وانت تقرأ هذا الموضوع استمع لتلاوة الشيخ علي جابر يعتبر من افضل القراء في العالم الاسلامي رحمه الله
نشأة علم التوحيد والفرق الإسلامية
1ـ سار القرآن الكريم في بيانه لمسائل العقيدة في خطين متوازيين:
الخط الأول ـ بناء العقيدة الصحيحة في القلوب بعرضها عرضا سهلا يقنع العقل ، ويشبع العاطفة ، مستخدما في ذلك الأساليب المتوعة ، والأدلة المتعددة التي توائم الفطرة السليمة ، فبين ما يجب على المسلم اعتقاده من إيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر .
الخط الثاني ـ هدم العقائد الباطلة المنتشرة بين المشركين وأهل الكتاب : فرد على عباد الأوثان ، والكواكب ، والملائكة ، وأبطل زعم النصارى القائلين بالتثليث ، وإثبات البنوة لله ، وعلى اليهود الزاعمين بأن عزيرا ابن الله ، وعلى من أنكر أن يكون لله رسل من البشر ، ودحض شبه المنكرين للألوهية ، وللبعث بعد الموت
وقد كانت العقائد المنتشرة في الجزيرة العربية صورة مما هو موجود في العالم كله .
وإذا كانت الآيات القرآنية الواردة في الأحكام الشرعية أقل من ستمائة آية ، فإن سائر القرآن في التوحيد ومشتملاته ومتعلقاته .
2ـ وكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يبلغ ما أوحي إليه من هذه العقائد ، ويفصل مجملها ، ويجيب على الأسئلة التي توجه إليه من المؤمنين للفهم والبيان ، والأسئلة التي يثيرها المشركون وأهل الكتاب للتعنت والامتحان . وأحيانا يتولى القرآن الكريم الجواب.
ولم ينتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا ومسائل التوحيد تامة ، واضحة في أذهان الصحابة ، مطمئنة بها قلوبهم.
3ـ واجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة قبل دفن النبي صلى الله عليه وسلم لاختيار خليفته . وهم الأنصار أن يولوا ( سعد بن عبادة) لكنهم تراجعوا لما ذكروا بأفضلية أبي بكر الصديق ، وأحقيته بهذا الأمر، واستخلاف الرسول له في الصلاة ، فاجتمعت الآراء عليه ، ووقى الله الأمة شر الاختلاف والفرقة .
والذي تستريح إليه ، ويؤكده الثقات من المؤرخين بالأسانيد الصحيحة مبايعة سيدنا ( علي بن أبي طالب ) للصديق مع المبايعين قبل دفن النبي صلى الله عليه وسلم(1). وأنه لما أتاه خبر جلوس الصديق للبيعة . خرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء عجلا كراهية أن يبطئ عنه، فبايعه ، وأرسل يحضر ثوبه وجلس معه، ولم يتأخر عن بيعته(2).
ولم يلتفت إلى غير ذلك في شأن مبايعة (علي) كيف وهو لم يفارق الصديق ، ولم ينقطع عن الصلاة خلفه ، وما ضن عليه برأي ، أو نصيحة ، أو مشورة ، وخرج معه إلى (ذي القصة) شاهرا سيفه لقتال المرتدين!!
صحيح أنه كان يقضي معظم وقته مع زوجته (فاطمة الزهراء) لتمريضها وتسليتها عما هي فيه من الحزن على أبيها صلى الله عليه وسلم والشوق إليه . خاصة لما عتبت على الصديق لما طلبت منه ميراثها من أبيها صلى الله عليه وسلم ، فأجابها بقوله صلى الله عليه وسلم : "لا نورث ما تركناه صدقة" (3) . فوجدت عليه ، فراعى (علي) خاطرها ، بأن كان دائما بجوارها.
وإذا كان الصديق قد منع (فاطمة) فلم يمنعها وحدها ، بل منع سائر أقاربه صلى الله عليه وسلم . وفيهم ابنته (عائشة ) رضوان الله عنهم.
والجدير بالذكر أ (عليا ) نفسه لما ولى الخلافة بعد ذلك ما غير شيئا مما فعله الصديق في هذه المسألة . مما يؤكد صحة موقف (أبي بكر) رضي الله عنهما .
ولما علم (الصديق) بمرض (فاطمة) دخل عليها ، وجعل يترضاها. ويقول : " والله ما تركت الدار ، والمال ، والأهل ، والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله ، ومرضاة رسوله ، ومرضاتكم أهل البيت " فرضيت(4). هكذا كانوا كبار النفوس ، أطهار القلوب.
ولما توفيت بعد ستة أشهر من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سارع ( علي ) إلى تأكيد بيعته للصديق ، وولائه له ببيعة ثانية ، أزالت الوحشة التي كانت بسبب الكلام في الميراث .
وشغل المسلمون في عهد أبي بكر الصديق بحروب الردة ، ولم تطل خلافة الصديق ؛ إذ لقى ربه في جمادي الثانية سنة 13هـ بعد أن قضى سنتين وثلاثة أشهر خليفة للمسلمين .
4ـ وعنى المسلمون في عهد سيدنا عمر بن الخطاب بنشر الإسلام في العالم ، فخضعت معظم بلاد فارس ، ودانت بلاد الشام ، وفلسطين ، ومصر ، وبرقة.
واهتم عمر ببناء الدولة فدون الدواوين ، وأنشأ الوزارات ، ووضع الأنظمة الدقيقة ، وكان المجتمع كله أسرة واحدة ، لا مجال فيه للخلاف أو الجدال في مسائل العقيدة .
وحقد أعداء النور والحق ، الذين ملك المسلمون بلادهم وأزالوا سلطانهم ، فدبروا أمر قتله ، فطعنه ( فيروز ) الملقب بأبي لؤلؤة ، وهو يصلي الفجر بالمسلمين ، في ذي الحجة سنة 23هـ ، وبذك كسر باب الفتنة ، لتطل على المسلمين برأسها القبيح.
5ـ واتسعت الفتوحات في عهد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه ، واضطر إلى تعيين بعض الولاة من أقاربه الذين يرى فيهم الصلاحية لتولي هذه المناصب ، فاستغل ذلك أعداء الإسلام للتشنيع عليه بأنه يؤثر أهله ، وكان على رأس هؤلاء ( ابن السوداء) عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أرسل بعض أتباعه إلى الأقاليم الإسلامية للتحريض والثورة على سيدنا عثمان ، فاتبعهم بعض الغوغاء في البصرة ، والكوفة ، ومصر.
وبلغ سيدنا عثمان تذمر الناس من عماله على الأمصار ، فكتب إليهم يستدعيهم في موسم الحج للاجتماع بهم ، والسماع منهم .
وانتهز دعاة الفتنة فرصة غياب الولاة لمقابلة الخليفة ، فحرضوا الناس على الخروج إلى المدينة المنورة للالتقاء بالخليفة ، ودافع الخليفة عن سياسته لكن دعاة السوء لا يريدون إلا إشعالها نارا ، تأكل وحدة المسلمين ، فاقتحم الثوار دار عثمان وقتلوه ، وهو يتلو كتاب الله في ذي الحجة سنة 35هـ
6ـ واضطر سيدنا (علي بن أبي طالب ) إلى قبول الخلافة ونصح المطالبين بدم عثمان مثل ( معاوية بن أبي سفيان ) والي الشام ، وقريب عثمان بالتريث إلى أن يستقر الأمن ؛ ليحدد الجناة ، وينزل بهم العقاب.
ولم يستجب معاوية بن أبي سفيان ، وثار على سيدنا علي ، وهيج مشاعر المسلمين بأن جاء بقميص عثمان ملوثا بدمه ، ووضعه على منبر دمشق : فضجوا ، وأخذوا يلتفون حوله ، ويبكون .
واستعد (علي) للخروج إلى الشام لملاقاة (معاوية) ومن معه من الخارجين. لكنه علم أن السيدة عائشة رضي الله عنها خرجت من مكة إلى (البصرة) ومعها (طلحة بن عبيد الله ) و ( الزبير بن العوام ) رضي الله عنهما ، ومعهم جمع من الصحابة يطالبون (عليا ) بالثأر لعثمان ، فاضطر سيدنا (علي) إلى التوجه إلى ( البصرة ) أملا في إخماد الفتنة سلما ، ولكن قضاء الله لابد أن ينفذ ، فكانت موقعة (الجمل) سنة 36هـ ضربة أخرى من أعداء الإسلام للمسلمين (5)
ثم كانت موقعة (صفين ) سنة 37هـ بين (على) رضي الله عنه وشيعته وبين (معاوية ) رضي الله عنه الذي أصر على الخروج على الخليفة (على) رضي الله عنه ، وكانت مسألة ( التحكيم) فقد اختار أصحاب على ( أبا موسى الأشعري ) نائبا عن (على ) ، واختار أهل الشام (عمرو بن العاص ) نائبا عن معاوية رضوان الله عنهم أجمعين.
ولا صحة لما يذكره كثير من المؤرخين من أن عمرا خدع أبا موسى الأشعري فجعله يخلع عليا ومعاوية . ثم جاء هو وخلع عليا ، وثبت معاوية في الخلافة ؛ لأن هذه ليست أخلاق من رباهم النبي صلى الله عليه وسلم .
وهل كان (معاوية) خليفة أو خرج من أجل الخلافة حتى يخلعه أو يثبته ( عمرو بن العاص) ؟
وقد نبه إلى ذلك الإمام ابن كثير(6) ، والقاضي أبو بكر بن العربي الذي عقب على هذه الرواية بقوله : " هذا كله كذب صراح ، ما جرى منه حرف قط ، وإنما هو شئ اخ
ولكن بمجرد أن وافق (على ) على قبول التحكيم انقسم رجاله فرقتين :
فرقة بقيت معه ، وهم ( الشيعة ) الذين يرون أحقيته في الخلافة لقرابته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومصاهرته له ، ومؤخاته له ، ولعلمه ، وفضله .
وفرقة خرجت عليه . وقالوا : ( لا حكم إلا لله ) فقال على قولته المشهورة ( كلمة حق أريد بها باطل ) وكفروا عليا ، والحكمين ، وكل من رضى بالتحكيم . فسموا بـ ( الخوارج ) لخروجهم على (على ) رضي الله عنه.
وتجمع الخوارج في قرية ( حروراء ) فسموا بـ (الحرورية).
وكان لأصحاب النفوس المريضة دور خبيث في انقسام معسكر (على) رضي الله عنه .
والخوارج بلاء خطير أصيبت به هذه الأمة ، ظهر أثره في كثير من الفرق والجماعات الإسلامية خلال التاريخ .
7ـ وتجنب هذه الفتن جماعة من الصحابة ، وكرهوا الخوض في شأن المتنازعين ، وأرجئوا الحكم فيهم إلى الله تعالى . فسموا بـ (المرجئة) منهم عبد الله بن عمر ، وسعد بن أبي وقاص ، وزيد بن ثابت ، وأسامة بن زيد رضي الله عنهم .
وكان للمرجئة بعد ذلك آراء منحرفة في العقيدة .
وبهذا ظهرت وسط الجماعة الإسلامية فرق ثلاث : الشيعة ، والخوارج ، والمرجئة ، والخلاف بينها يدور في أساسه حول مسألة الخلافة والحكم .
فهي أشبه بالأحزاب السياسية ، ثم كان لها آراء في مسائل العقيدة.
8ـ ودبر الخوارج مؤامرة لاغتيال (على ) و (معاوية) و(عمرو بن العاص) فهم سر شقاء المسلمين في نظرهم . فقتل (عبد الرحمن بن ملجم) عليا بالسيف في المسجد وقت أن كان ينادي لصلاة الفجر في رمضان سنة 40 هـ . ونجا من الاغتيال معاوية ، وعمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين .
وبايع أهل العراق سيدنا (الحسن بن علي بن أبي طالب ) رضي الله عنهما بالخلافة بعد موت أبيه ، لكنه بعد ستة أشهر فوض الأمر إلى (معاوية) توحيدا لصفوف الأمة وجمعا لكلمتها . وبذلك تحقق ما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عندما قال عنه : ( إن ابني هذا سيد . ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين ) (8)
وبتنازل سيدنا (الحسن) عن الخلافة صار (معاوية) إماما للمسلمين ، وأول ملك عليهم ، وخير ملوكهم رضي الله عنه.
وبذلك انتهت خلافة النبوة ، وبدأ الملك ، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : " خلافة النبوة ثلاثون سنة ، ثم يؤتي الله الملك من يشاء " (9)
فقد كانت خلافة أبي بكر : سنتين وثلاثة أشهر.
وخلافة عمر بن الخطاب : عشر سنين وستة أشهر .
وخلافة عثمان بن عفان : اثنتى عشرة سنة
وخلافة على بن أبي طالب : أربع سنين وتسعة أشهر.
يضاف إليها ستة أشهر وهي المدة التي قضاها الحسن بن علي فتصير ثلاثين سنة ؛ لأن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدى عشرة ، وتنازل الحسن لمعاوية كان في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين هجرية .
9ـ كان معاوية رضي الله عنه يشعر أن توليه الخلافة ليس محل رضا وارتياح من جميع النفوس في الأمة ، لذك نراه يذيع على المنابر حديثا نبويا شريفا ليثبت في أذهان الناس أن خلافته إنما هي بقضاء الله وقدره ، فليس لمسلم أن يعترض .
روى الإمام البخاري عن وَّراد مولى المغيرة بن شعبة قال : (كتب معاوية إلى المغيرة : اكتب إلى ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة ، فأملي على المغيرة . قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة : " لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد"
وقال ( ابن جريج ) : أخبرني أن ورادا أخبره بهذا . ثم وفدت بعد إلى معاوية ، فسمعته يأمر الناس بذلك القول ) (10)
اللهم لا مانع لما أعطيت ، وقد أعطيت معاوية وبني أمية الخلافة ، فلا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، وقد منعت الخلافة عن على وشيعته فلا معطي لما منعت .
هكذا شجع بنو أمية فكرة : (الجبر) تبريرا لمظالمهم مما دفع بعض الناس ليقولوا : إن هذا خطأ ، والإنسان حر مختار.
من هؤلاء ( معبد بن عبد الله الجهني ) التابعي الذي قام بالرد عليهم مبينا أن القدر لا ينفي اختيار الإنسان مدافعا عن شرعية التكاليف ، حتى بالغ وقال : " لا قدر والأمر أنف " وثار على بني أمية ، فقتله الحجاج صبرا فقد حبسه ومنع عنه الطعام والشراب حتى مات سنة80هـ.
مات (معبد) ولكن بعد أن وضع بذرة مذهب (الاختيار) أو فرقة (القدرية) أي النافين للقدر وهم الذين تبرأ منهم ( عبد الله بن عمر) رضي الله عنهما
وإذا كان لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار مضاد له في الاتجاه ، فإننا نرى أن المغالاة في القول بالاختيار قد دفعت إلى مغالاة في القول بالجبر.
فقام (الجعد بن درهم ) ت حوالي 118هـ و ( جهم بن صفوان) ت 128هـ بالرد على الاختياريين ، وتأسيس فرقة (الجبرية ) أو (الجهمية) نسبة إلى جهم بن صفوان .
10ـ بذلك يكون قد ظهر في البيئة الإسلامية خمس فرق : الثلاثة الأولى حول قضية الخلافة .
والرابعة والخامسة حول قضية الجبر والاختيار
والتمس أتباع كل فرقة في القرآن الكريم ، والسنة المطهرة ما يؤيد مذهبهم بالحق أو بالباطل ، ويدحض مذاهب مخالفيهم .
وكانت الفرق مرتعا خصبا لمن لا يضمر خيرا للإسلام ، ينشر من خلالها الآراء التي تشوه صفاء العقيدة الإسلامية ، وخاصة بعد أن اتسعت الفتوحات الإسلامية ، ودخل في الإسلام من لا يجيد لغة القرآن الكريم ، ولا يتذوق لسان من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم .
وكان من الموضوعات التي ثار حولها الجدل:( صفات الله تعالى ):
وردت آيات قرآنية ، وأحاديث نبوية ربما أوهم ظاهرها المشابهة بين الله وخلقه في ذاته أو صفاته جل في علاه .
كما وردت آيات وأحاديث أخرى تنزه الله عن ذلك .
أما أصحاب الإيمان الحق ، فغلبوا آيات وأحاديث التنزيه ، وآمنوا بآيات وأحاديث الصفات ، وأمروها كما جاءت .
وأما الذين في قلوبهم زيغ ، فشبهوا ذات الله بذات غيره ، أو شبهوا صفاته بصفات خلقه ، وعرف أصحاب هذا الاتجاه بـ ( المشبهة) وكان لأعداء الإسلام دورهم في إشاعته بين المسلمين على يد رواة الأعراب ، وبسطاء الموالي الآخذين من النحل السابقة فجوزوا على الله الحركة والانتقال ، والحد ، والجهة ، والاستقرار ، والقعود ، والإقعاد ، وغير ذلك مما يتنزه الله عنه .
11ـ وكان علماء أهل السنة يجلسون في المساجد ، يعلمون الناس العقيدة الصحيحة ، ويردون على الشبهات التي يثيرها أهل الأهواء ، ومن هؤلاء الإمام التابعي (الحسن البصري) 21 ـ 110هـ الذي أحبه الناس لجلالة علمه وعظيم ورعه ، واحتشدوا حوله في مسجد (البصرة) يسألونه ، ويستفتونه ، وله رسالة في القدر طبعت أخيرا .
وتكلم عنده يوما بعض دهماء الرواة بأخبار التشبيه والتجسيم . فقال : ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة أى طرفها ، فسموا (الحشوية).
ودخل عليه رجل أثناء الدرس يقول له : يا إمام الدين ، ظهر في زماننا جماعة يكفرون مرتكب الكبيرة ، وهم الخوارج ، وجماعة يرجئون الحكم عليه وهم المرجئة ؟
وقبل أن يتكلم (الحسن البصري) إذا أحد تلاميذه وهو (واصل بن عطاء) 80 ـ 131هـ يجيب قائلا : " أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق ، ولا كافر مطلق . بل هو في منزلة بين المنزلتين " أي الإيمان والكفر.
واعتزل (واصل) حلقة (الحسن البصري) فسمى هو ومن تبعه بـ (المعتزلة ) .
ومن كتب ( واصل ) التي سجلها له التاريخ : (أصناف المرجئة) و (معاني القرآن ) و ( المنزلة بين المنزلتين ) و (طبقات أهل العلم والجهل) وغيرها .
وكان زميله (عمرو بن عبيد ) 80 ـ 144هـ عالما زاهدا شجاعا في الحق يقال إنه صلى الفجر بوضوء العشاء أربعين عاما . ومن كتبه : (الرد على القدرية ) و ( كتاب في العدل والتوحيد) .
وقد أبلى المعتزلة بلاء حسنا في الدفاع عن عقائد الإسلام ضد الهجمات الشرسة التي شنها الزنادقة . واليهود . والنصارى ، وسائر الأديان التي نسخها الدين الخاتم .
ولما وجدوا أعداءهم يتسلحون بسلاح (المنطق) تعلموه ، ليدافعوا به عن الإسلام ، ولما ترجمت (الفلسفة اليونانية ) درسوها ، وخلطوها بعلومهم .
وكسب المعتزلة عقول الخلفاء ، ففرضوا الاعتزال على الناس قرابة مائتي سنة . ولكن (المحدثين ) و (الفقهاء ) رفضوا منهج المعتزلة العقلي ، وتأويلهم للنصوص الدينية . مما سبب لهم بعض النكبات والأزمات ، كمحنة الإمام ( أحمد بن حنبل ) ت 241 هـ رحمه الله .
ويظن بعض المعاصرين أن المعتزلة هم أصحاب الفكر الحر في الإسلام ، وأنصار تحكيم العقل. والواقع أن المعتزلة كان جهدهم فيما وراء الطبيعة : وهي مسائل جدلية إذا أخذناها بالعقل بعيدا عن الوحي المعصوم ، وقد آثار المعتزلة معارك لا معنى لها . كخلق القرآن .
وللأسف هم من أول من استخدم في الإسلام العنف والتعذيب ضد معارضيهم في الفكر ، ولم يسبقهم في هذا المجال سوى الخوارج .
وبعد انهزام الفكر الاعتزالي أمام الفكر السني الحر ازدهرت العلوم الكونية ، وكانت الحضارة الإسلامية .
12ـ ومن قبل ذلك كان الإمام ( أبو حنيفة النعمان ) 80 ـ 150 هـ يجادل الخوارج ، والروافض ، والمعتزلة ، وأهل الإرجاء ، وألف : (الفقه الأكبر ) و ( الفقه الأوسط ) و ( الوصية ) و ( رسالة إلى أبي عثمان البتي) في الإرجاء وكتاب ( العالم والمتعلم ) .
كان ـ رحمه الله ـ يجادل أهل الباطل ، ويؤلف في بيان عقيدة أهل السنة . وفي الرد على مخالفيها ، وإن كان قد كره الاسترسال في الجدل ، والإكثار من المناظرة ، حتى إنه نهى ولده (حمادا ) عن ذلك .
ولما قال له ( حماد ) : رأيتك وأنت تتكلم ـ أي تناظر ـ فما بالك تنهاني ؟
فقال : يا بني ، كنا نتكلم ، وكل واحد منا كان الطير على رأسه مخافة أن يزل صاحبه ، وأنتم اليوم تتكلمون ، وكل واحد يريد أن يزل صاحبه ، ومن أراد أن يزل صاحبه ، فكأنه أراد أن يكفر ، ومن أراد أن يكفر صاحبه ، فقد كفر قبل أن يكفر صاحبه " (11)
فالإمام رحمه الله يخشى على ولده من الغرور ، ويخاف عليه من الهوى والضلال .
وكان الإمام ( محمد بن إدريس الشافعي ) 150 ـ 204هـ ـ رحمه الله ـ له جهد عظيم مشكور في بيان عقائد الإسلام الصحيحة ، والرد على الزائغين ، ومناظرة المنحرفين ، كما فصلناه في كتابنا ( الإمام الشافعي وعلم الكلام ) .
13ـ ونريد أن نؤكد هنا على عامل هام في نشأة الآراء الكلامية التي فرقت الأمة ـ وكنا قد أشرنا إليه من قبل ـ وهو دور أصحاب الديانات السابقة .
فقد ذكر المؤرخون أن اليهودي ( لبيد بن الأعصم ) الذي سحر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والذي كان يقول بخلق التوراة : هو الذي قال بخلق القرآن ؛ ثم أخذ هذه المقالة عنه ابن أخته ( طالوت ) وأخذها من طالوت ( بيان بن سمعان ) ومنه أخذ (الجعد بن درهم ) هذه المقالة ونشرها بين المسلمين (12)
و( بشر المريسي ) ت 218هـ أحد الدعاة إلى خلق القرآن كان أبوه يهوديا . وفي رواية لابن قتيبة أن أول من قال بخلق القرآن هو ( المغيرة بن سعيد العجلي ) ت 119 هـ وكان من أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي.
كما أن الخلفاء استعانوا باليهود والنصارى في إدارة شئون الدولة لخبرتهم وجهل المسلمين بعلوم الإدارة
فقد كان ( سرجون بن منصور) الرومي النصراني كاتبا لسيدنا معاوية رضي الله عنه .
وخدم ( يحيي الدمشقي ) الأمويين زمنا . وهو قديس نصراني ، له كتبه وفكره .
وكان يزيد بن معاوية يعتمد في الرد على خصومه على ( الأخطل) الشاعر، وهو رجل نصراني
وكانت المناظرات تدار بين علماء المسلمين ، وبين النصارى ، وبعضها عقد في مجالس الخلفاء
وكان للفرس وجودهم الواضح على الساحة : فكثرت المناظرات بين المسلمين وبين ( السمنية ) و ( الثنوية ) ، وقد ناظر عمرو بن عبيد (جرير بن حازم الأزدي ) وهو من السمنية ، واشترك واصل بن عطاء مع عمرو بن عبيد في مناظرة ( بشار بن برد ) و ( صالح بن عبد القدوس) وهما من الثنوية.
14ـ ونعود إلى المعتزلة وإلى حلقاتهم العلمية ، لنلتقي مع أحد مشايخهم الكبار ، وهو ( أبو علي الجبائي ) 235 ـ 303هـ فقد جلس يدرس في المسجد عقيدة من عقائدهم ، وهي القول بوجوب فعل الصلاح والأصلح على الله تعالى للعبد ، فتقدم أحد تلاميذه . وهو الإمام ( أبو الحسن الأشعري) 260ـ 330هـ وسأله عن ثلاثة إخوة : مات أحدهم كبيرا مطيعا ، والآخر كبيرا عاصيا ، والثالث صغيرا ؟
فقال الجبائي : الأول يثاب بالجنة ، والثاني يعاقب بالنار، والثالث لا يثاب ولا يعاقب.
فقال له الأشعري : فإن قال الثالث : يا رب لم أمتني صغيرا . وما أبقيتني فأطيعك ، فأدخل الجنة ؟ ماذا يقول الرب ؟
قال الجبائي : يقول الرب : إني أعلم أنك لو كبرت عصيت ، فتدخل النار ، فكان الأصلح لك أن تموت صغيرا .
فقال الأشعري : فإن قال الثاني : يا رب لم لم تمتني صغيرا ، فلا أدخل النار ماذا يقول الرب ؟
فبهت الجبائي.
هكذا انهار مذهب المعتزلة أمام الأشعري وأمام الحاضرين ، مما جعله يعيد النظر في كل الآراء الاعتزالية التي عاش معها أربعين سنة من عمره .
ويقال : إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ، يطلب منه أن ينصر سنته .
فقام بإعادة النظر في الأحاديث النبوية التي أولها المعتزلة ، وبدأ بأحاديث شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحاديث المؤمنين لربهم يوم القيام فأثبتها ، وتوصل إلى منهج وسط في دراسة أمور العقيدة. لا يهمل فيه النص ، ولا يجري وراء شطحات العقل ، فتوسط بين المشبهة الذين يأخذون النصوص بلا فهم ، وبين المعتزلة الذين أطلقوا للعقل العنان في تأويل النصوص أو ردها.
فوحد كلمة الأمة ، وألف الأشعري كتبا كثيرة عرض فيها مسائل الإيمان ، ورد على مذاهب المخالفين لعقيدة أهل السنة ، منها : (الإبانة عن أصول الديانة ) و ( اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع) و (مقالات الإسلاميين ) و (رسالة في الإيمان ) و ( إمامة الصديق ) و ( الرد على المجسمة ) و ( استحسان الخوض في الكلام ) وغيرها .
وتلقت الأمة الإسلامية طريقة الأشعري في عرض العقيدة بالقبول ، فذاع مذهبه ، وانتشرت كتبه ، وتبعه علماء المسلمين في معظم العالم الإسلامي فساروا على مذهبه ومنواله ، صار أغلب المسلمين ـ وما زالوا ـ أشعرية .
ومن أكابر علماء الأشعرية : الإمام أبو بكر الباقلاني ( ت 403هـ ) والإمام عبد القاهر البغدادي ( ت 429هـ ) وإمام الحرمين الجويني (ت478هـ ) والإمام أبو حامد الغزالي ( ت 505هـ ) والإمام الفخر الرازي ( ت 606هـ ) والإمام ناصر الدين البيضاوي ( ت 685هـ ) والإمام عضد الدين الإيجي ( ت 756هـ ) والإمام سعد الدين التفتازاني (ت791هـ ) والإمام ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ )
وقد عاصر الإمام الأشعري في شرق العالم الإسلامي عالم آخر أسس مذهبا في العقيدة الإسلامية قريبا في منهجه من مذهب الأشعري ، وهو الإمام أبو منصور الماتريدي ( ت 332هـ ) ومن كتبه : ( المقالات ) و ( التوحيد ) و ( التأويلات في تفسير القرآن الكريم ) و ( كتاب بيان وهم المعتزلة ) وغيرها .
وقد أفاد الإمام الماتريدي كثيرا من كتب الإمام أبي حنيفة رحمهما الله ، وقد دان بمذهبه كثير من المسلمين في شرق العالم الإسلامي ، وما زالوا ماتريدية.
ويمثل كل من أتباع الأشعري والماتريدي الغالبية العظمى من المسلمين المعاصرين ، ويعرف مذهبهما بين العلماء بمذهب أهل السنة والجماعة .
15ـ وجاء الإمام ابن تيمية(661 ـ 728هـ ) وقد تأثر كثيرا بحجة الإسلام الغزالي في نقده للفلاسفة ، وتأثر بالإمام ابن رشد (ت595هـ) في نقده للمتكلمين ، لكنه كان ألذع أسلوبا ، وأعنف نقدا ، وأشد خصومة لمخالفيه من متكلمين ، وفلاسفة ، وصوفية ، وفقهاء .
وربما كان لظروف حياته الشخصية ، وما انتشر في المجتمع الإسلامي من بدع وجهالات أثر واضح في هذه الشدة ، وذلك العنف.
ولذلك سعى ( ابن تيمية) ومن بعده تلميذه الإمام (ابن القيم ) ت 751هـ إلى إحياء مذهب السلف كما تصوراه على طريقة الحنابلة المتأخرين.
ولهذا المذهب أتباع معاصرون ، ربما ورث بعضهم شيئا من شدة وقسوة الإمام ابن تيمية على مخالفيه ، وليتهم ورثوا كثرة قراءته وحفظه ، وسعة اطلاعه على مذاهب مخالفيه ، لكان خيرا لهم لو كانوا يعلمون
ولو التقى اليوم أتباع الأشعرية ، والماتريدية ، والتيمية ، وغيرهم من فرق المسلمين ، وأخلصوا النية لله ، وتناسوا ( عصبية المذهب) لوجدوا أن مساحة المتفق عليه من (النظرية والتطبيق ) أضعاف المختلف عليه . ولكان ذلك أنفع للإسلام والمسلمين ضد حملات المنصرين ، والمهودين ، والعلمانيين ، والملحدين . التي تجتاح العالم الإسلامي كله . وتزداد ضراوة يوما بعد يوم .
إن ابن تيمية لم يكفر المعتزلة ودائرة الخلاف بينه وبينهم أوسع مما بينه وبين الأشعرية ، بل إنه لم يكفر الخوارج . ودائرة الخلاف بينه وبينهم أشد اتساعا .
وكثيرا من هذه المسائل التي هي موضع خلاف بين أنصار الأشعري وأتباع ابن تيمية موضوعات شائكة لم تثر على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وليست من فروض الأعيان ، بل هي حكر على الفئة المتخصصة في علم الكلام ، يجب أن يلجم عنها العوام .
16ـ وما ألف بعد ذلك في علم التوحيد معظمه شروح لكتب السابقين وحواش ، وتقريرات ، أو تلخيص ومتون ، يحفظها المبتدئون .
وفي العصر الحديث ألف الشيخ ( محمد عبده ) 1266 ـ 1323هـ ( رسالة التوحيد ) سلك فيها مسلكا فريدا في الأسلوب والعرض . وابتعد عن المشكلات الفلسفية ، وكان يدعو إلى تحرر الأمة من قيد التقليد ، لتستيقظ ، وتعيش عصرها الجديد.
وتتوالى الآن محاولات جادة من علماء الأزهر الشريف لإعادة عرض وصياغة موضوعات ( علم التوحيد ) في إطار يتناسب مع لغة العصر سواء كان في تقرير العقائد ، أو في الجانب الدفاعي عنها ضد هجمات المغرضين .
================
المراجع والهوامش :
1ـ انظر البداية والنهاية لإبن كثير حيث ذكر أن الحافظ النيسابوري قال سمعت ابن خزيمة يقول : جاءني مسلم بن حجاج ، فسألني عن هذا الحديث ـ أي الذي فيه مبايعة على مع المبايعين ـ فكتبته له في رقعة وقرأت عليه . فقال : هذا حديث يساوي بدنة . فقلت : يساونة بدنة !! . بل هذا يساوي بدرة ـ البدرة كيس من المال ـ ( 5/218 ، 6/306) وتاريخ الخلفاء للسيوطي ( ص 69)
2ـ الطبري (2/447)
3ـ انظر التفاصيل في صحيح البخاري ك المغازي ب غزوة خيبر ـ الفتح (7/564) ، وصحيح مسلم ك الجهاد ب حكم الفئ (3/1378).
4ـ البداية والنهاية 6/338
5ـ معلوم أن السيدة عائشة رضي الله عنها ندمت بعد ذلك على خروجها إلى البصرة واشتراكها في الفتنة ، كما أن عليا رضي الله عنه سار بين القتلى بعد انتهاء معركة الجمل ، يضرب فخذيه بيديه ويقول : يا ليتني مت قبل هذا ، وكنت نسيا منسيا .
6ـ البداية والنهاية 7/385
7ـ العواصم من القوصام ص 179
8ـ رواه البخاري في ك الفتن ـ الفتح 13/66
9ـ رواه أبو داود في ك السنة ب في الخلفاء 5/37
10ـ رواه البخاري في ك القدر ب لا مانع لما أعطى الله ـ الفتح11/521
11ـ انظر : ( مفتاح السعادة ) لطاش كبرى زاده 2/153 و ( إشارات المرام ) ص 35
12ـ انظر : ( البداية والنهاية ) لابن كثير 9/364 .
4
1ـ سار القرآن الكريم في بيانه لمسائل العقيدة في خطين متوازيين:
الخط الأول ـ بناء العقيدة الصحيحة في القلوب بعرضها عرضا سهلا يقنع العقل ، ويشبع العاطفة ، مستخدما في ذلك الأساليب المتوعة ، والأدلة المتعددة التي توائم الفطرة السليمة ، فبين ما يجب على المسلم اعتقاده من إيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر .
الخط الثاني ـ هدم العقائد الباطلة المنتشرة بين المشركين وأهل الكتاب : فرد على عباد الأوثان ، والكواكب ، والملائكة ، وأبطل زعم النصارى القائلين بالتثليث ، وإثبات البنوة لله ، وعلى اليهود الزاعمين بأن عزيرا ابن الله ، وعلى من أنكر أن يكون لله رسل من البشر ، ودحض شبه المنكرين للألوهية ، وللبعث بعد الموت
وقد كانت العقائد المنتشرة في الجزيرة العربية صورة مما هو موجود في العالم كله .
وإذا كانت الآيات القرآنية الواردة في الأحكام الشرعية أقل من ستمائة آية ، فإن سائر القرآن في التوحيد ومشتملاته ومتعلقاته .
2ـ وكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يبلغ ما أوحي إليه من هذه العقائد ، ويفصل مجملها ، ويجيب على الأسئلة التي توجه إليه من المؤمنين للفهم والبيان ، والأسئلة التي يثيرها المشركون وأهل الكتاب للتعنت والامتحان . وأحيانا يتولى القرآن الكريم الجواب.
ولم ينتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا ومسائل التوحيد تامة ، واضحة في أذهان الصحابة ، مطمئنة بها قلوبهم.
3ـ واجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة قبل دفن النبي صلى الله عليه وسلم لاختيار خليفته . وهم الأنصار أن يولوا ( سعد بن عبادة) لكنهم تراجعوا لما ذكروا بأفضلية أبي بكر الصديق ، وأحقيته بهذا الأمر، واستخلاف الرسول له في الصلاة ، فاجتمعت الآراء عليه ، ووقى الله الأمة شر الاختلاف والفرقة .
والذي تستريح إليه ، ويؤكده الثقات من المؤرخين بالأسانيد الصحيحة مبايعة سيدنا ( علي بن أبي طالب ) للصديق مع المبايعين قبل دفن النبي صلى الله عليه وسلم(1). وأنه لما أتاه خبر جلوس الصديق للبيعة . خرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء عجلا كراهية أن يبطئ عنه، فبايعه ، وأرسل يحضر ثوبه وجلس معه، ولم يتأخر عن بيعته(2).
ولم يلتفت إلى غير ذلك في شأن مبايعة (علي) كيف وهو لم يفارق الصديق ، ولم ينقطع عن الصلاة خلفه ، وما ضن عليه برأي ، أو نصيحة ، أو مشورة ، وخرج معه إلى (ذي القصة) شاهرا سيفه لقتال المرتدين!!
صحيح أنه كان يقضي معظم وقته مع زوجته (فاطمة الزهراء) لتمريضها وتسليتها عما هي فيه من الحزن على أبيها صلى الله عليه وسلم والشوق إليه . خاصة لما عتبت على الصديق لما طلبت منه ميراثها من أبيها صلى الله عليه وسلم ، فأجابها بقوله صلى الله عليه وسلم : "لا نورث ما تركناه صدقة" (3) . فوجدت عليه ، فراعى (علي) خاطرها ، بأن كان دائما بجوارها.
وإذا كان الصديق قد منع (فاطمة) فلم يمنعها وحدها ، بل منع سائر أقاربه صلى الله عليه وسلم . وفيهم ابنته (عائشة ) رضوان الله عنهم.
والجدير بالذكر أ (عليا ) نفسه لما ولى الخلافة بعد ذلك ما غير شيئا مما فعله الصديق في هذه المسألة . مما يؤكد صحة موقف (أبي بكر) رضي الله عنهما .
ولما علم (الصديق) بمرض (فاطمة) دخل عليها ، وجعل يترضاها. ويقول : " والله ما تركت الدار ، والمال ، والأهل ، والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله ، ومرضاة رسوله ، ومرضاتكم أهل البيت " فرضيت(4). هكذا كانوا كبار النفوس ، أطهار القلوب.
ولما توفيت بعد ستة أشهر من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سارع ( علي ) إلى تأكيد بيعته للصديق ، وولائه له ببيعة ثانية ، أزالت الوحشة التي كانت بسبب الكلام في الميراث .
وشغل المسلمون في عهد أبي بكر الصديق بحروب الردة ، ولم تطل خلافة الصديق ؛ إذ لقى ربه في جمادي الثانية سنة 13هـ بعد أن قضى سنتين وثلاثة أشهر خليفة للمسلمين .
4ـ وعنى المسلمون في عهد سيدنا عمر بن الخطاب بنشر الإسلام في العالم ، فخضعت معظم بلاد فارس ، ودانت بلاد الشام ، وفلسطين ، ومصر ، وبرقة.
واهتم عمر ببناء الدولة فدون الدواوين ، وأنشأ الوزارات ، ووضع الأنظمة الدقيقة ، وكان المجتمع كله أسرة واحدة ، لا مجال فيه للخلاف أو الجدال في مسائل العقيدة .
وحقد أعداء النور والحق ، الذين ملك المسلمون بلادهم وأزالوا سلطانهم ، فدبروا أمر قتله ، فطعنه ( فيروز ) الملقب بأبي لؤلؤة ، وهو يصلي الفجر بالمسلمين ، في ذي الحجة سنة 23هـ ، وبذك كسر باب الفتنة ، لتطل على المسلمين برأسها القبيح.
5ـ واتسعت الفتوحات في عهد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه ، واضطر إلى تعيين بعض الولاة من أقاربه الذين يرى فيهم الصلاحية لتولي هذه المناصب ، فاستغل ذلك أعداء الإسلام للتشنيع عليه بأنه يؤثر أهله ، وكان على رأس هؤلاء ( ابن السوداء) عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أرسل بعض أتباعه إلى الأقاليم الإسلامية للتحريض والثورة على سيدنا عثمان ، فاتبعهم بعض الغوغاء في البصرة ، والكوفة ، ومصر.
وبلغ سيدنا عثمان تذمر الناس من عماله على الأمصار ، فكتب إليهم يستدعيهم في موسم الحج للاجتماع بهم ، والسماع منهم .
وانتهز دعاة الفتنة فرصة غياب الولاة لمقابلة الخليفة ، فحرضوا الناس على الخروج إلى المدينة المنورة للالتقاء بالخليفة ، ودافع الخليفة عن سياسته لكن دعاة السوء لا يريدون إلا إشعالها نارا ، تأكل وحدة المسلمين ، فاقتحم الثوار دار عثمان وقتلوه ، وهو يتلو كتاب الله في ذي الحجة سنة 35هـ
6ـ واضطر سيدنا (علي بن أبي طالب ) إلى قبول الخلافة ونصح المطالبين بدم عثمان مثل ( معاوية بن أبي سفيان ) والي الشام ، وقريب عثمان بالتريث إلى أن يستقر الأمن ؛ ليحدد الجناة ، وينزل بهم العقاب.
ولم يستجب معاوية بن أبي سفيان ، وثار على سيدنا علي ، وهيج مشاعر المسلمين بأن جاء بقميص عثمان ملوثا بدمه ، ووضعه على منبر دمشق : فضجوا ، وأخذوا يلتفون حوله ، ويبكون .
واستعد (علي) للخروج إلى الشام لملاقاة (معاوية) ومن معه من الخارجين. لكنه علم أن السيدة عائشة رضي الله عنها خرجت من مكة إلى (البصرة) ومعها (طلحة بن عبيد الله ) و ( الزبير بن العوام ) رضي الله عنهما ، ومعهم جمع من الصحابة يطالبون (عليا ) بالثأر لعثمان ، فاضطر سيدنا (علي) إلى التوجه إلى ( البصرة ) أملا في إخماد الفتنة سلما ، ولكن قضاء الله لابد أن ينفذ ، فكانت موقعة (الجمل) سنة 36هـ ضربة أخرى من أعداء الإسلام للمسلمين (5)
ثم كانت موقعة (صفين ) سنة 37هـ بين (على) رضي الله عنه وشيعته وبين (معاوية ) رضي الله عنه الذي أصر على الخروج على الخليفة (على) رضي الله عنه ، وكانت مسألة ( التحكيم) فقد اختار أصحاب على ( أبا موسى الأشعري ) نائبا عن (على ) ، واختار أهل الشام (عمرو بن العاص ) نائبا عن معاوية رضوان الله عنهم أجمعين.
ولا صحة لما يذكره كثير من المؤرخين من أن عمرا خدع أبا موسى الأشعري فجعله يخلع عليا ومعاوية . ثم جاء هو وخلع عليا ، وثبت معاوية في الخلافة ؛ لأن هذه ليست أخلاق من رباهم النبي صلى الله عليه وسلم .
وهل كان (معاوية) خليفة أو خرج من أجل الخلافة حتى يخلعه أو يثبته ( عمرو بن العاص) ؟
وقد نبه إلى ذلك الإمام ابن كثير(6) ، والقاضي أبو بكر بن العربي الذي عقب على هذه الرواية بقوله : " هذا كله كذب صراح ، ما جرى منه حرف قط ، وإنما هو شئ اخ
ولكن بمجرد أن وافق (على ) على قبول التحكيم انقسم رجاله فرقتين :
فرقة بقيت معه ، وهم ( الشيعة ) الذين يرون أحقيته في الخلافة لقرابته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومصاهرته له ، ومؤخاته له ، ولعلمه ، وفضله .
وفرقة خرجت عليه . وقالوا : ( لا حكم إلا لله ) فقال على قولته المشهورة ( كلمة حق أريد بها باطل ) وكفروا عليا ، والحكمين ، وكل من رضى بالتحكيم . فسموا بـ ( الخوارج ) لخروجهم على (على ) رضي الله عنه.
وتجمع الخوارج في قرية ( حروراء ) فسموا بـ (الحرورية).
وكان لأصحاب النفوس المريضة دور خبيث في انقسام معسكر (على) رضي الله عنه .
والخوارج بلاء خطير أصيبت به هذه الأمة ، ظهر أثره في كثير من الفرق والجماعات الإسلامية خلال التاريخ .
7ـ وتجنب هذه الفتن جماعة من الصحابة ، وكرهوا الخوض في شأن المتنازعين ، وأرجئوا الحكم فيهم إلى الله تعالى . فسموا بـ (المرجئة) منهم عبد الله بن عمر ، وسعد بن أبي وقاص ، وزيد بن ثابت ، وأسامة بن زيد رضي الله عنهم .
وكان للمرجئة بعد ذلك آراء منحرفة في العقيدة .
وبهذا ظهرت وسط الجماعة الإسلامية فرق ثلاث : الشيعة ، والخوارج ، والمرجئة ، والخلاف بينها يدور في أساسه حول مسألة الخلافة والحكم .
فهي أشبه بالأحزاب السياسية ، ثم كان لها آراء في مسائل العقيدة.
8ـ ودبر الخوارج مؤامرة لاغتيال (على ) و (معاوية) و(عمرو بن العاص) فهم سر شقاء المسلمين في نظرهم . فقتل (عبد الرحمن بن ملجم) عليا بالسيف في المسجد وقت أن كان ينادي لصلاة الفجر في رمضان سنة 40 هـ . ونجا من الاغتيال معاوية ، وعمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين .
وبايع أهل العراق سيدنا (الحسن بن علي بن أبي طالب ) رضي الله عنهما بالخلافة بعد موت أبيه ، لكنه بعد ستة أشهر فوض الأمر إلى (معاوية) توحيدا لصفوف الأمة وجمعا لكلمتها . وبذلك تحقق ما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عندما قال عنه : ( إن ابني هذا سيد . ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين ) (8)
وبتنازل سيدنا (الحسن) عن الخلافة صار (معاوية) إماما للمسلمين ، وأول ملك عليهم ، وخير ملوكهم رضي الله عنه.
وبذلك انتهت خلافة النبوة ، وبدأ الملك ، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : " خلافة النبوة ثلاثون سنة ، ثم يؤتي الله الملك من يشاء " (9)
فقد كانت خلافة أبي بكر : سنتين وثلاثة أشهر.
وخلافة عمر بن الخطاب : عشر سنين وستة أشهر .
وخلافة عثمان بن عفان : اثنتى عشرة سنة
وخلافة على بن أبي طالب : أربع سنين وتسعة أشهر.
يضاف إليها ستة أشهر وهي المدة التي قضاها الحسن بن علي فتصير ثلاثين سنة ؛ لأن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدى عشرة ، وتنازل الحسن لمعاوية كان في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين هجرية .
9ـ كان معاوية رضي الله عنه يشعر أن توليه الخلافة ليس محل رضا وارتياح من جميع النفوس في الأمة ، لذك نراه يذيع على المنابر حديثا نبويا شريفا ليثبت في أذهان الناس أن خلافته إنما هي بقضاء الله وقدره ، فليس لمسلم أن يعترض .
روى الإمام البخاري عن وَّراد مولى المغيرة بن شعبة قال : (كتب معاوية إلى المغيرة : اكتب إلى ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة ، فأملي على المغيرة . قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة : " لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد"
وقال ( ابن جريج ) : أخبرني أن ورادا أخبره بهذا . ثم وفدت بعد إلى معاوية ، فسمعته يأمر الناس بذلك القول ) (10)
اللهم لا مانع لما أعطيت ، وقد أعطيت معاوية وبني أمية الخلافة ، فلا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، وقد منعت الخلافة عن على وشيعته فلا معطي لما منعت .
هكذا شجع بنو أمية فكرة : (الجبر) تبريرا لمظالمهم مما دفع بعض الناس ليقولوا : إن هذا خطأ ، والإنسان حر مختار.
من هؤلاء ( معبد بن عبد الله الجهني ) التابعي الذي قام بالرد عليهم مبينا أن القدر لا ينفي اختيار الإنسان مدافعا عن شرعية التكاليف ، حتى بالغ وقال : " لا قدر والأمر أنف " وثار على بني أمية ، فقتله الحجاج صبرا فقد حبسه ومنع عنه الطعام والشراب حتى مات سنة80هـ.
مات (معبد) ولكن بعد أن وضع بذرة مذهب (الاختيار) أو فرقة (القدرية) أي النافين للقدر وهم الذين تبرأ منهم ( عبد الله بن عمر) رضي الله عنهما
وإذا كان لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار مضاد له في الاتجاه ، فإننا نرى أن المغالاة في القول بالاختيار قد دفعت إلى مغالاة في القول بالجبر.
فقام (الجعد بن درهم ) ت حوالي 118هـ و ( جهم بن صفوان) ت 128هـ بالرد على الاختياريين ، وتأسيس فرقة (الجبرية ) أو (الجهمية) نسبة إلى جهم بن صفوان .
10ـ بذلك يكون قد ظهر في البيئة الإسلامية خمس فرق : الثلاثة الأولى حول قضية الخلافة .
والرابعة والخامسة حول قضية الجبر والاختيار
والتمس أتباع كل فرقة في القرآن الكريم ، والسنة المطهرة ما يؤيد مذهبهم بالحق أو بالباطل ، ويدحض مذاهب مخالفيهم .
وكانت الفرق مرتعا خصبا لمن لا يضمر خيرا للإسلام ، ينشر من خلالها الآراء التي تشوه صفاء العقيدة الإسلامية ، وخاصة بعد أن اتسعت الفتوحات الإسلامية ، ودخل في الإسلام من لا يجيد لغة القرآن الكريم ، ولا يتذوق لسان من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم .
وكان من الموضوعات التي ثار حولها الجدل:( صفات الله تعالى ):
وردت آيات قرآنية ، وأحاديث نبوية ربما أوهم ظاهرها المشابهة بين الله وخلقه في ذاته أو صفاته جل في علاه .
كما وردت آيات وأحاديث أخرى تنزه الله عن ذلك .
أما أصحاب الإيمان الحق ، فغلبوا آيات وأحاديث التنزيه ، وآمنوا بآيات وأحاديث الصفات ، وأمروها كما جاءت .
وأما الذين في قلوبهم زيغ ، فشبهوا ذات الله بذات غيره ، أو شبهوا صفاته بصفات خلقه ، وعرف أصحاب هذا الاتجاه بـ ( المشبهة) وكان لأعداء الإسلام دورهم في إشاعته بين المسلمين على يد رواة الأعراب ، وبسطاء الموالي الآخذين من النحل السابقة فجوزوا على الله الحركة والانتقال ، والحد ، والجهة ، والاستقرار ، والقعود ، والإقعاد ، وغير ذلك مما يتنزه الله عنه .
11ـ وكان علماء أهل السنة يجلسون في المساجد ، يعلمون الناس العقيدة الصحيحة ، ويردون على الشبهات التي يثيرها أهل الأهواء ، ومن هؤلاء الإمام التابعي (الحسن البصري) 21 ـ 110هـ الذي أحبه الناس لجلالة علمه وعظيم ورعه ، واحتشدوا حوله في مسجد (البصرة) يسألونه ، ويستفتونه ، وله رسالة في القدر طبعت أخيرا .
وتكلم عنده يوما بعض دهماء الرواة بأخبار التشبيه والتجسيم . فقال : ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة أى طرفها ، فسموا (الحشوية).
ودخل عليه رجل أثناء الدرس يقول له : يا إمام الدين ، ظهر في زماننا جماعة يكفرون مرتكب الكبيرة ، وهم الخوارج ، وجماعة يرجئون الحكم عليه وهم المرجئة ؟
وقبل أن يتكلم (الحسن البصري) إذا أحد تلاميذه وهو (واصل بن عطاء) 80 ـ 131هـ يجيب قائلا : " أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق ، ولا كافر مطلق . بل هو في منزلة بين المنزلتين " أي الإيمان والكفر.
واعتزل (واصل) حلقة (الحسن البصري) فسمى هو ومن تبعه بـ (المعتزلة ) .
ومن كتب ( واصل ) التي سجلها له التاريخ : (أصناف المرجئة) و (معاني القرآن ) و ( المنزلة بين المنزلتين ) و (طبقات أهل العلم والجهل) وغيرها .
وكان زميله (عمرو بن عبيد ) 80 ـ 144هـ عالما زاهدا شجاعا في الحق يقال إنه صلى الفجر بوضوء العشاء أربعين عاما . ومن كتبه : (الرد على القدرية ) و ( كتاب في العدل والتوحيد) .
وقد أبلى المعتزلة بلاء حسنا في الدفاع عن عقائد الإسلام ضد الهجمات الشرسة التي شنها الزنادقة . واليهود . والنصارى ، وسائر الأديان التي نسخها الدين الخاتم .
ولما وجدوا أعداءهم يتسلحون بسلاح (المنطق) تعلموه ، ليدافعوا به عن الإسلام ، ولما ترجمت (الفلسفة اليونانية ) درسوها ، وخلطوها بعلومهم .
وكسب المعتزلة عقول الخلفاء ، ففرضوا الاعتزال على الناس قرابة مائتي سنة . ولكن (المحدثين ) و (الفقهاء ) رفضوا منهج المعتزلة العقلي ، وتأويلهم للنصوص الدينية . مما سبب لهم بعض النكبات والأزمات ، كمحنة الإمام ( أحمد بن حنبل ) ت 241 هـ رحمه الله .
ويظن بعض المعاصرين أن المعتزلة هم أصحاب الفكر الحر في الإسلام ، وأنصار تحكيم العقل. والواقع أن المعتزلة كان جهدهم فيما وراء الطبيعة : وهي مسائل جدلية إذا أخذناها بالعقل بعيدا عن الوحي المعصوم ، وقد آثار المعتزلة معارك لا معنى لها . كخلق القرآن .
وللأسف هم من أول من استخدم في الإسلام العنف والتعذيب ضد معارضيهم في الفكر ، ولم يسبقهم في هذا المجال سوى الخوارج .
وبعد انهزام الفكر الاعتزالي أمام الفكر السني الحر ازدهرت العلوم الكونية ، وكانت الحضارة الإسلامية .
12ـ ومن قبل ذلك كان الإمام ( أبو حنيفة النعمان ) 80 ـ 150 هـ يجادل الخوارج ، والروافض ، والمعتزلة ، وأهل الإرجاء ، وألف : (الفقه الأكبر ) و ( الفقه الأوسط ) و ( الوصية ) و ( رسالة إلى أبي عثمان البتي) في الإرجاء وكتاب ( العالم والمتعلم ) .
كان ـ رحمه الله ـ يجادل أهل الباطل ، ويؤلف في بيان عقيدة أهل السنة . وفي الرد على مخالفيها ، وإن كان قد كره الاسترسال في الجدل ، والإكثار من المناظرة ، حتى إنه نهى ولده (حمادا ) عن ذلك .
ولما قال له ( حماد ) : رأيتك وأنت تتكلم ـ أي تناظر ـ فما بالك تنهاني ؟
فقال : يا بني ، كنا نتكلم ، وكل واحد منا كان الطير على رأسه مخافة أن يزل صاحبه ، وأنتم اليوم تتكلمون ، وكل واحد يريد أن يزل صاحبه ، ومن أراد أن يزل صاحبه ، فكأنه أراد أن يكفر ، ومن أراد أن يكفر صاحبه ، فقد كفر قبل أن يكفر صاحبه " (11)
فالإمام رحمه الله يخشى على ولده من الغرور ، ويخاف عليه من الهوى والضلال .
وكان الإمام ( محمد بن إدريس الشافعي ) 150 ـ 204هـ ـ رحمه الله ـ له جهد عظيم مشكور في بيان عقائد الإسلام الصحيحة ، والرد على الزائغين ، ومناظرة المنحرفين ، كما فصلناه في كتابنا ( الإمام الشافعي وعلم الكلام ) .
13ـ ونريد أن نؤكد هنا على عامل هام في نشأة الآراء الكلامية التي فرقت الأمة ـ وكنا قد أشرنا إليه من قبل ـ وهو دور أصحاب الديانات السابقة .
فقد ذكر المؤرخون أن اليهودي ( لبيد بن الأعصم ) الذي سحر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والذي كان يقول بخلق التوراة : هو الذي قال بخلق القرآن ؛ ثم أخذ هذه المقالة عنه ابن أخته ( طالوت ) وأخذها من طالوت ( بيان بن سمعان ) ومنه أخذ (الجعد بن درهم ) هذه المقالة ونشرها بين المسلمين (12)
و( بشر المريسي ) ت 218هـ أحد الدعاة إلى خلق القرآن كان أبوه يهوديا . وفي رواية لابن قتيبة أن أول من قال بخلق القرآن هو ( المغيرة بن سعيد العجلي ) ت 119 هـ وكان من أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي.
كما أن الخلفاء استعانوا باليهود والنصارى في إدارة شئون الدولة لخبرتهم وجهل المسلمين بعلوم الإدارة
فقد كان ( سرجون بن منصور) الرومي النصراني كاتبا لسيدنا معاوية رضي الله عنه .
وخدم ( يحيي الدمشقي ) الأمويين زمنا . وهو قديس نصراني ، له كتبه وفكره .
وكان يزيد بن معاوية يعتمد في الرد على خصومه على ( الأخطل) الشاعر، وهو رجل نصراني
وكانت المناظرات تدار بين علماء المسلمين ، وبين النصارى ، وبعضها عقد في مجالس الخلفاء
وكان للفرس وجودهم الواضح على الساحة : فكثرت المناظرات بين المسلمين وبين ( السمنية ) و ( الثنوية ) ، وقد ناظر عمرو بن عبيد (جرير بن حازم الأزدي ) وهو من السمنية ، واشترك واصل بن عطاء مع عمرو بن عبيد في مناظرة ( بشار بن برد ) و ( صالح بن عبد القدوس) وهما من الثنوية.
14ـ ونعود إلى المعتزلة وإلى حلقاتهم العلمية ، لنلتقي مع أحد مشايخهم الكبار ، وهو ( أبو علي الجبائي ) 235 ـ 303هـ فقد جلس يدرس في المسجد عقيدة من عقائدهم ، وهي القول بوجوب فعل الصلاح والأصلح على الله تعالى للعبد ، فتقدم أحد تلاميذه . وهو الإمام ( أبو الحسن الأشعري) 260ـ 330هـ وسأله عن ثلاثة إخوة : مات أحدهم كبيرا مطيعا ، والآخر كبيرا عاصيا ، والثالث صغيرا ؟
فقال الجبائي : الأول يثاب بالجنة ، والثاني يعاقب بالنار، والثالث لا يثاب ولا يعاقب.
فقال له الأشعري : فإن قال الثالث : يا رب لم أمتني صغيرا . وما أبقيتني فأطيعك ، فأدخل الجنة ؟ ماذا يقول الرب ؟
قال الجبائي : يقول الرب : إني أعلم أنك لو كبرت عصيت ، فتدخل النار ، فكان الأصلح لك أن تموت صغيرا .
فقال الأشعري : فإن قال الثاني : يا رب لم لم تمتني صغيرا ، فلا أدخل النار ماذا يقول الرب ؟
فبهت الجبائي.
هكذا انهار مذهب المعتزلة أمام الأشعري وأمام الحاضرين ، مما جعله يعيد النظر في كل الآراء الاعتزالية التي عاش معها أربعين سنة من عمره .
ويقال : إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ، يطلب منه أن ينصر سنته .
فقام بإعادة النظر في الأحاديث النبوية التي أولها المعتزلة ، وبدأ بأحاديث شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحاديث المؤمنين لربهم يوم القيام فأثبتها ، وتوصل إلى منهج وسط في دراسة أمور العقيدة. لا يهمل فيه النص ، ولا يجري وراء شطحات العقل ، فتوسط بين المشبهة الذين يأخذون النصوص بلا فهم ، وبين المعتزلة الذين أطلقوا للعقل العنان في تأويل النصوص أو ردها.
فوحد كلمة الأمة ، وألف الأشعري كتبا كثيرة عرض فيها مسائل الإيمان ، ورد على مذاهب المخالفين لعقيدة أهل السنة ، منها : (الإبانة عن أصول الديانة ) و ( اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع) و (مقالات الإسلاميين ) و (رسالة في الإيمان ) و ( إمامة الصديق ) و ( الرد على المجسمة ) و ( استحسان الخوض في الكلام ) وغيرها .
وتلقت الأمة الإسلامية طريقة الأشعري في عرض العقيدة بالقبول ، فذاع مذهبه ، وانتشرت كتبه ، وتبعه علماء المسلمين في معظم العالم الإسلامي فساروا على مذهبه ومنواله ، صار أغلب المسلمين ـ وما زالوا ـ أشعرية .
ومن أكابر علماء الأشعرية : الإمام أبو بكر الباقلاني ( ت 403هـ ) والإمام عبد القاهر البغدادي ( ت 429هـ ) وإمام الحرمين الجويني (ت478هـ ) والإمام أبو حامد الغزالي ( ت 505هـ ) والإمام الفخر الرازي ( ت 606هـ ) والإمام ناصر الدين البيضاوي ( ت 685هـ ) والإمام عضد الدين الإيجي ( ت 756هـ ) والإمام سعد الدين التفتازاني (ت791هـ ) والإمام ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ )
وقد عاصر الإمام الأشعري في شرق العالم الإسلامي عالم آخر أسس مذهبا في العقيدة الإسلامية قريبا في منهجه من مذهب الأشعري ، وهو الإمام أبو منصور الماتريدي ( ت 332هـ ) ومن كتبه : ( المقالات ) و ( التوحيد ) و ( التأويلات في تفسير القرآن الكريم ) و ( كتاب بيان وهم المعتزلة ) وغيرها .
وقد أفاد الإمام الماتريدي كثيرا من كتب الإمام أبي حنيفة رحمهما الله ، وقد دان بمذهبه كثير من المسلمين في شرق العالم الإسلامي ، وما زالوا ماتريدية.
ويمثل كل من أتباع الأشعري والماتريدي الغالبية العظمى من المسلمين المعاصرين ، ويعرف مذهبهما بين العلماء بمذهب أهل السنة والجماعة .
15ـ وجاء الإمام ابن تيمية(661 ـ 728هـ ) وقد تأثر كثيرا بحجة الإسلام الغزالي في نقده للفلاسفة ، وتأثر بالإمام ابن رشد (ت595هـ) في نقده للمتكلمين ، لكنه كان ألذع أسلوبا ، وأعنف نقدا ، وأشد خصومة لمخالفيه من متكلمين ، وفلاسفة ، وصوفية ، وفقهاء .
وربما كان لظروف حياته الشخصية ، وما انتشر في المجتمع الإسلامي من بدع وجهالات أثر واضح في هذه الشدة ، وذلك العنف.
ولذلك سعى ( ابن تيمية) ومن بعده تلميذه الإمام (ابن القيم ) ت 751هـ إلى إحياء مذهب السلف كما تصوراه على طريقة الحنابلة المتأخرين.
ولهذا المذهب أتباع معاصرون ، ربما ورث بعضهم شيئا من شدة وقسوة الإمام ابن تيمية على مخالفيه ، وليتهم ورثوا كثرة قراءته وحفظه ، وسعة اطلاعه على مذاهب مخالفيه ، لكان خيرا لهم لو كانوا يعلمون
ولو التقى اليوم أتباع الأشعرية ، والماتريدية ، والتيمية ، وغيرهم من فرق المسلمين ، وأخلصوا النية لله ، وتناسوا ( عصبية المذهب) لوجدوا أن مساحة المتفق عليه من (النظرية والتطبيق ) أضعاف المختلف عليه . ولكان ذلك أنفع للإسلام والمسلمين ضد حملات المنصرين ، والمهودين ، والعلمانيين ، والملحدين . التي تجتاح العالم الإسلامي كله . وتزداد ضراوة يوما بعد يوم .
إن ابن تيمية لم يكفر المعتزلة ودائرة الخلاف بينه وبينهم أوسع مما بينه وبين الأشعرية ، بل إنه لم يكفر الخوارج . ودائرة الخلاف بينه وبينهم أشد اتساعا .
وكثيرا من هذه المسائل التي هي موضع خلاف بين أنصار الأشعري وأتباع ابن تيمية موضوعات شائكة لم تثر على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وليست من فروض الأعيان ، بل هي حكر على الفئة المتخصصة في علم الكلام ، يجب أن يلجم عنها العوام .
16ـ وما ألف بعد ذلك في علم التوحيد معظمه شروح لكتب السابقين وحواش ، وتقريرات ، أو تلخيص ومتون ، يحفظها المبتدئون .
وفي العصر الحديث ألف الشيخ ( محمد عبده ) 1266 ـ 1323هـ ( رسالة التوحيد ) سلك فيها مسلكا فريدا في الأسلوب والعرض . وابتعد عن المشكلات الفلسفية ، وكان يدعو إلى تحرر الأمة من قيد التقليد ، لتستيقظ ، وتعيش عصرها الجديد.
وتتوالى الآن محاولات جادة من علماء الأزهر الشريف لإعادة عرض وصياغة موضوعات ( علم التوحيد ) في إطار يتناسب مع لغة العصر سواء كان في تقرير العقائد ، أو في الجانب الدفاعي عنها ضد هجمات المغرضين .
================
المراجع والهوامش :
1ـ انظر البداية والنهاية لإبن كثير حيث ذكر أن الحافظ النيسابوري قال سمعت ابن خزيمة يقول : جاءني مسلم بن حجاج ، فسألني عن هذا الحديث ـ أي الذي فيه مبايعة على مع المبايعين ـ فكتبته له في رقعة وقرأت عليه . فقال : هذا حديث يساوي بدنة . فقلت : يساونة بدنة !! . بل هذا يساوي بدرة ـ البدرة كيس من المال ـ ( 5/218 ، 6/306) وتاريخ الخلفاء للسيوطي ( ص 69)
2ـ الطبري (2/447)
3ـ انظر التفاصيل في صحيح البخاري ك المغازي ب غزوة خيبر ـ الفتح (7/564) ، وصحيح مسلم ك الجهاد ب حكم الفئ (3/1378).
4ـ البداية والنهاية 6/338
5ـ معلوم أن السيدة عائشة رضي الله عنها ندمت بعد ذلك على خروجها إلى البصرة واشتراكها في الفتنة ، كما أن عليا رضي الله عنه سار بين القتلى بعد انتهاء معركة الجمل ، يضرب فخذيه بيديه ويقول : يا ليتني مت قبل هذا ، وكنت نسيا منسيا .
6ـ البداية والنهاية 7/385
7ـ العواصم من القوصام ص 179
8ـ رواه البخاري في ك الفتن ـ الفتح 13/66
9ـ رواه أبو داود في ك السنة ب في الخلفاء 5/37
10ـ رواه البخاري في ك القدر ب لا مانع لما أعطى الله ـ الفتح11/521
11ـ انظر : ( مفتاح السعادة ) لطاش كبرى زاده 2/153 و ( إشارات المرام ) ص 35
12ـ انظر : ( البداية والنهاية ) لابن كثير 9/364 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق