وانت تقرأ هذا الموضوع استمع لتلاوة الشيخ علي جابر يعتبر من افضل القراء في العالم الاسلامي رحمه الله
.الفصل السادس: المكي والمدني من القرآن الكريم:
اهتم علماء القرآن بدراسة المكي والمدني من الآيات، لأن معرفة ذلك طريق ضروري لمعرفة الناسخ والمنسوخ من الأحكام، ولا يمكن لفقيه أن يعرف الحكم الشرعي إلا بعد أن يدرس الناسخ والمنسوخ، لكي يصل إلى الحكم النهائي الذي استقر عليه الأمر.وبالإضافة إلى هذا فإن معرفة المكي والمدني من الآيات يقودنا برفق في مسيرة الدعوة في رحلة طويلة من بداية المرحلة المكية التي بدأت بعد البعثة إلى نهاية العصر المدني الذي توقف بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكل مرحلة زمنية خصائصها وموضوعاتها وأساليبها وانفعالاتها وأولوياتها.
ومن خصائص التشريع الإسلامي أنه نزل متدرجا، وكانت الآيات القرآنية تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم مواكبة لمسيرة المجتمع الإسلامي، محتضنة ذلك المجتمع الوليد، مصححة مسيرته، ومؤكدة سداد طريقه، خاصة إياه على الصبر والتضحية، راسمة له معالم الطريق، مشرعة أحكاما ضرورية لاستقامة أمره، ناصحة له أن يتكافل ويتعاون ويتناصر في سبيل الدفاع عن عقيدته.
وكان القرآن هو محور الحركة الاجتماعية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو الرمز البشري الذي يحمل مشعل الدعوة، ويجسد قيم الإسلام بخلقه وسلوكه، وكان الوحي هو أداة التواصل بين السماء والأرض، وهو أداة انتقال الرسالة من مصدرها الإلهي إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن الطبيعي أن يتوجه اهتمام العلماء والباحثين إلى معرفة المكي والمدني من الآيات، لمواكبة مسيرة الدعوة، ولرصد ذلك التدرج المحكم للتشريع، من بدء الرسالة إلى نهايتها.
قال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري في كتابه (التنبيه على فضل علوم القرآن):
(من أفضل علوم القرآن علم نزوله وجهاته وترتيب ما نزل بمكة ابتداء ووسطا وانتهاء، وترتيب ما نزل بالمدينة كذلك، ثم ما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة في أهل المدينة، وما نزل بالمدينة في أهل مكة، ثم ما يشبه نزول المكي في المدني وما يشبه نزول المدني في المكي).
وقال ابن العربي في كتابه الناسخ والمنسوخ:
(الذي علمناه على الجملة من القرآن أن منه مكيا ومدنيا وسفريا وحضريا، وليليا ونهاريا وسمائيا وأرضيا، وما نزل بين السماء والأرض، وما نزل تحت الأرض في الغار).
.اصطلاحات العلماء في المكي والمدني:
استعمل العلماء في المكي والمدني اصطلاحات ثلاثة:الاصطلاح الأول: يطلق المكي على ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة والمدني ما نزل بالمدينة، ويدخل في مكة كل ما قرب منها من ضواحيها، كعرفات ومنى والحديبية، ويدخل في المدينة ما قرب منها، كبدر وأحد، ولوحظ في هذا التقسيم المكان، وليس الزمان، ومن الصعب في ظل هذا التقسيم تطبيق الخصائص الزمانية المرتبطة بتطور الدعوة، حيث من الصعب دمج الآيات المكية التي نزلت قبل الهجرة والآيات المكية التي نزلت بعد الهجرة في إطار نسق واحد موضوعي وأسلوبي.
الاصطلاح الثاني: وهو الأشهر، يطلق المكي على ما نزل قبل الهجرة إلى المدينة، وإن كان بالمدينة، ويطلق المدني على ما نزل بعد الهجرة وإن كان بمكة، وهذا التقسيم لوحظ فيه الزمان وليس المكان، والزمان يجسد المرحلة التاريخية ويعبر عنها، ومن اليسير في ظل هذا التقسيم تطبيق الخصائص الزمانية المتعلقة بكل من المكي والمدني، وهو تقسيم سليم من هذا الجانب، وييسر الأمر على الدارس والباحث.
وبهذا الاعتبار تعتبر آية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} ضمن الآيات المدنية مع أنها نزلت بعرفة أثناء حجة الوداع.
الاصطلاح الثالث: يطلق المكي على ما كان خطابا لأهل مكة، والمدني على ما كان خطابا لأهل المدينة، وبناء عليه، فكل خطاب بدأ بلفظ (يا أيها الناس) فهو مكي، لأن غالب أهل مكة كانوا كافرين، وكل خطاب بدأ بلفظ (يا أيها الذين آمنوا) فهو مدني، لأن غالب أهل المدينة كانوا مؤمنين.
أخرج أبو عبيد في كتابه فضائل القرآن عن ميمون بن مهران قال: (ما كان في القرآن يا أيها الناس أو يا بني آدم فإنه مكي، وما كان يا أيها الذين آمنوا فإنه مدني).
ولا سبيل إلى معرفة المكي والمدني من الآيات إلا عن طريق الصحابة الذين كانوا يتابعون نزول الوحي، ويعرفون تاريخ نزول كل آية، والأسباب المؤدية إلى النزول.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
(والله الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت؟ ولو أعلم أن أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه).
وقال القاضي أبو بكر في الانتصار:
(إنما يرجع في معرفة المكي والمدني إلى حفظ الصحابة والتابعين، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قول، لأنه لم يؤمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة).
.فوائد التفريق بين المكي والمدني:
اهتم العلماء بدراسة المكي والمدني من الآيات، وتتبعوا أقوال الصحابة في ذلك، ولا سبيل إلى معرفة ذلك إلا عن طريق الصحابة الذين عاصروا وقت النزول، وعايشوا تلك المرحلة الزمنية، واهتمام العلماء بذلك مؤشر واضح على عناية علماء المسلمين بالقرآن، وتوثيق للقرآن، وتتبع لمراحل نزوله، وتحديد لتاريخ كل آية وموطن نزولها.وهذا التفريق ساعد العلماء على تحقيق ما يلي:
أولا: تحديد خصائص كل من الآيات المكية والمدنية عن طريق الاستقراء والتتبع، من الناحية الموضوعية والأسلوبية.
ثانيا: دراسة مراحل تاريخ الدعوة الإسلامية خلال المرحلتين المكية والمدنية، وتوثيق روايات السيرة النبوية، المرتبطة كل الارتباط بالقرآن والسنة النبوية.
ثالثا: معرفة الناسخ والمنسوخ من الآيات والأحكام، وهذا أمر كبير الأهمية، لأن النسخ وقع في القرآن، ومعرفة المتقدم والمتأخر من الآيات هو السبيل الوحيد لمعرفة الناسخ من المنسوخ.
رابعا: فهم النصوص القرآنية عن طريق معرفة تاريخ القرآن، والظروف التي أدت إلى نزول الآيات، واستنتاج منهج الدعوة الإسلامية في الخطاب والإقناع.
واستطاع العلماء بعد جهد كبير وتتبع دقيق أن يعرفوا المكي والمدني من الآيات، ومن الطبيعي أن يقع الاختلاف في بعض الآيات، نتيجة تعدد الروايات فيها، إلا أن ذلك الالتباس أمكن التغلب عليه، والآيات المكية معروفة والآيات المدنية كذلك.
وعدّد الزركشي في (البرهان) والسيوطي في (الإتقان) كلا من السور المكية والسور المدنية، والسور المكية خمس وثمانون والسور المدنية تسع وعشرون، على اختلاف الروايات، ووقع الاختلاف في اثنتي عشرة سورة، ويبدو أن سبب الخلاف هو أن بعض السور نزلت بين مكة والمدينة أو أن بعضها مكي والبعض الآخر مدني، وهو خلاف يدل على جدية الاهتمام بالأمر، ودقة تتبع الروايات الواردة عن الصحابة.
روى أبو بكر ابن الأنباري عن قتادة قال:
نزل في المدينة من القرآن: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، وبراءة، والرعد، والنحل، والحج، والنور، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والحجرات، والحديد، والرحمن، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والصف، والجمعة، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، ويا أيها النبي لم تحرم، إلى رأس العشر، وإذا زلزلت، وإذا جاء نصر الله، وسائر القرآن نزل بمكة.
وقال أبو الحسن بن الحصار في كتابه (الناسخ والمنسوخ):
المدني باتفاق عشرون سورة، والمختلف فيه اثنتا عشرة سورة، وما عدا ذلك مكي باتفاق، ونظم ذلك أبياتا.
وأول ما نزل بمكة من القرآن {اقرأ باسم ربك}، ثم {ن}، ثم {يا أيها المزمل}، ثم {يا أيها المدثر}، ثم {تبت يدا أبي لهب وتب}، ثم {إذا الشمس كوّرت}، ثم {سبح اسم ربك الأعلى}.... وهكذا.....
ووقع خلاف في سورة الفاتحة، وذهب الأكثرون إلى أنها مكية، وورد أنها أول ما نزل، وقال مجاهد: إنها مدنية، وقيل: إنها نزلت مرتين، مرة بمكة، ومرة بالمدينة تشريفا لها.. وقيل أيضا: إنها نزلت نصفين، نصفها بمكة، ونصفها بالمدينة، والظاهر أنه النصف الثاني، وقال السيوطي في الإتقان: ولا دليل لهذا القول.
وخصص السيوطي في كتابه (الإتقان) فصلا خاصا في ذكر ما استثني من المكي والمدني، ونقل عن ابن حجر في شرح البخاري: قد اعتنى بعض الأئمة ببيان ما نزل من الآيات بالمدينة في السور المكية، قال: وأما عكس ذلك، وهو نزول شيء من سورة بمكة، تأخر نزول تلك السورة إلى المدينة، فلم أره إلا نادرا.
.ضوابط المكي والمدني:
اتفق العلماء على أن السماع والنقل عن الصحابة هو معيار العلم بالمكي والمدني من السور والآيات، إلا أن المعيار لا ينفي أن تكون هناك ضوابط وقرائن مستفادة من استقراء الآيات المكية والمدنية يعرف بها المكي والمدني، وهي ضوابط عامة يمكن ملاحظتها بسهولة ويسر، تؤكد انسجام الآيات المكية مع المرحلة الزمنية في مكة من حيث طبيعة الخطاب والمخاطب وأسلوب الخطاب، وكذلك الأمر بالنسبة للآيات المدنية، والأمر لا يخفى على العلماء الذين درسوا السيرة النبوية، وتتبعوا مراحل التشريع وتدرجه.
.خصائص الآيات المكية:
ومن خصائص الآيات المكية ما يلي:
.أولا: من حيث الأسلوب:
يلاحظ أن أسلوب الآيات المكية يغلب عليه أسلوب التعنيف والتهديد والتخويف، لأن أهل مكة كانوا مشركين أشداء في عداوتهم قساة القلوب، وكان لابد من مخاطبتهم بما يلائم حالهم، ويتلاءم مع الوضع النفسي الذي كان قائما آنذاك، ولهذا استعمل القرآن كلمة (كلا) الدالة على الزجر والإنكار، وخاطبهم بلفظة (يا أيها الناس)، وأكثر من قصص الأنبياء بهدف الإقناع، واستشهد بما وقع للأمم السابقة، واستعمل حروف التهجي، وذكر قصة آدم وإبليس ليدلل على الصراع بين الخير والشر والإيمان والكفر، وجاءت الآيات موجزة، والسور قصيرة، وهي مليئة بالقسم.
.ثانيا: من حيث الموضوع:
حثت الآيات المكية على تصحيح العقيدة، ونبذ الشرك، والإيمان بالله وحده، والإيمان بالبعث، ودعت هذه الآيات إلى الالتزام بالأخلاق والاستقامة ومحبة الغير، ورفض كل أنواع الفسوق والعصيان والإضرار بالغير والاعتداء على حقوق الآخرين، ومن الطبيعي أن يقترن ذلك بالتنديد بالعادات التي كانت سائدة في العصر الجاهلي من وأد البنات وعبادة الأصنام وظلم القوي للضعيف، وشرب الخمر وإتيان الفواحش، وأكل مال اليتيم واضطهاد الرجل للمرأة.ولم تكن المرحلة المكية مهيأة لوضع أسس نظام إسلامي، لغياب مكونات ذلك المجتمع، وكان لابد من توسيع دائرة الدعوة، لكي ينصب الاهتمام أولا على إصلاح العقيدة، عن طريق المقارنة بين الإيمان والكفر، واستخدام العقل البشري كأداة للتمييز والترجيح، والعقل البشري قادر على أن يكتشف الحقيقة، ولهذا استعمل القرآن الكلمات المعبرة عن ثقة الدعوة الإسلامية بالعقل والعقلاء، والاحتكام إلى أهل البصيرة لكي يسلطوا الضوء على ذلك الصراع التاريخي بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والفضيلة والرذيلة، ولابد في النهاية من انتصار الحق والإيمان والتوحيد والفضيلة، مهما طال الزمن، لأن الاستقامة هي الأصل، والانحراف عن الأصل سرعان ما ينكشف أمره عند طلوع الفجر.
.خصائص الآيات المدنية:
تتميز الآيات المدنية بخصائص تجسد واقع المجتمع الإسلامي الذي يواجه تحديات خارجية تستهدف كيانه ووجوده، وتحديات داخلية تستهدف تنظيم شئونه على قواعد ثابتة تحقق الانسجام بين مبادئ الإسلام وواقع المجتمع الإسلامي.وكان من الضروري أن ينصرف الاهتمام إلى وضع أسس ذلك المجتمع، إذ لا يمكن لأي خطاب أن يتجاهل طبيعة المخاطب وهمومه ومشاغله وقضاياه، وجاءت الآيات المدنية معبرة عن قضايا المسلمين، منظمة شئونهم، مرشدة لهم لكي يختاروا الطريق السليم في التعامل لإرساء الحجر الأساسي في بناء المجتمع الإسلامي، منظمة أحكام الجهاد والمال والحكم والأسرة والعقوبات داعية المسلمين إلى التكافل المادي الذي هو أساس التناصر وعماد الأمن والاستقرار.
واختلف أسلوب الخطاب القرآني، واختلفت موضوعاته، وتوجه الخطاب إلى أهل المدينة من مؤمنين ومنافقين ويهود، مشجعا المؤمنين على الدفاع عن وجودهم وكيانهم، محذرا المنافقين من مغبة ما يفعلونه في الظلام من غدر ناصحا إياهم بالتوبة والتزام طريق المؤمنين، وفي نفس الوقت اتجه الخطاب القرآني إلى اليهود، مبينا لهم زيف ما حرفوه من كتبهم وديانتهم، ذاما ما أخذوا أنفسهم به من غدر وخيانة، مشجعا لهم على الانضمام إلى مواكب الإيمان، مرحبا بكل من يعلن توبته وولاءه للإسلام.
ونستطيع أن نحدد خصائص الآيات المدنية بما يلي:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق