذا يكون أفضل؟)
أكثر عليه من مثل هذه الأسئلة ودعه يُجب أو يُفكّر في الإجابة، فإنّ ذلك يدفعه إلى
فهم دعوتك تدريجيا.
9-
لتكن خطواتك
الأولى مع من تدعوه أن تثير في نفسه الثقة بك واحترامك، فتجنّب كل ما يهدم في نفسه
هذه الثقة، وتحاش كل ما يزعزع هذا الاحترام ليكن كلامك منطبقا على عملك، وليكن
رائدك الصدق والاتزان والتصرّف الحكيم والبعد عن مثيرات الشكوك ودواعي الحط من
قيمتك في نفس المدعو، فإن تيسر لك ذلك استطعت أن تنفذ إلى قلبه، وإن تطور هذه
الثقة والاحترام في نفسه إلى محبة خالصة لك ولدعوتك التي تحملها وتبشّره بها، واتل
–إن شئت- سيرة رسول اللهr تجد أثر الثقة والاحترام والحب الخالص واضحا في صلة الصحابة
الكرام به.
10-
لا تكثر من صيغة
الأمر وكلمات الوجوب في حديثك مع من تدعوه، فإنّ ذلك أسلوب منفّر ثقيل على نفس
المدعو الجديد، وليكن أسلوبك في إفهامه المعاني التي تريدها شيّقا محببا إلى
النفس، كأن تقول له: (أعتقد أن لو كان الأمر كذا..لكان خيرا) أو (الأحسن لو نفعل
كذا).
11-
لا تكن مزدوج
الشخصية: تعامل أنصار دعوتك ومن تتصل بهم لتدعوهم معاملة المسلم الداعية، وتعامل
غيره من النّاس وكأنّك شخص آخر لا تربطك بدعوة الإسلام أية صلة، أو يكون سلوكك في
بيتك ومعاملتك لأهلك يناقض سلوكك بين إخوتك ومع جماعتك. عامل النّاس على اختلاف
مشاربهم كأخ مسلم يحمل دعوة الله ويبشّر النّاس بها. اعرض دعوتك –حيثما كنت- بخلقك
وحسن سلوكك، ولا تنقلب شخصا آخر في بيتك تسب وتلعن، أو تثور وتغضب لأتفه الأسباب،
وتتصرّف كأولئك الذين لم يعرفوا دعوة الإسلام، ولم تخالط نفوسهم حلاوة الإيمان.
لتكن شخصيتك واحدة أين ما كنت: ظاهرك كباطنك، وعلانيتك كسريرتك، واسأل الله أن
يجعل بينك وبينه خيرا مما بينك وبين النّاس.
12-
مزاحك مع إخوتك
ومن تتصل بهم لتدعوهم يسقط الهيبة ويبعث في القلوب معاني الحقد والنفرة، وبخاصّة
المزاح الذي يتجافى وآداب الإسلام، إذ يخرج عن معنى المزاح إلى معاني السخرية
والاستهزاء المنهي عنهما. والشيطان يدخل من هذا الباب ليفرّق بين قلوب المتحابين
في الله ويتركهم نهبا للظنون السيئة والشكوك الفانية، فيفسد على القلوب صفاءها
ورقتها، ويفقد الصف وحدته فيبعدنا عن معاني الأخوة الحقة لندخل في معاني الفرقة
البغيضة التي قرنها الله-سبحانه- بالكفر.
13- لا تكن منطويا على نفسك في
المحيط الذي تعيش فيه، او تعمل فيه خالط الناس، واعرض عليهم دعوتك بخلقك وسلوكك.
باخلاصك وتضحيتك. تعرف على جيرانك في المحلة او زملائك في محل عملك. واعرف من بينهم الاقرب الى دعوتك
ووثق صلتك به. انتهز الفرص المناسبة لتزور اكبر عدد ممكن من سكان محلتك. ولا تدع
المناسبات تمر دون ان تشارك فيها، فاساس دعوتنا التعارف. والامة ما زالت تحوي
كثيرا من عناصر الخير. ونحن بحاجة الى ذلك الداعية الفطن الذي يعرف كيف يكشف هذه
الكنوز ليحولها الى طاقات مباركات تعمل في ركب هذه الدعوة.
14-
لا تفقد املك في
الناس بسرعة. ولا تتعجل بالحكم على الناس والجماعات. واستعن باسلوب الحكمة
والمرونة. وكرر محاولاتك مرات ومرات؛ فسوف تفلح حتما في كسب اناس كنت تسئ بهم
الظن: ففي الناس الجاهل والمخدوع وأللاَّ ابالي.. وهناك المغرض والانتهازي.. وهناك
الطيب المنصف.. وكل هذه الاصناف بحاجة الى حنكة وتجربة واخلاص ومجاهدة لاستخراج
الصالح منها وكسبه الى صف العاملين.
خاتمة وإهابة
أخي
الداعية: لقد صار للباطل في العالم كله السنة ينطق بها ليفسد قلوب الناس، ومنابر
منها ليحطم اخلاقهم، واقلام كثيرة تضلل بها عقولهم... افلا يجدر بك ان ترتفع الى
مستوى الاعلام في العالم، لتدافع عن دينك، وتهدم صروح الباطل، وتحطم حصون الكفر
وقلاع الالحاد؟!
لقد
أصبح(الاعلام) في عصرنا هذا علماً من اخطر العلوم، وابعده اثراً في الافراد
والجماعات: فهو الذي يقوم بترسيخ العقائد في نفوس الناس، سواء كانت صحيحة ام فاسدة
واستفادت الدول الجماعات في العالم من هذا العلم، فأنشأت له الكليات والمعاهد
المختلفة... افلا ينبغي لك ان تقف على مناهج هذا العلم وتعرف اساليبه، لتأخذ منه
ما يتفق مع اسلامك، وتذر ما يختلف معه؟!
اخي
الداعية: اذا كان كثير من المجرمين والمنحرفين يبذلون جهودهم الجهيدة في سبيل
اجرامهم وانحرافهم، ويركبون من المخاطر اعلاها، ومن الاهوال اعظمها... والذي يقدرُ
على ركوب الاهوال والمخاطر في سبيل الاجرام والانحراف، يستطيع ان يفعل ذلك في سبيل
الحق والخير... فهل يليق بك في هذا العصر ان تكتفي بتقديم النزر اليسير من الجهد
لدعوة الله، ثم تطالب بالنتائج الكبيرة؟!!
هذا
هو طريقك- أخي الداعية- فاسلكه مسترشدا بسيرة رسول اللهr، وبفقه الدعاة الصادقين الذين عاشوا للدعوة
وقضوا نحبهم فيها، سائلاً من الله الكريم ان يجعلنا من الذين يدعون الى الله
بالحكمة والموعظة الحسنة، وممن تكون دعوتهم بافعالهم قبل دعوتهم باقوالهم، والله
يقول الحق، ومنه -وحده- الهداية والسداد.!
مع الرسول الكريم في دعوته
المواقف المشرِّفة
لها الأثر الكبير في قبول الناس لكثير من الدعوات. وقد يكون موقف واحد منها سبباً
في تحول إنسان من فكرة إلى فكرة أخرى، ومن موقف إلى موقف آخر. ونحن حين نستقرئ
التاريخ لا نجد مواقف من الحكمة المشرِّفة كحكمة الرسول r، التي كانت من أسباب دخول كثير من الناس في
دين الله. والداعية المسلم حين يقرأ هذه المواقف الحكيمة، يزداد حكمةً في دعوته،
ذلك أنه r
هو الأسوة والقدوة للمسلم، والله – عز وجل – يقول:
ﭽ ﯯ ﯰ
ﯱ ﯲ ﯳ
ﯴ ﯵ ﯶ
ﯷ ﯸ ﯹ
ﯺ ﯻ ﯼ
ﯽ ﯾ ﯿ ﭼ سورة
الأحزاب/ 21.
إنَّ مواقف النبي r
تتسم –كلها– بالحكمة؛ لذلك لا يستطيع أحد أن يجمعها كلها، وسأذكر في هذا المبحث
قليلاً منها على سبيل التمثيل فقط، وسأقوم بتقسيمها إلى قسمين:
1-
مواقفه قبل
الهجرة. 2- مواقفه بعد الهجرة.
1- مواقفه
قبل الهجرة
بعد أن أَمَرَ الله
نبيه محمداً r
بدعـوة الناس إلى عبادة الله وحده ونبذ ما عداه من الآلهة المزعومة، وأنزل عليه
قوله تعالى:
ﭽ ﮬ ﮭ
ﮮ ﮯ ﮰ
ﮱ ﯓ ﯔ
ﯕ ﯖ ﯗ
ﯘ ﯙ ﯚ
ﯛ ﯜ ﯝ
ﯞ ﯟ ﯠ
ﯡ ﯢ ﭼ سورة
المدثر/ 1-7.
امتثل نبيه الكريم
أمر ربه، وبدأ يَعرضُ دعوته على أقربائه وأصدقائه، ممن توسَّمَ فيهم الخير. فأجابه
إلى دعوته عدد قليل منهم: زوجه خديجة، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وأبو بكر
الصديق رضي الله عنهم جميعاً. ونشط سيدنا أبو بكر في دعوة الناس إلى هذا الدين،
فدخل فيه عدد ليس بالكثير، وكان النبي يجتمع بهم خفية. ولم يَدعُ النبي والذين
آمنوا معه الناس علانية إلى الإسلام. وكانت الآيات الكريمة تنزل على نبي الله لا
تتعرض لما كان عليه القوم من عبادات باطلة. وعلى الداعية المسلم أن يقتدي بنبيه
الكريم في هذا؛ فيهيئ لهم مكاناً آمناً إذا كان هو وجماعته في خطر على حياتهم أو
معتقداتهم الصحيحة. وبعد مضي سنين من الدعوة السرية والفردية، أنزل الله قوله
تعالى:
ﭽ ﭞ ﭟ ﭠ
ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ
ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩ ﭪ ﭫ
ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ
ﭱ ﭲ ﭼ
سورة الحجر/94-96
وهكذا تحولت الدعوة
من السرية إلى العلنية بعد أن ازداد عدد المسلمين. لقد كان المسلمون في السنوات
الثلاث الأولى مستضعفين، لا يستطيع الواحد منهم أن يجهر أمام الناس بـ(لا إله إلا
الله محمد رسول الله)، ولو فعلوا ذلك لقتلوهم عن بكرة أبيهم، ولانطفأ نور هذا
الدين.
ولمّا نزل قول الله –
عز وجل – آمراً نبيه بإنذار عشيرته الأقربين، وذلك بقوله تعالى:
ﭽ ﭿ ﮀ
ﮁ ﮂ ﮃ
ﮄ ﮅ ﮆ
ﮇ ﮈ ﮉ
ﮊ ﮋ ﮌ
ﮍ ﮎ ﮏ
ﮐ ﮑ ﭼ سورة الشعراء/ 214-216.
نفَّذَ الرسول الأمرَ
الإلهي، وبدأ يصدع بالدعوة إلى الله علانية وإنذار عشيرته، فقام بذلك كله بكل
إخلاص وشجاعة وحكمة.
لقد صعد النبي r
على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي يا بطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل
إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش فقال: أرأيتكم
لو أخبرتكم أنَّ خيلاً بالوادي تريد أن تُغيرَ عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم ما
جرَّبنا عليك إلا صِدقاً. قال: فإنيّ نذير لكم بين يَدَي عذاب شديد. فقال أبو لهب:
تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: ﭽ ﮈ ﮉ
ﮊ ﮋ ﮌ
ﮍ ﮎ ﮏ
ﮐ ﮑ ﮒ
ﮓ ﮔ ﭼ ([244]).
استطاع النبي الكريم
في هذه الحادثة أن يُنذِرَ قريشاً ويبلغها دعوة التوحيد، وينذرها من عبادة الأصنام
والأوثان التي كانت عليها بصورة جماعية.
إنَّ هذا درس لكل
داعية مسلم: أن يهتم بأقربائه أول ما يهتم، يدعوهم إلى الله بأساليب كثيرة. فإن
أعرضوا وآثروا الضلال على الهدى، فقد أدى هو رسالته، والله يعذره إن قام بواجبه.
لقد ضاق المشركون
ذرعاً بدعوة رسول الله r،
وبخاصةٍ بعد إسلام (حمزة بن عبد المطلب) و (عمر بن الخطاب) رضي الله عنهما؛ إذ
ازداد عدد من دخل في هذا الدين. وهنا اتخذ المشركون أسلوب التهديد والوعيد لكنه لم
يُجدِ نَفعاً؛ فانتقلوا إلى أسلوب آخر لعله يحمل الرسول على ترك دعوته: إنه أُسلوب
المساومة والإغراء، فأرسلوا (عتبة بن ربيعة)
– وكان رجلاً عاقلاً حليماً- ليعرض على النبي الكريم أموراً لعله يقبل
بعضها فيقلع عن عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم. فلما جاءه خاطب الرسول الكريم بقوله:
(يا ابن أخي، إنَّكَ
منَّا حيث قد علمت من الشرف في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيتَ قومَك
بأمر عظيم فرّقتَ به جماعتهم، وسَفَّهتَ به أحلامهم، وعِبتَ به آلهتهم ودينهم،
فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظرُ فيها لعلك تقبلُ منها بعضها. قال: فقال رسول
الله r:
قل يا أبا الوليد أسمع؛ قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئتَ به من هذا
الأمر مالاً جَمَعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به
شَرَفاً سودناك علينا؛ حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنتَ تريدُ به مُلكاً مَلكناك
علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع ردهَّ عن نفسك طلبنا لك الطب،
وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه… حتى إذا فرغ عتبة ورسولُ الله r
يستمع منه قال: أقَد فَرغَتَ يا أبا الوليد؟ قال: نعم؛ قال: فاسمع مني؛ قال: أفعل؛
فقال: بسم الله الرحمن الرحيم ﭽ ﭑ ﭒ
ﭓ ﭔ ﭕ
ﭖ ﭗ ﭘ
ﭙ ﭚ ﭛ
ﭜ ﭝ ﭞ
ﭟ ﭠ ﭡ
ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ
ﭨ ﭩ ﭪ
ﭫ ﭬ ﭭ
ﭮ ...ﭼ.
ثم مضى رسول الله r
يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما
يسمع منه؛ ثم انتهى رسول الله r
إلى السجدة منها فسجد ثم قال: قد سمعتَ يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك…)([245]).
ونلاحظ في هذه
المحاورة الطريفة حكمة الرسول r:
فقد أصغى بسمعه كلِّه لما يعرض عليه من عروض. وهذا من أدب المحادثة، حتى إذا انتهى
من قوله، بدأ حديثه معه بتلاوة آيات من القرآن الكريم. وهو معجزة الرسول الخالدة
التي بَهَرَت بفصاحتها البلغاء، حتى من لم يؤمن منهم بالله واليوم الآخر. وقد
اختار الرسول الكريم تلاوة هذه الآيات التي فيها بيان واضح للرسالة والرسول، وأن
محمداً رسول الله حقاً جاء بكتاب مبين؛ ليهدي الذين ضلوا عن صراطه القويم. وتحمل
هذه الآيات ما تحمل من الوعيد الشديد إن
أعرضَ هؤلاء عن قبول الدعوة ولم يؤمنوا بها. وتبدو حكمته –صلوات ربي وسلامه
عليه– في صورة من أجمل صورها في عفته عن طلب السلطان والجاه والملك. وهو دليل واضح
–كل الوضوح– على صدقه في دعوى النبوة، وحرصه على هداية الناس. وهكذا يجب أن يكون
الداعية المسلم مقبلاً على دعوته مهما لاقى من عنت الظالمين، معرضاً عمّا يُقدَّم
له من إغراء، زاهداً بالجاه والمنصب. كلُّ همِّه أن يُرضي الله ورسوله في تبليغ
دعوته.
في
شهر شوال من السنة العاشرة من البعثة النبوية، خرج النبي الكريم إلى الطائف – بعد
أن ازداد أذى المشركين على النبي ومَن آمن معه – لعله يجدُ من يؤمن بدعوته وينصره
ليبلغها إلى الناس. وقد اصطحب معه مولاه (زيد بن حارثة) واتصل النبي الكريم بأكابر
ثقيف ورؤسائها، وعَرَضَ عليهم دعوة الله.. واستمر في ذلك عَشَرةَ أيام من غير كلال
يَعرِضُ دعوته على الناس. لكن ثقيفاً لم تؤمن به وبدعوته بل إن بعضهم ردَّ على
الرسول الكريم رداً غير جميل. ولم تكتف (ثقيف) بهذا، بل أغروا بالنبي الكريم
سفهاءهم وصبيانهم، واجتمعوا صفين يرمونه بالحجارة؛ حتى اختضبت نعلاه بالدماء،
وزيدٌ يقيه بنفسه، حتى شج رأسه. ورجع الرسول من الطائف كسير القلب. وفي طريقه إلى
مكة جاءه جبريل ومعه ملك الجبال يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة – والأخشبان
هما الجبلان اللذان بين مكة – وسَلَّمَ مَلَكُ الجبال على النبي الكريم وقال له: يا
محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا مَلَكُ الجبال، وقد بَعَثني ربُّك إليك
لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئتَ أن أُطبقَ عليهم الأخشبين. فقال له رسول الله r:
(بل
أرجو أن يُخرجَ الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً)([246]).
إن
هجرة الرسول الكريم إلى الطائف فيها الدليل الواضح على تصميمه r في الاستمرار بدعوته إلى الله مهما لاقى في سبيل ذلك، وأن اليأس
لا يعرف إلى نفسه سبيلاً: فقد كان يلتمس أي مجال كان لتبليغ دعوة الله، فإذا كانت
مكة قد تجهمت له ولدعوته؛ فأن أرضَ الله واسعة، ولعل أُناساً آخرين يستجيبون له
ويؤمنون به.
ومن
حكمة الرسول الكريم: أنه اتصل أول ما اتصل برؤساء ثقيف وعرض عليهم الإسلام؛ ذلك أن
الرؤساء إذا آمنوا، فإن غيرهم يُقبلون على الإيمان بهذا الدين من غير مشقة، والناس
على دين ملوكهم كما يقولون.
أما
إغراء ثقيف صبيانها وسفهاءها بالرسول الكريم يصيحون به ويضربونه، فإنه يدل على أن
طبيعة الشر واحدة أينما كانت؛ فإن السفهاء حين تقام عليهم الحجج الساطعة والبراهين
القاطعة، يلجؤون إلى إلحاق الأذى بالدعاة عن طريق السخرية أو الضرب.
ومن أبلغ الأمثلة
التي ينبغي على الداعية المسلم أن يضعها نُصبَ عينيه: دماء الرسول الزكية التي
سالت على قدميه وهو رسول من رب العالمين. إنه مَثلٌ رائع لكل داعية مسلم لما
يتحمله من أذى واضطهاد.
وتتجلى رحمة الرسول r
في معنى من أسمى معانيها، ويبدو فيه الخُلُقُ الكريم في صورة من أجمل صوره في
جوابه – عليه السلام – لملك الجبال! ولا عجب في ذلك؛ فإن رب العالمين أثنى على
رسوله بهذا الثناء:
ﭽ ﮛ ﮜ
ﮝ ﮞ ﮟ ﭼ سورة
القلم/ 4.
ﭽ ﮐ ﮑ
ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﭼ سورة
الأنبياء/ 107.
1-
مواقفه بعد الهجرة
بعد أن وصل الرسول
الكريم r
إلى المدينة، اجتمع باليهود أكثر من مرةٍ، ودعاهم إلى الانضواء تحت لواء هذا الدين
الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. واتَّبَعَ الرسول r أساليب كثيرة بغية هدايتهم، ومن تلك
الأساليب: اتصاله بهم مرات كثيرةً وحده، وبوساطة عبد الله بن سلام. ولندع الأمام
البخاري يروي لنا هذه الحادثة الطريفة من حوادث دعوتهم إلى الإسلام، وإقامة الحجة
عليهم.
عن أنس بن مالك – رضي
الله عنه – قال: بَلَغَ عبد الله بن سلام مقدمُ النبي r المدينة؛ فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا
يعلمهن إلا نبي. قال: ما أوّل أشراط الساعة؟ وما أوّل طعام يأكله أهلُ الجنة؟ ومن
أي شيء ينزع الولد إلى أبيه، ومن أي شيء ينزعُ إلى أخواله؟ فقال رسول الله r:
(خبرني بهن آنفاً جبريل) قال: فقال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقال
رسول الله r:
(أما أول أشراط
الساعة، فنارٌ تحشرُ الناسَ من المشرق إلى المغرب، وأما أوّلُ طعام يأكله أهل
الجنة، فزيادة كبد الحوت، وأما الشبه في الولد، فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها
ماؤه كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها).
قال: أشهد أنك رسول
الله. ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بُهتٌ إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم
بهتوني عندك. فجاءت اليهود، ودخل عبد الله البيت، فقال رسول الله r:
أيُّ رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا: ذاك أعلمنا وابن أعلمنا، وأخبرنا وابن
أخبرنا. فقال رسول الله r:
أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك؛ فخرج عبد الله إليهم فقال:
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. فقالوا: شرّنا وابن شرنا
ووقعوا فيه([247]).
لقد أراد الرسول
الكريم بحكمته أن يقيم الأدلة القاطعة لليهود على صدق نبوته؛ فأخفى عبد الله بن
سلام، وسأل اليهود عن مكانته بينهم، فلما أثنوا عليه الثناء الحسن أمره بالخروج،
وأعلن شهادته أمامهم. وفي ذلك إقامة للحجة على اليهود لو كانوا يريدون –بحق–
التأكد من صدق نبوته صلوات الله وسلامه عليه.
هاجَرَ النبي r
إلى المدينة المنورة هجرته الميمونة، وقد أجمع (الأوس) و (الخزرج) على تتويج (عبد
الله بن أُبي بن سلول) ملكاً عليهم. فلما جاء النبي المدينة، هدى الله به الناس
إلى الإسلام، وانصرفوا عما كانوا قد عزموا عليه من تتويجه؛ فامتلأ قلبهُ حقداً
وبغضاً للنبي الكريم، ولهذا الدين الذي كان سبباً في حرمانه من الملك. وقد ظهر
حقده على هذا الدين منذ أن وصل النبيُّ إلى المدينة المنورة، وظل هو على كفره
فأساء إلى النبي الكريم في أكثر من موطن. ومن ذلك: أن النبي r ركب مرةً على حماره ليعودَ (سعد بن عبادة)،
فمرَّ بمجلس كان فيه (عبد الله بن أٌبي)؛ فخمَّرَ (ابنُ أُبي) أنفه وقال: (لا
تُغبِّروا علينا). وجاء الرسول الكريم مرة إلى مجلس فيه (ابن أُبي)؛ فدعا الناس
إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن؛ فقال له ابن أُبي:
(يا هذا، إنه لا
أحسـن من حديثك هذا، إن كان حقاً فاجلس في بيتك: فمن جاءك له فحدثه إياه، ومن لم
يأتك فلا تغته ولا تأته في مجلسه بما يكره منه)([248]).
هذه بعض تصرفات (ابن
أُبي) مع الرسول الكريم أوّل مقدمه إلى المدينة! وينظر (ابن أُبي) إلى قومه، فإذا
هم يدخلون في هذا الدين، وينضوون تحت لواء (محمد بن عبد الله) صلوات الله وسلامه
عليه، فلم يبق أمامه إلا أن يُعلن هو –أيضاً– إسلامه في الظاهر فقط، بينما يظل على
كفره وضلاله في الباطن؛ ليعمل عمله في الكيد لهذا الدين. وهكذا كان!.
لقد كان رأس المنافقين إنساناً ذكياً يعرف من أين تؤكل الكتف،
فعمل جهده على تفريق كلمة المسلمين، وبث النزاع بينهم، والصّد عن هذا الدين
بأساليب ماكرة وبطرق خادعة، استطاعت أن تهز كيان المجتمع الإسلامي الأول بعض
الهزات، وتُوجد عقباتٍ وعثراتٍ أمام من يريد الانضواء تحت لواء هذا الدين. لقد
ساعد اليهود ودافع عنهم، ولولاه لنال اليهود ما نالهم، وباشَرَ بأعماله التخريبية
في الظلام الدامس، وكانت معاداته لهذا الدين تكاد تكون ظاهرة. ومع أن الرسول
الكريم كان يعرف حقيقة نفاقه، ويعرف مكره وكيده بهذا الدين، إلا أنه كان يقابل
عداوته بالعفو والحلم، وكمثال على ذلك ما يأتي:
1- رجوعه
بثلث العسكر يوم أُحد
أعدَّ المشركون عدتهم
للانقضاض على دولة الإسلام الفتية (واستهدفت الثأر لقتلاها ببدر، وإنقاذ طرق
التجارة إلى الشام من سيطرة المسلمين، واستعادة مكانتها عند العرب، بعد أن زعزعتها
موقعة بدر)([249]).
واستشار الرسول الصحابة في التحصن في المدينة والبقاء فيها، أو الخروج لملاقاة
المشركين خارج المدينة. وكان من رأي الرسول الحكيم أن يبقى المسلمون في المدينة
يقاتلون فيها فقال: (إنّا في جُنَّةٍ حصينة). لكن ناساً من الأنصار قالوا: (يا نبي
الله، إنا نكره أن نقتل في طرق المدينة، وقد كنا نمتنع من الغزو في الجاهلية،
فبالإسلام أحق أن نمتنع منه؛ فابرز إلى القوم). فانطلق رسول الله r
فلبس لأمته. فتلاوم القوم فقالوا: عَرَضَ نبي الله r بأمر وعرضتم بغيره؛ فأذهب يا حمزة فقل لنبي
الله r:
أمرُنا لأمرك تَبَع. فأتى حمزةُ فقال له: يا نبي الله، إن القوم قد تلاوموا
فقالوا: امرُنا لأمرك تبع. فقال رسول الله r:
(إنه
ليس لنبي إذا لَبِسَ لامته أن يَضَعَها حتى يناجز)([250]).
وهكذا خرج النبي r لملاقاة المشركين الذين أجمعوا أمرهم وتجمعوا للانقضاض على دولة
الإسـلام الفتية. فلما كان العسكر بين (أُحد) و (المدينة)، رجع رأس المنافقين بنحو
ثلث الجيش، وقال فيما قال: (أطاعهم
وعصـاني، وما ندري
علام
نقتل أنفسنا)([251]).
وما
أن بدأ هؤلاء بالرجوع حتى لحقهم (عبد الله بن عمرو ابن حرام) –والد جابر– فحضهم
على الرجوع، وطلب منهم أن يقاتلوا في سبيل الله أو يدفعوا عن أنفسهم؛ فقالوا: (لو
كنا نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال. فلما أبَوا إلا
الانصراف عنهم قال: أبعدكم الله أعداء الله؛ فسيغني الله عنكم نبيه)([252]).
إن موقف رأس
المنافقين في رجوعه مع مَن تبعه هو قمة في الإجرام، يستحق عليه عقوبة قاسية؛ لذلك
اقترح قسمٌ من المسلمين أن يقاتلوهم جزاءَ موقفهم هذا، واقترح آخرون أن يتركوا؛
فنزل في ذلك قول الله تعالى:
ﭽ ﭦ ﭧ
ﭨ ﭩ ﭪ
ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ
ﭰ ﭱ ﭲ
ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ
ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭼ سورة
النساء/ 88.
ولم يكتف رأس النفاق
بهذا، بل راح يقول بعد أن لحقت الهزيمة بالمسلمين، وقُتل سبعون من الصحابة: (لو
أطاعونا ما قُتلوا)؛ فردَّ عليهم الحكيم الخبير بقوله:
ﭽ ﮋ ﮌ
ﮍ ﮎ ﮏ
ﮐ ﮑ ﮒ
ﮓ ﭼ سورة آل عمران/ 168.
وهكذا عفا الرسول
الكريم عن رأس المنافقين فعلته الشنيعة هذه ولم يعاقبه؛ لأنَّ عقابه قد يؤدي إلى
إحداث فتنة تعيق سير الدعوة الإسلامية آنذاك.
رأس
المنافقين وبنو النضير
أراد اليهود قَتلَ
رسول الله r. وقد ذكر كُتّاب السير محاولتين من ذلك:
أولاهما:
أنهم (أرسلوا إلى النبي r أن يَخرُجَ إليهم في ثلاثين رجلاً من أصحابه، ووعدوا أن يخرجوا
بمثلهم من أحبارهم إلى موضع وسط ليستمعوا منه: فإن صدقوه آمنت يهود. فلما اقتربوا،
اقترح اليهود أن يجتمعَ النبيُّ ومعه ثلاثة من أصحابه بثلاثة من أحبارهم، فإن
أقنعهم آمنت بنو النضير. وقد حمل الثلاثة خناجرهم. ولكن امرأة منهم أفشت خبرهم لأخ
لها مسلم؛ فأخبر النبي؛ فرجع ولم يقابلهم، ثم حاصرهم بالكتائب وقاتلهم؛ فنزلوا على
الجلاء، وعلى أنَّ لهم ما حملت الإبل إلا السلاح؛ فاحتملوا حتى أبواب بيوتهم)([253]).
ثانيتهما: (أن
النبي rذهب
إلى بني النضير ليستعين بهم على دفع دية رجلين معاهدين قتلهما خطأ (عمر بن أٌمية
الضمري) في أعقاب حادثة (بئر معونة). فجلس النبي إلى جدار لبني النضير؛ فهمُّوا
بإلقاء حجر عليه وقَتله؛ فأخبره الوحي فأنصرف عنهم مسرعاً إلى المدينة، ثم أمر
بحصارهم؛ فنزلوا على الصلح بعد حصار ستِّ ليالٍ على أن لهم ما حملت الإبل)([254]).
ويتمثل الموقف السيءُ
لرأس المنافقين في هذه الحادثة، بدعوته اليهود إلى الثبات وعدم مغادرة الحصون،
مخبراً إياهم أنه لن يسلمهم: إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أُخرجتم خرجنا معكم.
وبهذا قويت عزيمة اليهود، ونابذوا رسول الله r. ولما لم يجدوا تلك القوة التي تستطيع
الوقوف في وجه المسـلمين
اضطروا إلى التسليم
والخروج.
مع رأس المنافقين في غزوة بني المصطلق
في غزوة بني المصطلق
اقتتل غلام لعمر بن الخطاب يسمى (جهجاه بن مسعود) و (سنان بن وبر الجهني) بعد أن
ازدحما على الماء، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين.
فغضب عبد الله بن أبي بن سلول وعنده رهط من قومه فيهم (زيد بن أرقم) وهو غلام حدث
فقال: أوَقَد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا. والله ما أُعِدُّنا وجلابيب
قريش – يعني المسلمين من قريش – الا كما قال الأول: سمِّن كلبك يأكلك! أما والله
لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذل. فسمع ذلك زيد بن أرقم، فمشى به
إلى رسول الله r
فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال: مُر عباد بن بشر فليقتله؛ فقال له رسول
الله r:
فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أنَّ محمداً يقتل أصحابه! لا ولكن أذِّن بالرحيل، وذلك
في ساعة لم يكن رسول الله r
يرتحل فيها؛ فارتحل الناس.. ثم مشى رسول الله r يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر
يومهم ذلك حتى آذنتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مسَّ الأرض
فوقعوا نياماً، وإنما فعل ذلك رسول الله r؛ ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من
حديث عبد الله بن أبي([255]).
وتتجلى حكمة الرسول r
في هذه الحادثة بعدة جوانب منها:
1-
هدوء الرسول وعدم
غضبه لمّا بلغه ما قاله رأس المنافقين.
2-
ابتداء الرسول بتنفيذ
ما قرره: وهو الرحيل المباشر قبل أن يطير خبر (ابن أُبي)، مع أن الوقت لم يكن وقت
رحيل.
3-
لم يردَّ الرسول على
ما قاله رأس المنافقين، فقد كان بإمكانه أن يرد لو أراد. فقد رأى أن عدم الرد هو الحل
الأمثل؛ ليموت (ابن أبي) غيظاً وكمداً.
4-
فوّت الرسول الكريم
الفرصة على المنافقين الذين ينتهزون كل خلاف؛ بغية شق المجتمع الإسلامي الأول.
5-
أراد الرسول إشغال
الناس بأمر آخر؛ فأمَرَ بالرحيل في ساعة لم تكن ساعة رحيل، ومشى بهم يومهم وليلتهم
وصدر يومهم حتى آذنتهم الشمس. فلم يكن للناس وقت لينشغلوا بما قاله رأس المنافقين.
الفصل الرابع
r
في الدعوة إلى الله
مقدمــة
الحمد
لله حمداً يٌبلِّغني رضاه، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، وعلى آله
الطيبين، وصحبه المخلصين الصادقين، ومَن اتبع هداه إلى يوم الدين!
أما بعد:
فإذا كان رسول الله r
قد اهتمَّ اهتماماً بالغاً بجانب عبادة الله: من الصلاة والصوم وتزكية النفس وقيام
الليل – فإن النبيَّ الذي هذا شـأنه في العبادة، هـو الذي دعا إلى الجهاد – أيضاً
– وجَعَلَهُ عبادةً من أجَلِّ العبادات، بل جعله ذروةَ سنام الإسلام، فكان يحضّ
عليه ويقول:
(مَنْ ماتَ ولم يَغزُ
ولم يُحدِّث نفسه بالغزو مات على شعبةٍ من النفاق)([256]).
ويقول:
( … والذي نفسي بيده،
لَوَدِدْتُ أني اُقتلُ في سبيل الله ثم اُحيا، ثم اٌقتل ثم اُحيا، ثم اٌقتل ثم
اُحيا، ثم اُقتل)([257]).
ذلك أنّ الغزوات التي قادها رسول الله r،
والسرايا التي أرسلها، إن هي إلاّ لون من ألوان تبليغ رسالة الله في العالمين.
فكانت دراسةُ غزواتِ النبيِّ r
وسراياه أمراً مهماً لأخذ العبر والدروس منها في مجالات الدعوة كافة. فلا نعجب إذا
علمنا أنّ سلفنا الصالح كانوا يُحَفظون أبناءهم مغازي رسول الله وسراياه كما
يُحَفظونهم القرآن. وقد قال (زين العابدين بن الحسين ابن علي) t:
(كنا نعلّم مغازي
رسول الله r
كما نعلّم السُّوَر من القرآن)([258]).
وعن إسماعيل بن محمد
بن سعد بن أبي وقاص t
قال:
(كان أبي يُعلّمنا
المغازي والسرايا ويقول: يا بَنِيَّ، إنها شَرفُ آبائكم فلا تُضيِّعوا ذكرَها)([259]).
حقاً إنها شرفُ
الآباء، وشرفُ هذا الدين الذي أخرجنا الله به من العدم!
لقد كان الرسول
الكريم صلوات الله وسلامه عليه في جهاده وفي شأنه كله رجلاً واقعياً، معتمداً على
الله – وحده – بعد أخذه بالأسباب المادية: فلم يَدَعْ شيئاً من مبادئ الحرب التي
يمكن أن يأخذ بها وتوصله إلى النصر إلاّ أخَذَ بها، فوق ما كان يمتلكه من شجاعة
فائقة، وإقدام حكيم وسرعةٍ في اتخاذ القرار في الأحوال الصعبة، واستشارته أصحابه
في الأمور المهمة، ومساواته نفسه مع صحابته …! وكان هو القائدَ العام: يأمُرُ
فيطاع أمره، وتُنَفّذُ توجيهاته بكل أمانة وطيب خاطر …!
وإذا كان من الناس
مَنْ يدّعي أنّ انتصارات النبيّ r
في حروبه كانت بالمعجزات، فإنّ دراسة غزواته وسراياه دراسة موضوعية تنفي ما يتقوله
هؤلاء وأولئك؛ ذلك أنّ النبيّ u
كان يتدارس ما يُقْدِمُ عليه مـن الجوانب كلها، ويستعدُ لها كل استعداد. ولو لـم
يفعل النبيّ r
هذا، لتغَيرت نتائج غزواته وسـراياه. وتظل رعايةُ الله – بعد ذلك – توجِّههُ
وتسـدِّد خطاه…!
ويتقدم الزمن، ويضع
القادة العسكريون أسس العسكرية الصحيحة، وأسباب القتال المباشرة وغير المباشرة،
وصفات القادة الناجحين، وأساليبَ القتال والمبتكرات فيها … فما زاد واحد من هؤلاء
صفةً قياديةً على ما كان عليه رسول الله r في قيادته وجهاده … بل إن الرسول الكريم
اختص بميزات فَقَدها القادة الآخرون.
(إنّ رؤية الدم تثير
الدم، والعداء يؤجّج نيران الحقد والغضب، ونشوة النصر تُسكِرُ الفاتحين، فتوقعهم
في أبشع أنواع التشفَّي والانتقام. ذلك هو تاريخ الدول قديمها وحديثها)([260])،
وليس كذلك الجهاد الذي خاضه رسول اللهr.
وهذا البحث الذي بين
يديك – عزيزي القارئ – إن هو إلاّ مقتطفات قليلة من صور جهاد النبيّ r،
تتمثل فيه حكمته، وشجاعته، وبُعد نظَره في كل موقفٍ من تلك المواقف، مع شيء من
التعليق بما يناسب المقام، لتكون نبراساً للدعاة إلى الله، يسـتضيئون به في طريقهم
الطويل الذي تكتنفه العقبات من كل جانب، كلما تاه الدليل، وأظلمت السبل، وتعددت
المناهج والطرق…!
إن كثيراً من
المسلمين اليوم لا يعرفون عن منهج نبيهم في جهاده إلاّ النزر اليسير الذي لا
يستثير الهمم ولا يحرِّك القلوب! وفوق ذلك فهم لا يقتدون بجهاده r
في العمل، بل بالمظاهر والأشكال دون الجواهر والأفعال!!. فلعلّ هذه الصفحات
القليلة من صور جهاده r
تكون حافزاً للمسلمين، لينطلقوا مجاهدين في سـبيله بالحجة والبرهان إن فاتهم جهاد
السيف والسنان!
ولقد عملتُ على إرجاع
كثير من النصوص التي اقتبستُها من السـيرة النبوية إلى كتب الحديث المعتبرة، لتكون
الفائدة أكثر، إذ إنّ من كتّاب السّير من تساهل في النقل، وكان يعوزه الكثير من التثبت
والتمحيص.
والله أسأل أن يتقبل
عملي هذا وغيره من الأعمال القبول الحسن، وينفع به. والحمد لله الذي بنعمته تتم
الصالحات!.
الجهاد في اللغة مصدر
جاهد، وهو من الجهد – بفتح الجيم وضمها- أي الطاقة والمشقة.
وقيل: الجَهْد – بفتح
الجيم -: المشقة، وبالضم: الطاقة([261]).
الجهاد في الاصطلاح:
قتالُ المسلمين الكفارَ من غير المعاهدين، بعد دعوتهم إلى الإسلام وإبائهم؛
إعلاءاً لكلمة الله([262]).
والجهاد في سبيل الله
من فروض الكفاية التي إنْ قام بها المسلمون قياماً صحيحاً كاملاً يسقط الإثم عن
الناس الآخرين، وإلاَّ أثمت الأمة الإسلامية كلها، وبخاصة إذا غُزِيَت ديار
المسلمين.
يتبين من هذا أن
الجهاد: هو استفراغ الوسع في قتال العدو. وقد قسمه بعض علمائنا إلى قسمين: جهاد
العدو الباطن، وجهاد العدو الظاهر.
أما جهاد العدو
الباطن، فيشمل ما يأتي:
1-
جهاد النفس.
2-
جهاد الشيطان.
وأما جهاد العدو
الظاهر، فيشمل ثلاثة أنواع:
1-
جهاد الكفار.
2-
جهاد المنافقين.
3-
جهاد أهل الظلم
والضلالات.
وهذه
الأنواع من الجهاد كلها تدخل في قوله تعالى:
ﭽ ﮢ ﮣ
ﮤ ﮥ ﮦ ﭼ سورة الحج/78.
والجهاد ذروةُ سنام
الإسلام، وهو مرتبط بالدعوة إلى الله، وهو وسيلة لحمايتها وحماية المسلمين كلهم،
وهو وسيلة – أيضاً – لتبليغ رسالة الله إلى الناس كلهم؛ فلم يشرع الجهاد إلاّ من
أجل الدعوة، وقد شُرِّع في السنة الثانية للهجرة([263]).
ولمّا كان الجهاد من
المصطلحات الإسلامية، فإنه لا يكون إلاّ في سبيل الله؛ لتحقيق الخير والسلام للناس
وللمجتمعات. قال الله تعالى:
ﭽ ﭑ ﭒ
ﭓ ﭔ ﭕ
ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭼ سورة التوبة/41.
ﭽ ﭔ ﭕ
ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭼ سورة الحج/78.
ﭽ ﮠ ﮡ
ﮢ ﮣ ﮤ ﭼ سورة العنكبوت/69.
وقد أوضح هذه الحقيقة
رسول الله r لمّا سئل عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياءاً أي ذلك
في سبيل الله؟ فقال r:
(من قاتل لتكون كلمة
الله هي العليا فهو في سبيل الله)([264]).
غزوات النبيّr وسراياه
يُراد بالغزوة في
الاصطلاح الغالب: الجيش الذي قاده رسول الله r بنفسه لمحاربة العدو، سواء حصل القتال أم لم يحصل([265])،
أما السرية، فتطلق على الجيش الذي أرسله النبيّ
r، ووكل نائباً عنه لقيادته.
تدرج مشروعية الجهاد
لم يفرض الجهاد على
المسلمين مرة واحدة، بل مرَّ بالمراحل الآتية:
1-
لم
يُؤذن للمسلمين قبل الهجرة في الجهاد، بل كانت الأوامر تنزل من الله إلى رسوله
الكريم تأمره بتبليغ دعوة الله وإنذارهم إنْ هم أعرضوا عن قبولها. كما كانت الآيات
تأمر الرسول ومن معه بالصبر على ما يلاقونه من أذى المشركين، والصفح والإعراض
عنهم، قال الله تعالى:
ﭽ ﯓ ﯔ
ﯕ ﯖ ﭼ سورة
الحجر/85.
ﭽ ﮦ ﮧ
ﮨ ﮩ ﮪ
ﮫ ﮬﮭ ﮮ
ﮯ ﮰ ﮱﭼ سورة
النحل/125.
ﭽ ﭞ ﭟ
ﭠ ﭡ ﭢ
ﭣ ﭤ ﭼ سورة
الحجر/94.
ونستطيع أن نجد في
العهد المكي أكثر من سبعين آية في هذا المعنى([266]).
ذلك أن المسلمين لو
فُرض عليهم الجهاد في هذه المرحلة، لاستطاع المشركون أن يستأصلوا كل مَنْ آمَنَ
بالله ورسوله، ولقامت معارك دامية في كل بيت أسلم فيه أحدهم.
2-
بعد أن هاجر رسول الله r
إلى المدينة المنورة، وصار للإسلام دولة، أذِنَ الله لهم بالقتال ولم يُفرض عليهم،
قال الله تعالى:
ﭽ ﭑ ﭒ
ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ
ﭘ ﭙ ﭚ
ﭛ ﭜ ﭼ سورة الحج/39.
ويبدو أن القتال في
هذه المرحلة مباح للذين آمنوا. وعُبّرَ عنه بلفظ (الذين يُقاتَلون)؛ ليفيد العلة
في هذا الإذن: وهو الاضطهاد والعذاب الذي كان ينصبّ عليهم صباً في العهد المكي.
3-إيجاب
القتال على مَنْ قاتل المسلمين، دون من لم يقاتلهم، قال الله تعالى:
ﭽ ﯯ ﯰ
ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ
ﯵ ﯶﯷ ﯸ
ﯹ ﯺ ﯻ
ﯼ ﯽ ﭑ ﭒ
ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ
ﭟ ﭠ ﭡ
ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭼ سورة
البقرة/190-191.
4- الأمر
بقتال المشركين كافة. قال الله تعالى:
ﭽ.. ﮬ ﮭ
ﮮ ﮯ ..ﭼ سورة
التوبة/5.
ﭽ ﯡ ﯢ ﯣ
ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ
ﯩ ﯪ ﯫ
ﯬ ﯭ ﭼ سورة
التوبة/36.
ﭽ ﭽ ﭾ ﭿ
ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ
ﮅ ﮆ ﮇ
ﮈ ﮉ ﮊ
ﮋ ﮌ ﮍ
ﮎ ﮏ ﮐ
ﮑ ﮒ ﮓ
ﮔ ﮕ ﮖ
ﮗ ﮘ ﮙ
ﮚ ﭼ سورة
التوبة/29.
حكمة تشريع الجهاد:
شرع الله الجهاد
لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، أو الدخول في ذمة المسلمين ودفع الجزية، لكي يكون
الدين كله لله: فلا يقف أحد أمام من يريد الدخول في هذا الدين، قال الله تعالى:
ﭽ ﭶ ﭷ ﭸ
ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼ ﭽ ﭼ
سورة البقرة/193.
وقبل أن يبدأ
المسلمون القتال يعرضون على الناس الدخول في الإسلام، فإنْ أبوا دَعَوهم إلى أداء
الجزية وعقد الذمة معهم، فإنْ لم يقبلوا فالقتال. أما مشركو العرب، فلا يقبل منهم
غير الإسلام أو السيف.
ولا يعني الجهاد في
سبيل الله إجبار الناس على الدخول في الإسلام، بل يهدف إلى إزالة العقبات التي
تعترض انتشار الإسلام في الأرض. ويدل على هذا أن القرآن الكريم لم يجبر أحداً من
الناس من اليهود أو النصارى على اعتناق الإسلام، بل ترك لهم حرية الاختيار. ولولا
هذه السماحة الإسلامية لما حافظت الأقليات الدينية على وجودها في المجتمعات
الإسلامية إلى يومنا هذا.
النبيّ المجاهد
اتسم نبيّ الله محمد r
بسمات هي القمة في الرفعة والعظمة، ولم يثن الله على أحد كما أثنى على نبيه محمد r
فقال له:
ﭽ ﮛ ﮜ
ﮝ ﮞ ﮟ ﭼ سورة
القلم/4.
ومن أخلاقه العظيمة:
خلق الرحمة، فقال r:
(إنما أنا رحمة
مهداة)([267]).
ويروي أنس بن مالك t
فيقول:
(ما رأيت أحداً كان
أرحمَ بالعيال من رسول الله r)([268]).
ويقول:
(إني لأدخل في الصلاة
وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي؛ فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه
ببكائه)([269]).
ولمّا نزلت الآيات
الكريمة تطالب رسول الله r
بالجهاد في سبيل الله، نرى الرسول الكريم يمتثل آمر ربه؛ فيكون المجاهد الذي يترك
عواطفه استجابة لأمر ربه، بل عواطفه كلها محصورة في تنفيذ ما أمَرَ الله به. وقد
نجح الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه في ذلك. ونجح – أيضاً – النجاح الكبير
في حروبه. وما كان للنبي أن ينجح هذا النجاح، لو لم يكن منفذاً لأمر الله وحده،
ومعتمداً عليه في كل شأن من شؤون الحياة، ولو لم تكن عناية الله قد أحاطت به من كل
جانب. فوق أخذه بالأسباب.
ثبات النبي r
ضرب الرسول الكريم r
أروع الأمثلة ثباتاً في المعارك التي خاضها حتى تنجلي عن ظفر أو دفاع. ولم يدخل في
نفسه صلوات الله وسلامه عليه شيء من الخوف أو الهلع، ولم يفكر في معركة من المعارك
أن يهرب، بل كان على العكس من ذلك ثباتاً وصدق عزيمة: فقد ثبت ثباتاً يليق بمقامه
كرسول من رب العالمين، وقائد لجيوش المسلمين. وقد وصفه سيدنا علي بن أبي طالب t
فقال:
(لما كان يوم (بدر)،
وحضر البأس، اتّقينا برسول الله r،
وكان من أشدِّ الناس بأساً يومئذ، وما كان أحد أقرب إلى المشركين منه)([270]).
ومن أمثلة ذلك ما
يأتي:
1-
غزوة الأحزاب
كان ثبات النبي r
في غزوة الأحزاب آية من آيات الله، لا يقدر عليه أحد غيره، إذ كـانت الجزيـرة
العربية قد أجمعت وتجمَّعت لحرب الرسول r واستئصال العصبة المؤمنة، واقتربت من
المدينة المنورة لتنقضّ عليها…!
في هذا الموقف الحرج
الذي تخور فيه عزيمة الأبطال، نَقَضَ يهود بني قريظة عهدهم مع رسول الله r.
وإذا علمنا أن ديار بني قريظة كانت في موقع مهم يمكنهم من إيقاع ضربة كبيرة
بالمسلمين، أدركنا مدى الخطورة التي كانت تنتظر المسلمين؛ إذ صار المسـلمون
يواجهون عدوين: عدواً في الخارج يتمثل بالقبائل العربية، وعدواً من الداخل يتمثل
بيهود بني قريظة. ومع تلك الحراجة التي لا يستطيع أحد أن يقف أمامها، كان الرسول
الكريم ثابتاً كل الثبات، متفائلاً بنصر الله، يُشيع الطمأنينةَ في النفوس التي
أصابها الخوف والهلع، بل إن رسول الله r
كان يقوم بنفسه بأعمال الحراسة أمام النقاط التي يمكن أن تقتحم من قِبَل الأحزاب،
في تلك الليالي الشاتية الشديدة البرودة، مع العواصف القوية التي تحيط بالناس من
كل جانب. وزاد من حراجة الموقف: تناقص عدد الجيش الإسلامي بعد أن تسلَّلَ
المنافقون وضعاف الإيمان خوفاً من الأحزاب. في هذا الموقف الصعب كان رسـول الله r
يبثُّ الروح المعنوية في صفوف المسـلمين، ويسدُّ المنافذ التي قد يتسرب منها
الرّوع. لقد كان – حقاً – متفائلاً بنصر الله. ويدل على ذلك: ما كان من عجز بعض
الصحابة عن كسر صخرة عرضت لهم أثناء الحفر، وهنا يروي (البراء بن عازب) فيقول:
(لما كان حين
أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ r
بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، عَرَضتَ لَنَا فِي
بعض الخَنْدَقِ صَخْرَةٌ لا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ؛ فاشتكينا ذلك إلى
النبيّ r؛
فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، فَضَرَبَ
ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَها، وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ
الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ الساعة، ثُمَّ ضَرَبَ
الثانية فقطع الثُلُثَ الآخر فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ
فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ قَصْرَ الْمَدَائِنَ، ثُمَّ ضَرَبَ الثالثة
وقال: يسم الله؛ فقطع بَقِيَّةَ الْحَجَرِ، فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ
مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ
مَكَانِي هَذَا الساعة)([271]).
ولقد
كان لهذا الثبات والتفاؤل أثرٌ كبيرٌ في قلوب الصحابة وثباتهم. ولكن ماذا فعل رسول
الله r بعد أن عادت الأحزاب ناكصةً على أعقابها، تجر أذيال الخيبة
والذلة؟
لقد
سار رسول الله r إلى (بني قريظة) لتأديبهم، بعد أم نكثوا عهودهم معه، فقام
بحصارهم، ونَزَلوا على حكم (سعد بن معاذ) الذي حَكَمَ بأن تُقتل رجالهم، وتسبى
نساؤهم وذراريهم، وهكذا كان.
2-
غزوة
حنين:
كان
فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجاً سبباً مهماً من أسباب الحقد الكثير على
الإسلام ودولته الفتية، لذلك قامت العرب بانتثال السهم الأخير لترمي به رسول الله r والمسلمين معه!
لم
تكن (هوازن) قوةً يُستهان بها، بل كانت تُمثِّلُ القوة الكبيرة الثانية بعد قوة
قريش، وكان هناك تنافس بين (هوازن) و (قريش): فإذا كانت (قريش) قد أخفقت في محاربة
الإسلام والمسلمين، فلماذا لا يُكتب الشـرف لهوازن في ذلك؟!
هكذا
كانت (هوازن) تُمنّي نفسها في نيل ذلك الشرف، فقررت أن تخوض حرباً ضروساً ضد
الإسلام والمسلمين. فقام (مالك بن عوف) سيّد هوازن داعياً إلى حرب المسلمين؛
فانضمت إليه – مع هوازن – قبائل: (ثقيف) كلها، و (نصر) و (جشم) كلها، و (سعد بن
بكر)، وتخلفت عن هوازن قبيلتا (كعب) و (كلاب).
وما أن وصلت الأخبار
إلى رسول الله r
أن (هوازن) قد أعدّت عدتها وجمعت جمعها بقيادة (مالك بن عوف) لحرب المسلمين؛ حتى
أرسل النبيّ r
(حدرد الأسلمي)، وأمره أن يأتي القوم فيقيم فيهم، ثم يأتيه بأخبارهم ففعل. ولمّا
تبين للنبيّ صدق الخبر، قام بمغادرة مكة ومعه اثنا عشر ألفاً من المسلمين. وقد قال
قائل للنبي r:
إن هوازن خرجت عن بكرة أبيها بظعنهم ونَعمهم وشائهم، فابتسم النبيّ الكريم وقال:
تلك غنيمةٌ للمسلمين إن شاء الله!.
أما (مالك بن عوف)،
فقد سبق المسلمين إلى وادي حُنين، فأدخل جيشه ليلاً، وفرَّق عدداً كثيراً من
الكمائن في الشعاب، والأخباء، والمضايق، وأمرهم أن يرشقوا المسلمين بالنبال أول
اللقاء بهم، ثم يَشُدّوا عليهم شدة رجل واحدّ.
وعبّأ
النبيّ الكريم جيشه، ونزلوا (وادي حنين) وهم لا يعلمون أي شيء كان عن الكمائن التي
فرّقوها في بطن الوادي هنا وهناك، وعن الجيش الذي أعدّ عدته لمباغتة المسلمين!.
وبينما كان الجيش الإسلامي يأخذُ طريقه في الانحدار في الوادي إذا بالنبال تنهال
عليهم من كل جانب، وإذا جيش العدو يباغت المسلمين فيشدون عليهم شدة رجلٍ واحد!.
وينظر النبيّ الكريم
إلى هذه المأساة، فيعمل على تدارك الأمر، فينحاز صلوات الله وسلامه عليه إلى مكان
مناسب، ويُدير المعركة أول الأمر بعشرة من أصحابه بعد أن فرَّ اثنا عشر ألفاً من
المسلمين. ويثبت في المعركة، ويناشد المسلمين أن يعودوا إلى ميدان الجهاد فيقول:
(أين أيها الناس؟!
هلموا إليَّ، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله)([272])،
وأمر عمه العباس أن ينادي:
(يا معشر الأنصار، يا
أصحاب السَّمُرَة – بيعة الرضوان – فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنّت إلى أولادها
يقولون: يا لبيك! يا لبيك…)([273]).
وكان النبيّ r
على بغلته يقاتل ويقول:
أنـا النبــي لا كــذب
|
|
أنا أبن عبد المطلب |
قال العلامة ابن كثير
في تفسيره، معلقاً على ثبات النبي r
في غزوة حنين:
(وهذا في غاية ما
يكون من الشجاعة التامة: أنه في مثل هذا اليوم في حومة الوغى، وقد انكشف عنه جيشه،
وهو – مع هذا – على بغلته وليست سـريعة الجري، ولا تصـلح لفرٍ ولا لكرٍ ولا لهرب،
وهو مع هذا-أيضاً– يركضها إلى وجوههم، وينوّه باسمه ليعرفه مَنْ لم يعرفه صلوات
الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين. وما هذا كله إلاّ ثقةً بالله، وتوكلاً
عليه، وعلماً منه بأنه سينصره، ويتم ما أرسله به، ويظهر دينه على سائر الأديان)([274]).
إن ثبات النبيّ r
جعل هزيمة المسلمين غيرَ شاملة أولاً، بعدما كادت تكون مدمرة، وانقلبت الهزيمة إلى
نصر بعد أن رأى المسلمون نبيهم ثابتاً كل الثبات، وهو يقاتل المشركين مقبلاً غير
مدبر؛ فقاموا بهجوم مضاد: فأخذ النبيّ r
حصيات فرمى بهن في وجوه الكفار ثم قال: انهزموا ورب محمد.
وقد سجل القرآن
الكريم الثناء على نبي الله محمد وعلى المؤمنين فقال تعالى:
ﭽ ﮞ ﮟ ﮠ
ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ
ﮩ ﮪ ﮫ
ﮬ ﮭ ﮮ
ﮯ ﮰ ﮱ
ﯓ ﯔ ﯕ
ﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ ﯚ ﯛ
ﯜ ﯝ ﯞ
ﯟ ﯠ ﯡ
ﯢ ﯣ ﯤ
ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ
ﯪ ﯫ ﯬ ﭼ
سورة التوبة/25-26.
ولا عجب في ذلك؛ فإن
سيرة رسول الله r
الجهادية كلها لتدل على أروع صفحات الثبات. فما تعرَّض المسلمون لفزع أو موقف صعب
إلاّ وجدوا النبيّ الكريم يُثبِّت أفئدتهم ويحميهم.
ولم يكن ثبات النبي r
في الحروب وحدَها، بل كان ثباته – أيضاً – أمام الغنائم التي غنمها المسلمون في
حُنين وغير حُنين، فماذا فعل بها رسول الله r؟
غنم المسلمون في
(حُنين) غنائم كثيرة، منها: أربعة وعشرون ألف بعير، وأربعون ألف شاة، وأربعة آلاف
أوقية من الفضة، وستة آلاف نسمة من السبي. وقام النبي r بتوزيعها كلها ولم يُبقِ لنفسه منها أي شيء
كان. وقد روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي r كان يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا
يجدون عشاءاً([275]).
وتأتي السيدة (فاطمة) ابنة رسول الله r
بكسرة خبز لأبيها. ويسألها النبي الكريم: (ما هذه الكسرة يا فاطمة؟ قالت: قرص
خبزته، فلم تطب نفسي حتى آتيتك بهذه الكسرة، فقال: أما إنه أول طعام دخل فم أبيك
منذ ثلاثة أيام)([276]).
وتروي السيدة عائشة
رضي الله عنها فتقول:
(ما شبع آل محمد
غداءاً وعشاءاً من خبز الشعير ثلاثة أيام متتابعات، حتى لحق بالله)([277]).
وقد توفي رسول الله r
ودرعه مرهونة عند رجل من يهود بوَسق من شعير([278]).
3-
دعثور بن الحارث
يحاول قتل رسول الله r
تجمع جمع من (بني
ثعلبة) و (محارب)؛ لينالوا من دولة الإسلام والرسول r، جمعهم رجل يقال له: (دعثور بن الحارث
المحاربي)، فخرج إليه الرسول الكريم في أربعمائة وخمسين من الصحابة … وعَسكر النبي
فأصابهم المطر فَبَلَّ ثوب النبي r،
وجلس النبي بعيداً عن أصحابه، ثم نزع ثيابه فنشرها لتجف، وألقاها على شجرة، ثم
اضطجع تحتها، والأعراب ينظرون إلى ما يفعل. فندب الأعراب سيدهم (دعثوراً) لقتل
النبي r؛
فاختار سيفاً صارماً، ثم أقبل مشتملاً على السيف، حتى قام على رأس النبي r
وقد اشهر سيفه فقال:
يا محمد، مَنْ يمنعك
مني اليوم؟
فأجابه النبي r
بكلمة واحدة هي: الله!.
فسقط السيف من يد
الأعرابي؛ فتناوله النبي r،
وقام به على رأس الأعرابي فقال:
مَنْ يمنعك مني
اليوم؟
قال: لا أحد!. ثم
قال: فأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله. ثم أقبل بوجهه فقال:
أما والله لأنت خير مني([279]).
هذه الحادثة –
وأمثالها كثير – تدل دلالة واضحة على ثبات النبي r في أحلك المواقف وأكثرها صعوبة وحراجة. فلم
يصبه شيء من الفزع أو الارتباك أو الحيرة والسيف مسلط على رأسه يهزه المشرك ليقتل
به رسول الله r؛
لأنه كان واثقاً من حماية الله له، بعد أن أنزل الله عليه قوله تعالى:
ﭽ ﮊ ﮋ
ﮌ ﮍ ﭼ
([280]).
سورة المائدة/67.
لذلك كان جوابه حين
سأله: يا محمد، مَنْ يمنعك مني اليوم؟
فأجابه بكلمة واحدة
هي : الله. إنه – وحده – الذي يمنعني منك!
ويأتي (دعثور) إلى
قومه فيقص عليهم ما حدث، وما أصـابه من رعب أمام رسول الله r - وهو ذلك الفارس الشجاع– إذ سقط السيف من
يده؛ فيأخذهم العجب!
ويأخذهم العجب مرة
ثانية، حين علموا أن رسول الله r
أخَذَ السيف ولم يقتله!!
ويأخذهم العجب مرة
ثالثة، حين رأوا (دعثوراً) طليقاً لم يمسه أحد بسوء!!!.
إنها أخلاق النبوة!
وهل من ثبات أعظم من ثبات رسول الله r
في هذه الحادثة وأمثالها؟!!
ولو أنَّ كثيراً من
الدعاة إلى الله لم ينتصروا لأنفسهم إذا أسيء إليهم، وعملوا بخلق العفو … إذن
لانقلب هؤلاء الأعداء أو كثير منهم إلى اخوة وأصدقاء، يضعون أكفهم في أكف الدعاة!
إنه رسول الله الأسوة
والقدوة، فهل نقتدي ونتأسى؟
من صفات
الرسول القيادية([281])
جمع الله تعالى
لرسوله محمد r
الصفات القيادية الناجحة، ومن هذه الصفات:
1-
السرعة في اتخاذ
القرار الصحيح
كان رسول الله r
يتمتع بعقلية كبيرة؛ لذلك كان يتخذ القرار الصحيح في سرعة؛ إذ التباطؤ في اتخاذ
القرار قد يجر إلى ما لا تحمد عقباه، فيضيع النصر، بل يلحق بالأمة الخسارة
والهزيمة. ولا يستطيع أن يتخذ القرار الصحيح السريع إلاّ من أوتي قابلية واسعة في
العقل وفهم الواقع. ومع ذلك كله، فقد كان النبي r حريصاً على جمع المعلومات عن الأعداء: ببث
العيون، واستشارة ذوي الرأي، وإرسال دوريات القتال في سرعة فائقة.
2-
الشجاعة الشخصية
النادرة
شجاعة الرسول الشخصية
من الشجاعات النادرة التي هيهات أن يجود الزمان بمثلها. وقد شهد بذلك حتى الأعداء.
ففي غزوة بدر قرر النبي r
أن يخوض المعركة غير المتكافئة من ناحية العَدَدِ والعُدَدِ؛ فقد كانت قوات النبي r
تعدل ثلث قوات قريش.
على أن رسول الله r
فوق ذلك لم يكن بعيداً عن جنوده، بل كان معهم في المقدمة يباشر القتال. وما أروع
ما قاله سيدنا علي بن أبى طالب t
في الرسول الكريم:
(لمّا كان يوم (بدر)،
وحضر البأس، اتقينا برسول الله r
- وكـان من أشد الناس بأساً يومئذ – وما كان أحد أقرب إلى المشركين منه)([282]).
أما في غزوة الأحزاب،
فقد صمد الرسول r
أمام عشرة آلاف مقاتل من المشركين، ولم يكن عدد المسلمين يتجاوز الثلاثة آلاف
مجاهد وتحرّج الأمر على الرسول الكريم وصحابته أكثر حين نكثت قريظة عهدها مع رسول
الله r:
فصار المسلمون يواجهون عدوين: عدواً خارجياً يتمثل بالأحزاب التي أجمعت أن تستأصل
المسلمين في المدينة، وعدواً داخلياً يتمثل في يهود بني قريظة الذين نكثوا عهدهم
معه في ذلك الموقف الحرج.
إن موقف القادة
العظماء قد يتزعزع في مثل هذه الأحوال. أما رسول الله r فقد تغلب على الموقف الصعب بشجاعته الفائقة،
وحكمته الواسعة.
3-
نفسية لا تتبدل
كان رسول الله r
مسيطراً على أعصابه في حالتي النصر أو الهزيمة. فلما تمكن المشركون منه في غزوة
أحد، وأحاطوا به وبصحابته من كل جانب، ظلّ الرسول مسيطراً على أعصابه وتخلص من ذلك
المأزق الصعب، حتى انقلبت الهزيمة إلى نصر.
وهكذا الأمر في
سيطرته على أعصابه يوم الأحزاب، ويوم حنين لمّا صمد مع عشرة من أصحابه أمام غطرسة
الكفر والشرك، حتى تراجع من فرّ من المسلمين.
4-
بعد النظر
القائد الناجح فـي
قيادته يحسب لكل شيء حسـابه، ويضع كـل الاحتمالات القريبة والبعيدة أمامه، بل
يُدخل أسوأ الاحتمالات في حسابه كل ذلك ليتمكن من تطبيق خططه إذا دعا داعيها،
ولئلا يفاجأ بما لم يكن يتوقعه. ومن أمثلة ذلك: قبوله r لشروط صلح الحديبية: فقد كان رسول الله ينظر
بنور الله، ويعلم ما ستجلبه الهدنة مع قريش من تكثير عدد المسلمين، وهكذا كان. فقد
كثر عدد المسلمين من 1400 مجاهد يوم عقد صلح الحديبية إلى 10000 عشرة آلاف مجاهد
يوم فتح مكة. كل ذلك في غضون سنتين من الزمان فقط.
5-
معرفة القابليات
والنفسيات
استطاع رسول الله r
أن يعرف قابليات أصحابه: فكلّف كلّ واحدٍ منهم بما يتفق وتلك القابلية: فقد وضع
الشجعان المغاوير في مكانهم المناسب، ووضع أصحاب الرأي والمشورة في موضعهم
المناسب، ووضع الناس القياديين في موضعهم المناسب أيضاً،وكلّف كل واحدٍ منهم بما
يسـتطيعه. فلا نعجب إذا علمنا أن كل واحد منهم قام بمهمته أحسن القيام.
6-
الثقة المتبادلة
وثق الرسول الكريم
بأصحابه، كما وثق أصحابه – أيضاً – كل الثقة بنبيهم محمد r. ويدل على ثقة الصحابة بنبيهم قبولهم لشروط
صلح الحديبية التي يبدو في ظاهرها الغبن الكبير بحق المسلمين. أما ثقة النبي
بأصحابه، فيدل عليه قبوله الاشتراك في غزوة أحد؛ إذ كانت قوات المشركين تعدل خمسة
أضعاف المسلمين.
7-
المحبة المتبادلة
كانت المحبة متبادلة
بين رسول الله r
وصحابته. ويكفينا أن نذكر أن الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه لما صار هدفاً
للمشركين في (غزوة أحد)، وصاروا يصوّبون إليه نبالهم، صدّ الصحابة النبال بأجسادهم
عنه. وكان حب الصحابة للرسول أكثر من حبهم أنفسهم: فهذا زيد بن الدثنة يخرجه
المشركون ليقتلوه، فيقول له أبو سفيان: أنشدك الله، أتحب أن محمداً الآن مكانك
تضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فيرد عليه زيد: والله ما أحب أن محمداً مكانه الذي هو فيه
تصيبه شوكة وإني لجالس في أهلي؛ فقال أبو سفيان: ما رأيت أحداً من الناس يحب أحداً
كحب أصحاب محمدٍ محمداً.
وهذا سيدنا بلال بن
رباح لما حضرته الوفاة كان أهله يقولون: واكرباه! أما هو فكان يقول: واطرباه! غداً
ألقى الأحبة، محمداً وصحبه.
لذلك كان (عمرو بن
العاص) يقول: ما كان أحد أحبَّ إليَّ من رسول الله r. وكان سيدنا (علي بن أبي طالب) t
يقول:
(كان رسول الله r
أحبّ إلينا من أموالنا، وأولادنا، وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ)([283]).
أما حب الرسول
لأصحابه، فكان من أعجب العجب: يتألم إذا أصاب واحداً منهم شيء من الأسى، بل كانت
عيناه تذرفان من الدمع حزناً أو شفقة عليه. ويدل على حب الرسول للصحابة: أن (حاطب
بن أبي بلتعة) لما كتب كتاباً إلى قريش يخبرهم فيه بعزم النبي r
على فتح مكة، واقترح سيدنا عمر ابن الخطاب قتل حاطب، لم يوافق النبي r
على ذلك، بل ذكره بأحسن ما فيه وقال: (إنه قد شهد بدراً. وما يدريك لعلّ الله اطلع
على من شهد بدراً فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟)([284]).
8-
قوة الشخصية
كل من يقرأ سيرة رسول
الله r
تتجلى أمامه العظمة في كل جانب من جوانبها: جانب الرحمة، والعلم، والتواضع،
والحلم… ومع ذلك لا يستطيع أحد أن يعصي له أمراً، أو يرفع صوته فوق صوته، أو يديم
النظر في وجهه الشريف. وقد بهر هذا الأمر (عروة بن مسعود الثقفي) لمّا جاء لمفاوضة
النبي r
في (الحديبية)، فرجع إلى قومه فقال:
(أي قوم! والله لقد
وفدتُ على الملوك، ووفدتُ على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إنْ رأيت ملكاً قط يعظمه
أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمداً)([285]).
9-مساواته
مع أصحابه
لم يكن النبي r
يتميز بأيِّ شيء كان عن صحابته في حلّه وترحاله: فقد كان يعمل كما يعملون في حفر
الخندق بيده، ويحمل التراب والحجارة، وتعرَّض للخطر أكثر مما تعرض له أصحابه.
10-
استشاراته
قبل أن يُقدِم الرسول
r
على غزوة من الغزوات أو سرية من السرايا يستشير أصحابه، ويأخذ بما يرى فيه الخير.
ففي غزوة بدر أشار (الحباب بن المنذر) على الرسول r أن يترك مياه بدر خلفه لينتفع بها المسلمون
فقط، وقبل النبي الكريم مشورته([286]).
وفي (غزوة الأحزاب) قام بحفر الخندق باقتراح من سلمان الفارسي، ولم تعرف العرب ذلك
الأسلوب في حماية المدن. والصلح الذي لم يستشر النبي الكريم فيه صحابته هو صلح
(الحديبية)؛ وذلك لما يعلمه من الفوائد الكبيرة التي تترتب على الصلح بتلك الشروط.
نماذج من قيادة النبي r في جهاده
النبي محمد r
هو عبد الله ورسوله، وهو بشر مثل سائر البشر، بيد أن الله أكرمه بالرسالة، واختاره
نبياً، واصطفاه على الخلق، وأنزل عليه الوحي، وأمره أن يقول للناس:
ﭽ ﰄ ﰅ
ﰆ ﰇ ﰈ
ﰉ ﰊ ﰋ
ﰌ ﰍ ﰎ ﭼ
سورة الكهف/110.
وكان صلوات الله
وسلامه عليه مسدداً من ربه، قال تعالى:
ﭽ ﭛ ﭜ
ﭝ ﭞ ﭟ
ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ
ﭨ ﭩ ﭼ سورة
النجم/3-5.
ومع ذلك كله، فقد جمع
الله له من صفات الكمال ما لم يجمعها لغيره: من بعد النظر، والشجاعة النادرة،
والإرادة القوية… وسبحان من أنزل على قلبه الشريف:
ﭽ ﯱ ﯲ
ﯳ ﯴ ﯵ ﭼ
سورة الأنعام/124.
إن المواقف الصعبة
التي واجهت رسول الله r
في جهاده والأهوال التي أحاطت به من كل جانب كثيرة كثيرة. لكن الرسول الحكيم
اسـتطاع أن يتخلص من تلك المواقف، ويحقق النصر. وسأقتصر هنا على ذكر مواقف قليلة؛
ليتبين لنا أن قيادة رسول الله r
بلغت القمة في كل شأن، وهيهات أن تدانيها أو تقرب منها أية قيادة كانت!
ويستطيع الدارس
لغزوات النبي r
أن يجد الخطط التي بلغت القمة في الحكمة في غزواته كلها، ومنها غزوة أحد.
1-
غزوة أحد
كانت الهزيمة التي
لحقت قريشاً في بدر، قد تركت آثارها العميقة في نفوس القرشيين؛ لذلك عقدت قريش
عزمها، وأعدت واستعدت للآخذ بالثأر، ورصدت الكثير من المال لهذا الأمر، بل إن
القافلة التجارية التي سبَّبَتْ هزيمة المشركين في بدر قد رصدوها للاستعانة بها في
حرب المسلمين. وما كانت قريش تخشى من شيء خشيتها من تكرر مأساة هزيمتها في بدر؛
لذلك نجدَهم يستعدون الاستعداد الكبير لهذه المهمة، فيقوم أبو سفيان بجمع ثلاثة
آلاف مقاتل من قريش، وعرب تهامة، والأحابيش، وفي هؤلاء سبعمائة دارع، ومائتا فرس،
وثلاثة آلاف بعير. وزيادة في الاستعداد قام بعض كبراء المشركين باصطحاب نسائهم كي
يثرن الحمية في نفوس المقاتلين أولاً، لئلا يفر بعض منهم في المنازلة بعد ذلك.
وسار أبو سفيان بجيشه حتى نزل قريباً من جبل أحد. وعلم النبي الكريم بذلك فأرسل
ثلاثة من أصحابه ليأتوه بأخبار القوم. وما أن أخبره المبعوثون بخبر قريش، حتى
استشار أصحابه: فكان من رأي الشبان المتحمسين الذين فاتهم الاشتراك في غزوة بدر أن
يخرجوا خارج المدينة لملاقاة المهاجمين، أما الصـحابة الآخرون، فقد أشاروا عليه
بالتحصن في المدينة، ويتولون الدفاع عنها من دورها وحاراتها. وكان هذا رأي النبي r؛
ذلك أن المهاجمين كانوا أكثر عدداً من المدافعين، فإذا تحصْن المسـلمون في المدينة
تمكنوا من إنزال الضـربات الموجعة في قريش …
وهكذا خرج النبي r
ومعه ألف مقاتل. ولكن سرعان ما عاد عبد الله ابن أبي رأس المنافقين بثلث الجيش،
وحجته: أن النبي r
أطاع الولدان في الخروج وعصى أمره. ووصل النبي إلى جبل أحُدٍ واختار أفضل مكان
وعسكر فيه. فقد حمى ظهره ويمينه بارتفاع الجبل، وأما ميسرته وظهره، فقد حماها بسد
تلك الثغرة بخمسين من الرماة. ولم يكن اختياره صلوات الله وسلامه عليه للمكان الذي
عسكر فيه جاء عفوياً، بل يدل على قيادته الحكيمة كل الحكمة: فقد اختار موضعاً
مرتفعاً، فيستطيع أن يحتمي به إذا نزلت بالمسلمين هزيمة، وعند ذاك لا يُضْطَرُّ
إلى الفرار، فلا يقع في قبضة الأعداء. وإذا ما تقدَّم المشركون نحوه وأرادوا
احتلال معسكره، فتكون الخسارة في جانب المشركين باهظة إذ ذاك. واختيار الرسول لهذا
المكان المرتفع الذي عسكر فيه، هو الذي اضطر المشركين إلى اختيار مكان منخفض.
والمكان المنخفض هذا لا يحقق لهم نصراً كبيراً لو قُدِّر لهم النصر، أما إذا كانت
الغلبة للمسلمين، فإن الخسارة ستكون فادحة في جانب المشركين.
وابتدأت المعركة بين
العصبة المؤمنة التي يقودها رسول الله r،
وجيوش المشركين التي يقودها أبو سفيان. بيد أن الفئتين لم تكونا متكافئتين! ومع
ذلك، فإن حرارة الإيمان مـع الفئـة المسلمة هي التي حققت النصر أول الأمر، واستطاع
المسلمون أن ينزلوا بالمشركين خسائر.
ولقد كان الرسول r
حريصاً – كل الحرص - أن لا يترك الرماة أماكنهم في أية حالة كانت من الحالات، سواء
انتصر المسلمون في المعركة أم لم ينتصروا. ويبدو ذلك واضحاً في وصية النبي r
لقائد الرماة، عبد الله ابن جبير، فقد أوصاه بقوله:
(إنضح الخيلَ عنا
بالنبل، لا يأتون من خلفنا، وإن كانت لنا أو علينا فأثبتْ مكانك، لا نؤتَيَنَّ من
قِبَلِك)([287]).
ثم قال النبي r
للرماة:
(أُحموا ظهورنا، فإن
رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قـد غنمنا فلا تشركونا)([288]).
وأمتثل الرماة ما
أوصاهم به النبي r أول الأمر. ويكفينا أن نعلم أن خالد بن الوليد
قام بثلاث هجمات على الرماة ليحدث الصَدْع في صفوف المسلمين، لكن الرماة كانوا له
بالمرصاد: فقاموا برشقهم بالنبال، حتى فشلَت هجماتهم الثلاث([289]).
وانطلق الجيش الإسلامي
يسحق جيش المشركين. ونظر الرماة إلى المسلمين وهم يأخذون غنائم العدو، فقرروا ترك
أماكنهم متأولين. لكن قائدهم عبد الله بن جبير ذكَّرهم بوصية رسول الله r
لهم بعدم تركهم أماكنهم، وقال لهم: أنسيتم ما قال لكم رسول الله r؟!!
بيد أن أربعين من
الرماة غادروا أماكنهم، ولم يبق إلاَّ عبد الله بن جبير مع تسعة من أصحابه. ونظر
خالد بن الوليد، فوجد الفرصة الذهبية أمامه؛ إذ ترك أكثرية الرماة أماكنهم؛ فقام
بهجوم أباد به عبد الله بن جبير وصحبه التسعة، ثم أنقضَّ على المسلمين من خلفهم.
وهكذا أنقلب نصر المسلمين إلى هزيمة!!
ونظر رسول الله r
إلى هذه المأساة، فوجد أمامه طريقين:
الأول:
أن ينجوَ النبي بنفسه وأصحابه التسعة الذين ظلوا معه، ويترك جيشه المطوق يلاقي
مصيره المحتوم!
الثاني:
أنْ يخاطر النبي بنفسه، فيجمع أصحابه حوله؛ ليفك الحصار عن جيشه المطوق. وهذا الذي
كان؛ إذ رفع النبي صوته ينادي أصحابه وهو يعلم أن المشركين سيسمعونه قبل المسلمين،
وفي ذلك خطر عليه كبير، لكن النبي فعل هذا؛ لأنه الطريق الذي ينقذ المسلمين من ذلك
المأزق الصعب. وهكذا تجمَّعَ عدد غير قليل من المشركين كلهم يريد قتل رسول
الله r. وقد استطاع المشركون أن ينالوا من رسول
الله r
في هذه المعركة ما لم ينالوه منه في أية معركة كانت من المعارك: فقد جُرحَ وجه
النبي r
في هذه الغزوة، وكسرت رباعيته، وكسر أنفه، وجُرِحت شفته السفلى، وأصيبت ركبتاه
بجروح لمَّا وقع في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق … بيد أن الرسول
الحكيم ظل يقاتل ويقاتل، حتى لم يبقَ معه إلا طلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي
وقاص، وبعد أن تساقط سَبعة من الأنصار من حوله([290]).
وأشتد الأمر على رسول الله r
أكثر، بعد أن تعاقد أربعة من قريش على قتل الرسول الكريم وهم: (عبد الله بن شهاب
الزهري)، و(عتبة بن أبي وقاص)، و(عمرو بن قميئة)، و(أُبَيُّ بن خلف). وأهتبل
المشركون الفرصة؛ فانقضوا على رسول الله r ليقتلوه. بيـد أن (طلحة بن عبيد الله)
و(سـعد بن أبي وقاص) قاتلا ببسـالة لا نظير لها – وكانا من أمهر رماة العرب - حتى
أبعدا المشركين عن رسول الله r.
لقد قاتل طلحة حتى قطعت أصابعه، وجرح في هذه الغزوة تسعة وثلاثين أو خمسة وثلاثين
جرحاً، وشُلَّت أصبعه السبابة والتي تليها. وأقبل – بعد ذلك - (أُبي بن خلف) وصاح
بأعلى صوته: يا محمد، لا نجوتُ إنْ نجوتَ! فأراد الصحابة أن يصدوه، لكن الرسول
أبى. ولمَّا دنا (أُبَي)، تناول النبي الحربة فطعنه بها في عنقه وهو على فرسه،
فوقع فأحتمله المشركون؛ فمات لمَّا ولَّوا قافلين.
في هذه الأحوال
القاسية استُشهد (حمزة بن عبد المطلب) عم النبي r، وسبعون من الصحابة، وقد مثلوا بجثة حمزة.
ولم يترك الرسول الكريم صحابته يقاتلون وهو يصدر لهم الأوامر، بل باشر القتال بنفسه،
وتحمَّلَ ضربات كثيرة، وقد صلى جالساً من شدة ما أصابه من تعب، وصلى الصحابة خلفه
جلوساً. ويكفينا أن نعلم أن الإمام (ابن شهاب الزهري) ذكر في مغازيه أن وجه رسول
الله r
ضرب يومئذ بالسيف سبعين ضربة وقاه الله شرها([291]).
وعادت قريش قافلة في
طريقها إلى (مكة). لكن الرسول المجاهد ما كاد يصل إلى المدينة حتى أمر أصحابه ممن
اشترك في المعركة أن يأخذ سـلاحه ويتبع المشركين (فقال أُسيد بن حضير – وقد أُصيب
بسبع جراحات في جسده يريد أن يداويها - قال: سمعاً وطاعة لله ورسوله، وأخذ سلاحه
ولم يداو نفسه، ولحق برسول الله r).
(وخرج من بني سلمة
أربعون جريحاً: بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحاً، وبخراش بن الصمة عشر جراحات).
فلما علمت قريش بذلك
فرّتْ راجعة إلى مكة. وهكذا تحولت الهزيمة إلى نصر. بل إن النبي المجاهد، قطع على
المشركين خط الرجعة، إذا سّولت لهم أنفسهم أن يغيروا على المدينة؛ ليستأصلوا جذور
الإسلام فيها.
إن عملية اللحاق
بقريش بعد تلك الهزيمة، كان لها أثرها الكبير في المشركين وفي المسلمين على حد
سواء:
أما المشركون،
فقد هالتهم تلك البسالة التي كان عليها المسلمون، فتركت شجاعة المسلمين في نفوسهم
أعمق الأثر، فصاروا يحسُبون لكل خطوة يخطونها ضد المسلمين كل حساب.
وأما المسلمون،
فإن عملية اللحاق بالمشركين هذه رفعت من معنوياتهم، وأعادت إلى نفوسهم تلك الشجاعة
النادرة التي كانوا عليها قبل الهزيمة.
ولا بد لنا أن نشير
هنا إلى أن انتصار المسلمين في (غزوة أُحد) على جيش المشركين الذي يفوقهم في العَدَد
والعُدد خمسة أضعاف، كان من أسبابه المهمة – فوق قيادة النبي r-:
الإيمان العميق الذي عمر قلوب الصحابة، وهو الذي يضاعف من قوة الفرد أضعافاً
كثيرة. وقد سجل القرآن الحكيم هذه الحقيقة في استعلاء الإيمان، فقال تعالى:
ﭽ ﭿ ﮀ
ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ
ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ
ﮏ ﮐ ﮑ
ﮒ ﮓ ﮔ
ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ
ﮙ ﮚ ﮛ ﭼ سورة
الأنفال/65.
وهكذا
نرى الهزيمة في نهاية المطاف قد لحقت ثلاثة آلاف قرشي أمام سبعمائة مسلم!.
2-
غزوة الخندق
بذل يهود خيبر جهوداً
جهيدة من أجل القضاء على دولة الإسلام الفتية: فقاموا بتجميع الجموع والأحزاب بعد
أن ذهبوا إلى مكة، ومّنوا قريشاً الأماني بأنهم سيكونون معها حتى يستأصلوا الإسلام
من المدينة. ولم يكتفوا بذلك، بل ذهبوا إلى (غطفان) و(بني مرة) و(أشجع)، وأثاروهم
ضد رسول الله r
والمسلمين.
كانت قوى الأحزاب
التي تجمعت كثيرة جداً، لم تشهد الجزيرة العربية مثيلاً لها: فقد زادت على عشرة
آلاف مقاتل. وربما كان هذا العدد يفوق عدد مسلمي المدينة برجالها ونسائها وشيوخها
وأطفالها …!
وهكذا أصابت المسلمين
شدة لا مثيل لها؛ إذ رمتهم العرب عن قوسٍ واحدة! بيد أن قيادة النبي r
كانت يقظة: فالنبي الكريم له استخباراته المنبثة هنا وهناك. وما أن بلغ نبي الله r
عزم الأحزاب على مهاجمة المدينة، حتى استشار النبي ذوي الرأي في خطة الدفاع. وبعد
النقاش وتبادل الرأي، قرَّر النبي r
الأخذ بما اقترحه (سلمان الفارسي) t
من حفر الخندق حول المدينة. وأسرع النبي في تنفيذ الحفر: فوكَلَ إلى كل عشرة من
الصحابة أن يحفروا أربعين ذراعاً من الخندق. وكانت مساحة الخندق واسعة: فطوله
حوالي خمسة آلاف ذراع، وعمقه سبعة أذرع إلى عشرة، أما عرضه، فمن تسعة إلى ما
فوقها. وانطلق النبي المجاهد مع صحابته يحفر الخندق بالمعول، ومرة يقوم يغرف
بالمسحاة التراب، ومرة يحمل التراب، وينشد وإياهم:
لاهُمَّ لولا أنت
ما أهتدينا
|
|
ولا تَصَدَّقْنا
ولا صلينا
|
فأنزِلَنْ سكينةً
علينا
|
|
وثبِّت الأقدام
إنْ لاقينا
|
إن الأُولى لقد
بَغَوا علينا
|
|
إذا أرادوا فتنةً
أبَينا
|
في هذا الموقف الحرج،
وقد تجمعت القبائل العربية لغزو المدينة المنورة، نقض يهود بني قريظة عهدهم مع
النبي r.
وقد كان النبي عاهد يهود - يوم قدم المدينة – ألاَّ يكونوا معه ولا عليه، وأقرَّهم
على دينهم..! لذلك أرسل النبي r
سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وأسيد بن حضير؛ لينظر صحة الخبر، وقد أوصاهم صلوات
الله وسلامه عليه بقوله:
(انطلقوا حتى تأتوا
هؤلاء القوم فتنظروا: أحق ما بلغنا عنهم؟ فإن كان حقاً فألحنوا لي لحناً أعرفه،
ولا تفتُّوا في أعضاد المسلمين، وإنْ كـانوا على الوفاء؛ فاجهروا به للناس)([292]).
ويأتي القوم إلى بني
قريظة، فيجدونهم قد نقضوا عهدهم، وجاهروا بعداوتهم وغدرهم…! ولمَّا عادوا إلى
النبي r
وأخبروه، كبَّرَ صلوات الله وسلامه عليه وقال:
(الله أكبر، أبشروا
يا معشرَ المسلمين)([293]).
ويستطيع المتأمل في
وصية النبي r
هذه، أن يدرك أهمية القضايا النفسية التي يعالج بها الموقف: فإن كان هؤلاء اليهود
قد نقضوا عهدهم، فلا تصرحوا بذلك أمام الناس، بل أشيروا إليَّ إشارة خفيفة أفهمها
أنا ولا يفهما غيري، أي ألغِزُوا لي لغزاً؛ لئلا يفت النقض في أعضاد المسلمين، وإن
كانوا باقين على عهدهم لم ينقضوه؛ فاجهروا به في الناس: فإن ذلك يقوي معنوياتهم.
إنها حكمة القيادة النبوية!
حقاً كان موقف
المسلمين تكتنفه الحراجة من كل جانب – وبخاصة بعد نقض يهود بني قريظة عهدهم -:
فصار المسلمون يواجهون عدوين: عدواً خارجياً من الأحزاب، وعدواً داخلياً من يهود
بني قريظة. وقد بلغ الصلف ببني قريظة مبلغه، حتى نالوا من رسول الله r
في أحاديثهم، وهمُّوا بمهاجمة المدينة ليلاً؛ لأنهم كانوا يعلمون أن المدينة قد
خلت من المقاتلين المسلمين؛ إذ هم واقفون عند الخندق في وجه الأحزاب. يقول
المقريزي:
(وهمَّت بنو قريظة أن
يُغيروا على المدينة ليلاً؛ وبعث حيي بن أخطب إلى قريش أن يأتيه منهم ألف رجل، ومن
غطفان ألف؛ فيغيروا بهم. فجاء الخبـر بذلك رسـولَ الله r فعظم البلاء. وبعثَ سـلمةَ بن أسلم بـن حريش
… في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة، ويظهرون التكبير،
ومعهم خيل المسلمين، وكانوا يبيتون بالخندق خائفين، فإذا أصبحوا أمنوا. وكان الخوف
على الذراري من بني قريظة أشد من الخوف من قريش وغطفان، إلاَّ أن الله ردَّ بني
قريظة عن المدينة بأنها كانت تحرس)([294]).
وقالت أم سلمة رضي
الله عنها:
(شهدتُ معه – أي مع
رسول الله r
- مشاهد فيها قتال وخوف - المريسيع، وخيبر، وكنا بالحديبية، وفي الفتح، وحُنين -
لم يكن من ذلك أتعبَ لرسول الله r
ولا أخوف عندنا من الخندق. وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحَرَجة، وأن قريظة لا
نأمنُها على الذراري: فالمدينة تُحرس حتى الصباح، نسمع تكبير المسلمين فيها حتى
يصبحوا خوفاً، حتى ردَّهم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً)([295]).
وقد صور القرآن
الكريم هذا الموقف فقال تعالى:
ﭽ ﮅ ﮆ
ﮇ ﮈ ﮉ
ﮊ ﮋ ﮌ
ﮍ ﮎ ﮏ
ﮐ ﮑ ﮒ
ﮓ ﮔ ﮕ
ﮖ ﮗ ﮘ
ﮙ ﮚ ﮛ
ﮜ ﭼ سورة
الأحزاب/10-11.
وهكذا نرى الرسول
الكريم لم ينسَ الخطر الكبير الذي يهدد المسلمين من الداخل: فكان يبعث الحرس إلى
المدينة؛ لئلا تؤخذ النساء والذراري على حين غرَّة. أما رسول الله r،
فكان يقوم بالحراسة بنفسه كما يقوم سائر الصحابة وكان أكثر حراسته في ثلمة في
الخندق يحرسها، فإذا آذاه البرد، دخل قبته فأدفأته عائشة، ثم يخرج يحرس في الثلمة
ويقول: ما أخشى على الناس إلا منها([296]).
وظل الصحابة ثلاثة
أيام جياعاً. وقد عصب النبي r
بطنه بحجر من شدة الجوع …!
كانت (غزوة الأحزاب)
– بحق - من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام، وكانت من أشد الغزوات على رسول الله r.
وكيف لا تكون كذلك، والحصار على المدينة دام خمسة عشر يوماً، وقيل: دام عشرين
يوماً، بل قيل: دام ما يقرب من شهر([297]).
إذا علمنا هذا أدركنا
كيف تكون قيادة النبي r
قد بلغت القمة …!
وهكذا عاد المشركون
خائبين، وحينئذ قال النبي r:
(الآن نغزوهم ولا
يغزوننا، ونحن نسير إليهم)([298]).
لقد كان من أسباب
نجاة المسلمين في هذه المحنة:
1-
حفر الخندق الذي أحبط كيدهم.
2-
العدد القليل من شهداء المسلمين وهم ستة فقط.
3-
تكبير الرسول r حين أُخبر بنقض بني قريظة لعهدهم مع رسول
الله r
والبشارة بالنصر.
4-
ما قام به (نعيم بن مسعود) من زرع الشك بين
الأطراف المتحالفة بأمر من رسول الله r:
فأغرى اليهود أن يطلبوا من قريش رهائن لئلا تنصرف عن الحصار، وقال لقريش إن
(اليهود) تطـلب الرهائن لتسلمها للمسلمين ثمناً لعودتها إلى صلحهم … وهكذا حتى دب
الخلاف والشقاق بينهم.
5-
وقبل كل هذا: رعاية الله لرسوله محمد r
والمسلمين معه.
3-
غزوة الحديبية
لم يترك النبي r
وسيلة من الوسائل في الدعوة إلى الله إلا اتبعها. ومن هذه الوسائل: دعوة قريش إلى
الله، إذ لا تزال معرضة عن إلهها الحق، مضطهدة لمن آمَنَ بالله ورسوله، محاربة لمن
يريد الانضواء تحـت لواء محمد بـن عبد الله r. ولقـد رأى النبي r في منامه – وهو في المدينة - أنه دخل المسجد
الحرام مع أصحابه، وأخذ مفتاح الكعبة، وطاف واعتمر مع أصحابه، وحلق بعضهم وقصَّرَ
بعضهم الآخر. واستبشر النبي الكريم بهذه الرؤيا؛ إذ رؤيا الأنبياء حق. ولما أخبر
النبي أصحابه بما رآه في المنام فرحوا، وظنوا أنهم سيدخلون مكة عامهم هذا. وهكذا
خرج النبي r
لأداء العمرة في مكة في أوائل ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة، ولكنَّ قريشـاً
منعت رسـول الله r
من دخول مكة، وعسـكر الجيش الإسـلامي في الحديبية؛ فسميت هذه الغزوة باسم (غزوة
الحديبية)([299]).
وملخص الغزوة أن
النبي r
خرج لأداء العمرة، وأخرج الهدي معه؛ ليعلم الناس أنه لا يريد قتالاً أولاً، وليشعر
القبائل العربية أن المسلمين يحترمون البيت الحرام ويعظمونه بعد ذلك. وفي هذا رد
على الدعاية التي أطلقتها قريش في القبائل العربية من أن المسلمين لا يحترمون
البيت الحرام، وليقولوا للناس بلسان الحال: إن المسلمين هم أحفاد إبراهيم u
الذي قـام ببناء الكعبة فهم أحق بالحرم الآمن منهم.
ولقد كان رسول الله r
حكيماً كل الحكمة في خروجه؛ إذ إن ذلك يظهر أن المسلمين صارت لهم قوة لا يستهان
بها. وربما كان هذا هو السبب الذي جعل النبي u حريصاً أن يخرج بأكبر عدد من المسلمين. فقد
قام u
باستنفار أهل البوادي من الأعراب، لكنهم تثاقلوا وأبطأوا عليه؛ لظنهم أن النبي r
ومَنْ معه من المؤمنين لن ينقلبوا إلى أهليهم أبداً: فخرج بمن معه من المهاجرين
والأنصار. وكان صلوات الله وسلامه عليه عليماً بما تنطوي عليه نفوس قريش من بغض
للإسلام والمسلمين، فكان يتوقع أن يصدر منهم ما يصدر من الشر؛ لذلك أمر النبي
المسـلمين أن يأخذوا معهم أسلحتهم؛ ليكونوا على استعداد لقتال قريش إذا دعا داعيه.
وكان عددهم ألفاً وأربعمائة رجل.
ولما علمت قريش بذلك
ثارت ثائرتها، ودخلت الحمية الجاهلية أنفها، وقررت أن تصد الرسول r
ومن معه من المسلمين عن دخول مكة. وقد بدا لقريش أول وهلة أنها تقدر على ذلك، وكيف
لا تقدر والمسـلمون الذين جاءوا للعمرة عددهم قليل، بينما استطاع المشركون أن يغزو
المسلمين قبل أقل من سنة بعشرة آلاف مقاتل في غزوة الأحزاب.
لكن الرسول الكريم ظل
حريصاً على حقن الدماء، وكان – في الوقت نفسه - حريصاً أيضاً على إسلام قريش، وكم
كان يتحسر صلوات الله وسلامه عليه لعناد قريش وغلوائها في محاربة الإسلام
والمسلمين، فكان يقول:
(يا ويح قريش أكلتهم
الحرب! ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس: فإن أصابوني كان الذي أرادوا،
وإن أظهرني الله عليهم دخلـوا فـي الإسلام وهم وافرون، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم
قوة، فماذا تظن قريش؟ واللهِ إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له حتى
يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة)([300]).
ولم يترك الرسول r
أمر خروجه مبهماً، بل أوضح لقريش أنه لا يريد الحرب، بل يريد زيارة بيت الله
الحرام، لكنَّ قريشاً أنفةً منها وحمية أجابت بقولها:
(وإنْ كان إنما جاء
لذلك. فلا – والله - لا يدخلها أبداً علينا، ولا تتحدث بذلك العرب)([301]).
إن موقف الرسول
الكريم هذا فيه ما فيه من الكسب السياسي، سواء دخل مكة أم لم يدخلها؛ ذلك أن
قريشاً كانت تتحدث بأنَّ محمداً ومَنْ معه لا يحترمون البيت! ويأتي الرسول الكريم
صلوات الله وسلامه عليه، معلناً على رؤوس الأشهاد: أنه يريد زيارة بيت الله
الحرام.
ويزيد الأمر وضوحاً
حين أرسل بعض رسله يخبرها: أنه لا يريد قتالاً، بل يريد زيارة بيت الله الحرام،
فقد أرسـل (خراش بن أمية الخزاعي)، وأرادت قريش قتله، لولا الأحابيش الذين منعوهم
من ذلك، وأرسل (عثمان بن عفان) في هذا الشأن، فبلَّغَ رسالةَ رسول الله r
إلى قريش … أما قريش، فقد اتبعت طرقاً استفزازية لعلها تحمل النبي على الحرب؛
وبهذا يتعزز موقفها لدى العرب: فأرسلت خمسين من رجالها المسلحين؛ لعلهم يصيبون من
المسلمين مقتلاً؛ فيقوم النبي باتخاذ إجراء إنتقامي وتحدث المواجهة! لكن النبي
الكريم فوّت عليهم الفرصة، بعد أن أُسِرَ من أُسِرَ من الخمسين مقاتلاً، فعفا
النبي عنهم وخلّى سبيلهم!
ونجد حكمة النبي r
في كل مفاوضة في هذا الشأن: كمفاوضته (بديل بن ورقاء الخزاعي) و(مكرز بن حفص)
و(الحليس بن علقمة) الذي لم يجتمع به، و(عروة بن مسعود الثقفي) و(سهيل بن عمرو).
وعاد (عروة ابن مسعود) إلى قريش، حاملاً انطباعه عن حب الصحابة لنبيهم فقال:
(أيْ قوم، والله لقد
وفدتُ على الملوك، ووفدتُ على قيصر وكسرى والنجاشي، واللهِ إنْ رأيتُ ملكاً قط
يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمداً …)([302]).
ونجد حكمة النبي r
في
الطريقة التي أتبعها مع (الحليس بن علقمة) سيد الأحابيش يوم أرسلته قريش ليفاوض
النبي r
في أمر دخوله مكة. وإرسال قريش (الحليس) هو – في حقيقة الأمر - نوع من أنواع إعلام
النبي r
أن قريشاً ليست وحدها في هذه المنازلة، بل معها (الأحابيش). وعلم النبي بذلك؛ فطلب
من أصـحابه أن يظهروا أمامه الإبل المشعرة، وأن يقوموا بالتلبية أمامه؛ ذلك لأنه
من قوم يعظمون ذلك. فلما رأى الحليس ذلك، رجع إلى قريش، ولم يجتمع بالنبي r
فقال لها:
(رأيتُ
الُبُدْنَ قد قُلِّدَتْ وأُشْعِرتْ، فما أرى أن يُصَدُّوا عن البيت)([303]).
لكنَّ
قريشاً نقدت الحليس نقداً لاذعاً فقالت له:
(أجلس
إنما أنت أعرابي لا علم لك)([304]).
ويغضب
الحليس من هذا الكلام ويقول:
(يا
معشــر قريش، والله ما علـى هذا حالفناكم، ولا علـى هـذا عاقدناكم. لتخلنَّ بين
محمد وما جاء له، أو لأنفرنَّ بالأحابيش نفرة رجل واحد؛ فقالوا له: مه، كفَّ عنا
يا حليس، حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به)([305]).
وبهذا الأسلوب الذي
اتبعه رسول الله r
كاد صف مكة ينصدع، وتقع المواجهات بين قريش والأحابيش، لولا أن قريشاً استدركت
أمرها واصطلحت مع الرجل.
كما نجد حكمة النبي r
في مفاوضته (سهيل بن عمرو) الذي أرسلته قريش ليفاوض رسول الله r
في أمر دخوله مكة. وبعد النقاش الطويل والأخذ والرد، أمر رسولُ الله r
علي بن أبي طالب t
أن يكتب صيغة العقد، فقال له:
(أكتب [بسم الله
الرحمن الرحيم]؛ فقال سهيل: أما الرحمن، فوالله ما أدري ما هي. ولكنْ أكتب: [باسمك
اللهم] كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا [بسم الله الرحمن
الرحيم] فقال النبي r:
أكتب [باسمك اللهم]. ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال سهيل: والله
لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن أكتب [محمد بن
عبد الله]؛ فقال النبي r:
[واللهِ إني لرسول الله وإن كذبتموني، أكتب محمد ابن عبد الله…إلخ)([306]).
واتفق الرسول الكريم
مع سهيل بن عمرو على الأمور الآتية:
1- وضع
الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض.
2- مَنْ
أتى رسول الله r
من أصحابه بغير إذن وليه ردّه عليهم.
3- مّنْ
أتى قريشاً ممن مع رسول الله r
لم يردوه عليه.
4- إن
بين الطرفين عيبةً مكفوفة (أي يلتزم الجانبان على الوفاء بالصلح).
5- لا
إسلال ولا إغلال([307]).
6- مَنْ
أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومَنْ أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل
فيه: فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن مع عقد محمد رسول الله r وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد
قريش وعهدهم.
7- يرجع رسول الله والمسلمون معه هذا العام فلا
يدخلون مكة، وإذا كان عام قابل خرجت قريش من مكة، فدخلها الرسول وأصحابه، وأقام
فيها ثلاثة أيام معهم سلاح الراكب، لا يدخلونها بغير السيوف في القرب([308]).
وظاهر
هذه الاتفاقية أن فيها من الغبن الكثير للمسـلمين؛ لذلك بدت علامات التذمر من قبل
بعض المسـلمين، وضاقوا بهذه الاتفاقية صدراً، لكنْ تبيَّن لهم – فيما بعد - كيف
كان الرسول r
بعيد النظر، حكيماً في كل ما يقوله ويعمله.
لماذا رضي النبي r
بهذه الصيغة وتلك الشروط؟
أراد رسول الله r
أن تكون صيغة المعاهدة صيغة إسلامية، لكن (سهيل بن عمرو) أبى ذلك، فلم يكتب فيها
(محمد رسول الله)، بل كتب فيها (محمد بن عبد الله)، ووافقهم صلوات الله وسلامه
عليه في ردَّ من جاء من مكة من المسـلمين بغير إذن وليِّه، دون مَنْ ذهب من
المسلمين إلى المشركين …
لقد كان نظر رسول
الله r
بعيداً: فقد وافقهم على ذلك لمصلحة مهمة تتحقق للمسلمين في المستقبل، ولم يكن في
هذه الموافقة شيء من المفسدة.
أما عبارة (بسم الله
الرحمن الرحيم) أو (باسمك اللهم) فالمعنى واحد. وكذا (محمد رسول الله) و(محمد بن
عبد الله). (وليس في ترك وصـف الله – سبحانه وتعالى - في هذا الموضع بالرحمن
الرحيم ما ينفي ذلك، ولا في ترك وصف النبي r هنا في الرسالة ما ينفيها، فلا ضرر ولا
مفسدة فيما طلبوه، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب مالا يحل من تعظيم
آلهتهم ونحو ذلك)([309]).
(وأما شرط رد من جاء
منهم، وعدم رد من ذهب إليهم، فقد بَّينَ النبي r تعليل ذلك، والحكمة فيه في هذا الحديث
بقوله: [مَنْ ذهب منا إليهم فأبْعَدَهُ الله، ومَنْ جاءنا منهم، سيجعل الله له
فرجاً ومخرجاً]، ثم كان كما قال النبي r)([310]).
وتظهر حكمة النبي r
وبعد نظره في قبوله لشروط صلح الحديبية أكثر في الأمور الآتية:
1-
إن هذه الاتفاقية هي اعتراف من قريش بكيان
المسلمين لأوّل مرة، بعد أن كانت تصورهم أمام القبائل بصورة بشعة.
2-
فتح المجال أمام رسول الله r
أن يعقد محالفات مع عدد من القبائل: كقبيلة خزاعة التي حالفت رسول الله r
بعد هذا الصلح مباشرة.
3-
أتاحت الاتفاقية للمسلمين أن يتفرغوا ليهود خيبر الذين قاموا بالتحريض على
المسلمين في غزوة الخندق وما بعدها.
4-
كان صلح الحديبية مقدمة لفتح مكة، بيد أن هذا الأمر غاب عن المسلمين، وقد تبين لهم
بعد فترة ليست بالطويلة من الزمن أهمية هذه الهدنة، وما يحتجنها من خير كثير، ذلك
أن الحرية حين تعطى للمسلمين لنشر دعوتهم، فإن أعداداً ليست بالقليلة من الناس
ستنضوي تحت لواء محمد r،
وهذا الذي كان. قال الإمام محمد بن شهاب الزهري:
(فما فُتح في الإسلام
فتح قبله كان أعظمَ منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة،
ووضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم
يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه. ولقد دخل في تينك السنتين مثل مَنْ كان
في الإسلام قبل ذلك أو أكثر)([311]).
قال ابن هشام:
(والدليل على قول
الزهري: أن رسول الله r
خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة
آلاف)([312]).
5-
أراد رسول الله r أن يعلن لقريش أنه لا يريد حربها، بل يريد
مهادنتها؛ لتقف على الحياد بينه وبين العرب، سواء انتصر، النبي الكريم في حربه أم
لم ينتصر: فإن انتصر، فنصره نصر للعرب، وإن لم ينتصر، تخلصوا منه ومن دعوته.
والعاقل الحصيف حين يسمع هذا الكلام يدرك إلى أيِّ مدىً من الإنصاف وصل رسول الله r
في قوله هذا؟!
ولكن
قد يخطر ببال أحدهم أن المسلمين أصابهم الضعف؛ فراحوا يطلبون الحل السلمي لئلا
يواجهوا قريشاً؛ فجاء قول النبي الكريم بعد ذلك:
(فوالله
لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة)([313]).
6-
دخول
المسلمين مكة في عام قابل، بعد أن خرجت قريش منها إلى جبل (قُعيقعان) وتركتها
لرسول الله r
ومن معه من المسلمين، فيه ما فيه من انتصار كبير لرسول الله ومن معه؛ إذ إن
المسلمين سيدخلون مكة وهم آمنون مطمئنون، يرفعون أصواتهم بهتافهم المدوي بكل قوة
وإيمان: لا إله إلا الله محمد رسول الله!. وتنظر قريش من شعاب الجبل، فتراهم
بأعيانهم، وتسمع أصواتهم وهم يلبون ويكبرون، فتهتز (قريش) لذلك أيما اهتزاز؛ فيصير
هذا المنظر سبباً من أسباب دخول كثير منهم بهذا الدين في المستقبل.
7-
فرَّقت هذه المعاهدة بين قريش وحلفائها الذين
كانوا يحرضون القبائل على رسول الله r.
8-
استفاد المسلمون المستضعفون في مكة من هذه الهدنة؛ فأسلم على يَدَي (أبي جندل) عدد
ليس بالقليل من أبناء قريش في مكة.
9-
تبيَّن للقبائل العربية التي وقفت وقفة عداء من رسول الله r والمسلمين أن النبي الكريم لا يريد حرباً
ولا إراقة الدماء، بل يسعى إلى الصلح والسـلم؛ فصاروا ينظرون إليه وإلى المسـلمين
باحترام وإجلال بعد تلك النظرة العدائية.
عقد صلح الحديبية بين
رسول الله r
وأعدائه من قريش الذين ظلوا يتربصون به وبدينه الدوائر. ويبدو لأول وهلة أن هذه
الشروط كانت في مصلحة قريش فقط، ووقعت هذه الشروط على المسلمين كالصاعقة؛ إذ كيف
يردّ الرسول مَنْ جاء إليه مسلماً من أصحابه بغير إذن وليه، ومَنْ جاء قريشاً من
المسلمين لا يرده؟!
لذلك لم يتقبل هذه
الشروط القبول الحسن إلا النبي r
والصديق أبو بكر. ومع ذلك، فقد أوفى النبي r بكل شرط من شروط تلك المعاهدة، ومنها:
1-
لمَّا أملى (سهيل بن
عمرو) شـرطه الثاني: (إنه لا يأتيك منا رجل – وإن كان على دينك – إلا رددته إلينا
… فبينما هم كذلك إذ دخل (أبو جندل بن سهيل بن عمرو) يرسف في قيوده، وقد خرج من
أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: هذا يا محمد أوّل مَنْ
أقاضيك عليه أن ترده إليَّ. فقال النبي r:
إنَّا لم نقض الكتاب بعد. فقال: والله إذن لم أُصالحك على شيء أبداً. فقال النبي r:
فأجِزْهُ لي؛ فقال:
ما أنا بمجيزه لك.
قال: بلى فأفعل، قال: ما أنا بفاعل …)([314]).
فقد كان بإمكان النبي
r
أن يتمسك بأبي جندل – وبخاصة أن شروط المعاهدة لم تتم بعد، وإن الدم كان يغلي في
عروق المسلمين من هذه الاتفاقية بصورة عامة، وشرطه الثاني والثالث خاصة - لكنَّ
النبي الكريم أمضى الاتفاقية لما يعلمه من المصلحة الكبيرة التي تترتب على هذه
المعاهدة.
2-
لما رجع النبي الكريم r
من الحديبية إلى المدينة المنورة، جاءه (أبو بصير عتبة بن أُسيد الثقفي) مسلماً؛
إذ لم يستطع أن يهاجر مع المهاجرين. فأهتبل فرصة انشغال الناس بالهدنة وأحاديثها؛
ففرَّ إلى المدينة، ولم يكن يعلم بشروط المعاهدة. وعلمت قريش بذلك؛ فأرسلت في طلبه
رجلين: فسلَّمه النبي إليهما. لكنَّ أبا بصير تمكَّنَ من قتل واحد من الرجلين
وفرَّ الثاني. فلما انتهى إلى النبي r
قال: (قد والله أوفى الله ذمتك: قد رددتني إليهم، ثم نجاني الله منهم)، فقال النبي
r:
[ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد]. فلما سمع ذلك عرف أن سـيرده إليهم، فخرج حتـى
أتى سيف البحر …)([315]).
إنه الوفاء بالعهد،
يتمثل به رسول الله r
في صورة من أجمل صوره. وفي هذا درس للدعاة إلى الله، ولكل مسلم أن يربي أمته هذه
التربية، وأن يسمو بها إلى أفاق العظمة؛ إذ الغدر لؤم لا يصلح أن يتصف به مسلم.
ومن أروع ما نجده في
هذه الحادثة: امتثال أبي بصـير للنبي الكريم وفاءاً بالعهد. لكنَّ الله نجاه كما
بشره بذلك رسول الله r.
3-
لما دخل النبي الكريم مكة معتمراً ومعه سلاح الراكب وفاءاً بالعهد، أقام بها ثلاث ليالٍ.
وفي صبح اليوم الرابع، جاءه (سهيل بن عمرو) و (حويطب بن عبد العزى)، والنبي الكريم
يتحدث في مجلس الأنصار؛ فصاح (حويطب): نناشدك الله والعقد لما خرجت من أرضنا، فقد
مضت الثلاث … وهنا نادى الرسول (سهيلاً) و(حويطباً) فقال:
(إني قد نكحتُ فيكم
امرأة – يعني ميمونة بنت الحارث - فما يضركم أن أمكث حتى أدخل، ونصنع الطعام،
فنأكل وتأكلون معنا)؟ فقالا: نناشدك الله والعقد إلاّ خرجتَ عنا؛ فأمر رسول الله r
فأذَن بالرحيل([316]).
نلاحظ فـي هذه
الحادثة أن المشركين لم يتركوا رسول الله r
فترة – ولو وجيزة من الزمن - بعد انقضاء المدة المحددة للإقامة في مكة، ليمتِّع
قلبه بالبيت الحرام ومكة التي أحبها من سويداء قلبه، واُخرج منها كرهاً … جاءوا
إليه يلحون عليه بالخروج منها وفاءاً بشروط صلح الحديبية. والنبي الكريم أفضل من
يفي بعهده، لكنه أراد أن يتلطف معهم؛ فأخبرهم أنه تزوج امرأةً منهم ولم يدخل بها.
وزاد من تلطفه معهم أن دعاهم إلى طعام وليمة زواجه، لكنهم أبوا ذلك فرحل عن مكة
مباشرة وفاءاً بعهده.
إنه خلق رسول الله r.
أما بعد:
فلم يذق رسول الله r
بعد هجرته إلى المدينة طعم الراحة، ذلك أنه كان يرسل السرايا ويجهز الغزوات التي
يقودها بنفسه. ويكفينا أن نعلم أنه قاد بنفسه ثمانياً وعشرين غزوة خلال سبعٍ من
السنوات (وقد نشب القتال بين المسلمين الذين كانوا بقيادته، وبين المشركين أو
اليهود بتسع غزوات، من تلك الغزوات هي: (بدر) ، و(أحد)، و(الخندق)، و(قريظة)،
و(المصطلق)، و(خيبر)، و(فتـح مكة)، و(حنين)، و(الطـائف)، بينما فـرَّ المشركون في
تسع عشرة غزوة منها بدون قتال)([317]).
أما سراياه التي بعث
بها، فكانت سبعاً وأربعين سرية([318]).
ولكن كم عدد الذين
قتلوا من الفريقين: فريق المؤمنين وفريق الكافرين؟
قال العلامة أبو
الحسن الندوي رحمه الله:
(لا يربو عدد
المقتولين من الفريقين: (المسلم والكافر) في جميع الغزوات والسرايا والمناوشات
التي ابتدأت من السنة الثانية للهجرة، ودامت إلى السنة التاسعة على ألف وثمانية
عشر نفساً [1018]، المسلمون منهم 259، والكفار 759)([319]).
ويعلق الشيخ الندوي
على هذا الرقم فيقول:
(عولنا في هذه
الأعداد على إحصاء مؤلف السيرة النبوية الشهير القاضي محمد سليمان المنصور فوري في
المجلد الثاني من كتاب (سيرة رحمة العالمين). ولم يغادر من الغزوات والبعوث
والمناوشات صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، أما إحصاءات غيره من المؤلفين، فإنها تمثل
عدداً أقل من هذه الأعداد)([320]).
أقول: إذا كانت كل
الغزوات والسرايا والمناوشات التي ابتدأت من السنة الثانية للهجرة ودامت إلى السنة
التاسعة لم تزد على 1018 نفساً من المسلمين والكافرين، فماذا نقول عن الحرب
العالمية الأولى التي أصيب فيها واحد وعشرون مليوناً من الناس، والحرب العالمية
الثانية التي لم يقل عدد المصابين فيها عن 50 مليوناً؟!!
المصادر
والمراجع
1-
الاداب الشرعية:
تأليف محمد بن مفلح المقدسي. دار العلم للجميع. بيروت 1972.
2-
الإصابة في تمييز الصحابة لأبن حجر
العسقلاني بتحقيق علي محمد البجاوي. دار نهضة مصر. القاهرة. طبع سنة 1971م.
3-
الاعلام واثره في
نشر القيم الإسلامية وحمايتها. للدكتور محمد ابراهيم نصر. الطبعة الأولى
1398-1978. الناشر: دار اللواء/ الرياضٍ.
4-
اتحاف السادة
المتقين بشرح احياء علوم الدين تأليف محمد بن محمد الزبيدي، الطبعة الأولى
1409-1989. دار الكتب العلمية بيروت.
5-
احياء علوم الدين
لابي حامد الغزالي –مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1358-1939.
6-
اخلاق النبي r وادابه تاليف: عبد الله بن محمد الاصبهاني. حققه احمد محمد موسى.
مطبعة السعادة 1972/القاهرة .
7-
أدب الدنيا
والدين لابي الحسن علي بن محمد الماوردي. حققه وعلق عليه مصطفى السقا. الطبعة
الثالثة 1375-1955. مطبعة مصطفى البابي الحلبي/ القاهرة.
8-
ارشاد الفحول
لمحمد بن علي الشوكاني. الطبعة الأولى 1356-1937. مطبعة مصطفى البابي الحلبي/
القاهرة.
9-
اساليب الدعوة في
السنة النبوية للدكتور زياد العاني –رسالة دكتوراه .
10- اسباب نزول القران لابي
الحسن علي بن احمد الواحدي بتحقيق السيد احمد صقر. الطبعة الأولى 1389-1969. دار
الكتاب الجديد. لجنة احياء التراث الإسلامي.
11-
اسس الدعوة واداب
الدعاة تأليف محمد السيد الوكيل . مطابع الاخبار/القاهرة 1979.
12-
اسس الدعوة
ووسائل نشرها تأليف: الدكتور محمد عبد القادر ابو فارس. الطبعة الأولى 1412-1992.
دار الفرقان/ الاردن.
13-
اصول الدعوة
للدكتور عبد الكريم زيدان الطبعة الأولى 1388-1968. دار النذير للطباعة/ بغداد.
14- أضواء على طريق الدعوة
تأليف: الدكتور مجدي الهلالي. دار المنار الحديث/مصر.
15-
إمتاع الأسماع تأليف تقي الدين أحمد بن
علي المقريزي. صححه وشرحه محمود محمد شاكر. الطبعة الأولى 1941م. مطبعة لجنة
التأليف والترجمة والنشر. القاهرة.
16-
ايماننا الحق بين
النظر والدليل للمؤلف الطبعة الثانية 1405-1985. مطبعة الزهراء الحديثة. الموصل.
17-
الايمان والحياة
تأليف يوسف القرضاوي. الطبعة الخامسة 1397-1977. مطبعة الاستقلال الكبرى/ القاهرة.
18-
البداية والنهاية
لابن كثير. الطبعة الثانية 1426هـ-2005م، دار الكتب العلمية، بيروت مكتبة المعارف/
بيروت.
19- بين
العقيدة والقيادة تأليف اللواء الركن محمود شيت خطاب. الطبعة الأولى 1392هـ-1972م.
دار الفكر. بيروت.
20-
تاريخ الامم
والملوك لابي جعفر الطبري، مطبعة الاستقامة القاهرة/ 1957م.
21-
تأملات تربوية في
فقه الدعوة تأليف: موسى ابراهيم الابراهيمي. الطبعة الأولى 1409 1989 دار عمار الاردن/ عمان.
22-
تذكرة دعاة
الإسلام تأليف: ابي الأعلى المودودي. الطبعة الأولى 1385-1966. دار العربية/
بيروت.
23-
تذكرة الدعاة
تأليف: البهي الخولي.
24-
التذكرة للدعاة
تأليف: الشيخ احمد القطان. الطبعة الثالثة 1409- 1989. مكتبة السندس/ الكويت.
25-
التربية
الإسلامية ومدرسة حسن البنا تأليف: الدكتور يوسف القرضاوي. الطبعة الثانية 1403-
1983. الاتحاد الإسلامي للمنظمات الطلابية.
26-
تفسير الالوسي
المسمى روح المعاني تأليف: شهاب الدين السيد الالوسي البغدادي. احياء التراث
العربي/ بيروت.
27-
تفسير ابن كثير
المسمى تفسير القران العظيم. مطبعة عيسى البابي الحلبي/ القاهرة.
28-
تفسير المنار تأليف
محمد رشيد رضا. طبع سنة 1346هـ في مطبعة المنار. القاهرة.
29-
جامع البيان عن
تأويل آي القرآن المعروف بتفسير الطبري لمحمد بن جرير الطبري، ط2، 1373هـ/ 1954.
مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة.
30- الجامع لأحكام القرآن
المسمى بتفسير القرطبي لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، الطبعة
الثالثة عن طبعة دار الكتب المصرية. دار الكتاب العربي1387-1967.
31-
الجهاد في التصور
الإسلامي للمؤلف. طبع في مطبعة الجمهور في الموصل سنة 1982م.
32-
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي تأليف:
ابن قيم الجوزية صححه وعلق عليه عبد الوهاب فايد. مطبعة محمد علي صبيح. 1377-1958.
33- حول ركن الاخلاص للدكتور
يوسف القرضاوي مطابع دار الطباعة والنشر الإسلامية القاهرة.
34-
خصوم الإسلام
والصحوة الإسلامية المعاصرة للمؤلف. الطبعة الأولى 1417-1996. مطبعة الزهراء
الحديثة/ الموصل.
35-
الدعوة الإسلامية
واصولها ووسائلها تأليف الدكتور احمد احمد غلوش. مطبعة نهضة مصر.
36-
الدعوة الى
الإسلام تأليف: محمد ابو زهرة. دار الفكر العربي/ القاهرة.
37-
الدعوة الإسلامية
فريضة شرعية وضرورة بشرية تأليف الدكتور صادق امين. دار الطباعة والنشر الإسلامية/
القاهرة.
38-
الدعوة الإسلامية
والانقاذ العالمي تاليف: الشيخ عبد الله ناصح علوان. الطبعة الأولى 1405-1985. دار
السلام.
39-
الدعوة الى الله
تعالى تأليف: الدكتور ابو المجد السيد نوفل. الطبعة الأولى 1397-1977. مطبعة
الحضارة/ القاهرة.
40-
الدعوة الفردية-
اهميتها حالاتها، عوامل نجاحها تأليف: صالح بن يحيى صواب. الطبعة الأولى
1412-1991. مطبعة سفير/ الرياض.
41-
الدعوة قواعد
واصول تأليف: جمعة أمين عبد العزيز. دار الدعوة.
42- الدعوة والخطابة تأليف:
علي عبد العظيم. الطبعة الأولى 1399-1979. دار الاعتصام/ القاهرة.
43-
الرسول القائد تأليف الزعيم الركن محمود
شيت خطاب. الطبعة الثانية سنة 1960م. منشورات دار مكتبة الحياة في بيروت ومكتبة
النهضة في بغداد.
44-
روائع وطرائف
للمؤلف. مطبعة الزهراء الحديثة في الموصل.
45-
كتاب الزهد
للامام أحمد بن حنبل 1398-1978. دار الكتب العلمية/ بيروت.
46-
سلسلة الاحاديث
الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها تأليف: محمد ناصر الدين الالباني. منشورات المكتب
الإسلامي/ لبنان.
47-
سنن ابي داوود
إعداد وتعليق عزة عبيد الدعاس. الطبعة الأولى 1388-1969. الناشر: محمد علي السيد
/حمص.
48-
سنن ابن ماجه حقق
نصوصه، ورقم كتبه محمد فؤاد عبد الباقي 1372-1952. دار احياء الكتب العربية- عيسى
البابي الحلبي.
49-
السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي. الطبعة
الأولى 1397هـ-1977م. مطبعة القاهرة الحديثة للطباعة. القاهرة.
50-
السيرة النبوية والآثار المحمدية تأليف:
أحمد زيني دحلان. الطبعة الثانية. دار المعرفة. بيروت.
51-
السيرة النبوية
الصحيحة للدكتور اكرم ضياء العمري. الطبعة الرابعة 1413-1993. مكتبة العلوم
والحكم/ المدينة المنورة.
52-
السيرة النبوية
لابن كثير تحقيق مصطفى عبد الواحد. مطبعة عيسى البابي الحلبي/ القاهرة 1384-1964.
53-
السيرة النبوية
لابن هشام بتحقيق مصطفى السقا وابراهيم الابياري وعبد الحفيظ شلبي. مطبعة مصطفى
البابي الحلبي. 1355-1936.
54-
الصحوة الإسلامية
بين الجحود والتطرف للدكتور يوسف القرضاوي. الطبعة الرابعة 1405-1985. مؤسسة
الرسالة؟
55-
صحيح البخاري طبع
بالاوفسيت عن طبعة دار الطباعة باستنبول. دار الفكر.
56-
صحيح مسلم بتحقيق
وتصحيح محمد فؤاد عبد الباقي. دار احياء التراث العربي/ بيروت.
57- صحيح مسلم بشرح النووي.
58-
الطبقات الكبرى
لابن سعد. دار صادر/ بيروت 1405-1985.
59-
طريق الدعوة
الإسلامية تأليف: جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين. الطبعة الثانية 1408-1988. دار
الدعوة/ الكويت.
60-
طريق الدعوة بين
الأصالة والانحراف تأليف مصطفى مشهور. الطبعة الثانية 1407-1986. دار الفرقان.
عمان/ الاردن.
61-
طريق الدعوة في
ظلال القرآن ترتيب أحمد فايز، الطبعة الأولى 1397-1977. مؤسسة الرسالة/ بيروت.
62-
عقبات في طريق
الدعاة وطريق معالجتها في ضوء الإسلام تأليف: عبد الله ناصح علوان. الجزء الاول.
الطبعة الثالثة 1412-1992. دار السلام/ القاهرة.
63-
العقد الفريد
لابي أحمد بن محمد بن عبد ربه الاندلسي. مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر.
القاهرة 1363-1944.
64-
عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل
والسير تأليف: ابن سيد الناس. الطبعة الثانية 1400هـ-1980م. تحقيق لجنة إحياء
التراث العربي في دار الآفاق الجديدة. بيروت.
65-
فتح الباري شرح
صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني رقم كتبه وابوابه محمد فؤاد عبد الباقي واشرف على
طبعه محب الدين الخطيب. المكتبة السلفية.
66-
الفتيا ومناهج
الافتاء تأليف: محمد سليمان الاشقر. الطبعة الأولى 1396 1976 مكتبة المنار/
الكويت.
67-
الفردوس بمأثور
الخطاب حققه السعيد بن بسيوني زغلول. الطبعة الأولى 1406- 1986. دار الكتب
العلمية/ بيروت.
68-
فقه الخلاف- مدخل
الى وحدة العمل الإسلامي. تأليف: جمال سلطان. الطبعة الأولى 1413-1992. مركز
الدراسات الإسلامية برمنجهام/ بريطانيا.
69-
فقه الدعوة في
انكار المنكر تأليف: عبد الحميد البلالي. الطبعة الثالثة 1409-1989. دار الدعوة/
الكويت.
70-
فقه الدعوة في
المنهج الإسلامي للدكتور السيد محمد نوح. الطبعة الثانية 1413-1992. دار الوفاء
للطباعة المنصورة / مصر.
71-
الفوائد لابن قيم
الجوزية. الطبعة الثانية 1393-1973. دار الكتب العلمية/ بيروت.
72-
قواعد الدعوة الى
الله للدكتور همام عبد الرحيم سعيد. الطبعة الثالثة 1407-1987. دار العدوي عمان /
الاردن.
73- القيادة والجندية في
الإسلام تأليف: الدكتور محمد السيد الوكيل. الطبعة الثالثة 1408-1988. دار الوفاء
للطباعة. المنصورة.
74-
كشف الخفا ومزيل
الالباس عما اشتهر من الاحاديث على السنة الناس: تأليف: اسماعيل بن محمد العجلوني.
الطبعة الثانية 1315. دار احياء التراث العربي/ بيروت.
75-
كيف ندعو الى
الإسلام تأليف: فتحي يكن. الطبعة الثالثة.1397-1977. مؤسسة الرسالة.
76-
كيف ندعو الناس
تأليف: عبد البديع صقر. الطبعة السادسة 1396-1976. دار غريب للطباعة القاهرة.
77-
كيف يدعو الداعية
تأليف عبد الله ناصح علوان. الطبعة الثانية 1406-1987. دار السلام/ القاهرة.
78-
ما لا يجوز فيه
الخلاف بين المسلمين تأليف: الشيخ عبد الجليل عيسى- مطابع دار القلم/ القاهرة.
79-
مجموع فتاوى ابن
تيمية- جزء15.
80-
محمد صلى الله عليه وسلم المثل الكامل
تأليف محمد أحمد جاد المولى. الطبعة السادسة 1388هـ-1968م. مطبعة محمد علي صبيح.
81-
مختصر منهاج
القاصدين لابن قدامة المقدسي. علق عليه شعيب الارنؤوط وعبد القادر الارنؤوط. مكتبة
دار البيان/ دمشق 1398-1978.
82-
مدارج السالكين
لابن قيم الجوزية بتحقيق محمد حامد الفقي. الطبعة الثانية. 1393-1973. دار الكتاب
العربي/ بيروت.
83-
المستدرك على
الصحيحين للحاكم النيسابوري، وبذيله التلخيص للحافظ الذهبي دار الكتاب العربي/
بيروت.
84- المستفاد
من قصص القرآن للدعوة والدعاة تأليف الدكتور عبد الكريم زيدان الطبعة الأولى
1418هـ-1997م. مؤسسة الرسالة. بيروت.
85-
المغازي النبوية لابن
شهاب الزهري. حققه سهيل زكار. الطبعة الأولى 1400هـ-1980م. دار الفكر. دمشق.
86-
مشكلات الدعوة
والداعية تأليف: فتحي يكن. الطبعة الثالثة 1394-1974. مؤسسة الرسالة/ بيروت.
87-
المصباح المنير
لاحمد بن محمد الفيومي صححه مصطفى السقا. مطبعة مصطفى البابي الحلبي/ القاهرة.
88-
المصفى من صفات
الدعاة تأليف: عبد الحميد البابي. الطبعة الخامسة 1409-1989.
89-
مع الله -دراسات
في الدعوة والدعاة- تأليف: محمد الغزالي. الطبعة الثانية 1380-1991. دار الكتب
الحديثة/ القاهرة.
90-
مع العقيدة
والحركة والمنهج في خير امة اخرجت للناس تأليف: الدكتور عبد الحليم محمود. الطبعة
الثالثة 1413-1992. دار الوفاء المنصورة/ القاهرة.
91-
مفتاح دار
السعادة لابن قيم الجوزية. دار العهد الجديد للطباعة/ القاهرة.
92-
من روائع حضارتنا تأليف الدكتور مصطفى
السباعي. الطبعة الثانية. 1388هـ-1968م. دار الإرشاد بيروت.
93-
من صفات الداعية
تأليف محمد الصباغ. الطبعة الأولى 1390-1970. المكتب الإسلامي/ بيروت.
94-
منهاج الدعوة الى
الإسلام في العصر الحديث تأليف مقداد يلجن. الطبعة الأولى 1389-1969. المطبعة
المصرية / القاهرة.
95-
المنهج الحركي للسيرة النبوية تأليف منير
محمد الغضبان. الطبعة الثالثة 1411هـ-1990م. مكتبة المنار. الأردن. الزرقاء.
96-
مواقف حاسمة
للعلماء في الإسلام. تأليف: علي شحاته وأحمد رجب عبد المجيد. دار الفكر/ بيروت.
97-
الموسوعة في
اخلاق القران تأليف أحمد الشرباصي الطبعة الأولى. 1971. دار الرائد العربي /
بيروت.
98-
الموسوعة في سماحة الإسلام تأليف محمد
الصادق عرجون. الناشر: مؤسسة سجل العرب 1392هـ-1972م. القاهرة.
99-
والله يعصمك من
الناس تأليف أحمد الجدع. الطبعة الثالثة 1403-1983. مكتبة المنار. الزرقاء/
الاردن.
([5]) هذا جزء من حديث طويل رواه البخاري في كتاب العلم (باب: رب مبلغ
أوعى من سامع) وغيره من الأبواب، ومسلم في كتاب الحج (باب: تحريم مكة وصيدها)
وغيره من الأبواب، وأبو داوود في كتاب الصلاة (باب: من رخص فيهما – أي الركعتين
بعد العصر – إذا كانت الشمس مرتفعة، وابن ماجه في المقدمة (باب: من بلغ علماً)...
([7]) رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء (باب: ما ذكر عن بني
إسرائيل)، والترمذي في كتاب العلم (باب: ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل)،
والدارمي في المقدمة (باب: البلاغ عن رسول الله r وتعليم السنن)...
([9]) رواه أبو داوود في كتاب العلم (باب: فضل نشر العلم)، حديث3657
والترمذي في كتاب العلم (باب: ما جاء في الحث على تبليغ السماع) حديث 2658، وابن
ماجه في المقدمة (باب: من بلَّغَ علماً) حديث 230، وفي المناسك حديث 3506 (باب:
الخطبة يوم النحر).
([16]) رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء (باب: ما ذكر عن بني
إسرائيل) حديث 7461، والترمذي في كتاب العلم (باب: ما جاء في الحديث عن بني
إسرائيل)،حديث2669 والدارمي في المقدمة (باب: البلاغ عن رسول الله r وتعليم السنن)حديث 542
([17]) رواه أبو داوود في الملاحم (باب: الأمر والنهي)، حديث4328
والترمذي في التفسير (باب: 48 من تفسير سورة المائدة رقم 3501).
([18]) انظر نص الحديث في مسند الإمام أحمد 14/163 حديث 18319 وهو حديث
صحيح، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيئاً من فقهها، وفوائدها للألباني 1/ 8 رقم
الحديث5.
([20]) رواه الديلمي بسند ضعيف، ولكن له شواهد كثيرة رفعت الحديث إلى
مرتبة الحسن لغيره انظر:كشف الخفا للعجلوني 1/196.
([27]) رواه مسلم في كتاب النكاح ( باب:ندب من رأى امرأة فوقعت في نفسه
أن يأتي امرأته أو جاريته فيواقعها ) رقم 1403.
([29]) الدعوة إلى الله تعالى تأليف أبي المجد السيد نوفل ص 191 – 192،
الطبعة الأولى 1397 – 1977 مطبعة الحضارة العربية، القاهرة.
([30]) رواه البخاري في كتاب
الصلاة (باب: الصلوات الخمس كفارة)،حديث 528 ومسلم في كتاب المساجد (باب: المشي
إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع الدرجات). حديث667 صحيح مسلم 1/462-463.
([33]) رواه البخاري في كتاب الزكاة (باب: أخذ الصدقة من الأغنياء)،
حديث 1496. ومسلم في كتاب الإيمان (باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع
الإسلام).حديث19 صحيح مسلم1/50
([34]) ذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد) كتاب العلم (باب: في تعليم من لا
يعلم) 1/164 وعزاه إلى الطبراني في الكبير.
([35]) رواه الترمذي في كتاب المناقب (باب: مناقب عمر بن الخطاب رضي
الله عنه) رقم 2681 من حديث ابن عمر مرفوعاً به وقال: حديث حسن صحيح غريب من حديث
ابن عمر، ورواه الحاكم في المستدرك (كتاب معرفة الصحابة) 3/83 من حديث ابن مسعود
مرفوعاً، وسكت عنه الذهبي.
([36]) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين (باب: الدعاء في صلاة الليل
وقيامه). حديث 770 صحيح مسلم 1/534.
([42]) رواه البخاري في كتاب المغازي (باب: غزوة الفتح وما بعث به حاطب
بن أبي بلتعه إلى أهل مكة) رقم 4274، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة (باب: من فضائل
أهل بدر رضي الله عنهم وقصة حاطب بن أبي بلتعه) رقم 2494.
([44]) عن كتاب أسس الدعوة وآداب الدعاة للأستاذ محمد السيد الوكيل ص 25
–26 بتصرف قليل.مطابع الأخبار.القاهرة
([45]) رواه الترمذي في كتاب الفتن (باب: ما
جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). حديث 2169 تحفة الاحوذي 6/391.
([46]) رواه أبو داوود في كتاب الملاحم
(باب: الأمر والنهي) حديث 4330، عون المعبود 11/289-290. والترمذي في كتاب الفتن
(باب: ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر) رقم 2169.
([47]) رواه مسلم في كتاب الإيمان (باب:
بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان). حديث49، صحيح مسلم 1/70.
([48]) رواه مسلم في كتاب الإيمان (باب:بيان كون النهي عن المنكر من
الإيمان)، حديث49 صحيح مسلم 1/49 وأبو داوود في كتاب الصلاة (باب: الخطبة يوم
العيد)، والترمذي في كتاب الفتن ( باب: ما جاء في تغيير المنكر باليد أو باللسان
أو بالقلب)، والنسائي في كتاب الإيمان (باب: تفاصيل أهل الإيمان)، وابن ماجة في
كتاب الصلاة (باب: ما جاء في صلاة العيدين).
([51]) إحياء علوم الدين للإمام الغزالي
2/428،ضبط نصه وخرج احاديثه: د. محمد محمد تامر، الطبعة الاولى 1424-2004، مؤسسة
المختار، القاهرة.
([57]) فقه الدعوة في إنكار المنكر. تأليف عبد الحميد البلالي ص 146 –
147. الطبعة الثالثة 1409-1989 دار الدعوة الكويت.
([58]) رواه الحاكم في المستدرك (كتاب معرفة الصحابة) 3/195 عن جابر بن
عبد الله وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والديلمي في الفردوس 2/324، والضياء
المقدسي.
([65]) رواه الإمام احمد في مسنده والترمذي، وابن ماجة، ورمز إليه
السيوطي بالصحة. انظر: فيض القدير للمناوي 1/519.
([67]) انظر: والله يعصمك من الناس تأليف أحمد الجدع ص7. الطبعة الثالثة
1403-1983، مكتبة المنار، الزرقاء الاردن.
([73]) رواه البخاري في كتاب علامات النبوة
( باب: علامات النبوة في الإسلام )، و( باب: ما لقي النبي r وأصحابه من المشركين).
([74]) طريق الدعوة في ظلال القرآن، إعداد
أحمد فائز 1/236. الطبعة الاولى 1397-1977، مؤسسة الرسالة، بيروت.
([75]) رواه البخاري في كتاب بدء الوحي،( باب: كيف كان بدء الوحي الى
رسول اللهr حديث1. وفي الإيمان (باب: ما جاء أن الأعمال بالنية)، ومسلم في
كتاب الإمارة (باب: قوله r: إنما الأعمال بالنيات). حديث 1907،صحيح مسلم 3/1515-1516
([76]) رواه مسلم في كتاب الأقضية (باب: الأحكام الباطلة ورد محدثات
الأمور)حديث 1718، صحيح مسلم 3/1343.
([80]) إتحاف السادة المتقين تأليف مرتضى
الزبيدي 10/10. الطبعة الاولى 1409-1989، دار الكتب العلمية، بيروت.
([87]) رواه ابن ماجة في كتاب الفتن (باب: من ترجى له السلامة من الفتن) رقم 3989. والبيهقي في الزهد والحاكم.
([93]) رواه البخاري في كتاب الإيمان (باب: ما جاء أن الأعمال بالنية)،
والجنائز (باب: رثى النبي r سعد بن خولة)، والمغازي (باب: حجة الوداع) وغير ذلك، ومسلم في
كتاب الوصية (باب: الوصية بالثلث). حديث 1628 صحيح مسلم 3/1253.
([94]) رواه النسائي في (باب: من اتى فراشه وهو ينوي القيام فنام) سنن
النسائي بشرح السيوطي 3/258 وابن ماجه في كتاب اقامة الصلاة (باب: ما جاء فيمن نام
عن حزبه من الليل حديث 1344 سنن ابن ماجه 1/427.
([98]) رواه أبو داوود في كتاب العلم (باب: في طلب العلم لغير الله
تعالى). حديث 3661، عون المعبود 10/56.
([99]) مدارج السالكين ابن قيم الجوزية 2/89. بتحقيق: محمد حامد الفقي،
الطبعة الثانية 1393-1973، دار الكتاب العربي، بيروت.
([100]) رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب (باب: إذا أحب الله عبداً
حببه إلى عباده) انظر صحيح مسلم 4/2030.
([102]) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن قيم الجوزية ص 112.
صححه وعلق عليه: عبد الوهاب فايد، مطبعة محمد علي صبيح 1377-1958.
([103]) رواه البخاري في كتاب مناقب الأنصار (باب: هجرة النبي r وأصحابه إلى المدينة)، وأنظر فتح الباري 7/257 رقم 3922.
([106]) رواه البخاري في كتاب علامات النبوة (باب:
علامات النبوة في الإسلام) و (باب:ما لقي النبي r من المشركين بمكة).
([114]) رواه أبو داوود في كتاب الأدب (باب:
في الرحمة)، والترمذي – أتم منه في البر رقم 1925 (باب: رحمة الناس) وقال: هذا
حديث حسن صحيح.
([115]) الإيمان والحياة للدكتور يوسف
القرضاوي ص 274. الطبعة الخامسة 1397-1977، مطبعة الاستقلال الكبرى القاهرة.
([122]) رواه البخاري في كتاب الوضوء (باب: صب الماء على البول في المسجد) و(باب:
يهريق الماء على البول)، ومسلم في كتاب الطهارة (باب: وجوب غسل البول من النجاسات
إذا حصلت في المسجد)، وأبو داوود في كتاب الطهارة (باب: ترك التوقيت في الماء)،
وابن ماجه في كتاب الطهارة (باب: الأرض يصيبها البول كيف تغسل...).
(1) و(2) رواه
البخاري في كتاب الأدب (باب: الأمر في الرفق كله) وغيره من الأبواب، ومسلم في كتاب
الاستئذان (باب: ما جاء في التسليم على
أهل الذمة)، وابن ماجة في كتاب الأدب (باب: في الرفق).
([129]) رواه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (باب: الصفات التي
يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار). حديث 2865، صحيح مسلم 4/2199.
([134]) رواه مسلم في كتاب البر(باب: تحريم الكبر)، حديث 107 صحيح مسلم
1/102-103، وابن ماجة في كتاب الزهد بلفظ: يقول الله تعالى: (الكبرياء ردائي
والعظمة أزاري، فمن نازعني واحداً.....).
([139]) رواه البخاري في كتاب الأنبياء (باب:
ما ذكر عن بني إسرائيل)، ومسلم في كتاب الجهاد: (باب: غزوة أحد). حديث 1792 صحيح
مسلم 3/1417، وابن ماجه في كتاب الفتن (باب: الصبر على البلاء) حديث 4025.
([140]) رواه ابن سعد في الطبقات 3/249 بسند
صحيح إلى أبي الزبير، لكنه مرسل. انظر تخريج الحديث في السيرة النبوية الصحيحة
للدكتور أكرم ضياء العمري 1/156. الطبعة الرابعة 1413 – 1993. مكتبة العلوم والحكم.
المدينة المنورة.
([144]) رواه البخاري في فضائل الصحابة (باب:
مناقب علي بن أبي طالب)، والجهاد (باب: فضل من أسلم على يديه رجل) وغيرهما، ومسلم
في فضائل الصحابة (باب: فضائل علي بن أبي طالب t). حديث 2406 صحيح مسلم 4/1872.
([145]) رواه الحاكم في المستدرك (كتاب:
معرفة الصحابة) عن جابر وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه 3/195، والديلمي في الفردوس
بمأثور الخطاب 2/324، والضياء المقدسي عن جابر بن عبد الله.
([146]) شرح الشفا 1/256. وقال السيوطي في (مناهل
الصفا): أخرجه أحمد والنسائي والطبراني، انظر:مناهل الصفا ص 66.
([160]) البداية والنهاية لابن كثير 6/128،
وقد عزاه إلى الحاكم، وعقب عليه بقوله: هذا إسناد جيد ولم يخرجوه، ورواه الإمام
أحمد. كما أورده الهيثمي في (مجمع الزوائد) في كتاب علامات النبوة (باب: شهادة
الشجر بنبوته I) 8/292، وعقب بقوله: (رواه
الطبراني ورجاله رجال الصحيح) ورواه أبو يعلى والبزار.
([161]) رواه الإمام أحمد، ومسلم في كتاب
فضائل الصحابة (باب: فضائل أبي هريرة الدوسي t) 4/1938 – 1939.
([163])
انظر : القاموس المحيط للفيروز آبادي، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير،
والمفردات في غريب القرآن للراغب الاصفهاني.
([164])
رواه البخاري مع الفتح في كتاب الصلاة (باب: كيف فرضت الصلوات في الإسراء) 1/ 458،
ومسلم-واللفظ له- في كتاب الإيمان (باب:الإسراء برسول الله r الى السموات وفرض الصلوات) 1/148.
([170]) رواه
مسلم في كتاب الفضائل (باب:توقيره r وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو
لا يتعلق به تكليف)4/1830.
([172])
رواه البخاري في صفة النبي r وفي الأدب، ومسلم في الفضائل (باب مباعدته r للآثام واختياره من المباح أسهله،
وانتقامه لله).
([174])
إغاثة اللهفان لابن قيم الجوزية 1/179 بتحقيق محمد سيد كيلاني. الطبعة الأخيرة
(1381 - 961) مطبعة البابي الحلبي.
([179])
منهج الدعوة الى الله لكاتب هذه السطور ص7-8 الطبعة الأولى 1997م، مطبعة دار
الكتب/الموصل. وانظر: إرشاد الفحول للشوكاني ص272.
([183])
رواه البخاري في كتاب الزكاة (باب: أخذ الصدقة من الأغنياء)، ومسلم في كتاب
الإيمان (باب: الدعاء الى الشهادتين وشرائع الإسلام).
([186]) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 240، الطبعة الثالثة
1383 - 1964 بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. مطبعة المدني، القاهرة.
([190])
رواه البخاري في كتاب الصلاة (باب: الصلوات الخمس كفارة)، ومسلم في كتاب المساجد
(باب: المشي الى الصلاة تمحى بها الخطايا وترفع الدرجات).
([197])
انظر الرواية كاملة في صحيح البخاري في كتاب المغازي (باب: غزوة الفتح وما بعث به حاطب بن أبي بلتعة الى أهل مكة رقم
4274، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة (باب: من فضائل أهل بدر y وقصة حاطب بن أبي بلتعة) 2494.
([202])
رواه البخاري مع الفتح في كتاب الإيمان (باب: إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة)
1/79، ومسلم في كتاب الإيمان (باب: تأليف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه)1/132.
([203])
رواه البخاري مع الفتح في كتاب فرض الخمس (باب: ما كان النبي r يعطي المؤلفة قلوبهم) 6/251، ومسلم في
كتاب الزكاة (باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم وتصبر من قوي إيمانه) 2/734.
([205])
رواه البخاري مع الفتح في كتاب الأذان (باب: وجوب الصلاة جماعة) 2/125، ومسلم في
كتاب المساجد ومواضع الصلاة (باب: فضل صلاة الجماعة) 1/451.
([207])
رواه البخاري مع الفتح في كتاب الأدب (باب: من لم يواجه الناس بالعتاب) 10/513.
ومسلم في كتاب الفضائل (باب: علمهr بالله تعالى وشدة خشيته) 4/1829.
([211])
رواه أبو داوود في كتاب الملاحم (باب: في تداعي الأمم على الإسلام) حديث 4297
بإعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس وعادل السيد.
([213])
رواه البخاري في كتاب النكاح (باب: لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم)، ومسلم
في كتاب الحج (باب: سفر المرأة مع محرم).
([214])
رواه مسلم في كتاب السلام (باب: تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها) رقم 2172.
والحمو: أخو الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج ومعناه: إن الخوف منه أكثر من الخوف
من غيره لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة من غير أن ينكر عليه بخلاف الأجنبي.
([215])
رواه البخاري مع الفتح في كتاب الاعتكاف (باب: هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب
المسجد) 4/278. ومسلم في كتاب السلام (باب: بيان أنه يستحب لمن رئي خالياً بامرأة
وكانت زوجة أو محرماً له أن يقول: هذه فلانة ليدفع ظن السوء به).
([218])
رواه البخاري في كتاب الزكاة (باب: الاستعفاف عن المسألة) وباب: (لا يسألون الناس
الحافاً)، ومسلم في كتاب الزكاة (باب: كراهة المسألة للناس)، وفي البيوع والشرب.
([230]) رواه البخاري في كتاب الحج (باب: فضل
مكة وبنيانها) حديث 1584 ومسلم في كتاب الحج (باب: جدر الكعبة وبابها) حديث 1333
صحيح مسلم 2/969.
([240]) رواه البخاري في كتاب الحج (باب: فضل
مكة وبنيانها) رقم 1583، ومسلم في كتاب الحج (باب: نقض الكعبة وبنائها). وانظر شرح
النووي على مسلم 9/88.
([244])
رواه البخاري في كتاب التفسير (باب: وأنذر عشيرتك الأقربين) 8/501، 6/551، ومسلم
بنحوه في كتاب الإيمان (باب: قوله: وأنذر عشيرتك الأقربين) 1/194.
([245])
السيرة النبوية لأبن هشام 1/312-314 بتحقيق السقا والابياري وشلبي مطبعة مصطفى
البابي الحلبي 1355-1936.
([246])
رواه البخاري في كتاب بدء الخلق (باب: إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء
فوافقت أحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه)، 6/312، ومسلم بلفظه في كتاب
الجهاد والسير (باب: ما لقي النبي r من أذى المشركين والمنافقين) 3/1420.
([247])
رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء 6/362، وفي كتاب مناقب الأنصار 7/250 و
7/272. وانظر – أيضاً- البخاري مع الفتح 8/165.
([249])
السيرة النبوية الصحيحة للدكتور أكرم ضياء العمري 2/378. الطبعة الرابعة. مكتبة
العلوم والحكم. المدينة المنورة.
([251])
السيرة النبوية لأبن هشام 3/68. والسيرة النبوية لأبن كثير 3/27 بتحقيق مصطفى عبد
الواحد. مطبعة عيسى البابي الحلبي. القاهرة 1385-1965.
([257])
رواه البخاري في كتاب الجهاد (باب: تمني الشهادة). أنظر فتح الباري شرح صحيح
البخاري حديث 2797.
([269])
رواه البخاري في كتاب الأذان (باب: أخف الصلاة عند بكاء الطفل، ومسلم في كتاب
الصلاة (باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة).
([280]) نقل
الشيخ محمد متولي الشعراوي أن واحداً من المستشرقين أسلم لما علم أن النبي r صرف حرسه بعد نزول الآية ]وَاللَّهُ
يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ[، وقال: إنّ هذا أكبر دليل على صدقه في
رسالته عن الله؛ إذ أيُّ عاقلٍ يصرف حرّاسَه وله آلاف الأعداء إلاّ أن يكون واثقاً
من حراسة الله له؟ أنظر الأساس في السنة وفقهها تأليف سعيد حوّى 1/423.
([284])
رواه البخاري في كتاب المغازي (باب: غزوة الفتح) فتح الباري رقم 4274، ومسلم في
كتاب فضائل الصحابة (باب: من فضائل أهل بدر وقصة حاطب بن أبي بلتعة) رقم 2494.
جميع الحقوق محفوظه © شعبة الدراسات الاسلامية
تصميم htytemed