وانت تقرأ هذا الموضوع استمع لتلاوة الشيخ علي جابر يعتبر من افضل القراء في العالم الاسلامي رحمه الله
بسم الله الرحمان الرحيم
توظيف المقاصد
في فهم القرآن و تفسيره
ذ/ التهامي الوزاني
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه
أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد, فإنه إذا كان
التفسير علما يراد به بيان معاني ألفاظ القرآن وما يستفاد منها توصلا إلى الكشف عن
مراد الله تعالى في خطابه للمكلفين فإن جانبا مهما لا يمكن إغفاله في فهم كلام
الله وتفسيره أي إعمال المقاصد واعتبارها في تفسير النص القرآني, فلا يمكن تدبر
القرآن وفهمه فهما صحيحا بمعزل عن فهم مقاصده وغاياته, ولقد كانت لبعض المفسرين
إشارات واجتهادات تدل على اعتبارهم للمقاصد في تفسيرالقرآن سواء في ما فسروه من
الآيات لفظا وتركيبا أو في ما استنبطوه و ستخرجوه من أحكام قرآنية.
وقد ظهر لي تناول هذا
الموضوع من خلال الكشف عن بعض الجهود التفسيرية التي اهتمت بهذا الجانب.
وسأحاول بيان هذا
الموضوع من خلال المحاور التالية:
أولا: مفهوم المقاصد لغة و اصطلاحا
ثانيا: فهم القرآن و تفسيره و علاقته بعلم المقاصد
ثالثا: مقاصدية القرآن الكريم
رابعا: من تطبيقات المفسرين في توظيف المقاصد في فهم القرآن وتفسيره
أولا : تعريف المقاصد
1 -
المقاصد لغة
تطلق مادة( ق-ص-د ) في
اللسان العربي ويراد بها المعاني التالية:
ب- التوجه نحو الشيء،
يقال:قصدت قصده،أي نحوت نحوه،وأقصد السهم، أصاب وقتل مكانه.
ج- الفل والكسر،يقال،انقصد
السيف:أي انكسر،وتقصد:إذا تكسر،وقصد الرمح:إذا كسره.
د- الاكتناز
والامتلاء،تقول العرب : ناقة قصيد،أي مكتنزة ممتلئة من اللحم، والقصيد من الشعر ما
تم سبعة أبيات2 .
وجاء في لسان العرب
لابن منظور : ( أصل" ق-ص- د"
ومواقعها في كلام العرب : الاعتزام والتوجه ، والنهود والنهوض نحو الشيء, على
اعتدال كان أو جور ، هذا أصله في الحقيقة وإن كان يخص في بعض المواضع بقصد
الاستقامة دون الميل1.
وملخص كلام اللغويين أن مادة ( قصد ) في
الاستعمال العربي تدل على معان مشتركة ومتعددة ، إلا أن الغالب عند إطلاقها انصرافها إلى العزم على الشيء والتوجه نحوه .
2 -
المقاصد اصطلاحا :
من المعلوم أن المفاهيم الشرعية يرجع في
تعريفها – عادة – إلى ما كتبه المتقدمون من العلماء ، غير أنه بالنظر إلى البحوث
والدراسات الشرعية والأصولية المتقدمة يعز أن تجد تعريفا محددا أو دقيقا للمقاصد
يحظى بالقبول والاتفاق من قبل كافة العلماء أو أغلبهم .
وإن كان من المسلم به
أنه لم يكن غائبا عن علمائنا المتقدمين العمل بالمقاصد واستحضارها في اجتهاداتهم
وآرائهم 2.
أما بالنسبة للدراسات
المعاصرة فثمة تعريفات متعددة :
فقد عرفها الشيخ محمد
الطاهر بن عاشور بقوله : ( مقاصد التشريع العامة هي المعاني والحكم الملحوظة
للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها ، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع
خاص من أحكام الشريعة ، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي
لا يخلو التشريع عن ملاحظتها ، ويدخل في هذا أيضا معاني من الحكم ليست ملحوظة في
سائر أنــواع الأحكام، ولــكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها ) 1.
وإذا كان ابن عاشور قد
قصر تعريفه هنا على المقاصد العامة للشريعة فإنه في قسم آخر من كتابه " مقاصد
الشريعة الإسلامية " ذكر المقاصد الشرعية الخاصة وبين أنها : ( الكيفيات
المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة، أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم
الخاصة ) 2.
أما العلامة عـلال
الفاسي فقد قال في تعريف المقاصد عموما:(المراد بمقاصد الشريعة:الغاية منها،والأسرار
التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها)3.
والذي يظهر من تعريف الأستاذ علال الفاسي
أنه جمع في تعريفه بين مقاصد الشريعة العامة ومقاصدها الخاصة ، ويبدو أن ما انتهى
إليه كل من الشيخ ابن عاشور والعلامة علال الفاسي في تعريفهما لمقاصد الشريعة يعد
مرجعا لأغلب التعريفات المتداولة بعدهما في بعض الكتابات المقاصدية المعاصرة .
فقد صرح الدكتور أحمد
الريسوني بأن تعريفه للمقاصد مبني على التعريفين السابقين ، إذ قال: ( وبناء على
هذه التعريفات والتوضيحات لمقاصد الشريعة لكل من ابن عاشور وعلال الفاسي وبناء على مختلف الاستعمالات والبيانات الواردة
عند العلماء الذين تحدثوا عن موضوع المقاصد ، يمكن القول : إن مقاصد الشريعة هي
الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد)4.
وأما الدكتور عمر
الجيدي - رحمه الله – فقد أخذ بتعريف الأستاذ علال الفاسي بألفاظه حرفيا من غير
تنبيه منه على ذلك ، فقد قال: ( يراد بمقاصد الشريعة : الغاية منها ، والأسرار التي وضعها الشارع عند
كل حكم من أحكامها) 1.
وقد تعرض الدكتور نور
الدين بن مختار الخادمي لتعريف المقاصد في كتابه: "الاجتهاد المقاصدي"،وبعد
أن أورد التعريفات السابقة اختارتعريفا له
لم يخرج فيه عما أورده باستثناء زيادات يسيرة،إذ قال:(المقاصد : هي
المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية والمترتبة عليها سواء أكانت تلك المعاني حكما
جزئية أم مصالح كلية أم سمات إجمالية ، وهي تتجمع ضمن هدف واحد هو تقرير عبودية
الله ومصــلحة الإنسان في الدارين )3.
وخلاصة القول إن هذه
التعريفات في جملتها تدور على كون المقاصد تمثل مراد الله في أحكامه وتشريعاته مما
فيه مصلحة للمكلفين في المعاش والمعاد .
ثانيا : فهم القرآن وتفسيره
وعلاقته بعلم المقاصد
تقدم سابقا
الحديث عن مفهوم المقاصد ، وتبقى الإشارة
في هذا المبحث إلى علاقة المقاصد بفهم القرآن وتفسيره ،
ذلك أن العلم بمقاصد الشريعة ليس مقصودا
لذاته, و إنما يراد به – فيما يراد – إعماله واستثماره في فهم النصوص الشرعية
وتوجيهها , وهذا يكون على الخصوص ( في النصوص ظنية الدلالة إذ يستعين المجتهد
بالمقاصد في فهم النصوص واختيار المعنى المناسب لتلك المقاصد وتوجيه معنى النص بما
يخدمها , وقد يصل الأمر بالمجتهد إلى تأويل النص وصرفه عن ظاهره في حال مخالفة ذلك
المعنى الظاهر لمقاصد الشريعة وكلياتها) 2.
وبذلك تكون
النصوص الشرعية قرآنا وسنة مجالا من
مجالات إعمال المقاصد, بل عدها بعض الباحثين
في علم المقاصد أول مجال اجتهادي يحتاج إلى النظر المقاصدي , قال الدكتور أحمد
الريسوني : (ولعل أول مجال اجتهادي يتوقف على النظر المقاصدي ويستفيد منه
هو مجال فهم النصوص وتفسيرها سواء كانت قرءانا أو سنة )3 , ولئن كانت عبارة الدكتور الريسوني تفيد
شيئا من التردد, فإن الدكتور يوسف أحمد محمد البدوي قد جزم بكون النصوص الشرعية
أول مجال لإعمال المقاصد , ونص على ذلك صراحة بقوله : (المجال الأول : فهم النصوص
وتفسيرها ومعرفة دلالتها )4, وشرح
ذلك بقوله : ( ومن المسلم به أن الشارع قصد من أحكامه تحقيق عبوديته وتحقيق مصالح
عباده ودفع الفساد عنهم , فإذا وردت نصوص شرعية تحتاج إلى التفسير والبيان , فإن
هذه النصوص تفسر ويحدد نطاق تطبيقها ومجال إعمالها في ضوء المصالح والمقاصد التي
وردت هذه النصوص لتحقيقها والحكم التي جاءت من أجلها ) .1
غير أنه
بالنظر إلى جهود العلماء في تفسير النصوص الشرعية وبيان مدلولاتها يظهر وجود مدارس
ومناهج في فهم تلك النصوص , ومرد ذلك إلى طبيعة ونوعية الأصول التي يستند إليها
أصحاب كل اتجاه، ومن ثم يمكن التمييز بوجه عام بين اتجاهين رئيسيين في فهم النصوص
الشرعية .
ويتعلق
الأمر بالاتجاه الظاهري والاتجاه المقاصدي , يقول الدكتور أحمد الريسوني: ( إن
تفسير النصوص الشرعية يتجاذبه عادة اتجاهان: اتجاه يقف عند ألفاظ
النصوص وحرفيتها مكتفيا بما يعطيه ظاهرها . واتجاه يتحرى مقاصد الخطاب ومراميه ...
)2 .
ويمثل
الاتجاه الأول أصحاب المدرسة الظاهرية التي يتزعمها الإمام داود الظاهري, كما
يمثله كذلك ( عدد من الفقهاء من مختلف المذاهب وممن ليس لهم مذاهب قديما وحديثا ,
إلا أنه يتفاوت في درجته ومداه من فقيه لآخر
وأكثر ما يتمثل ذلك اليوم عند بعض الدعاة والمفتين من التيار السلفي ) 3 .
وإذا كان
لكل اتجاه فكري أو مذهب فقهي خصائصه وسماته التي تميزه فإن للمدرسة الظاهرية خصائص
عامة في فهم الألفاظ والنصوص, وقد تتبع الدكتور نور الدين الخادمي – في دراسة
متخصصة – هذه الخصائص من خلال استدلالاتهم واجتهاداتهم فتوصل إلى أن(هذه الخصائص
إطلاقا تتفق جميعها على خاصية الأخذ بالظاهر، أي الأخذ بظواهر النصوص والإجماعات ,
وعدم الالتفات إلى ما وراء تلك النصوص والإجماعات من أسرار ومقاصد وتعليل ونظر
بوجه عام )1 .
فالعبرة
عند أهل الظاهر بألفاظ النصوص الشرعية و منطوقها , وليس بتعليل هذه النصوص
وأحكامها أو النظر في حكمها ومقاصدها .
أما
الاتجاه الثاني فتمثله المدرسة المقاصدية , وهذا الاتجاه يستند إلى التسليم العام
بكون الشريعة لها مقاصد وحكم في عموم أحكامها ونصوصها .
إن هذا
الاتجاه ينطلق دائما من كون صاحب النص له
مقاصد معينة ومعان محددة عنده,هي التي أراد تبليغها للمخاطب وأراد من المخاطب
فهمها واستيعابها وأخذها بعين الاعتبار، وأن اللازم هو تحري مقاصد الخطاب كما
يريدها صاحبه والوقوف عندها , بلا نقصان ولا قصور وأيضا بلا زيادة ولا تجاوز2
وبذلك فإن
الاتجاه المقاصدي لا يلتزم التفسير الحرفي للنصوص الشرعية , ولا يكتفي بظواهر
النصوص وألفاظها .
إن فهم
النصوص الشرعية على وجهها الأمثل مفتقر ضرورة إلى العلم بمقاصد الشريعة ,ولذلك قرر
الشيخ الطاهر بن عاشور أن ( أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد
الشرعية ) 3.
ومن ثم يرى
ابن عاشور أنه : ( يقصر بعض العلماء ويتوحل في خضخاض من الأغلاط حين يقتصر في
استنباط أحكام الشريعة على اعتصار الألفاظ ويوجه رأيه إلى اللفظ مقتنعا به , فلا
يزال يقلبه ويحلله ويأمل أن يستخرج لبه ويهمل ما قدمناه من الاستعانة بما يحف
بالكلام من حافات القرائن والاصطلاحات والسياق ) 4.
على أنه لا
يعني إعمال المقاصد في تفسير النصوص الشرعية إلغاء ظواهرها وتعطيل ألفاظها جملة
وتفصيلا , والاستعاضة عن ذلك بمصالح وهمية أو ما أشبه ذلك.
إن الاتجاه
المقاصدي لا يتجاوز النصوص الشرعية , ولا يضعها في مقابل بعض المصالح والمنافع،
وإنما يعتمد المصالح المعتبرة والمقاصد الشرعية المرعية في تفسير النص الشرعي
قرآنا وسنة إذ ( يستلهم الحكم والمصالح التي جاءت النصوص لغايتها مسترشدا بما عرف
من عادة الشرع في الأحكام مستعينا بروح الشريعة وعللها المنصوصة وأحكامها
المستنبطة , فإذا ما توصل إلى هذه الحكمة وتعرف على تلك المصلحة فسر النص في ضوئها
وحدد نطاق تطبيقه ومجال إعماله على أساسها ) 1
.
إن الفهم
المقاصدي للنصوص الشرعية ينبغي أن يلتزم بضوابطه وشروطه , وإلا آل الأمر إلى تحميل
النصوص غير ما تحتمل , وخرج إعمال المقاصد عن مقاصده , وأفضى كل ذلك إلى اتجاه
تقويلي 2 يتقول على النصوص ويسرف في تأويلها ولو
كان هذا التأويل مناقضا لقواعد العلم وقواعد الاستدلال والاستنباط .
يتلخص من
هذا كله أن الاتجاه المقاصدي الملتزم بضوابطه
وقواعده وشروطه( يقف وسطا بين التفريط والإفراط بين
اللفظيين والتقويليين , يتجاوز ظاهرية
اللفظيين, لكنه لا يتجاوز مقاصد الخطاب التي قامت على الدليل وقام عليه الدليل )3 .
ولا شك أن
تراثنا العلمي يزخر بنماذج من العلماء الأجلاء الذين كان لهم إسهام في هذا الاتجاه
, وشهدت مصنفاتهم وآراؤهم واجتهاداتهم بذلك.
ثالثا : مقاصدية
القرآن الكريم
القرآن
الكريم ينطوي على أرقى المقاصد وأكبرها وأعلى المصالح وأعظمها
فهو أصل الأصول ومصدر المصادر وأساس النقول والعقول.
إن جميع المقاصد الشرعية المعتبرة والمعلومة والمقررة في الدراسات الشرعية
إنما هي راجعة في جملتها أو تفصيلها,تصريحا أوتضمينا إلى هدي القرآن وتعاليمه
وأسراره وتوجيهاته.
ويمكن النظر إلى مقاصدية القرآن الكريم عل جهة الإجمال من خلال ما يلي:
_ القرآن الكريم منه تستفاد مقاصد الشارع الحكيم من إرسال الرسل وتنزيل
الكتب وبيان العقيدة والأحكام وتكليف المكلفين ومجازاتهم, وبعث الخلائق والحياة
والكون و الوجود..فقد جاء أن المقصد من الخلق هو عبادة الخالق سبحانه والامتثال
له, وقد دلت على هذا آيات كثيرة منها قوله تعالى:(وما خلقت الجن و الانس
إلا ليعبدون) وقوله سبحانه:(أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا
لاترجعون)...
_ من القرآن الكريم ثبتت الكليات الشرعية الخمس:حفظ الدين والنفس والعقل
والنسل والمال, فقد وردت جملة من نصوصه وأحكامه لتثبيت تلك الكليات وتدعيمها,واعتبارها
أصولا قطعية معتبرة في كل الملل والأمم.
_ من القرآن الكريم تحددت الكثير من الحكم والعلل والأسرار الجزئية, التي
تعلقت بأحكامها الفرعية, والتي شكلت محتوى مهما أسهم في إبراز المقاصد وتكوينها.
_ من القرآن الكريم استخلصت واستقرت ودونت بعض القواعد الفقهية ذات الصلة
بالمقاصد الشرعية, فقد كان المنشغلون بفن القواعد يرجعون كل قاعدة إلى أصلها من
القرآن والسنة أو منهما معا, ومن القواعد المبنية على نصوص من القرآن قاعدة
:"المشقة تجلب التيسير" وقاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات"
وقاعدة:"الضرورة تقدر بقدرها" وقاعدة:"العادة محكمة".
_ من القرآن الكريم استفيدت العديد من الخصائص العامة للشريعة الإسلامية
المتصلة بالمقاصد الشرعية مثل خاصية التيسير والتخفيف ورفع الحرج والوسطية
والاتزان والسماحة والرفق واللين والواقعية, وغير ذلك من الخصائص الكلية والسمات
العامة التي تعاقب الباحثون والدارسون على طرقها وبيانها.
رابعا: من تطبيقات المفسرين في توظيف
المقاصد في فهم القرآن وتفسيره.
بالاطلاع
على ما كتبه بعض علمائنا المفسرين نجد هذا الضرب من
المقاصد-مما سبقت الإشارة إليه- حاضرا عندهم, ونقف هنا على نموذج من كتب التفسير ويتعلق الأمر بكتاب: "أحكام القرآن" لأبي
بكر بن العربي المعافري رحمه الله.
1_ مقاصد الشريعة العامة
تقرر سابقا
أن مقاصد الشريعة العامة هي التي تلاحظ في جميع أو أغلب أبواب الشريعة ومجالاتها
بحيث لا تختص ملاحظتها في نوع خاص من أحكام الشريعة فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغاياتها الكبرى ,
وتتمثل هذه الأوصاف في تميز التشريع الإسلامي باليسر ورفع الحرج , كما تتمثل في
المقاصد الضرورية و الحاجية و التحسينية .
فقد نبه
ابن العربي – رحمه الله – على مقصد التيسير ورفع الحرج في مواضع كثيرة مما فسره من
آيات الأحكام . ومن أمثلة ذلك ما يلي :
1 – جاء في
تفسير ابن العربي لقوله تعالى : » قل
للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الاولين «1, قوله : (المسألة
الثانية : قال علماؤنا : هذه لطيفة من الله سبحانه من بها على الخليقة,
وذلك أن الكفار يقتحمون الكفر والجرائم , ويرتكبون المعاصي,
ويرتكبون المآثم , فلو كان ذلك يوجب مؤاخذتهم لما استدركوا أبدا توبة . ولا نالتهم
مغفرة , فيسر الله عليهم قبول التوبة عند الإنابة , وبذل المغفرة بالإسلام , وهدم
جميع ما تقدم ليكون ذلك أقرب إلى دخولهم في الدين , وأدعى إلى قبولهم كلمة الإسلام
, وتأليفا على الملة , وترغيبا في الشريعة , فإنهم لو علموا أنهم يؤاخذون لما
أنابوا ولا أسلموا ) .1
وقد قرر
ابن العربي – بناء على ما فسره – قاعدة تؤكد اعتباره لمقاصد الشريعة في التيسير ,
إذ قال : ( والتنفير مفسدة للخليقة ,والتيسير مصلحة لهم )2 وينبني على هذا أن التيسير في دعوة الناس
إلى الإسلام , منهج قرآني يشهد له ما فسر به ابن العربي الآية المتقدمة , ولذلك
أيضا شواهد أخرى ليس من صميم هذا البحث الخوض فيها أو التفصيل .
2 – قال
ابن العربي في تفسير قوله تعالى : » ويضع
عنهم إصرهم
«3 : (الإصر هو الثقل , وكان فيما سبق من الشرائع
تكاليف كثيرة فيها مشاق عظيمة, فخفف تلك المشاق لمحمد صلى الله عليه وسلم فمنها مشقتان عظيمتان : الأولى في البول , كان
إذا أ صاب ثوب أحدهم قرضه , فخفف الله ذلك عن هذه الأمة بالغسل بالماء , وروى مسلم
عن أبي وائل قال : كان أبو موسى يشدد في البول ويبول في قارورة ويقول : إن بني
إسرائيل كان إذا أصاب جلد أحدهم بول قرضه بالمقاريض , فقال حذيفة : لوددت أن
صاحبكم لا يشدد هذا التشديد , لقد رأيتني أنا ورسول الله نتماشى , فأتى سباطة خلف
حائط , فقام كما يقوم أحدكم , فبال فانتبذت منه , فأشار إلي فجئت فقمت عند عقبه
حتى فرغ " 4 , ومن الإصر الذي وضع
إحلال الغنائم , وكانت حراما على سائر الأمم , ومنها ألا تجالس الحائض ولا تؤاكل ,
فخفف الله ذلك في دينه , فقال صلى الله عليه وسلم : " لتشد عليها إزارها ثم
شأنه بأعلاها " 1 في
أعداد لأمثالها ) 2,
وقد جعل ابن العربي التيسير في الإسلام برفع الإصر والحرج أصلا عظيما في الدين
وركنا من أركان شريعة المسلمين شرفنا الله سبحانه على الأمم به , فلم يحملنا إصرا
ولا كلفنا في مشقة أمرا .3
3 – جاء في
تفسير ابن العربي لقوله تعالى : » يا أيها الذين آمنوا
لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابرى سبيل حتى
تغتسلوا
... إلى
قوله تعالى
: إن الله كان عفوا غفورا« 4 قوله : ( المسألة الثامنة والثلاثون : دخول العفو
والغفران على ما تقدم من الأحكام وانتظامها بهما , ووجه ذلك أن عفو الله تبارك
وتعالى إسقاطه لحقوقه أو بذله لفضله , ومغفرته ستره على عباده , فوجه الإسقاط
هاهنا تخفيف التكليف , ولو رد بأكثر للزم, ووجه بدله إعطاؤه الأجر الكثير على
الفعل اليسير , ورفعه عن هذه الأمة في العبادات الإصر الذي كان وضعه على سائر
الأمم قبلها , ومغفرته ستره على المقصرين في الطاعات وذلك مستقصى في آيات الذكر
... ) 5 .
4 – قال
ابن العربي في تفسير قوله تعالى : » من
كفر بالله من بعد إيمانه إلا من اكره وقلبه مطمئن بالا يمان ولكن من شرح بالكفر
صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم «6 ( المسألة الرابعة :
إن الكفر وإن كان بالإكراه جائزا عند العلماء فإن من صبر على البلاء ولم يفتنن حتى
قتل فهو شهيد , ولا خلاف في ذلك, وعليه تدل آثار الشريعة التي يطول سردها, وإنما
وقع الإذن رخصة من الله رفقا بالخلق وإبقاء عليهم ولما في هذه الشريعة من السماحة
ونفي الحرج ووضع الإصر )1 .
ولعل هذه
الأمثلة المذكورة كافية في بيان اعتبار ابن العربي للمقاصد في تفسيره , وخصوصا ما
تعلق منها بالمقاصد العامة للشريعة في التيسير ورفع الحرج والمشقة عن أمة الإسلام,
وقد قرر ابن العربي في غير موضع من تفسيره أنه ما جعل الشرع علينا في الدين من حرج
إلا ونفاه ,2 وأن رفع الحرج مقصود شرعي
. 3
أما الوجه
الثاني من مقاصد الشريعة العامة المتعلق بحفظ الكليات الخمس (الدين , والنفس , والعقل,
والنسل , والمال) فإننا نجده حاضرا عند ابن العربي في مواضع كثيرة من تفسيره ,
وخصوصا من هذه الكليات الخمس كلية النسل أو العرض, وكلية المال , ومن أمثلة ذلك ما
يلي :
1 – قال
الله تعالى : » والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة
أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين «4, ذكر ابن العربي في
تفسير هذه الآية أن : ( الحكمة في تكرارها – أي الشهادة – التغليظ في الفروج
والدماء على فاعلها لعله أن يكف عنها , فيقع الستر في الفروج والحقن في الدم ) 5 , وهذا يفيد سد الذريعة عن ما ينتهك
أعراض الناس , فقد حرم الله القذف وأحاطه بشروط دقيقة وصارمة . ورتب عليه حدا,
يقول الدكتور يوسف حامد العالم : ( وأما تحريم القذف وما يترتب على فعله من حد فهو
من باب حماية الأعراض, وحرصا من الشارع على عدم إشاعة الفاحشة على ألسنة الناس ) 6. ولذلك وردت الآية بتكرير الشهادة أربع
مرات .
ومما يؤكد
حفظ العرض عند ابن العربي ما انتصر فيه لمذهب مالك في أن التعريض بالقذف بمنزلة
التصريح به , وهو المثال الثاني كما يأتي .
2 – جاء في تفسير ابن العربي لقوله تعالى : » والذين
يرمون المحصنات« 1 ( اتفق
العلماء على أنه إذا صرح بالزنا كان قذفا وذنبا موجبا للحد , فإن عرض ولم يصرح ,
فقال مالك : هو قذف , وقال الشافعي وأبو حنيفة : ليس بقذف , ومالك أسد طريقة فيه ,
لأن التعريض قول يفهم منه سامعه الحد , فوجب أن يكون قذفا كالتصريح , والمعول على
الفهم,وقد قال الله مخبرا عن قوم شعيب :» إنك
لأنت الحليم الرشيد «2 وقال في
أبي جهل : »ذق إنك أنت العزيز الكريم «
3 وهذا ظاهر ) 4 .
ويشبه ما
ذهب إليه ابن العربي في هذه الآية , انتصاره أيضا لمذهب مالك في أن القاذف إذا رمى
صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنا كان قذفا , خلافا لأبي حنيفة والشافعي ,قال ابن
العربي : ( إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنا كان قذفا عند مالك وقال أبو
حنيفة والشافعي : ليس بقذف لأنه ليس بزنا إذ لا حد عليها .
وعول مالك
على أنه تعبير تام بوطء كامل فكان قذفا والمسألة محتملة مشكلة لكن مالك 5 غلب حماية عرض المقذوف , وغيره راعى
حماية طهر القاذف, وحماية عرض المقذوف أولى , لأن القاذف كشف ستره بطرف
لسانه فلزمه الحد ) .6
3 – قال
ابن العربي في تفسير قوله تعالى : » وقالوا
هذا إنك مبين «7(أي كذب
ظاهر لأنه خبر عن أمر باطن ممن لم يشاهده وذلك أكذب الأخبار وشر الأقوال حيث
استطيل به على العرض الذي هو أشرف المحرمات, ومقرون في تأكيد التحريم بالمهجات ) 1 .
4 – جاء
عند ابن العربي في تفسير قوله تعالى: » محصنات
غير مسافحات « 2 قوله : (
يعني عفائف غير زانيات ... وإنما شرط الله ذلك صيانة للماء الحلال عن الماء الحرام
, فإن الزانية لا يجوز عندنا نكاحها حتى تستبرأ .. فكيف يمتزج ماء بماء غير محترم
, وفي ذلك خلط الأنساب الصحيحة بالمياه الفاسدة )3
.
والأمثلة
التي أوردتها تتعلق بحفظ العرض أو النسل , وأما حفظ المال فمن أمثلته في ما فسره
ابن العربي من الآيات :
1 – ما جاء
عنده في تفسيره لآية الدين من سورة البقرة 4,
إذ قال في المسألة الثانية والخمسين : ( قال علماؤنا رحمة الله عليهم : لما أمر
الله سبحانه بالتوثيق بالشهادة على الحقوق كان ذلك دليلا على المحافظة في مراعاة
المال وحفظه , ويعتضد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم :"نـهى عـن قيل وقال
وكثرة السؤال وإضاعة المال" 5 )6 .
2– قال ابن العربي في تفسير قوله تعالى : »فإذا دفعتم إليهم
أموالهم فأشهدوا عليهم «7 ( قال
علماؤنا أمر الله تعالى بالإشهاد تنبيها على التحصين وإرشادا إلى نكتة بديعة , وهي
أن كل مال قبض على وجه الأمانة بإشهاد لا يبرأ منه إلا بإشهاد على دفعه لقوله
تعالى : » فأشهدوا عليهم «
8)9
.
ووجه
الدلالة على المقاصد هنا ترتيب حفظ المال وتحصينه على الإشهاد , لأن حفظ المال أمر
مقصود شرعا , فلزم من أجل ذلك الإشهاد عليه
.
وقد
ظهر من خلال هذا المبحث اعتناء ابن العربي بمقاصد الشريعة العامة واستحضاره لها في
تفسيره لآيات الأحكام .
2_ مقاصد الخطاب القرآني
أتناول
في هذا المبحث بعض مقاصد القرآن في خطابه , وذلك من خلال ما نبه عليه ابن العربي
في تفسير بعض الآيات .
وهذه المقاصد – بحسب ما اجتمع لي من أمثلة –
تتعلق بمقاصد القرآن في تخصيصه ، وفي تقديمه وتأخيره , كما تتعلق بمقاصده فيما
تضمنه من أقسام1 وغير ذلك...
أما مقاصد
الخطاب القرآني في تخصيصاته , فتتناول عند ابن العربي بعض ما خصه القرآن
بالتنبيه أو الإشارة أو الذكر, كما تتناول ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من
أحكام في القرآن , وقد توقف ابن العربي عند كل ذلك ببيان مقاصده وفوائده.
وأمثلة
التخصيص بهذه المعاني عند ابن العربي كثيرة , ومن ذلك ما يلي :
1 – تعرض
ابن العربي لتفسير قوله تعالى : » قل
انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا
بالله مالم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون «
2 . فقال : ( المسألة الرابعة, البغي : فهو تجاوز الحد , ووجه ذكرهما – أي
البغي والإثم – بعد دخولهما في جملة الفواحش للتأكيد لأمرهما بالاسم الخاص بعد
دخولهما في الاسم العام قصد الزجر , كـما قال تعالى : »فيهما فاكهة ونخل ورمان «
1.
فذكر النخل
والرمان بالاسم الخاص بعد دخولهما في الاسم العام على معنى الحث )2.
ويستفاد
مما فسره ابن العربي أن تخصيص لفظي الإثم والبغي بالذكر – وإن دخلا في جملة
الفواحش– مقصوده تأكيد الزجر عن فعلهما .
قال ابن العربي: ( ومن
غريب دليل الخطاب أن الباري تعالى قد يخص الوصف بالذكر للتنبيه , وقد يخصه بالعرف
وقد يخصه باتفاق الحال , فالأول كقوله تعالى : » فلا
تقل لهما أف «3 وقد قال
تعالى : » ولا تقتلوا أولادكم
خشية إملاق «4 فإنه
تنبيه على حالة الإثراء، وخص حالة الإملاق بالنهي لأنها هي التي يمكن أن يتعرض
الأب لقتل الإبن فيها وكذلك قوله تعالى : » لا
تاكلوا الربا أضعافا مضاعفة «5 خص حالة الإكثار
والإثراء التي تتعلق بها النفوس بالنهي )6.
3 – جاء
عند ابن العربي في تفسير قوله تعالى : »إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما «7 قوله : ( خص حالة
الكبر لأنها بطول المدى توجب الاستثقال عادة , ويحصل الملل ويكثر الضجر فيظهر غضبه
على أبويه وتنتفخ لهما أوداجه , ويستطيل عليهما بدالة البنوة وقلة الديانة)8، ولذلك فالتخصيص هنا تنبيه على الحالة
التي يكون فيها القيام بحق الوالدين أشق وهي حالة كبر الوالدين أو أحدهما , وأما
ما دون ذلك فلم يشر إليه سياق الآية لكونه أيسر على النفس أو لأن مشقة فعله دون
مشقة الإحسان إلى الوالدين في حال كبرهما والله أعلم .
4 – قال
ابن العربي في تفسير قوله تعالى : »إن الله يامر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى .. «1 ( قوله تعالى : » وإيتاء
ذي القربى
« يعني في صلة الرحم وإيفاء الحقوق , كما قال ابن عباس : العدل أداء
الفرائض . وكذلك يلزم إيتاء حقوق الخلق إليهم وإنما خص ذوي القربى لأن حقوقهم أوكد
, وصلتهم أوجب لتأكيد حق الرحم التي اشتق الله إسمها من اسمه , وجعل صلتها من صلته
) 2 .
5 – قال
ابن العربي في تفسير قوله تعالى : » حافظوا
على الصلوات والصلاة الوسطى «
3: ( المسألة الثانية : لاشك في انتظام
قوله تعالى الصلوات للصلاة الوسطى لكنه خصصها بعد ذلك بالذكر تنبيها على شرفها في
جنسها ومقدارها في أخواتها كما قال الله تعالى : » من
كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال «
4 تنبيها على شرف الملكين , وكما قال
تعالى :" فيهما
فاكهة ونخل ورمان "5 تنبيها
على وجه الزيادة في مقدارهما بين الفاكهة ) 6.
وما ذكر من
الأمثلة يندرج في مقاصد الخطاب القرآني في بعض تخصيصاته, وبقيت الإشارة إلى ما خص
به الرسول صلى الله عليه وسلم من أحكام في القرآن, ومن ذلك: ما ذكره ابن
العربي في تفسير قوله تعالى : » خالصة
لك
«7 إذ قال ( وقد خصص
الله رسوله صلى الله عليه وسلم في أحكام الشريعة بمعان لم يشاركه فيها أحد في باب
الفرض والتحريم والتحليل مزية على الأمة وهبة، له ومرتبة خص بها ففرضت عليه أشياء
وما فرضت على غيره ، وحرمت عليه أشياء وأفعال لم تحرم عليهم , وحللت له أشياء لم
تحلل لهم منها متفق عليه ومنها مختلف فيه )1.
ومما خص به
الرسول صلى الله عليه وسلم ألا تنكح أزواجه من بعده أبدا، قال الله تعالى : » ولا
أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا «
2. قال ابن العربي :( وهي من خصائصه فقد
خص بأحكام وشرف بمعالم ومعان لم يشاركه فيها أحد تمييزا لشرفه وتنبيها على مرتبته
)3 .
ولعل هذا
القدر كاف في بيان مقاصد التخصيص في الخطاب القرآني في تفسير ابن العربي.
وأما ما
يتعلق بمقاصد التقديم والتأخير في القرآن فيمكن التمثيل له في تفسير ابن
العربي من خلال ما يلي :
1 – قال
تعالى في كفارة الأيمان : »
فكفارته
إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أوكسوتهم أوتحرير رقبة فمن لم يجد
فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ... «
4 قال ابن العربي في المسألة الثالثة من
تفسير هذه الآيات : ( ذكر الله عز وجل في الكتاب الخلال الثلاث مخيرا فيها, وعقب عند عدمها بالصيام فالخلة الأولى هي
الإطعام وبدأ بها لأنها كانت الأفضل في بلاد الحجاز لغلبة الحاجة فيها على الخلق
وعدم شبعهم ولا خلاف في أن كفارة اليمين على التخيير , وإنما اختلفوا في الأفضل من
خلالها ( ...) ولما علم الله غلبة الحاجة بدأ بالمهم المقدم )5.
2 – قال
ابن العربي في تفسير قوله تعالى :" الزانية والزاني ".1(..فبدأ بالمرأة قبل الرجل قال علماؤنا :
ذلك لفائدتين : إحداهما : أن الزنا في المرأة أعر لأجل الحمل , فصدر بها لعظيم
حالها في الفاحشة .
الثانية :
أن الشهوة في المرأة أكثر , فصدر بها تغليظا لردع شهوتها ، وإن كان قد ركب فيها
حياء ولكنها إذا زنت ذهب الحياء )2.
والظاهر من
تفسيرهذه الآية ميل ابن العربي إلى ما حكاه عن العلماء في استنباطهم من الآية
المتقدمة مقصود تقديم الزانية على الزاني، وإن كانا في معصية الزنا سواء .
3 – جاء في
تفسير قوله تعالى : »
فلا
اقتحم العقبة ... «3 قول ابن
الـعربي: ( .. إطعام اليتيم الذي لا كافل له أفضل من إطعام ذي الأبوين لوجود
الكافل وقيام الناصر وهي المسألة السابعة والمسألة الثامنة قوله تعالى : » ذا
مقربة«4 : يفيد أن
الصدقة على القريب أفضل منها على البعيد ولذلك بدأ به قبل المسكين ) 5.
وأما القسم
في الخطاب القرآني فمقصده عند ابن العربي تعظيم المقسم به وبيان قدره ومنزلته
, ومن ذلك قسم الله تعالى بحياة محمد صلى الله عليه وسلم , وقسمه سبحانه ببعض
مخلوقاته , وبيان ذلك عند ابن العربي في الأمثلة التالية :
1 – قوله
تعالى : » لعمرك إنهم لفي
سكرتهم يعمهون «6. قال ابن
العربي : ( قال المفسرون : أقسم الله هنا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم تشريفا له
أن قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون ..)7. وقد أكد ابن العربي هذا المعنى أيضا
بقوله ( .. وإن كان الله أقسم في هذه القصة فذلك بيان لشرف المنزلة وشرف المكانة ,
فلا يحمل عليه سواه , ولا يستعمل في غيره )1
.
2 – قوله تعالى : » لا
أقسم بهذا البلد « 2 . قال ابن
العربي في تفسير هذه الآية : ( المسألة الخامسة : فإن قيل : كيف أقسم الله سبحانه
بغيره , قلنا : هذا قد بينا الجواب عنه
على البلاغ في كتاب " قانون التأويل " , وقلنا : للباري تعالى أن يقسم
بما شاء من مخلوقاته تعظيما لها )3.
3 – قال ابن
العربي في تفسير قوله تعالى»:والتين والزيتون «4:(..وإنما أقسم الله
سبحانه بالتين ليبين فيه وجه المنة العظمى , فإنه جميل المنظر, طيب المخبر , نشر الرائحة , سهل الجنى , على
قدر المضغة )5.
3_ المقاصد في أحكام القرآن
يتعلق هذا
المبحث ببعض الأحكام التي ورد تفسير آياتها عند ابن العربي , ولذلك تم الاقتصار
على أحكام بعض الأبواب الفقهية المشهورة مع بيان الوجه المقاصدي فيما فسره ابن
العربي من آياتها , وهذه الأحكام هي : أحكام العبادات , وأحكام العائلة والأسرة ,
وأحكام العقوبات والحدود .
أما العبادات
فهي وإن كانت مما لا يدخله التعليل عند ابن العربي - كما هو مقرر سابقا – إلا أنه بالاطلاع
على ما فسره ابن العربي من بعض الآيات المتعلقة بأحكام العبادات , نجد له تنبيهات
وإشارات مقاصدية متميزة , ومن أمثلة ذلك :
1 – ما
بينه – رحمه الله – من مقاصد في إخفاء بعض الأمور التعبدية كما خبأ الله تعالى
ليلة القدر في رمضان، وخبأ الساعة التي يستجاب فيها يوم الجمعة , وخبأ
الكبائر في السيئات , وخبأ الصلاة الوسطى في الصلوات , وغيرذلك , يقول ابن العربي
في تفسير قوله تعالى : »حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى «.1 ( المسألة الرابعة : في تحقيقها – يعني
الصلاة الوسطى ( ...) وقد اختلف العلماء فيها على سبعة ( ... ) وأما من قال إنها
غير معينة فلتعارض الأدلة وعدم الترجيح , وهذا هو الصحيح فإن الله خبأها في
الصلوات كما خبأ ليلة القدر في رمضان وخبأ الساعة في يوم الجمعة وخبأ الكبائر في
السيئات ليحافظ الخلق على الصلوات ويقوموا جميع شهر رمضان ويلزموا الذكر في يوم
الجمعة كله ويجتنبوا جميع الكبائر والسيئات )2
وقد قرر ابن العربي هذه المعاني في مواطن أخرى من تفسيره مبينا أن إخفاء هذه
الأمور في العبادات هو أصلح للعباد وأنفع لهم 3
.
2 – ما نبه
عليه ابن العربي في بعض مسائل الطهارة , ومن ذلك رأيه في إسقاط غسل العين , وعدم
تخليل أصابع الرجلين في الوضوء , قال رحمه الله في معرض تفسيره لقوله تعالى : » فاغسلوا
وجوهكم
«4: (
.. الوجه في اللغة : ما برز من بدنه وواجه غيره به وهو أبين من أن يبين(...)إلا أنه
أشكل على الفقهاء منه ستة معان:( ...) الخامس: العين،
والحكم فيها واحد أثرا ونظرا ولغة ولكن سقط غسلها للتأذي بذلك والحرج به، ولذلك
كان عبد الله بن عمر لما عمي يغسل عينيه إذ كان لا يتأذى بذلك ) 5 . وأما تخليل الأصابع في الوضوء فعند ابن
العربي : ( واجب في اليدين غير واجب في الرجلين، لأن تخليليها يقرح باطنها وقد
شاهدنا ذلك وما علينا في الدين من حرج في أقل من ذلك فكيف في تخليل تتقرح به
الأقدام )1 .
ومن مسائل
العبادات التي لابن العربي فيها نظر مقاصدي ما يتعلق بمصرف الغارمين في الزكاة :
3 – يقول في تفسير
قوله تعالى : » والغارمين «: 2(
هم الذين ركبهم الدين ولا وفاء عندهم به ولا خلاف فيه , اللهم إلا من ادان في سفاهة فإنه لايعطى منها نعم ولا من
غيرها إلا أن يتوب ،فإن أخذها قبل التوبة عاد إلى سفاهة مثلها أو أكبر منها ..)3فلفظ » الغارمين « في الآية ورد بصيغة العموم، ومع
ذلك فابن العربي يستثي من هذا العموم من ادان في سفاهة، ومستنده في ذلك نظره إلى
المآل أي مآل صرف الزكاة في الغارم المدين في سفاهة قبل التوبة، فإن ذلك في رأي
ابن العربي تشجيع له على الإجتراء على سفاهة مثلها أو أكبر منها ولذلك فإن اجتهاد ابن العربي – رحمه الله- فيه سد للذريعة وقطع لها .
وأما أحكام العا
ئلة والأسرة التي كان فيها لابن العربي نظر مقاصدي فمن أمثلتها في تفسيره :
( وجب الصداق على
الزوج ليملك به السلطنة على المرأة وينزل معها منزلة المالك مع المملوك فيما بذل
من العوض فيه فتكون منفعتها بذلك له فلا تصوم إلا بإذنه ولا تحج إلا بإذنه ولا
تفارق منزلها إلا بإذنه ويتعلق حكمه بمالها كله حتى لا يكون لها منه إلا ثلثه فما
ظنك ببدنها ) .5 وكلام
ابن العربي هنا فيه تنبيه على بعض مقاصد الصداق في الزواج .
2 – قال تعالى : » والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا
يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في
أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير « 1 قال ابن العربي في بيان مقاصد الأحكام
الواردة في الآية : ( اعلموا وفقكم الله أن المقصود بهذه العدة براءة الرحم من ماء
الزوج فامتناع النكاح إنما هو لأجل الماء الواجب صيانته أولا ،وامتناع عقد النكاح
إنما هو لاستحالة وجوده شرعا على محل لا يفيد مقصوده فيه وهو الحل . وامتناع الطيب
والزينة لأنه من دواعيه فقطعت الذريعة إليه بمنع ما يحرص عليه.
وامتناع الخطبة
لأن القول في ذلك والتصريح به أقوى ذريعة وأشد داعية من الطيب والزينة فحرم من
طريق الأولى .
وامتناع الخروج
لبقاء الرقبة الموجب غاية الحفيظة والعصمة وحق أمر السكنى لكونه في الدرجة الخامسة
من الحرمة فأسقط وجوبه أحبار من الأمة ثم رخص الله تعالى في التعريض ..)2وقد بين ابن العربي في هذا النص بعض مقاصد
أحكام العدة وما يتعلق بها .
3 – قال ابن
العربي في سياق تفسير قوله تعالى :
» فابعثوا
حكما من أهله وحكما من أهلها
... «3 (المسألة التاسعة : الأصل في الحكمين أن
يكونا من الأهل، والحكمة في ذلك أن الأهل أعرف بأحوال الزوجين وأقرب إلى أن يرجع
الزوجان إليهما فأحكم الله سبحانه الأمر بأهله...)4.
4 – قال
تعالى : » وعاشروهن بالمعروف «5 قال ابن العربي في
تفسير هذه الآية: (وحقيقة "عشر " في العربية الكمال والتمام ومنه
العشيرة فإنه بذلك كمل أمرهم وصح استبدادهم عن غيرهم ( ...) فأمر الله سبحانه
الأزواج إذا عقدوا على النساء أن يكون أدمة ما بينهم وصحبتهم على التمام والكمال
فإنه أهدأ للنفس وأقر للعين وأهنأ للعيش ، وهذا واجب على الزوج(...)ومن سقوط العشرة
تنشأ المخالفة ، وبها يقع الشقاق فيصير الزوج
في شق وهو سبب الخلع )1 .
وأما
الأحكام المتعلقة بالعقوبات والحدود فقد كان لابن العربي فيها أيضا نظر
مقاصدي من خلال ما فسره من بعض الآيات الواردة في ذلك .
والعقوبات- كما ذكر- ابن العربي تنقسم إلى قسمين : ( أحدهما
: ما فيه هلكة المعاقب الثاني: ما يعود بمصلحة عليه من زجره عما ارتكب ورده عما
اعتقد وفعل ) 2 .
وكما أن
للعقوبات مقاصد فإن للحدود الشرعية مقاصد وحكما ,يقول ابن العربي : ( فإن الله ما
وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافة قائمة بقوام الحق لا زيادة عليها ولا نقصان معها
ولا يصلح سواها ) 3 .
ومن أمثلة
العقوبات والحدود التي أعمل فيها ابن العربي فقهه المقاصدي ما يلي :
1 – تعرض
ابن العربي للعقوبات التي رتبها القرآن على فعل الحرابة ومنها قوله تعالى : »أوينفوا من الا رض «
4وقد ذكر في تفسيرها
أربعة أقوال : الأول يسجن الثاني : ينفى إلى بلد الشرك، الثالث: يخرجون من مدينة
إلى مدينة أبدا الرابع : يطلبون بالحدود أبدا فيتهربون منها .. 5 وقد علق ابن العربي على هذه الأقوال
مرجحا ومعقبا بفقه مقاصدي إذ قال : ( والحق أن يسجن فيكون السجن له نفيا من الأرض
وأما نفيه إلى بلد الشرك فعون له على الفتك وأما نفيه من بلد إلى بلد فشغل لا يدان
به لأحد وربما فر فقطع الطريق ثانية ..) 6
2 – وفي
هذا السياق أيضا ذكر ابن العربي أنه إذا صلب الإمام
المحارب فإنه يصلبه حيا وحكى قولا للشافعي أنه : يصلبه ميتا ثلاثة أيام لأن الله
تـعالى قال:» يقتلوا أويصلبوا «1 فبدأ بالقتل وقد علق
على كل ذلك بقوله: (قلنا:نعم القتل مذكور أولا ولكن بقي أنا إذا جمعنا بينهما كيف
يكون الحكم، هاهنا هو الخلاف، والصلب حيا أصح لأنه أنكى وأفضح وهو مقتضى معنى
الردع الأصلح)2
3 – يقول
ابن العربي في تفسير قوله تعالى : » ومن
قتل مومنا خطأ فتحرير رقبة مومنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا «3 ( أوجب الله تعالى
الدية في قتل الخطإ جبرا كما أوجب القصاص في قتل العمد زجرا، وجعل الدية على
العاقلة رفقا وهذا يدل على أن قاتل الخطأ لم يكتسب إثما ولا محرما، والكفارة وجبت
زجرا عن التقصير والحذر في جميع الأمور )4
.
4 – تعرض ابن
العربي لحد الزنا في تفسيره للآيات الأولى من سورة النور، ومما قرره من فقه مقاصدي
في تفسيره لتلك الآيات ما قاله في تفسير قوله تعالى : » وليشهد
عذابهما طائفة من المومنين «5 :( وفقه ذلك أن الحد
يردع المحدود ومن شهده وحضره يتعظ به ويزدجر لأجله ويشيع حديثه , فيعتبر به من
بعده )6 .
وقد حكى
خلافا في تفسير الآية المتقدمة يتعلق بتحديد الطائفة، وعقب على ذلك قائلا : ( ..
إلا أن سياق الآية هاهنا يقتضي أن يكونوا جماعة لحصول المقصود من التشديد والعظة
والاعتبار ( ... ) والصحيح سقوط العدد واعتبار الجماعة الذين يقع بهم التشديد من
غير حد ) 1 .
ويظهر من
كل ما سبق ذكره والتمثيل له في هذا البحث أنه كانت لبعض مفسرينا نظرات مقاصدية في بيان آيات القرآن وتفسيرها,يشهد لذلك ما وقفنا
عليه في تفسير أبي بكرابن العربي المعافري في كتابه:"أحكام القرآن" سواء فيما فسره من آيات الأحكام مثل الآيات المتعلقة بالعبادات والأسرة و
العقوبات و الحدود وغير ذلك..أو في ما عمد إلى
تقصيده عند تناوله لبعض أساليب القرآن
كالتخصيص، والتقديم والتأخير, والقسم.
2- وقد تتبع
الدكتور نور الدين بن مختار الخادمي أغلب التعبيرات والاستعمالات لكلمة المقاصد
التي استخدمها العلماء قديما وحديثا ليعنوا بها مراد الشارع ، ومقصود الوحي ومصالح
الخلق, فوجد أنه يعبر عن المقاصد عندهم
بالحكمة المقصودة بالشريعة ، ويعبر عنها أيضا بمطلق المصلحة ، ويعبر عنها كذلك
بنفي الضرر ورفعه وقطعه ، كما يعبر عنها بدفع المشقة ورفعها ، ويعبر عنها كذلك
بالكليات الشرعية الخمس الشهيرة ، و يعبر عنها أيضا بمعقولية الشريعة
وتعليلاتها وأسرارها ، كما يعبر عنها بلفظ المعاني ...
ينظر الاجتهاد المقاصدي : حجيته ،
ضوابطه ، مجالاته ، للدكتور نور الدين
الخادمي 1/48-49-50-51.
4 - نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي ص: 6-7. وينظر كذلك للمؤلف
نفسه " كتاب الفكر المقاصدي : قواعده وفوائده ص : 13.
1 - التشريع
الإسلامي : أصوله مقاصده ، للدكتور عمر الجيدي ص : 242.
3-
الاجتهاد المقاصدي : حجيته ، ضوابطه ، مجالاته للدكتور نور الدين بن المختار
الخادمي .ص: 52-53.
4 - أخرجه البخاري في كتاب الوضوء,باب البول قائما
وقاعدا,وباب البول عند سباطة قوم,وباب البول عند صاحبه والتستر بالحائط.وأخرجه
مسلم في كتاب الطهارة,باب المسح على الخفين.
1 - أخرجه
الإمام مالك في الموطأ,في كتاب الطهارة,باب ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض.
2 - أحكام
القرآن : 2 / 327 – 328 وينظر أيضا تفسيره لقوله تعالى : " لا يكلف الله
نفسا إلا وسعها " سورة البقرة الآية 285 أحكام القرآن : 1 / 347 .
4 - سورة النور الآية : 6 .
5 -
كذا ورد اللفظ في النسخة التي اعتمدتها مع أن الظاهر نصب "مالك" لأنها
إسم ( لكن ) .
5 -
أخرجه البخاري في كتاب الرقاق,باب ما يكره من قيل وقال.وأخرجه مسلم في كتاب
الأقضية,باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة والنهي عن منع و هات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق