وانت تقرأ هذا الموضوع استمع لتلاوة الشيخ علي جابر يعتبر من افضل القراء في العالم الاسلامي رحمه الله
ملخص الحــديـث
المحاضرة الأولى (مَثَلُ
الْوَاقِعِ فِي حُدُودِ الله "تخريج الحديث ومعاني المفردات").................................................
2
المحاضرة
الثانية (مَثَلُ الْوَاقِعِ فِي حُدُودِ الله" مسائل الحديث
وفوائده)......................................................... 4
المحاضرة
الثالثة (يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ)
.......................................................................................... 7
المحاضرة
الرابعة (إِنَّ الحَلاَلَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ) ......................................................................... 10
المحاضرة
الخامسة (إِنَّ الحَلاَلَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ
"المشتبهات")
.............................................................12
المحاضرة السادسة (أُمِرْتُ
أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ)
.................................................................................14
المحاضرة
السابعة (نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا)
..................................................................... 17
المحاضرة
الثامنة (أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟)...................................................................................... 19
المحاضرة التاسعة (أَيُّنَا
لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ "مشكلة تفسير وجوده وبيانه".)........................................................22
المحاضرة
العاشرة (يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ
أَحَدِكُمْ)...................................................................24
المحاضرة الحادية عشرة (مَا
يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟)
..................................................................... 27
المحاضرة
الثانية عشرة (مسائل متعلقة بـ "مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ
الثِّيَابِ؟" )
................................................
29
المحاضرة
الثالثة عشرة (الدِّينُ
النَّصِيحَةُ)
................................................................................... 32
المحاضرة الرابعة عشرة (الدِّينُ
النَّصِيحَةُ "حق ولاة أمور المسلمين")...........................................................34
المحاضرة
الخامسة عشرة (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ )...............................................................36
المحاضرة
السادسة عشرة (الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ)
.....................................................................39
المحاضرة
السابعة عشرة (مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ)
.................................................................. 41
المحاضرة
الثامنة عشرة (أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ)
..................................................................................44
المحاضرة التاسعة عشرة (لا تقدموا رمضان)
.............................................................................. 46
المحاضرة
العشرون (فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ فَحُجُّوا)...........................................................................
49
المحاضرة الواحدة
والعشرون (مسائل الحديث "فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ فَحُجُّوا")..................................................51
المحاضرة
الثانية والعشرون (فضل الحج والعمرة والحكمة من تشريعها)
...................................................... 52
المحاضرة
الثالثة والعشرون (أمور تنبغي لمن عزم على السفر للحج والعمرة) .................................................. 53
المحاضرة
الرابعة والعشرون (أهمية وفضل الأمر بالمعروف)
................................................................... 56
المحاضرة
الخامسة والعشرون (أوقات
إجابة الدعاء)
..........................................................................58
المحاضرة السادسة والعشرون
(مراتب تغيير المنكر) (خطوات الإنكار والأمر)..................................................60
المحاضرة
السابعة والعشرون (مِنْ شَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ ذَا الْوَجْهَيْنِ) ............................................................ 63
المحاضرة
الثامنة والعشرون (إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ)...................................................... 65
المحاضرة التاسعة والعشرون (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ)...............................................................................67
المحاضرة
الثلاثون (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ)............................................................................................69
بسم
الله الرحمن الرحيم
المحاضرة الأولى
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم
وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
منهج الحديث لهذا المستوى مُقسَّم إلى
أربعة أقسام:
القسم الأول: أحاديث في باب العقائد،
وهي ثمانية أحاديث.
القسم الثاني: أحاديث في باب الأحكام،
وهي اثنا عشر حديثًا.
القسم الثالث: أحاديث في باب الآداب،
وهي خمسة أحاديث.
القسم الرابع: أحاديث في الدعوة إلى
الله I،
وهي ثلاثة أحاديث.
ثم بعد ذلك أحاديث حفظ من كتاب «رياض
الصالحين» وهي عشرة، ثم أحاديث للقراءة أربعة أحاديث.
عن النُّعمان بن بشير -رضي الله عنهما-
عن النبيِّ r أنَّه قال: (مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا
كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا
وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا
مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي
نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا
أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا
جَمِيعًا.)
وفي روايةٍ: (مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ والمُدْهِن فيها).
تخريجُ الحديث/
خرَّجه الإمام
البخاري والترمذي وأحمد والبيهقي وابن حبان.
مفرادت هذا الحديث:
قوله: (مثل)، المَثَلُ
والمِثْلُ والمَثِيل واحدٌ، ومعناه: الشبيه.
قوله: (حدود الله): المراد
بالحدود هنا ما نهى الله عنه، وأصلُ الحد في
اللغة: المنع والفصل بين الشيئين، ومنه حَدُّ الدار: وهو ما يمنع الغير من الدخول
فيها.
قوله في الرواية الأخرى: (والمُدْهن فيها): من الإدهان؛ وهو المصانعة والمحابة
في غير حقٍّ، ومنه قوله I:
﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ
فَيُدْهِنُونَ﴾
قوله: (استهموا)
أي: اقترعوا، والسهم في الأصل واحد السهام الذي يضرب بها في المسير وهي
القداح. ثم أُطلق على ما يأخذه الفائز في المسير، ثم بعد ذلك لما كثُر سُمِّي كلُّ
نصيبٍ سهمًا.
قوله: (خرقنا
في نصيبنا خرقًا) الخرق: هو الشق أو الثقب، وهذا أسلوب
شرط، جوابه محذوف تقديره: لكان خيرًا أو نحو ذلك.
والمعنى: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا
خرقًا لكان خيرًا، أو يكون قولهم: لم نؤذ هو الجواب وتكون الواو زائدة.
قال في الحديث: (لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ) الواو على القول
الثاني زائدة، وجواب الشرط هو قوله: (لم
نؤذ).
قوله: (أخذوا
على أيديهم) أي منعوهم.
قوله: (فإن
تركوهم)
إن: شرطية جوابها هلكوا، وضمير الرفع «الواو» عائد على أهل العلو في السفينة،
وضمير النصب «هم» عائد على أهل السفل.
قوله في آخر الحديث: (نجوا ونجوا جميعًا) الواو في (نجوا)
الأولى
عائدٌ على الآخذين، وهم أصحاب العلو، والواو في (نجوا)
الثانية عائد على المأخوذين وهم أهل السفل، كذا قال الكرماني رحمه الله.
وذكر العيني- رحمه الله -أنَّ الواو في (نجوا) الثانية، قال: هذا الضمير «الواو» يعود
على كلا الفريقين معًا.
المعنى
الإجمالي:
هذا الحديث مَثَلٌ عظيم يُشبه فيه النبيُّ r حالَ الناس وموقفهم مما يكون في المجتمع من منكرات، بحال قومٍ
ركبوا سفينةً فاقتسموا أماكنهم فيها بطريق القرعة؛ فكان من نصيب بعضهم الجزء
الأعلى من السفينة، وكان من نصيب الآخرين الجزء الأسفل من السفينة.
وكان لا بدَّ
لأهل السفل من الماء، فكانوا يصعدون لأعلى السفينة ليستقوا الماء، ولما كان
مَمرُّهم على أهل العلو فقد تأذوا بهم؛ إذ ربما أصابهم شيءٌ من رشاش الماء أو
أقلقوا راحتهم أو نحو ذلك مما هو مزعج لهم، فلمَّا رأى أهل السفل تأذي إخوانهم من
أهل العلو بهم، عزموا على أن ينقبوا في نصيبهم نَقبًا؛ يحصلون منه على الماء دون
حاجةٍ إلى إيذاء مَن فوقهم من إخوانهم، ولم يدر هؤلاء أنَّ هذا الخرق الصغير سيؤدي
بهم -إنْ تُرك- إلى هلاك الجميع؛ مَن هم في الأعلى ومَن هم في الأسفل.
والنبيُّ r يُبيِّن أنَّ الأمر لا يخلو حينئذٍ من إحدي نتيجتين:
- إمَّا أن
يقوم أهل العلو بواجبهم في منع هذه الكارثة فينجو الجميع، وهذا الاحتمال والنتيجة الأولى.
- وإمَّا أن
يتركوهم وشأنهم بدعوى أن هذا نصيبهم يفعلون فيه ما يشاءون؛ وحينئذ تكون النتيجة
الحتميَّة وهي هلاك الجميع.
وهذا الحديث
فيه بيانٌ لحال الناس في المجتمعات، فإنه لا يخلو مجتمع من بعض صور المنكر والفساد
التي يُقْدم عليها ضعاف الإيمان، وقد يلتمس بعضهم لنفسه مبررًا لما يفعل، كأن يقول
مثلًا: هذه حرية شخصية وأنا حرٌّ أصنع في ملكي ما أشاء، تمامًا كما هو الحال في
أهل السفل لما أرادوا أن يخرقوا في نصيبهم في ملكهم ذلك الخرق، فإن قام أهلُ الرشد
في هذه المجتمعات بواجبهم في إنكار هذه المنكرات والأخذ على أيد الظالمين؛ صَلُح
المجتمع وَنَجا الجميعُ من غضب الله سبحانه؛ وأمَّا إن تقاعسوا عن هذا الواجب
وغلبت كلمةُ المُدَاهنين فإنَّ العقوبة الإلهية تعم الجميع وتلك سُنة إلهية لا
تتغير، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وهكذا إقامة الحدود يحصل بها النجاة لمن
أقامها وأُقيمت عليه؛ وإلا هلك العاصي بالمعصية والساكت بالرضى بها. انتهى كلامه
رحمه الله.
ومصداقُ ذلك من
كتاب ربنا جلَّ وعلا قوله سبحانه: ﴿وَاتَّقُوا
فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾
وقوله r كما عند أبي داود والترمذي، وصحح هذا الحديث
الترمذي، قال r: (إنَّ
الناسَ إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم اللهُ بعقابٍ منه).
أصناف الناس في المجتمع
من خلال ما يصوره هذا الحديث.على ثلاثة أصناف:
الأول: القائم على
حدود الله، وهو ذلك الرجل المتمسك بما أمر الله
به، أو القائم على تنفيذ هذه الحدود، ويدخل في القائم على حدود الله القائم على
تنفيذها وتطبيق شريعة الله عزَّ وجلَّ، أو المتمسك بتطبيق هذه الشريعة العالم بما
أمر الله وبما نهى عنه، الذي يُنكر المحرمات وينهى عنها، والذي يأمر بالمعروف ويحث
عليه.
الثاني: الواقع فيها؛
ويُعنى به الذي يقع في شيءٍ من هذه المحرمات كائنًا من كان، أو الذي يقع في شيءٍ
من هذه المنكرات.
الثالث: وهو الذي
ذكره النبيُّ r في الرواية الثانية؛ وهو ذلك السلبي، الذي
لا دور له حينما يجد القائم على حدود الله ينهى والواقع في حدود الله يقع، ثم يقول
لذلك الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر: دعْه فإنَّ هذه حرية شخصية، أو يقول نحو
ذلك.
فهذا الحديث يشمل هذه الثلاث فرق:
- فرقة تنهى عن المعصية، وهذه هي الفرقة
النَّاجية المنصورة، وهم القائمون على حدود الله.
- وفرقة أخرى تقع في المعصية والحرام
والفساد؛ وهي التي تستحق عذاب الله جلَّ وعلا.
- والفرقة الثالثة هي فرقة المرائين؛
الذين لا يهتمون بأن يمنعوا الواقع في حدود الله من الوقوع،
وقد جعلهم النبي r
في الروايات المتعددة بمثابةٍ واحدة مع الواقعين في حدود الله جلَّ وعلا.
ما يستفاد
من الحديث :
- أنَّ الأُمَّة مثل ركاب السفينة,
وأن من واجب اليقظان أن يحمي النائم، ومن واجب العاقل العالم أن يحمي نفسه وأن
يحمي الجاهل من نفسه أيضًا، وأن يحمي هذه السفينة من الغرق.
- أنَّ مواقع الناس في السفينة لن تنجي
أحدًا؛
لا الذي في العلو ولا الذي في السفل، لو حصل ما حصل من أهل السفل، فلن يغرق من كان
في الأسفل دون من كان في الأعلى، ولذلك جعل النبي r
ترك سكان المكان الأعلى لسكان المكان الأسفل ليخرقوا مكانهم سببًا لهلاكهم جميعًا،
وجعل منعهم إيَّاهم وأخذهم على أيديهم سببًا كذلك لنجاتهم جميعًا.
- كما هو معروف من الكتاب والسُّنة أن
العذاب والبلاء والعقاب يقع على الجميع إذا لم يقم بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر طائفةٌ تقوم بهذه الشعيرة وتنهى الواقعين في الفساد والمنكرات.
- جمع النبي r
بين المداهن والواقع والقائم؛ بمعنى جمع هذه الثلاثة الأصناف جميعًا في سياقٍ
واحد؛ ليذكر لنا أصناف الناس جميعًا أمام هذا الأمر، فالمداهنة في هذا
الأمر ممنوعة، بل هي وبالٌ وفساد، وفاعلُ ذلك مشاركٌ في الواقع في المعصية تمامًا،
وهو أيضًا بسكوته عن الحقِّ أصبح كالناطق بالباطل.
- أنَّ السكوت عن المنكر لا يضر الظالم
وحده؛
وبيانُ ذلك أن الفتنة إذا وقعت لن تصيب الظالم وحده بل سـتأخذه وتأخذ الساكت عن
الحقِّ أيضًا، لماذا؟
لأنَّ المعصية إذا خفيت لم تضر إلا
صاحبها؛ وأمَّا إذا أُعلنت ولم تُغَيَّر ضرَّت الأمة أجمع. ولذلك كان عمر بن عبد العزيز- رحمه الله -يقول:
إنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يعذب العامة بذنب الخاصة؛ ولكن إذا فُعل المنكرُ جهارًا
استحقوا العقوبة كلهم.
وأيضًا فإن من النصح لأخيك المسلم
نُصرتُه كما في قوله r
في الحديث الذي عند البخاري من حديث أنس t
قال
r:
(انصرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا) قالوا: يا رسول
الله، هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: (تأخذ
على يديه).
ومعنى هذا الحديث هو تمامًا معنى الحديث
الذي معنا حديث النعمان بن بشير الذي يصور فيه r
هذه الأمة كأناس في سفينة على ثلاثة أصناف: القائم والواقع والمداهن.
فحينما نقوم بمواجهة الفساد، وحينما
بإنكار المنكر؛ فإننا نمنع الظالم من الظلم، وحين نأخذ على يده ننصره بذلك على
نفسه، وأما الذين يرون أنهم متى صلوا وصاموا وذكروا اللهَ كثيرًا، فقد أدوا ما
عليهم ولا شأن لهم بإصلاح الفساد القائم في المجتمع أو تقويم العوج الحاصل أو
الأمر والنهي أو المشاركة في عملية التغيير في المجتمع نحو الأفضل، فهؤلاء القوم
وإن كانوا في أعمالهم على خيرٍ وهدى؛ إلا أنهم قد أساءوا فهمَ حديث المصطفى r؛
إذ لا بدَّ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه كما تقدم أن الساكت عن الحق
كالناطق بالباطل.
وأمَّا عاقبة سكوت الأمة وسلبيتها؛ فقد
حكى الله جلَّ وعلا عن قوم صالح أنَّه سبحانه أخذهم جيمعًا بسبب فساد تسعة منهم
وسكوت الباقين، فقال I:
﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ
وَلَا يُصْلِحُونَ﴾
فكم فينا من رهط يفسدون ونحن ننظر ولا نبالي؟
إذا كان الله جلَّ وعلا يعلمنا أنَّه
أخذ الأمة بسبب تسعة رهط لأنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فإنه ينذرنا إذا كثُر
الفساد فينا ولم نقم بواجب الإصلاح ولم نسع إلى التغيير ولم نسع إلى إرساء دعائم
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحت أي دعاوى، إن الأمة لم تقم بواجبها في
الإصلاح لتصحيح الواقع الخاطئ وإصلاح العوج الحاصل وتقويمه؛ فإنها ستتعرض لا محالة
إلى الوقوع والدمار والهلاك.
المحاضرة
الثانية
تتمة لما يستفاد من الحديث :
- الحديث يبيِّن لنا أن الحرية الشخصية
مع أنها معتبرة إلا أنَّ الحديث يبين أن هذه الحرية يجب ألا تكون على حساب الأُمة،
فالذي يَخرق في السفينة خرقًا حين يظنُّ أنه في نصيبه وفي ملكه فيما يملكه بنفسه؛
ولكن هذا الخرق لو حدث ولو تُرك لأصاب الأمة كلها،
فالذي يفعل المنكرات، والذي يأخذ
الرشوة، والذي يأتي إلى بابٍ من أيِّ أبواب الفساد هو وإن كان يضر نفسه أصالةً إلا
أنَّه يضر بالتبع مجتمعه الذي هو فيه؛ بل والأمة أجمع.
- استحقاق العقوبة بترك شريعة الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذا ترك الناس كلهم هذه الشعيرة
استحقوا عقوبة الله جلَّ وعلا.
- تبيين العالم الحكمَ بضرب الأمثال , فنستفيد
من فعله r ومن ضربه هذا المثل في الحديث أنَّ العالِم
له أن يبين الحكم الشرعي بضرب هذه الأمثال ونحوها.
- وجوب الصبر على أذى الجار، إذا خُشي
وقوع ما هو أشد ضررًا، وهذه الفائدة مستفادة من كون أصحاب
العلو كان يتأذون بفعل إخوانهم من أصحاب السفل لما كان يصعدون إلى العلو ويستقون،
فعلينا جميعًا أن نتحلى بهذه الصفة، وهي صفة الصبر مع الجار ونحوه؛ لكنها تكون مع
الجار ومع القريب آكد وأَوْلَى.
- يستفاد جواز قسمة العقار المتفاوت
بالقرعة، وإن كان فيه علو وسفل. -كما
ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه «فتح الباري»
- العقار الذي فيه أماكن متفاوتة كأن
يكون فيه علو وسفل، فالآن في وقتنا وعصرنا الحاضر بعض
العقارات تكون على أدوار فإذا أردنا قسمة هذه الأدوار أو هذا العقار لا بدَّ أن
يكون هناك مشاحة فيمن يكون في الأعلى ومن يكون في الأسفل؛ لأن الناس يتفاوتون في
اختيار الموضع والأحسن بالنسبة لهم، لذلك جاءت هذه الفائدة وهي أن هذه قسمة في مثل صورة هذا العقار المتفاوت
تكون بالقرعة؛ حتى لا تكون هناك حجة لمن يريد مثلًا القسمة الأعلى فتكون قرعته
للقسم الأسفل وهكذا.
فنأخذ من ضربه r هذا المثل وأن هؤلاء الناس الذين ضُرب عليهم
المثل استهموا ووقعت القرعة لبعضهم في الأعلى وبعضهم في الأسفل، ومع ذلك لم يحتج
البعض على الآخر في تفاوت المكان، نأخذ هذه الفائدة في قسمة العقارات المتفاوتة.
نظرات
بلاغية في الحديث:
كلنا يعلم ويعتقد ويوقن أنَّ نبينا r
أُوتي جوامع الكلم، ولا يخفى أنَّه r
هو أفصح البشر لسانًا وأبلغهم بيانًا؛ فقد كان كلامه r
كما قال الجاحظ: هو الكلام الذي قلَّ عددُ حروفه، وكثُر عددُ معانيه، تَجلَّى عن
الصنعة، ونُزِّه عن التكلف، فكيف وقد عاب التشديق وجانب أصحابَ التعقيب، واستعمل
المبسوط في موضع البسط والمقصور في موضع القصر، وهَجَرَ الغريب والوحشي، ورَغِبَ
عن الهجين السوقي، لم تسقط له كلمة، ولا زَلَّت له قَدَم، ولا بَارتْ له حجَّة،
ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، ثم لم يَسمع الناسُ بكلامٍ قطُّ أعم نفعًا، ولا
أصدق لفظًا، ولا أعدل وزنًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أكرم مطلبًا، ولا أحسن موقعًا،
ولا أسهل مخرجًا، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين عن فحواه، من كلامه r.
انتهى كلامُ الجاحظ رحمه الله.
وسنذكر في هذا الحديث ما ذكره علماءُ البلاغة
على حسب تقسيمهم لهذا العلم إلى 3فروع: علم المعاني وعلم البديع وعلم البيان.
ونستنبط من هذا الحديث -بإذن الله- من
هذه العلوم الثلاثة ما وقع فيها في جملة هذا الحديث.
أول هذه العلوم وهو علم المعاني:
الأسلوب الذي جاء في هذا الحديث أسلوب خبري،
فنبينا r يُخبر في هذا الحديث بحال الناس، ويشبههم
براكب السفينة؛ رأوا أن هذا الأسلوب الخبري قد خرج على خلاف مقتضى الظاهر، فليس
المراد من هذا الخبر هنا مجرد إفادة السامع فحسب، ولا إفادته أن المتكلم عالم
بالخبر فحسب؛ وإنما الغرض منه الحث وتحريك الهمَّة نحو القيام بواجب الأمر والنهي،
وهذا أسلوب ولفتةٌ فيها من علم المعاني ما يعلمه أصحابُ هذا الفن وغيرهم.
القسم الثاني : علم البديع:
ففي هذا الحديث من المحسنات المعنوية: الطباق؛
ففي هذا الحديث جَمَعَ r
بين «القائم والواقع»، وجمع أيضًا r
بين «أعلاها وأسفلها» وبين لفظة «هلكوا ونجوا»، وهذا هو ما يُسمى بالطباق؛
«القائم» يقابله «الواقع»، القائم على حدود الله يقابله الواقع في حدود الله، من
هم في الأعلى يقابلهم الذين في الأسفل، الذين هلكوا يقابلهم الذين نجوا.
والطباق هنا في هذه الأمثلة
في هذا الحديث من نوع طباق الإيجاب؛ وهو الذي يُعرِّفه البلاغيون بأنه ما
جُمع فيه بين الشيء وضده، فـ«القائم» ضد «الواقع»، و«الأعلى» ضد «الأسفل»،
و«الهلكة» ضد «النجاة».
وليس من شكٍّ في أن هذا الطباق قد أبرز
المعنى وزاده وضوحًا؛ فإن الضد -كما يقولون ونعرف جميعًا- يُظهر حسنه الضد، ويزيد
من حسنه أنه أتى في كلام المصطفى r
عفوًا لا يُحس المرءُ فيه شيئًا من التكلف المذموم، فإن تكلف المحسنات البديعية
وتعمدها مما يُفقِد الكلامَ سلاسته ويَحبس المعاني والأفكار.
فوصف كلامه r
بمثل هذه المحسنات البديعية والبيانية تكون على الفطرة وليس فيها أي نوع من
التكلف، وهذا هو البلاغة والبيان التام الذي لا يُوصف بها إلا هو r،
فهو أفصح العرب.
العلم الثالث هو علم البيان: وقد
اشتمل الحديث من الصور البيانية على ما يلي:
أولًا: الاستعارة: وذلك
في قوله r: (القائم
على حدود الله) وفي قوله: (الواقع
فيها)،
وهذا تعبير يوحي بمدى الهوة السحيقة التي يهوي إليها أصحاب المنكر المخالفين لأمر
الله جلَّ وعلا، ومدى خطورة الواجب الملقى على عاتق المصلحين في الأُمة؛ فهم
حرَّاس الفضيلة القائمون على حدود بئر الرذيلة، مانعي الناس من التساقط فيها.
فالتعبير بالقائم على حدود الله يوحي
ويُشعر بعظم المسئولية على المصلحين في الأمة وأنه لا بدَّ لهم أن يقوموا بهذا
الواجب ويمنعوا أصحاب المنكرات والفساد من الاستمرار في غيهم وفسادهم.
والتعبير بقوله: (الواقع فيها) فيه بيان وإيضاح لمادي هذا الفعل وما
وصل إليه من قبحٍ وشناعةٍ؛ لأن الواقع يدل على هوةٍ سحيقة يقع فيها مَن يصنع هذه
الأفعال ومَن يُفسد من حيث شَعَرَ أو لم يشعر.
ثانيًا: الكناية:
وذلك في قوله r: (أخذوا
على أيديهم)، فإنَّ الأخذ على اليد كنايةٌ عن
استعمال الشدة والقوة، والتعبير بـ«على» في قوله: (أخذوا
على)
يفيد الاستعلاء والفوقيَّة، كما ذكر الحافظ ابنُ حجر في شرحه لحديث: (انصرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا).
الأمر الثالث: التشبيه
التمثيلي:
وذلك في قوله r: (مثلُ
الواقع في حدود الله) وقوله: (مثلُ
القائم على حدود الله) إلى آخره. هذا تشبيه
معقول بمحسوس؛ شُبِّهت فيه الهيئة الحاصلة من قيام المسلمين بواجبهم في تغيير
المنكر بالهيئة الحاصلة من قيام أهل السفينة بمنع من يريد خرقها من الإقدام على ما
يريد، فما شُبِّهت الهيئة الحاصلة من التقاعس عن تغيير المنكر بحال أهل السفينة إن
تركوا مَن يريد خرقها يفعل ما يشاء، فأولئك الذين يريدون أن يخرقوا السفينة بدعوى
أنهم يحفرون في نصيبهم، هم أشبه شيءٍ بأولئك العابثين الذين يتعللون بقضية الحريات
الشخصية لإفساد الأُمة، وهم موجدون في كثيرٍ من المجتمعات، لا كثَّرهم الله.
لذلك هذا التشبيه (القائم على حدود الله) شُبِّه بالذي يأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر، والواقع في حدود الله بالذي يقع في المنكرات والمفسدات والمعاصي،
هو تشبيهٌ تمثيلي.
ويشير أهل العلو في المثل المضروب
لَمَّا قال r: (فكان
نصيب بعضهم في أعلاها وبعضهم في أسفلها) أهل العلو في هذا
المثل يُشير هذا التمثيل إلى بقية أفراد المجتمع؛ لأننا قلنا أنهم على ثلاثة
أصناف: قائم على حدود الله؛ أي الذي يأمر وينهى، وواقع في حدود الله؛ وهو الذي يقع
في المعصية وهم موقعهم أصحاب السفل الذي أرادوا أن يخرقوا، والمداهن.
أهل العلو من بينهم ومنهم الآمرون
بالمعروف والناهون عن المنكر، والأغلب منهم هم أفراد المجتمع بأسره الذين لا يأتون
المنكر؛ ولكنهم قد يأخذون على يدي فاعله وقد يسكتون عنه، وهذا بيِّنٌ واضحٌ ظاهرٌ
في جميع المجتمعات.
لكن رواية البخاري لهذا الحديث التي
ساقها في كتاب الشهادات، تُشير إلى صنفٍ آخر وهو المدهنون؛ أي الذين يُداهنون أهل
الباطل، بل منهم من يدعو لتركهم يفعلون ما يشاءون، بدعوى أنهم يمارسون حقهم في
نصيبهم، كما جاء أيضًا في رواية هذا الحديث عند أحمد في مسنده فقال بعضهم: إنما
يخرق في نصيبه؛ أي يستدل ويعذر أولئك فيقول: إنما يخرق في نصيبه؛ بمعنى اتركوهم
وشأنهم، فهو نصيبهم يفعلون فيه ما يشاءون.وجاء في روايةٍ عند الحميدي في مسنده: (فقال بعضهم: اتركوه أبعده الله يخرق في حقه ما يشاء).
لاحظوا -أيها الإخوة- مع أنهم لم يرضوا
فعله أو فعلهم -سواء كان الذي يقع في الحد واحد أو متعدد- هم الآن لم يرضوا بفعلهم
لأنهم قالوا: (اتركوه أبعده الله)
فنفهم من هذا التعبير أنهم أبغضوا تلك الأفعال، إلا أنه لما قالوا: اتركوهم يخرقون
في ملكهم ما يشاءون، كانوا من المداهنين الذين يكون فعلُهم مثل فعل الساكت عن
الحق، وكما قلنا: كالناطق بالباطل.
من ذلك أيضاً اختياره r
للفظة: (استهموا)، فإنه r
لا يكتفي بذكر ركوبهم بالسفينة وضرب المثل لكفى ذلك ولما ضرَّ بالمعنى لكنه r
ذكر لفظ الاستهام ليدل على أنَّ مواضع القوم في السفينة إنما جاء على وفق الحقِّ
والعدل بطريق القرآن.
وقوله حكاية عن أهل السفل: (لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا)
إشارة إلى صنفٍ من الناس يبررون ارتكابهم لما يخالف الشرع بنبل مقصدهم وسمو هدفهم،
والحديث يرد على مثل هؤلاء الذين يفكرون بمثل هذا التفكير السقيم، ويوضح أنه مهما
تعلَّل أولئك القوم الذين يقعون في المعاصي والفساد في الأرض بأنَّ هذه التعليلات
والتفسيرات لا حجة فيها ولا مانع من الأخذ على أيديهم، والله جلَّ وعلا لا يقبل من
العمل إلا ما كان خالصًا صوابًا، كما قال الفضيل بن عياض في معنى قوله جلَّ وعلا: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ قال رحمه الله:
فالخالصُ أن يكون لله، والصوابُ أن يكون على السُّنة.
المحاضرة
الثالثة
الحديث الذي
معنا هو الحديث الأول في باب العقائد ..
عن أنس t قال: قال r: (يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ:
لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ, وَيَخْرُجُ
مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ
مِنْ خَيْرٍ, وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَفِي
قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ.) قال أبان -أحد رواة الحديث-: حدَّثنا قتادة قال: حدَّثنا أنس عن النبي r: (من إيمان) مكان (من خير).
هذا الحديث متفق على صحته؛ أخرجه البخاري ومسلم من طريق معاذ بن هشام عن أبيه، عن
قتادة، عن أنس t به.
قال ابنُ رجب- رحمه الله -في الفتح، ثم قال: قال أبان حدَّثنا قتادة
قال: حدَّثنا أنس عن النبي r: (من إيمان) مكان (من خير) في هذه الرواية التي ذكرها تعليقًا صريحًا بتفاوت
الإيمان الذي في القلوب؛ أي أن في هذه
الرواية دليل صريح بأن الناس يتفاوتون في إيمانهم، وأنَّ الإيمان يزيد وينقص، كما
هو عقيدة أهل السُّنة والجماعة في ذلك.
ثم قال: وأيضًا
فيها -أي أيضًا في هذه الرواية من الفوائد- التصريح بسماع قتادة له -أي للحديث- من
أنس رضي الله عنه.
من المعروف عند
علماء الحديث والمتخصصين في هذا الفن، أنَّ قتادة بن دعامة السدوسي أحد المدِّلسين
الموصوفين بالتدليس، ومعروف عند أوساط طلبة أهل العلم أن المدلسين لا يُقبل من
حديثهم إلا بما صرَّحوا فيه بالسماع، وهذا حكم على المدلسين وأحاديثهم أغلبي؛ وإلا
فهناك من الصور ما لا ينطبق عليها هذا الحكم، ولكن هذا الحكم يعتبر حكمًا أغلبيًّا،
ننتبه إلى أن في بعض الصور وبعض المدلسين لا يقال فيهم مثل هذا الكلام؛ لكن في مثل
قتادة قال بعضهم: إنَّه من هؤلاء الذين لا يُقبل من حديثهم إلا ما صرَّح فيه
بالسماع على خلافٍ في هذه المسألة؛ لكن إذا سلَّمنا بذلك نقول: من فوائد هذه
الرواية أنها جاءت بهذا التصريح الذي قلنا: إنَّ هذا المدلس لا يُقبل من حديثه إلا
بما صرَّح فيه بالسماع، فقال في رواية أبان –قتادة-: حدَّثنا أنس عن النبي r، فصرَّحَ
بالسماع.
وقد خرَّج
البخاري- رحمه الله -هذه اللفظة من حديث أنس t في أواخر كتابه مسندة من رواية معبد بن هلال عن أنس رضي
الله عنه، وخرج حديث أبي سعيد الخدري t عن النبي r في هذا
المعنى باختلاف لفظ الخير والإيمان أيضًا، كما جاء الاختلاف في هذا اللفظ في حديث
أنس رضي الله عنه، والمعنى أنه كما جاء في حديث أنس في لفظة (وزن ذرة من خير)، (وزن برة من خير)، (وزن شعيرة من خير) جاءت في رواية (وزن
شعيرة من إيمان)، (وزن برة من إيمان)، (وزن ذرة من إيمان) في حديث أنس وفي حديث أبي سعيد -رضي الله عنهما-،
وكلاهما عند البخاري- رحمه الله -في صحيحه.
بعدها نتكلم عن
هذا الحديث ونشرحه في مسائل خمس، ونختم ذلك بنكتةٍ لغوية بلاغية.
المسألة الأولى: في شرح هذا الحديث: تعريف الإيمان وأركانه:
فالإيمان عند
أهل السنة والجماعة بأنه اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان، يزيد
بالطاعة وينقص بالعصيان.
والحديث نصٌّ
في تفاوت الإيمان الذي في قلوب الناس، كما أنَّ الناس متفاوتون في المعرفة
ومتفاضلون، وفي الحديث دليل على اشتراط النطق بالتوحيد:
أولًا: القول؛ معنى ذلك أي قول القلب واللسان، فقول القلب هو
الاعتقاد، وأما قول اللسان فهو التكلم بكلمتي الإسلام والإيمان.
قوله: «وعمل» العملُ أيضًا قسمان: عملُ القلب؛ وهو الإخلاص
والنية، وعمل الجوارح وهو الأعضاء.
قول اللسان هو
إقراره والتزامه؛ بمعنى أن ينطق الإنسان بالشهادتين ويقر بلوازمها، قال جلَّ وعلا:﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ
النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ﴾.وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ وقال النبي r: (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا
رسول الله...)
فقال: (حتى يشهدوا) أي: حتى يقولوا: لا إله إلا الله ويقروا بها وبلوازمها.
ثانيًا: عمل
القلب هو نيته وتسليمه وإخلاصه وإذعانه وخضوعه وانقياده والتزامه وإقباله إلى الله
جلَّ وعلا، وتوكله عليه سبحانه ورجائه وخشيته وتعظيمه وحبه وإرادته، قال الله جلَّ وعلا: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ
وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ وقال: ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ
مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَىٰ % إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ
رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ % وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ﴾ وقال r: (يا معشر مَن آمن بلسانه ولم يدخل
الإيمانُ في قلبه) مما دلَّ على
اشتراط عمل القلب، كما يشترط عمل الجوارح .
عمل الجوارح:
أي فعل المأمورات والواجبات وترك المنهيات والمحرمات؛ فأصبح عمل اللسان ما لا يؤدى إلا به؛ كتلاوة القرآن وسائر الأذكار من
التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والدعاء والاستغفار والدعوة إلى الله وتعليم
الناس، وغير ذلك من الأعمال التي تؤدَّى باللسان وهي أعمال فاضلة خيرة في جميع
مجالات البر.
فهذا كله من
الإيمان، كما قال الله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ
كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا
وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾ وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴾ وهذه أقوال باللسان.
وعمل الجوارح
مثل: الصلاة، والقيام، والركوع، والسجود، والصيام، والصدقات، والمشي في مرضاة الله
جلَّ وعلا كنقل الخطى إلى المساجد، والحج، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر وغير ذلك من أعمال شعب الإيمان كلها.
قال الله جلَّ
وعلا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا
رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ وهذه كلها أعمال جوارح، وقال جلَّ وعلا: ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ ﴾ والجهاد عملٌ للجوارح، وقال جلَّ وعلا: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ
هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا % وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴾وجميع هذه الأعمال أعمال جوارح، وفي بعضها أيضًا يكون مع
عمل الجارحة عملٌ باللسان أيضًا.
فهذه الخصال
الثلاث: «اعتقاد القلب» و «إقرار اللسان» و «عمل الجوارح» اشتمل عليها مُسمَّى الإيمان
لا بدَّ من أن ينفذ الوعيد لبعض من لم يأتِ هذه الخصال الثلاث من أصحاب أهل
الكبائر، وذلك لورود النص أنَّ الله جلَّ وعلا يُعذِّب قومًا من
أهل التوحيد كما قال r: (يخرج من النار مَن قال: لا إله إلا
الله وفي قلبه وزن شعيرة) على هذا الحديث الذي معنا، وإن لم نقل بذلك أي مع قولنا بأن الإيمان لا
بد من هذه الأركان الثلاثة ومن أثر هذه الثلاث يكون مآله إلى الجنة -نقول: لا بد
أن يكون من الناس من يخل بهذه الثلاث أو ببعضها؛ ولكن يبقى في دائرة التوحيد «في
دائرة الإسلام» ويعذبه الله جلَّ وعلا على قدر إخلاله بما أخلَّ، إن لم نقل
بهذا فإننا نُبطل النصوص الواردة بذلك، فلا بدَّ من أن ينفذ الوعيد ببعض أهل
الكبائر لورود النصوص أنَّ الله جلَّ وعلا يعذِّب قومًا من أهل التوحيد، ومن ذلك
قول نبينا r في هذا الحديث: (يخرج من النار من
قال: لا إله إلا الله في قلبه وزن شعيرة -وزن بره، وزن ذرة- من خيرٍ) أو قال: (من إيمان).فأهل السنة
والجماعة يقولون: من أتى بجميع هذه الأركان فقد اكتمل إيمانه، ومن أنقص فينقص
بحسبه.
المسألة الثانية: تفاضل الناس في الإيمان ومراتبهم: في هذا الحديث دليل على تفاضل أهل الإيمان، كما قال
تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ % أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ
﴾ إلى قوله: ﴿ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾ ثم قال:﴿ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ
الْمُقَرَّبِينَ % فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ
وَجَنَّتُ نَعِيمٍ % وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ
أَصْحَابِ الْيَمِينِ % فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ
أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾ وقال تعالى أيضًا: ﴿
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾
مما دلَّ على أن الناس يتفاوتون في الإيمان على حسب
وجوده في قلوبهم.
وفي حديث
الشفاعة أيضًا دليل على تفاوت الناس في الإيمان وهو أنَّ الله جلَّ وعلا يخرج من
النار من كان في قلبه وزن دينار من إيمان.
وقد حكى اتفاق
السلف على أنَّ الإيمان اعتقاد وقول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، غيرُ واحد
من أهل العلم؛ كالشافعي رحمه الله، والإمام أحمد، والإمام البخاري، وابن عبد البر،
والبغوي وعبد الرزاق الصنعاني وغيرهم، رحم الله أئمة السُّنة جميعًا.
المسألة الثالثة: مرتكب الكبيرة ومنزلته عند أهل السنة والجماعة والطوائف
الأخرى: هذا الذي دلت
عليه النصوص هو الذي عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم على الخير
والهدى في حكم مرتكب الكبيرة، وهو المنهج الوسط بين الغلو في هذا الباب وهو مذهب الخوارج قديمًا وحديثًا؛ الذين يكفرون مرتكب
الكبيرة؛ بل ويخرجونه من الملة ويستبيحون دمه ويعتقدون أنه يوم القيامة خالدًا
مخلدًا في النار ولا ينفعه إيمانه وتوحيده، وبين أهل التقصير الذين
يرون أن مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، ولا يفرقون بين مرتكب الكبيرة وبين
المؤمن الكامل الذي أدَّى الطاعات وتجنَّب المحرمات، كما هو مذهب غلاة المرجئة؛
أمَّا الأدلة على أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر
ردًّا على الخوارج؛ فقد دلَّ الكتاب والسنة على ذلك؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا ۖ فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا
عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ
اللَّهِ ۚ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ % إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾
في هذه الآيات
دليلٌ على أنَّ الله جلَّ وعلا أثبت مسمى الإيمان لمرتكب الكبيرة؛ فقال في بداية
هذه الآية: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ ﴾ مع أنهم فعلوا كبيرة وهي الاقتتال؛ إلا أنَّ الله جلَّ
وعلا أثبت لهم الإيمان مع اقتتالهم، وأيضًا في الآية التي تليها قال: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ فأثبت لهم الأُخوة الإيمانية مع أنهم ارتكبوا هذه
الكبيرة.
أمَّا من
السنة: فقد أخرج الإمام مسلم من حديث أبي سعيد الخدري t أنَّ النبي r قال: (يدخل أهل الجنة في الجنة؛
يُدخل من يشاء برحمته ويدخل أهل النار في النار ثم يقول:انظروا من وجدتم في قلبه
مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه)وهذا دليل على
أن أصحاب الكبائر ليسوا كفارًا ولا يخلدون في النار بل يعذبهم الله تعالى , يعذب
منهم من يشاء بقدر ما عنده من تلك المعاصي والكبائر.
فأهل لا إله
إلا الله وهم دخلوا النار بتقصيرهم في حقوقها، فإنهم لا بد أن يخرجوا منها كما في
الصحيحين في قوله r في هذا الحديث الذي هو حديث الباب: (يخرج
من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، وفي قلبه وزن برة من
خير وفي قلبه وزن ذرة من خير) فلا بدَّ إذًا
أن ينفذ الوعيد ببعض أهل الكبائر لمجيء مثل هذه النصوص على أهل التوحيد.
المسألة الرابعة : «زيادة الإيمان ونقصانه»: وقد احتج الإمام البخاري- رحمه الله -بهذا الحديث وأورده
في باب زيادة الإيمان ونقصانه من كتاب الإيمان، وفي ذلك دلالة على أنَّ أهل لا إله
إلا الله هم متفاوتون في إيمانهم حتى وجد منهم من لا يزيد إيمانه على أصل التوحيد
الذي به دخل في الإسلام فلا يزيد على ذلك إلا بمقدار قليل جدًّا، واستدلوا أيضًا
بقوله r مخاطبًا النساء في خطبة العيد: (ما
رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لُبٍّ منكنَّ) قلن: يا رسول
الله، وما نقصان العقل والدين؟ قال: (أمَّا نقصان العقل فشهادةُ امرأتين تعدل شهادة رجلٍ، فهذا نقصان
العقل، وتمكث الليالي ما تصلي وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين) فجعل r ترك المرأة الصلاة حتى وإن كانت مأجورة وفطرها في رمضان حتى وإن
كانت أيضًا معذورة نقصًا في دينها؛ فالرجل يزيد عليها في صلاته في تلك المدة؛ مما
دلَّ على أن الإيمان يزيد في قلب العبد بالطاعة وينقص بترك الطاعة أو بفعل
المعصية.
وكما قال أهلُ
العلم من أدلة زيادة الإيمان ونقصانه في قلوب المؤمنين، أن كل ما قابل للزيادة فهو
قابل للنقصان والعكس، فما يدل على زيادة
الإيمان في قلب المؤمن هو دليل على أنَّ هذا الإيمان ينقص أيضًا، وما يدل
على نقصانه في قلب المؤمن هذا أيضًا دليل على أن الإيمان أيضًا يزيد في قلبه، فما
قبل الزيادة قبل النقصان ولا بدَّ.
و القول بمقتضى
ذلك هو قول أهل السنة والجماعة قاطبة؛ وهو أن الإيمان يزيد وينقص في قلوب الموحدين
من أهل الإسلام.
وقد وضع الإمام
البخاري- رحمه الله -هذا الحديث تحت باب زيادة الإيمان ونقصانه، وهذا ظاهرٌ في
الدلالة على تفاوت الناس بما في قلوبهم من الإيمان، والمراد بحبة الخردل: ما زاد
من الأعمال على أصل التوحيد، مثل قول r: (مَن رأى منكم منكرًا) إلى أن قال في آخر الحديث: (وذلك أضعف الإيمان)، ومثل قوله
أيضًا في حديث الأمانة: (وما في قلبه مثقال حبة
خردل من إيمان).
المسألة الخامسة: فالأحاديث التي نُفي الإيمانُ فيها ومعناها؛ من ذلك قوله r: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، وقوله: (لا يزني الزاني
حين يزني وهو مؤمن) وقوله: (لا إيمانَ لمن لا أمانة له).
قال النووي:
معنى هذه الأحاديث القول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه: لا يفعل هذه المعاصي
وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي ويراد نفي كماله ومختاله،
كما يقال: لا علم إلا ما نفع...
نختم شرح هذا
الحديث بهذه النكتة البلاغية؛ وهو أنَّ هذا
الحديث جاء فيه أسلوب التشبيه من الأساليب البلاغية الراقية في كلامه r التي تميزت
بها اللغة العربية والقرآن والسنة؛ ففي قوله المشبه
في تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، والمشبه به
تفاضل وزن الشعير والبر والذرة؛ أما
وجه الشبه فهو اختلاف المقدار في الشعير
والبر والذرة أيضًا في الإيمان، وأثر هذا
التشبيه في الدعوة إلى الله الإسراع والحث
في الإسراع إلى التزود من الأعمال الصالحة؛ لأنَّ الأسلوب المستخدم من r في الحض على
ذلك هو التشبيه عن طريق وسائل محسوسة يشاهد الناس تفاضلها في حياتهم اليومية.
المحاضرة
الرابعة
الحديث الأول
من باب الآداب
عن النعمان بن
بشير -رضي الله عنهما- قال: سمعت النبي r يقول: (إِنَّ الحَلاَلَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا
مُشْتَبِهَاتٌ، لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى
الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ
وَقَعَ فِي الحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ
فِيهِ. أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللَّه
مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ
الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ
القَلْبُ) متفقٌ عليه؛ أي خرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من طريق عامر بن
شراحيل الشعبي، عن النعمان t .
هذا الحديث عدَّه العلماء ثلث الدين؛ من ذلك قول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله:أحاديث الإسلام تدور على
ثلاثة أحاديث:
الأول: حديث
عمر رضي الله عنه: (إنما الأعمال بالنيات).
والثاني: حديث
عائشة رضي الله عنها: (من أحدث في أمرنا هذا ما
ليس منه فهو رد).
والثالث: هذا
الحديث وهو حديث النعمان بن البشير رضي الله عنه: (الحلال بيِّن والحرام بيِّن).
ومعنى كلامه:
أنَّ عمل المكلف دائرٌ على امتثال الأمر واجتناب النهي؛ وامتثال الأمر واجتناب
النهي هذا هو الحلال والحرام، وهناك بين الحلال والحرام مشتبهات، وهو القسم
الثالث؛ فهناك حلال، وهناك حرام، وبينهما مشتبه، فهي على ثلاثة أقسام، ثم إن هذه الثلاث
التي وردت في حديث النعمان رضي الله عنه: (الحلال
بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات) وجاءت في رواية: (وبينهما أمور مُشبِّهات)،
والعمل لمن أراد أن يعمل من فعل أمر أو اجتناب نهي لا
بدَّ أن يكون بنيةٍ حتى يكون صالحًا؛ فرجع حينئذ تصحيح ذلك العمل وهو الإتيان بما
فرض الله أو الانتهاء عمَّا حرَّم الله، إلى وجود النية التي تجعل هذا العمل
صالحًا مقبولًا، وذلك كما في حديث عمر بن الخطاب t أن النبي r قال: (إنما الأعمال بالنيات)، وهذا هو الحديث الأول الذي ذكره الإمام أحمد بن حنبل
فيدخل هذا الحديث في هذا التصور؛ الإنسان لا يخلو إمَّا أن يفعل أمرًا حلالًا، أو
يكون هناك الأمر محرمًا أو يكون مشتبهًا بين هذا وذاك، ثم إن أراد أن يفعل هذا
الأمر الحلال لا بد له من نية، وإن أراد أن يترك هذا الحرام لا بدَّ له من نية،
هذه النية يضبطها موضوعها وهو: (إنما الأعمال بالنيات).
ثم إن ما فرض
الله جلَّ وعلا من الواجبات أو من المستحبات لا بدَّ فيه من ميزان ظاهر حتى يصلح
العمل، وهذا يحكمه حديثُ عائشة وهو الحديث الثاني: (من
عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد) فكان هذا
الحديث حديث النعمان بن بشير t هو ثلث الدين،
كما قال الأئمة؛ حديث عمر متعلق بالنوايا
ميزان النية في العمل، وحديث عائشة متعلق بكون
العمل لا بدَّ أن يكون صوابًا على سُنة رسول الله r، فهو ميزان
لموافقة هذا العمل للسنة النبوية ، وحديث
النعمان t يبين الأمر
الثالث الذي هو بين الحلال وبين الحرام والحكم في ذلك وهو الأمر المشتبه، فأصبح واحدًا من ثلاثة؛ بمعنى أنَّه ثلث هذه الأحاديث
الثلاثة التي يدور عليها الإسلام .
وهذا يدل على
أن هذا الحديث موضعه عظيم في الشريعة؛ فهو ثلث الدين لمن فهمه؛ ففيه أن الأحكام ثلاثة؛ حلال بينٌ واضحٌ لا اشتباه فيه، وحرام
بينٌ واضح أيضًا لا اشتباه فيه، وثالث
مشتبه لا يعلمه كثيرٌ من الناس، ولكن يعلمه بعضهم استنباطًا من قوله في
الحديث: (لا يعلمها كثيرٌ من الناس).
مثالٌ على
الحلال البين: أنواع
المأكولات المباحة؛ كأن يأكل
الإنسانُ لحمًا أو خبزًا أو يشرب ماءً إلى غير ذلك.
أيضًا أنواع
العلاقات المالية المباحة؛ كالبيع الواضح
والصرف الواضح وإلى آخر ذلك.
وأنواع الإجارة
الواضحة، والزواج الواضح، وأشباه ذلك مما اكتملت فيه الشروط ولا شبهة فيه، فهذا
بينٌ يعلمه الناس، وهو درجات.
أمَّا الحرام
البين فمثاله: حرمة الخمر،
والسرقة، والزنى، وقذف الغافلات المؤمنات، والرشوة وأشباه ذلك مما الكلام فيه واضح
لا اشتباه فيه.
القسم الثالث
وهو المراد بالحديث: (وبينهما أمور مشتبهات) فجعل هذا القسم بينَ الحلال والحرام، وذلك لأنه يجتنبه الحلال تارة ويجتنبه
الحرام تارة أخرى عند مَن اشتبه عليه؛ فالذي اشتبه عليه هذا الأمر يكون عنده بين
الحلال والحرام لا يدرى هل هو حرام أو هو حلال؟ إن نظر إليه من جهة قال: هو حلال؛
وإن نظر من جهة أخرى قال: هو حرام، وهذا عند كثير من الناس؛ وأما الراسخون في
العلم فيعلمونه ويعلمون حكمه، هل هو حلال أم حرام؟
وقوله r: (وبينهما أمور مشتبهات لا يعلموهن كثير من الناس) نقول: أسباب الخفي أسباب عدم العلم كثيرة؛ منها:
ألا يكون النص
ثابتًا عند الإنسان فيتردد هل يصح عن النبي r أو لا يصح؟ ثم إنه إذا صحَّ هذا الدليل فقد تشتبه على الإنسان
دلالته هل يدل على كذا أو لا يدل؟ ثم إنه إذا دلَّ على شيء معين فقد يشتبه أيضًا
على الإنسان هل له مخصص إن كان عامًّا أو هل له مقيد إن كان مطلقًا؟ ثم إذا تبين
ذلك كله فقد يشتبه عليه هل هو باق أو هو منسوخ؟ ودلَّ قوله r: (لا يعلموهن كثيرٌ) على أن هناك
كثيرًا من الناس يعلمون حكم هذه المشتبهات بالمقابلة ويعلموهن كثير من الناس
مقابلة وفهمًا أن هناك كثير أيضًا من الناس يعلمون أحكام هذه المشتبهات، ومنهم
أصالة الراسخون في العلم.
إذًا ما هو الطريق إلى حل هذه الاشتباه؟
الطريق هو ما
بيَّنه r بعد ذلك بقوله: (فمن اتقى الشبهات
فقد استبرأ لدينه وعرضه؛ ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) من اتقاها؛ يعني من تجنبها إلى الشيء الواضح البين فقد
استبرأ لدينه وعرضه.
وهذه المشتبهات
اختلف العلماء في تفسيرها، ما هي هذه المشتبهات ؟ في أقوال كثيرة جدًّا حتى
صُنِّفت فيها مصنفات، وشروح هذا الحديث في الكتب المطولة طويل أيضًا في تفسير هذه
المشتبهات، ووضوح هذه المشتبهات ينبني على فهم معنى المشتبه في اللغة؛ هذه اللفظة
لغةً ماذا يُراد بها؟ وأيضًا إذا وردت في القرآن والسنة ماذا يراد بها؟
فنقول: أمَّا هذه اللفظة في اللغة فاشتبه الشيء بمعنى:
اختلط، والمعنى أي: صار يتنازعه أشياء متعددة جعلته مختلطًا على الناظر أو على
السامع، اشتبهت الأشياء عند عينه؛ بمعنى اختلطت، ما يميز هذا
من هذا، واشتبهت الأصوات عليه يعني تداخلت فلم يميز هذا من هذا، فالمشتبهات في
اللغة لا يتضح منها الأمر عند كثيرٍ من الناس؛ وذلك لضعف قوته، كما أن الناظر لضعف
بصره اشتبه عليه، والسامع لضعف سمعه اشتبه عليه، فكذلك المسائل التي تدرك بالقلب
تدرك بالبصيرة، تشتبه من جهة ضعف البصيرة وضعف العلم.
ومعناها أيضًا
لغةً أو بمعنى الاختلاط؛ اختلاط الأمر وعدم وضوحه وبيانه للإنسان.
أمَّا في
القرآن فقد جعل الله جلَّ وعلا المشتبهات أو المتشابهات فيما يقابل المُحكمات؛
وذلك كما قال تعالى في آية سورة آل عمران: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ
وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ دلت الآية على أنَّ المحكم ما كان واضحًا بينًا والمشتبه
لا يشتبه علمه على الناظر فيه، وما جاء في الحديث غير ما جاء هنا في الآية، تقدَّم
أن ما جاء في الحديث من معنى المشتبه هو الأمر الذي يكون بين الحلال وبين الحرام؛
أمَّا المشتبه في الآية وفي أيضًا اللغة فهو ما اشتبه علمه على الناظر، فما في
الآية من جهة المعاني؛ معاني الآيات لأنه سبحانه قال: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾
فمعنى الآية هو المشتبه؛ أما ما جاء في حديث الباب فهو
من جهة العمل؛ الآية من جهة المعنى والحديث العمل، من جهة أيضًا الحكم، هل هذا
الأمر من الحلال فأعمل به ويجوز لي ذلك أم هو من الحرام فأجتنبه وأدعه وانتهى عنه
ويكون من حكمه حرام؟ فإذًا من جهة الاشتباه الأمر واحد؛ أما المشتبه فيما دلت عليه
آية آل عمران هو غير الواضح، وهذا نستمسك به في تفسير المشتبه أيضًا في الحديث؛
لأنَّ الكلمة إذا اشتبه معناها أو اختلف العلماءُ في معناها، فإرجاعها إلى عرف
الشارع أي في كلامه إلى ما كان عليه استعمال الشارع في القرآن، فهذا يريحنا من
إشكال تفسير هذه الكلمات.وإذا نظرنا في هذه الكلمة مشتبهات، نجد بعض
العلماء جعل معناها اختلاط المال المباح مع المال الحرام، وجعلها بعضهم فيما اختلف
فيه العلماء .
وتفسير المشتبه الصحيح أن نجعلها كما
تقدم في آية آل عمران؛ يعني ما لم يتضح للمرء
حكمه فهو مشتبه، وما اتضح حكمه من الحلال فهو حلال، وما اتضح حكمه من
الحرام فهو حرام، وهذه محكمات وما اشتبه حكمه فهو من غير الواضح من المتشابهات، أو
نقول من المشتبهات، أو من المشبِّهات، كما هي روايات لحديث النعمان بن البشير رضي
الله عنه.
وأمَّا الإمام
أحمد وإسحاق وجماعة من أهل العلم، فقد فسروا المشتبهات بما اختلف الصحابةُ بخصوصهم
في حله وحرمته، أو اختلاف العلماء في حله وحرمته؛ فقالوا مثلًا: أكلُ لحم الضب
اختلف العلماء فيه؛ فيكون من قبيل المشتبه على قاعدتهم، لماذا؟ لأنَّ الذي يختلف
عليه أو فيه أهلُ العلم يكون من المشتبه، وأكلُ لحم الضب لم يتفق عليه العلماء؛
وإنما اختلفوا في جوازه وعدمه؛ على ذلك تكون هذه المسألة -مسألة لحم الضب- من
المشتبهات على هذا القول.
وقالوا: إنَّ
أكل ذي الناب من السباع اختلف فيه العلماء؛ فيكون من قبيل المشتبه؛ أو لبس الملابس
التي اختلفوا فيها تكون من قبيل المشتبه، وجعلوا
اختلاف المال الحلال والحرام من قبيل المشتبه، وشرب ما يسكر كثيره من قبيل
المشتبه، وهذا في الحقيقة ليس واضحًا، وليس مميزًا للمشتبه عن الحلال والحرام،
وهذه إذا جُعلت من المشتبهات فهذا من جهة التأويل لا من جهة كونها مشتبهات بينة.
ونقول: مراد
الإمام أحمد وإسحاق وجماعة رحمهم الله بهذا القول إذا قالوا عن هذه الأشياء إنها مشتبهات أو هذه المسائل، فيعنون بذلك
-والله أعلم- أنه ينبغي لمن ذهب إلى القول
المبيح أن يستبرأ لدينه، فمن ذهب إلى
قول المبيح في المسكر لا بدَّ له أن يستبرأ لدينه ويذهب إلى القول الآخر، وفي أكل
الضب السُّنة فيه واضحة، فينبغي أن يترك رأيه إلى السنة للأمر الواضح؛ يعني قالوا:
إنها من المشتبهات وذلك باعتبار الخلاف الذي وقع بين العلماء في حلِّها أو في
سنيتها أو في حرمتها أو نحو ذلك، وهذا ليس هو المقصود بالحديث كما تقدَّم؛ لأن
المقصود في الحديث من جهة الأعمال المشتبه من حيث هو بين الحلال والحرام من جهة
الأعمال، وفي الآية قلنا أنها من جهة المعاني.
والذي ينبغي
لطالب العلم أن يحمل هذه الأحاديث على ما اشتملت عليه أو ما اشتبه حكمه على من
يحتاج إليه؛ فإن اشتبه عليه حكم هذا البيع، فاستبرؤه له حماية لعلمه ولعمله،
وأيضًا حماية لدينه، وإذا اشتبه عليه حكم هذه المرأة هل هي مباحة له أم غير مباحة؟
فالاستبراء أن يتوقف حتى يأتيه إمَّا أن تكون حلالًا بينًا أو تكون حرامًا بينًا.
المحاضرة
الخامسة
إذا تقرر ذلك فإن المشتبهات لها نوعان:
النوع الأول:
ما يتوقف فيه العلماء؛ فيتوقف
العالم في حكم مسألة فيقول مثلًا: أنا متوقف في هذه المسألة، ثم إن العلماء رحمهم
الله إذا توقفوا في شيء في بعض مسائل العلم خاصة الواقعة والحادثة في مثل هذا
العصر تأتي مسألة مثلًا من مسائل البيوع، أو من مسائل الأموال الحادثة التي يحدثها
الناسُ في حياتهم ومعاشهم -العلماء ينظرون فيها فلا بدَّ إن لم يجدوا فيها حكمًا
من كتاب الله أو من سُنة رسول الله r لا نصًّا ولا استنباطًا فنجد أنهم يتوقفون في مثل هذه المسائل؛
ففي بعض المسائل الطبية مثلًا توقف العلماء، والعلماء رحمهم الله توقفهم ليس عن
عجز منهم؛ ولكن حماية لهذا الدين؛ لأنهم عندما يقولون في مثل هذه المسائل سيفتون
الأمة، وإذا أفتوا الأمة فالحلال الذي صار في الأمة حلالًا منسوبًا إليهم هم في
حقيقة الأمر موقعون عن ربِّ العالمين جلَّ في علاه ، فإذا توقف العلماء في المسألة
فإذًا هي من المشتبهات حتى يتبين حكمها للعالم، وهذا هو النوع الأول وهو النوع
الذي يتوقف فيه العلماء أنفسهم.
النوع الثاني
من المشتبهات : هو ما يشتبه على غير العالم، فيجب ألا يواقعها أيُّ أحد من الناس حتى يردها إلى العالم؛ لأنه r قال: (وبينهما -أي بين الحلال وبين الحرام- أمور مشتبهات لا يعلموهن كثير من الناس) فعلى الواحد منا إذا أراد أن يفعل فعلًا أو يقول قولًا، فلا بد إن كان
يعرف أن هذا الأمر حلال فعله وأتم مقصده به، وإن كان حرامًا تركه وانتهى عنه
واجتنبه، فإن لم يتبين له الأمر بوضوح أنَّه حلال أو أنه حرام، فينبغي عليه أن
يتوقف حتى يسأل أهل الذكر وأهل العلم عن حكم هذا الفعل أو هذا القول.
ثم إن في قوله r: (لا يعلموهن كثير من
الناس) إرشاد إلى أن هناك من يعلم؛ لأنه قال: (لا يعلموهن كثير) والمعنى أن
هناك كثير آخرون يعلمون حكم هذه المشتبهات، فتسأل أيها الإنسان فالمسألة التي
اشتبهت عليك من يعلم عن حكم هذه المسألة.
قوله
r:
(فمن اتقى الشبهات) يعني: قبل أن يصل
إليه العلم، كان في بداية الأمر لا يعلم حكم هذه المسألة ثم اتقى قبل أن يعلم حتى
وصله العلم بأنه حلال أو أنه حرام، أو في المسألة التي توقف فيها أهل العلم لا
بدَّ أن يتقي الإنسان هذه الشبهات فيتوقف حتى يتبين له أنه من الأمر الحلال
فيُقدِم أو من الأمر الحرام فيحجم.
قوله
r:
(فقد استبرأ لدينه وعرضه) أما استبراء
الدين فهو من جهة الله جلَّ وعلا حيث إنه إذا استبرأ فقد أتى ما يجب عليه متوقف
فيها فلا يقدم عليها لأنها ربما كانت حرامًا، فإذا أقدم عليها باء بالوزر والإثم
والعذاب، فمن توقف عن الحلال المشتبه أو عن الحرام المشتبه فقد استبرأ للدين؛ لأنه
ربما واقع فصار حرامًا وهو لا يدري.
ولا
شك أن الإنسان لأن يتوقف في أمر حلال مشتبه خير له من أن يُقدم عليه ثم يتبين بعد
ذلك أنَّه من الأمر الحرام.
مسألة: هل يقال هنا إذا كان لا يدري فهو معذور قد
يأتي إنسان ويطرح هذه المسألة فيقول هذا الإنسان الآن اشتبه عليه هذا الفعل الذي
هو حلال لم يتبين أو حرام لم يتبين؛ بمعنى من الأمور المشتبهات فقد يقول قائل:
لعله يفعل ثم هو بعد ذلك معذور لعدم علمه ولجهله؟
الجواب أن
نقول: أنت غير معذور في مثل هذه المسألة لماذا؟ لأنه يجب عليه أن يتوقف حتى يتبين
له حكم هذه المسألة؛ لأنه من المكلفين فينبغي عليه ألا يعمل عملًا إلا بأمرٍ من الشرع،
فلهذا قال r: (فقد استبرأ
لدينه)، والاستبراء للدين أنه إذا لم يتبين له بيانًا واضحًا حل هذا الأمر
فلا يُقدم بل يحجم، ولا يقل أو يقال عنه بأنك معذور فافعلْ.
وأمَّا
قوله r: (وعرضه) أي: استبرأ لدينه وعرضه؛ فلأنه في أهل
الإيمان؛ أي لأن هذا الإنسان وهذا العبد في أهل الإيمان، فمن أقدم على الأمور
المشتبهات فإنه قد يقع فيها، قد يتكلم فيه لأنه قليل الديانة، وقد يوقع فيه لأنه
لمن يستبرئ لدينه، أيضًا أصبح لم يستبرئ لعرضه، فإنه إذا ترك مواقعة المشتبهات
استبرأ لعرضه، وفي هذا حثٌّ على أنَّ المرء لا يأتي ما يُعاب عليه في عرضه، فالمرء
يرعى حال إخوانه المؤمنين ونظرة إخوانه المؤمنين إليه، ولا يأتي بشيءٍ ويقول: أنا
لا أهتم بقول أهل الإيمان، لا أهتم بقول أهل العلم، لا أهتم بقول طلبة العلم؛ فإن
استبراء العرض حتى لا يوقع فيه أمرٌ مطلوبٌ دلَّ عليه هذا الحديث وغيره.
إذًا
الاستبراء للعرض يكون بتجنُّب هذه المشتبهات حتى لا يوقع في الكلام في هذا الإنسان
الذي وقع في فعل الأمر المشتبه بالحلال البين الحرام ولا الحرام البين،
وقد ورد في الأثر: «إيَّاك وما يشار إليه بالأصابع» يعني من أهل الإيمان؛ حيث
ينتقدون على العامل عمله فيما لم يوافق فيه الشريعة.
بعد
ذلك قال r: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)
هنا (وقع في الحرام) فُسِّرت بتفسيرين:
1-
الحرام الذي هو أحد الجانبين الذي اشتبه عليه بينها؛ لأن
فيه جانب حلال وجانب حرام، هذا الأمر الذي اشتبه على الإنسان قد يكون حلال وقد
يكون حرام؛ الجهة التي في الحرام قد يفسر قوله: (وقع
في الحرام) بهذا الجانب الذي هو أقرب إليه، فمن وقع في الشبهات وقع في
الحرام الذي هو أحد الجهتين أو لشدة مقاربته للحرام فإنه صُوِّر كأنه واقع فيه؛
فإن الذي يقع في الشبهات يؤدي به ذلك إلى مواقعة الحرام كما مثَّل r
بقوله: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)
هذا هو التفسير الأول.
2-
وفُسِّر الحرام بأنه وقع في أمر محرَّم بمعنى أنه لم
يستبرئ لدينه ولا لعرضه كما حثَّه r
بأن يتوقف في ذلك؛ حيث وقع في شيء لم يعلم حكمه وليس المقصود بهذه الكلمة المسائل
التي يستحب تركُها ورعًا لأنه r
قال:(ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام).
ثم
بعد ذلك مثَّل النبي r
لذلك بقوله: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع
فيه).الراعي يكون معه شيءٌ من الماشية، والماشية من طبيعتها أنها في
بعض الأحيان تخرج من مجموعة الماشية وتذهب بعيدًا، فإذا قارب حمى محمية مثلًا أرض
محمية لصدقة أو محمية في ملك إنسان أو ما أشبه ذلك، فإن مقاربته بماشيته للحمى لا
بدَّ أن يحصل اشتباه عليه ويأخذ من حقِّ غيره.
وهذا
تمثيلٌ عظيم منه r
في قوله: (فإنَّ حمى الله محارمه) وما هو
داخل هذا الحمى فهو الدين، وهذه المحارم حمى، فمن قارب فلا بد أن يحصل منه مرة أن
يتوسع فيدخل في الحرام -عياذًا بالله من ذلك- حتى في الأمور التي يكون عنده فيها
علم أو فيها بعض تردد.
قوله
r
بعد ذلك: (ألا وإنَّ لكل ملك حمى، ألا وإنَّ حمى
الله محارمه)، فحمى الله محارمه، بها يقوَّى دينُ المرء، فهذا الحديث
واضحُ الدلالة في أنَّ من قارب الحمى، من قارب المحرمات، من قارب الحُرمات؛ فإن
يوشك أن يقع في المحرم من جراء تساهله.
نفهم
من هذا الحديث: أن الحلال بينٌ واضح، والحرام بينٌ واضح، والمشتبهات ذكرنا تعريفها
وحكمها وتقسيمات الكلام عليها، وأنَّه يجب على المسلم ألا يأتي شيئًا إلا وهو يعلم
حكمه، وإذا لم يعلم فليسأل أهل الذكر؛ فتكون إذًا المسألة مشتبهة عليه ويزول
الاشتباه بسؤال أهل العلم، فإن بقيت مشتبهة على أهل العلم فإنه يتوقف معهم حتى
يعلم ذلك.
وهناك
مسائل في الأحكام ليست مشتبهة لكونها تبع الأصل في جريان القواعد عليها ودخولها
ضمن الدليل؛ فإذًا المسائل التي اختلف فيها العلماء لا تدخلهن هذا الحديث من جهة
كونها مشتبهة، بل نقول: هذه مسائل اختلف فيها أهل العلم رحمهم الله.
وهذا
هو الذي فهمه العلماءُ من هذا الحديث، وهو أن الخروج من خلاف العلماء مستحب، فإذا
اختلفوا في مسألة فالخروج من خلافهم إلى متيقن مستحب، وهذا صحيح باعتبارات، وفي
بعض تطبيقاته قبل أن يكون صحيحًا في تفاصيل معلومة عند طلبة العلم.
وأما
قوله r
بعد ذلك: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد
كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) هذا فيه أن صلاح القلب
الذي هو معدن الإيمان، به يكون التورع، به يكون التوقف عن الشبهات، به يكون
الإقدام على المحرمات، وهذا راجعٌ إلى القلب، والقلبُ إذا صلح صلح الجسد كله في
تصرفاته، وإذا فسد فسد الجسدُ كله.
قال
r:
(ألا وإنَّ في الجسد مضغة) وهو القلب من
حيث إدراك المعلومات، هو الذي يدركن فعند المحققين من أهل العلم والذي تدل عليه
نصوص الكتاب والسُّنة أن هذا معلَّق بالقلب؛ يعني حصول الإدراكات والعلوم والصلاح
والفساد والنيات إلى آخره، كل ذلك معلق بالقلب.
وإذا
كان كذلك فما وظيفة الدماغ أو المخ الذي جميعنا نعرفه، إذا قلنا: إن المدركات
والعلوم والصلاح والفساد والنيات جميع ذلك مرده ومآله ومعرفته من جهة القلب؛ إذًا
ما فائدة وما وظيفة المخ والدماغ وغيرها؟
نقول: وظيفته الامداد وهذا على قول المحققين من أهل
العلم، فاختلفوا في العقل هل هو في القلب أم في الرأس؟
الصحيحُ أنه
في القلب؛ والعقل ليس جرمًا وإنما المقصود به إدراك المعقولات، وأما الدماغ وما هو
في الرأس فهي وسيلة تمد القلب بالإدراكات؛ إنما هي
القلب، ولهذا كان r
يقول في دعائه المشهور: (اللهم يا مقلب القلوب ثبِّت
قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرِّف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك)
فالإنسانُ مدارُ صلاحه وفساده على القلب، ولهذا علينا أن نعتني بصلاح قلوبنا،
فصلاح الظواهر وأعمال الجوارح طيبٌ ومأمور به شرعًا؛ ولكن الشأن كل الشأن في صلاح
القلب؛ فالله تعالى يقول عن المنافقين: ﴿وإذا رأيتهم
تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم﴾ أي:
هيئتهم الحسنة وحُسن عمل جوارحهم، وإذا قالوا: قولاً لم تسمع لهم من حسنه وزخرفته،
ولكن مع ذلك كله قلوبهم خربة -والعياذ بالله- كما قال سبحانه: ﴿كأنهم خشب مسندة﴾ أي: ليس فيها خير.
إذًا
عبد الله اعتني بصلاح قلبك، وانظرْ قلبك هل فيه شيء من الشر؟ هل فيه شيء من كراهة
ما أُنزل؟ هل فيه شيء من الميل إلى الكفار؟ هل فيه شيء من موالاة الكفار؟ هل فيه
شيء من الحسد؟ هل فيه شيء من الغل؟ هل فيه شيء من الحقد؟ هل فيه...؟ وهل فيه...؟
أو غير ذلك من الأمراض العظيمة الكثيرة؛ فإذا كان فيه من ذلك فطهِّرْ قلبك من هذا
وأصلحه؛ فإن المدار على هذه المضغة وهي القلب، كما قلنا بأنها إذا صلحت صلح الجسدُ
كله، وإذا فسدت فسد الجسدُ كله.
نعم ولا تكره شريعة الله جلَّ وعلا، لا تكره عباد
الله الصالحين، لا تكره أيَّ شيء مما أنزل الله جلَّ وعلا؛ فإن كراهتك لشيء مما
أنزل الله كفر به سبحانه ودليل على عدم إيمانك، ودليل أيضًا على الإيمان لم يتمكن
من قلبك.
المحاضرة
السادسة
هذا
الحديث في الأحكام
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ r وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ
مِنَ الْعَرَبِ فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ r: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ
إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ U" ؟ فَقَالَ: وَاللَّهُ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ
الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ, فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ, وَلَوْ مَنَعُونِي
عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى
مَنْعِهَا, قَالَ عُمَرُ t: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ
أَبِي بَكْرٍ t, فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ)متفق عليه؛
أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، كلاهما من طريق عقيل بن خالد،
عن الزهري قال: أخبرني عبيد الله قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن
مسعود، عن أبي هريرة t به.
معاني
مفردات هذا الحديث:
قوله r: (عناقًا)،
العناق: هو ولد الشاة الصغير، وجاء في بعض روايات هذا
الحديث: (عَقَالًا)
–بالفتح- ومعناه: نصيب الزكاة في السَّنة، وفي رواية أخرى: (عِقَالًا) –بالكسر-
ومعناه: الحبل الذي يكون في عنق البعيرة يُعقل به حتى لا ينهض قائمًا.
هذا
الحديث هو في باب تأكيد وجوب الزكاة وبيانها ومعناه أن الصحابة
رضوان الله عنهم أجمعين بعد موت النبي r
اتفقوا على أنَّ الخليفة من بعده أبو بكر t، وارتد من ارتد من العرب، والعياذُ بالله،
وقد أشار إلى ذلك ربُّنا جلَّ وعلا في قوله: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ﴾
فهؤلاء الذين ارتدوا منعوا الزكاة وكفروا بالله؛ فقاتلهم أبو بكر t، فحاوره عند ذلك عمرُ بن الخطاب t، وكان مما قال له في محاورته إيَّاه: كيف
تقاتل الناس وقد قال النبي r:
(أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)
وهذا هو الذي سمعه عمر t من النبي r،
فاحتجَّ على أبي بكر وحاوره بما نَمَا إليه علمه عن المصطفى r؛
وإلا فإن ابنه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-
قد سمع أكثر مما سمعه أبوه عمر t في هذا الحديث وفي غيره؛ لأن
ابن عمر رضي الله عنهما سمع النبي r
يقول: (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا
رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة)، لكن أباه عمر t روى
ما سمع، وهو الانتهاء عند قوله: (حتى يقولوا: لا إله
إلا الله) ولم ينم إلى علمه بعد ذلك أنه r
قال: (وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا
الزكاة)؛ فقال أبو بكر t لعمر لما احتجَّ عليه بهذا
الحديث: واللهِ لأقاتلن من فرَّق بين الزكاة والصلاة، الزكاة حقُّ المال، واللهِ
لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى النبي r
لقاتلتهم عليه.
وفي هذا دليلٌ
على حزم أبي بكر الصديق t؛ مع أننا جميعًا نعرف أنه من ألين وأرأف وأرحم
الصحابة ، وهو أيضًا ألين من عمر لكنه t في مواقف الشدة والضيق يكون أبو بكرt أحزم وأصلب من عمر ولعلنا
نضرب لذلك أمثلةً حتى يتبين هذا الأمر.
المثال الأول هو هذا الحديث الذي معنا :
عمر t رأى
ألا يُقاتل الناس؛ لكنه بعد مراجعة أبي بكر t علم
أنه الحق؛ لما رأى أن الله جلَّ وعلا قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فهذا موقف صار
فيه أبو بكر t أجلد من عمر وأشد وأثبت.
مثال آخر: لما مات النبي r
أظلمت المدينة واضطرب الناس، وصار يومًا عظيمًا واجتمع الناسُ في المسجد، فقام
فيهم عمر وقال:
إن النبي r لم يمت ولكنه غُشِي عليه وليبعثنه الله
فليقطعنَّ أيدي رجال وأرجلهم وكان أبو بكر حينما توفي النبي r
خارج ا لمدينة في حائط له، فذهبوا إليه وأخبروه، فجاء إلى النبي r
وكشف عن وجهه وقبَّله وقال: بأبي أنت وأمي، طبت حيًّا وميتًا، واللهِ لا يجمع الله
عليك موتتين؛ أمَّا الموتة الأولى فقد متها، ثم خرج إلى الناس؛ فإذا بعمر يتكلم
ينكر ويقول: ما مات r؛
وإنما غُشي عليه وليبعثنه الله.
عند
ذلك قام أبو بكر t فقال: على رسلك يا عمر، فجلس
عمرُ t
أو
بقى قائمًا، فصعد أبو بكر t المنبر وخطب الناس خطبةً عظيمة
بليغة في هذا المقام الضنك الذي كثير من الصحابة لم يتمالك نفسه؛ فمنهم من لم يطق
حتى مجرد القيام، فقال t:
أمَّا بعدُ، أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ومن كان يعبد الله
فإن الله حي لا يموت سبحانه، ثم تلا قوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾ وقوله سبحانه:
﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ
يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا﴾.يقول عمر t: حتى عثرتُ فما تقلني قدماي -يعني رجلاه لا
يقدر أن يقف؛ فجلس t
لأنه
علم أن هذا هو الحق.
الموضع الثالث
هو في صلح الحديبية؛ في تلك الشروط التي اشترطت على
المسلمين وكان ظاهرها أن فيها غضاضة عليهم ومنها: أن من جاء من قريش مسلمًا ردَّه
النبي r إلى قريش؛ ومن ذهب من المسلمين إلى قريش فلا
يلزمهم ردُّه، هذا الشرط عجز عمرُ t
عن
قبوله ولم يقدر على ذلك، فقال: يا رسول الله، كيف مَن خرج منهم مسلمًا وجاء
مهاجرًا إلينا نرده؛ ومن ذهب منا لا يردونه؟ كيف نعطي الدنية في ديننا؟ ألسنا على
الحق وعدونا على الباطل؟ قال: (بلى؛ لكن هذا أمر
الله، وأنا عبد الله ورسوله، ولن أعصي الله وسينصرنا الله عزَّ وجلَّ)؛
فذهب عمرُ إلى أبي بكر -رضي الله عنهما- يستنجد به لعله يشير على النبي r
بعدم الموافقة.
فكان
جواب أبي بكر t كجواب النبي r
حرفًا بحرفٍ. قال t:
إنه لرسول الله، وإن الله ناصره، فاستمسك بغرزه .
والفائدة من
هذا الحديث في هذا الباب أن من امتنع عن دفع الزكاة وجبَ على الإمام قتاله حتى
يؤدي الزكاة، قال القاضي عياض رحمه الله: كان أهل الردة ثلاثة أصناف؛ صنف كفر
بعد إسلامه وعاد لجاهليته واتبع مسيلمة والعنسي وصدَّق بهما
وصنف أقرَّ بالإسلام إلا الزكاة فجحدها
وتأول بعضهم أن ذلك كان خاصًّا للنبي r
لقوله سبحانه: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾
فقال: هذه الآية هي أمرٌ له r
فهي خاصة به؛ فهم تأولوا وجحدوا هذه الزكاة فيكونون كفار كحال سابقيهم، وصنف
اعترف بوجوبها ولكنه امتنع من دفعها إلى أبي بكر t وقال:
إنما كان قبضها للنبي r
خاصة لا لغيره، وفرَّقوا صدقاتهم بأيديهم.
قوله r: (أُمِرتُ)
في أول هذا الحديث، الأمر له هو الله جلَّ
جلاله، وفي هذا دليلٌ على أن النبي r عبدٌ مأمورٌ مكلف؛ يأُمر وينهى،
كما يُؤمر وينهى سائر الناس؛ لأنه عبد من عباد الله عليه الصلاة والسلام؛ ليس
ربًّا ولا يملك شيئًا من حقوق الربوبية؛ بل هو عبد يُؤمر ويُنهَى، ومن ذلك أمره في
هذا الحديث، بل ربما يحصل له أكبر من ذلك وأعظم؛ لقوله جلَّ وعلا في آية التوبة: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾ فقد يُعاتب زيادةً على الأمر والنهي -قد يعاتب
صلوات ربي وسلامه عليه وكقوله جلَّ وعلا: ﴿ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ
أَزْوَاجِكَ ۚ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
يعاتبه
ربه سبحانه ويقول له: ﴿ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى
النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾ فمَن زعم
أنَّ محمدًا r
له شيء من الربوبية وأنه ينفع ويضر، ويجيب الدعوة، ويكشف السوء؛ فقد أشرك بالله وكفر بمحمدٍ r.
قوله: (أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن
محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة)
يقاتل من امتنع عن واحدة من هذه الأربع، حتى يذعنوا ويرضخوا لها، فإذا فعلوا ذلك؛
بمعنى أن شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأقاموا الصلاة وآتوا
الزكاة؛ إذا أتوا بهذه الأمور الأربعة (عصموا مني
دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عزَّ وجلَّ)، يعني: إذا
فعلوا ذلك فقد استسلموا ظاهرًا، فيعصمون دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله؛ لأنَّ
من الناس من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيم الصلاة ويؤتي
الزكاة؛ ولكن قلبه منطوٍ على الكفر، ولهذا قال r
في آخر هذه الجملة: (وحسابهم على الله)؛
فالمنافقون يقولون: لا إله إلا الله؛ لكن لا يذكرون الله إلا قليلًا، وأيضًا يأتون
بالصلاة؛ ولكن لا يأتون الصلاة إلا وهم كُسالى، ويقولون للنبي r:
﴿ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ ويتصدقون؛ لكن لا ينفقون إلا وهم كارهون؛ ومع ذلك
قلوبهم منطوية على الكفر، نسأل الله العافية، ولهذا قال: (وحسابهم على الله جلَّ وعلا) إشارة إلى أنَّ مَن
أتى بالشهادتين وصلَّى وزكَّى في ظاهر أمره ليس لك إلا هذا الظاهر تعامله على
ظاهره، فإن كان باطنه خلاف ظاهره ليس لك ذلك؛ وإنما حسابه على ربه جلَّ وعلا، وهذا
هو حال المنافقين ومن شابههم إلى أن تقوم الساعة.
أخيرًا
أيها الإخوة في الحديث من الفوائد:
أولًا:
قوله: (أُمرتُ) النبي r
الذي يأمره وينهاه هو ربُّه I؛
وأما الصحابي إذا قال: أُمرنا بكذا أو نُهينا عن كذا، فالآمر والناهي لهم هو رسول
الله r.
الفائدة
الثانية: لما توفي r
واستخلف أبو بكر t وارتد من ارتد من العرب وامتنع
من امتنع من دفع الزكاة، عزم أبو بكر t على قتالهم؛ بناءً على أن من
حقِّ الشهادتين: أداء الزكاة، ولم يكن عنده الحديث بإضافة الصلاة والزكاة إلى
الشهادتين كما في هذا الحديث، أو عمر t
لم
يكن عنده ذلك؛ فناظره عمرُ في ذلك، قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله -في الفتح: وقد
استبعد قومٌ صحة هذا الحديث بأن الحديث لو كان عند ابن عمر t لما
ترك أباه ينازع أبو بكر t في قتال مانعي الزكاة، ولو
كانوا يعرفونه -أي لو كان الصحابة -رضي الله عنهم- يعرفونه- لما كان أبو بكر يقر
عمر على الاستدلال بقوله r:
(أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا
الله) وينتقل عن الاستدلال -أي أبو بكر- ينتقل عن الاستدلال بهذا النص
إلى قياس؛ إذ قال: لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة؛ لأنها قرينة الزكاة في
كتاب الله جلَّ وعلا.
الجواب / أنه لا يلزم
من كون الحديث المذكور عند ابن عمر أن يكون ابن عمر -رضي الله عنهما- حضر تلك
الحادثة، ثم لو كان حضر، قد يكون لم يستحضر هذا الحديث في تلك المناظرة، ثم أيضًا
لا يمتنع أن يكون ذَكَرَه لهما بعد ذلك ولم يستدل
أبو بكر في قتال مانعي الزكاة بالقياس فقط بل أخذه أيضًا من قوله r
في الحديث: (إلا بحقِّ الإسلام) قال أبو
بكر: والزكاة حقُّ الإسلام.
ثم
أيضًا إن ابن عمر لم ينفرد بهذا الحديث بل تابعه على ذلك أبو هريرة كما هو في حديث
الباب، وتبعه أيضًا غيره على ذلك.
أخيرًا /
يستثنى من عموم مقاتلة مانع الزكاة في هذا الحديث أهل الكتاب إذا دفعوا الجزية
لدلالة كتاب الله جلَّ وعلا، وأما غيرهم إذا دفعوها وغيرهم إذا دفعها لدلالة السنة
على ذلك كما في حديث بريدة الطويل: كان النبي r
إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين
خيرًا.
لذلك
لا بدَّ أن نتثبت إذا بلغنا حديث أو بلغتنا آية وفهمنا منها فهمًا أن نتثبت وأن
نعرضه على غيرنا من أهل العلم حتى نكون على صوابٍ من هذا الفهم.
المحاضرة
السابعة
عن
عبد الله بن مسعود t
قال:
قال النبي r: (نَضَّرَ
اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ
يَسْمَعْهَا, فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ, وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ
إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ, ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ
مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ, وَالنَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ
الْمُسْلِمِينَ, وَاللُّزُومُ لِجَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ مُحِيطَةٌ
مِنْ وَرَائِهِمْ.)
تخريج
الحديث: أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة والحميدي من طريق
عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه عبد الله بن مسعود t
وجاء
في رواية هذا الحديث في اللفظ الأول بلفظ آخر: (نَضَّر
الله) وجاء برواية: (نَضَرَ الله)
والروايتان صحيحتان، وهي من النضارة، وهي نعمة وحسنة.
معاني
المفردات:
(نضر الله) قال
الخطابي رحمه الله: دعا له بالنضارة وهي النعمة يُقال: نضر -بالتشديد والتخفيف
وهو أجود؛ أي: بالتخفيف (نَضَرَ) أجود من
التشديد (نَضَّرَ)، وإن كان اشتهر على
ألسنة المحدِّثين أنَّ التشديد هو الأكثر.
قال:
وفي النهاية -أي في نهاية غريب الحديث والأثر- يروى بالتشديد والتخفيف من النضارة
وهي في الأصل حُسن الوجه والبريق، وأراد حسن قدره، وقيل: روي مخففًا، وأكثر
المحدثين يقول بالتثقيل، والأول الصواب أي: بالتخفيف أكثر وأفضل وأجود وأحسن،
والمراد من هذه اللفظة أي: ألبسه الله النضرة؛ وهي الحُسن وخلوص اللون؛ أي
جَمَّلَه وزَيَّنه وأوصله الله إلى نضرة الجنة؛ أي: نعيمها ونضارتها.
ولهذا
نرى نضارة وجوه أهل السُّنة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله - في كتابه
الاستقامة: ووجوه أهل السُّنة كلَّما تقدمت بهم العمر تزداد نضارةً ووضاءةً، ووجوه
أهل البدعة كلما تقدَّمت بهم السن تزداد قبحًا وظلمًا حتى بلغنا بالتواتر أنَّ
بعضهم يُمْسَخ كوجه خنزيرٍ أو قردٍ أو كلبٍ. اهـ
مسائل
الحديث:
قوله r: (نَضَّر الله امرأ سمع مقالتي)
في هذه الجملة التثبت من النقل في أخبار النبي r؛
حتى تنسب حديثًا إلى رسول الله r
لا بدَّ أن تتثبت أنَّه ثَبَتَ عنه r
وصحَّ، حتى يجوز لك أن تنقله وتنسبه له r.
أمَّا
إذا لم تكن متثبتًا من صحته عنه r
فلا تنه ولا تنسبه إليه؛ ولكن لك أن تقول: يروى كذا وكذا أو يقال كذا وكذا؛ ولكن
لا تجزم بصحته إلى رسول الله r
إلا إذا علمت ذلك علمًا بينًا واضحًا.
قوله: (فوعاها فحفظها)
فيه أن الانتفاع بالعلم لا يكمل إلا بالعمل به وبفهمه؛ وهذا الفهم إمَّا بالسؤال أو
بالبحث في كلام أهل العلم حتى تعلم وتفهم وتعي ما سمعته عن رسول
الله r
لا بدَّ لك أن تفهم هذا الكلام.
هذا
الفهم لا بدَّ أن يحصل لك من جهات ومن طرق عدة، من أوضحها ومن أسهلها سؤال أهل
العلم الموجودين في عصرك، فتسألهم عن هذا الحديث وهذه الجملة من الحديث فيبينوا لك
أن معناها كيت وكيت، أو أن تذهب فتبحث في كتب أهل العلم عن معنى هذا الحديث حتى
يتبين لك معناه وفهمه على الوجه المراد.
قوله r: (وبلَّغها) في هذه الجملة فضل
تبليغ العلم وفضل الدعوة إلى الله جلَّ وعلا، وأن من مهام
طالب العلم أن يَعْلَم ويعمل ويدعو ويصبر، أربع مراتب ينبغي للمسلم عمومًا ولطالب
العلم خاصةً أن يفهمها ويعرفها ويطبقها؛ ولهذا
جاء في المسائل لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: اعلمْ رحمك الله أنَّه
يجب علينا تعلم أربع مسائل:
الأولى:
العلم؛ وهي معرفة الله ومعرفة رسوله r ومعرفة دِين الإسلام بالأدلة.
الثانية:
العمل به.
الثالثة:
الدعوة إليه.
الرابعة:
الصبر على الأذى فيه.
واستدل بقوله
جلَّ وعلا: ﴿وَالْعَصْرِ% إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي
خُسْرٍ﴾ وبهذه المراتب الأربع يكمل لطالب العلم المبتغى
المراد.
قوله بعد ذلك: (فرب حامل
فقه غير فقيه) هذه الجملة بمنزلة التعليل لما يفهم
من الحديث أنَّ التبليغ مطلوب، لماذا؟ كأنَّ هذه الجملة للتعليل (فرب حامل فقه غير فقيه).
وفيه
أنَّ مجرد حفظ النصوص لا يكفي؛ مجرد العلم فقط والمعرفة فقط وحفظ الأحاديث فقط،
هذه وإن كانت خيرًا كثيرًا ومطلبًا إلا أنها لا تكفي؛ فبعض الناس كالوعاء الحافظ
يسرد الأحاديث سردًا؛ لكن لا يفقه معانيها، وهو مع أنه مشكورٌ مأجورٌ -إن شاء
الله- إذا لم يتجاوز إلى ما ليس له به علم؛ لكن علينا الحث على التزود من فهم هذه
الأحاديث.
وقوله r: (ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)
فيه فضلُ نشر هذا العلم، وأنَّ من فوائد نشرالعلم أن يكون المبلَّغُ مفيدًا
للمبلِّغ؛ فقد تحفظ حديثًا أيها الإنسان من سنين عددًا، ثم
إذا قرأه أو سمعه عند أحد ربما يذكر ذلك الشخص فوائد لم نكن نعلمها من قبل ذلك
الوقت.
بعد ذلك قال r: (ثلاثٌ لا يُغَل عليهنَّ قلب المسلم)
روي (يُغَل)، وروي (يُغِل)
وروي (يَغِل) وجميع هذه الألفاظ الثلاث صحيح.
ومعناها
تدور حول: لا يكون في قلبك حقدٌ ولا شر ولا خيانة، وهذه الثلاث المشار إليها في
قوله r:
(ثلاث لا يغل) هذه الثلاث خصال:
الخصلة
الأولى: إخلاص العمل لله؛ فالشر أن يكون في الإخلاص رياء وحب
ظهور، أو أن يكون العمل لغير الله جلَّ وعلا بالكلية .
الخصلة
الثانية: النصح لأئمة المسلمين؛ والناس وهي مسألة أئمة المسلمين والولاة على أقسام ثلاثة:
القسم الأول:
فقومٌ لا هَمَّ لهم إلا القدح في هؤلاء الولاة والأئمة صباح
مساء حتى لو أحسن الولاة ذَمَّهم هؤلاء الناس؛ بل وجعلوا إحسانهم بقصد الشرِّ، ولو
أساء الولاة ازدادوا في النقد والذم.
القسم الثاني:
هم من لا همَّ له إلا المدح؛ مدح هؤلاء الولاة، إن أساء
الولاة وأخطئوا التمسوا ألف عذر وبرأهم، وإن أحسنوا بالغ في مدحهم، وهذان الصنفان
والأمران نقيضان وعلى طرفي نقيض.
إذًا المنهج
الحق: هو لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ المنهج الحق هو منهج أهل السُّنة والجماعة:
عدم الحقد وعدم تمني الشر لهم؛ بل الفرح بخيرهم والبغض لشرهم مع السعي بالأساليب
الشرعية لإصلاح الخلل؛ أمَّا التهييج والتحريش وإشاعة
الفوضى، فهذا لا يأتي إلا بالشر ولا يأتي بخير، ولهذا نجد أهل العلم وأهل السُّنة
يركزون على هذا الأمر لعظم خطر التفريط فيه.
ولذلك
نجد كتب أهل السُّنة قاطبة العَقَدية وغيرها لا يكاد يخلو منها كتاب من ذكر حقوق
ولاة الأمور على رعيتهم، وأنهم لا بدَّ أن يصبروا حتى على مسيئهم كما قال r:
(ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك) هذا الكلام منه
r
لم يأت عبثًا وإنما فيه بيانُ وعظمُ منزلة هؤلاء الأئمة علينا على الرعية بعامة،
فلا بد أن نفرح بخيرهم، وأن نستر على عيوبهم، وأن نسلك الأساليب الشرعية لإصلاح
الخلل والعوج الذي لديهم.
أمَّا
ما يحدث في عصورنا -هذه المتأخرة- من مثل التهييج والتحريش وإشاعة الفوضى
بالمظاهرات والكتابات والمنشورات، فهذا كله خلاف منهج أهل السُّنة والجماعة في
الإصلاح، بل لا يأتي إلا بالشر وليس فيه خير ألبتة.
يقول
شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله -في معرض هذا الكلام: الحقُّ حقان؛ حقٌّ لله
جلَّ وعلا وحقٌّ للعباد؛ فحقُّ الله جلَّ وعلا إفراده بالعبادة، وحقُّ العباد
ينقسم إلى قسمين: حقٌّ خاص، وحقٌّ عام؛ الحقُّ الخاص لكل أنت مع أولادك وأهل بيتك
وجيرانك، والحقُّ العام حقٌّ للولاة الرعاة، حقوق الولاة: أن تلزم فيهم النصَّ
الشرعيَّ، المناصحة الشرعية؛ بالمكاتبة، بالمهاتفة، بالزيارة، بإبلاغ أهل العلم،
بالدعاء لهم إلى غير ذلك من الطرق والأساليب الشرعية التي سلكها الأئمة والعلماء
من قبلنا ممن هم على طريق أهل السُّنة والجماعة.
يقولُ الإمام
البربهاري: إذا رأيت الرجل يدعو إلى للسلطان فاعلمْ أنَّه صاحب سُنَّة.لماذا؟
لأنه امتثل منهج أهل السُّنة والجماعة
في هذا الأمر؛ لم يبغ عليهم ولم يخرج عليهم ولم يحرش ولم يهيج،
وإنما سلك السبيل السوي المستقيم بالدعاء لهم في ظاهر الغيب بالصلاح والإصلاح.
قال: وإذا
رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلمْ أنَّه صاحب بدعة. لماذا؟
لأنَّ أهل البدع هذه طرائقم وهذه سبلهم
وهذه أساليبهم؛ من شدة غيظهم وحقدهم وحنقهم على هؤلاء الولاة
الذين يُصلح الله جلَّ وعلا بهم أكثر مما يفسدون -من شدة بغضهم وحقدهم عليهم يدعو
عليهم ليل نهار، بل لا يكاد لسانه يفتر عن ذمهم وشتمهم وسبهم وقدحهم والكلام في
أعراضهم.
لذلك
أصبح كلام البربهاري- رحمه الله -هذا كالقاعدة وكالمنار الذي يُضيء لنا الطريق
ويعلو ويفصح لنا عن هؤلاء الناس المتكلمين، نعرف بهذا المقياس من هو على السُّنة
ومن هو على خلاف السنة؛ إذا وجدنا الرجل يدعو للسلطان ولا يذكره إلا بخير، وأما
عيوبه وخلله فيحاول بالطرق الشرعية أن يسلكها لإصلاح الخلل والعوج الذي يقع فيهم،
وهو مع ذلك في حال صلاحهم وفي حال خللهم يدعو لهم في ظاهر الغيب بالصلاح؛ لأنه
بصلاحهم يكون صلاح للرعية وصلاح لأمر الدين كله.
ومع
الأسف الشديد تأتي أحاديث كثيرة يجتمع فيها ذكرُ الإخلاص لله جلَّ وعلا والنصح
للأئمة المسلمين ولزوم الجماعة؛ فنجد عند كثيرٍ من الناس أنَّ خصلة الولاة تُبخس
من حقها، وهذا من الجهل، فأنت أيها العبدُ تتقرب إلى الله جلَّ وعلا بأن هذه
النصوص هي نصوص شرعية؛ إمَّا من كتاب الله وإمَّا من سُنة رسول الله r،
لا تقدح ولا تمدح، ولكن اجعل الشرع ميزان الأمور كلها وشاهد لفرعها وأصلها، واتركْ
عاطفتك وحماسك الغير منضبط لا بكتاب ولا سُنة على جانب، وَحَكِّمْ في نفسك قبل كل
شيء كتاب الله جلَّ وعلا وسُنة رسول الله r
على فهم سلف الأمة؛ لا على فهمك أو فهم مشايخك الذين يحثونك على فعل مثل هذه
الأمور المنكرة التي هي خلاف السبيل والسُّنة.
فإذا
كنت من أهل السنة والجماعة وتزعم أنك مُتَّبِع ولست مبتدعًا، اجعلْ هذا النص الذي
اقترن فيه ذكر الإخلاص وذكر مناصحة الولاة وذكر لزوم الجماعة اجعلها على حدٍّ
سواء، فكما تحرص في عملك أن يكون خالصًا لله فاحرص على الخصلة الثانية أن يكون
نصحك لولاة الأمور بالطرق والأساليب الشرعية التي بينها قبلنا أئمةُ السنة
وعلماؤهم، رحم الله الجميع.
وطالبُ
العلم يرى أهل السنة: الإمام أحمد- رحمه
الله -مثلًا يُجلد، وترفع المبتدعةُ راية الاعتزال وتُجبر الأمة كلها على القول
بخلق القرآن، فرفع الإمامُ أحمد- رحمه الله -رأسه لهذه الفتنة وأخمدها اللهُ جلَّ
وعلا على يديه ويدي إخوانه معه؛ ومع هذا لو أشار- رحمه الله -بيده لقام أهلُ بغداد
كلهم؛ ولكن هذا الإمام الفذ -الإمام أحمد إمام أهل السنة والجماعة- ينطلق من نصوص
الكتاب والسُّنة؛ فتنة تعاقب عليها ثلاثة: المأمون، ثم المعتصم ثم الواثق، وأطفأها
الله جلَّ وعلا بالمتوكل فكان هذا الإمام يدعو للسلطان وهو يعذِّبه ويعلم أنه ملبس
عليه.
ثم أيضًا
العداء للولاة فيه مضار ثلاث:
الأولى:
مخالفة المنهج الشرعي في النصح.
الثانية: هو
يُفْرِح أهل الباطل وبطانة السوء على أهل الخير بتسليط السلطان عليهم.
الثالثة: عدم
قبول السلطان للنصح أو لأكثره ؛ لكن الأسلوب الشرعي إنْ استجاب
لك الوالي فله ولك، وإن لم يستجب فلك وعليه.
أخيرًا الخصلة الثالثة: لزوم جماعة المسلمين؛
فإن دعوتهم تحيط مِن ورائهم، وفي لفظ: (مَن وراءهم)
(مَن) منصوبة بمعنى الذي؛ الذي وراءهم.
والمعنى:
أنَّ دعوة جماعة المسلمين تكون كالسور مَن لزمه فهو محفوظ بحفظ الله له، ولزوم
جماعتهم فيه حثُّ الإسلام على الاجتماع والتحذير من أسباب الفرقة والاختلاف.
وقوله:
(ثلاث) هذا يشعر بالتلازم بين هذه الثلاثة
الأمور كلها.
المحاضرة الثامنة
هذا الحديث في باب العقائد
حديث عبد الله بن مسعود t , قال: لما
نزلت: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يَلْبِسوا إيمانهمْ بِظُلْمٍ ﴾ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ فقال:"لَيْسَ
ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ, أَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى مَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ
وَهُوَ يَعِظُهُ: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ
لِابْنِهِ وَهوَ يَعِظُه يَا بُنَيَّ لَا تُشْركْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْك
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ .خرجه البخاري ومسلم
من طريق الأعمش عن إبراهيم بن علقمة عن عبد الله بن مسعود .
إشكال
في نص هذا الحديث وجوابه:
إذا تأملنا روايات هذا الحديث الواردة عند
البخاري- رحمه الله -نجد أنه خرجه في ثمانية مواضع في ثلاثة منها جاء الحديث بهذا
اللفظ؛ قال: (لما نزلت: ﴿وَلَمْ يَلْبِسوا
إيمانهمْ بِظُلْمٍ﴾
قال أصحابه: وأينا لم يظلم؟ فنزلت: ﴿إِنَّ
الشِّرْك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾)، وهذا إذا تأملناه يدل على أن مشقة الصحابة عن تحمل
أعباء تكليف آية: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسوا إيمانهمْ بِظُلْمٍ ﴾ كان سببا لنزول آية: ﴿إِنَّ
الشِّرْك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ ، وذلك لقوله: (فنزلت) قال: (فلما نزلت:
﴿وَلَمْ
يَلْبِسوا إيمانهمْ بِظُلْمٍ ﴾ شق ذلك على الصحابة فقالوا: وأينا لم يظلم
نفسه؟ فنزلت), الفاء هنا تفيد التعقيب,
والمعنى أن نزول: ﴿إِنَّ الشِّرْك لَظُلْمٌ
عَظِيمٌ﴾ جاء بعد نزول
آية: ﴿وَلَمْ
يَلْبِسوا إيمانهمْ بِظُلْمٍ ﴾ وهذه
المواضع الثلاثة عند البخاري في صحيحه في كتاب تفسير القرآن باب: ﴿وَلَمْ
يَلْبِسوا إيمانهمْ بِظُلْمٍ ﴾،
وفي كتاب الإيمان, باب ظلم دون ظلم, وفي كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله تعالى:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحكْمَةَ
أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ﴾.
وأما المواضع الخمسة الأخرى التي خرج
البخاري هذا الحديث فيها، فجاء فيها الحديث بلفظ: (لما نزلت ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يَلْبِسوا إيمانهمْ بِظُلْمٍ ﴾
قلنا: يا رسول الله, أينا لا يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون ﴿وَلَمْ يَلْبِسوا إيمانهمْ
بِظُلْمٍ ﴾ بشرك, أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تُشْركْ
بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾؟).
ويُفهم من هذا السياق أن آية لقمان: ﴿إِنَّ الشِّرْك لَظُلْمٌ
عَظِيمٌ﴾ كان سابقة
النزول وكانت معلومة للصحابة -رضي الله عنهم-
عندما نزلت: ﴿وَلَمْ يَلْبِسوا
إيمانهمْ بِظُلْمٍ ﴾؛
لأنه قال في هذه الرواية: (أولم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تُشْركْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْك
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾؟) ومن المعلوم أن
هذا الفهم المستنبط من هذه الرواية الخمس المواضع يغاير ويخالف ويناقض الفهم الأول
الذي استنبط وفهمناه من الثلاثة المواضع الأخرى .
إذًا نقول ظاهر
هذه الروايات تعارض وتناقض؛ حيث إن
الروايات الأولى الثلاثة تدل على أن نزول آية لقمان: ﴿إِنَّ الشِّرْك لَظُلْمٌ
عَظِيمٌ﴾ جاء
بعد نزول آية الأنعام ﴿وَلَمْ يَلْبِسوا إيمانهمْ بِظُلْمٍ﴾ بدليل قوله: (فنزلت) بينما ظاهر
الروايات الأخرى الخمس الأخيرة يدل على أن آية سورة لقمان: ﴿إِنَّ الشِّرْك
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ كان نزولها قبل نزول آية سورة الأنعام: ﴿وَلَمْ يَلْبِسوا
إيمانهمْ بِظُلْمٍ ﴾
حيث كانت معلومة لصحابة -رضي الله عنهم- قبله بدليل قوله r: (أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه؟)
إلى آخر الحديث.
هذا الإشكال وهذا الفهم المتغاير بين
هذه الروايات حاول الحافظ ابن حجر- رحمه الله -التوفيق بين هذه الروايات فقال: "ظاهر
أن الآية التي في لقمان كانت معلومة عندهم -أي عند الصحابة- ولذلك نبههم النبي r عليها على
الفهم الذي استنبطناه من الخمس المواضع الثانية المتأخرة، ويُحتمل أن يكون نزولها
وقع في الحال فتلاها عليهم ثم نبههم فتلتئم الروايات". اهـ
معنى كلام ابن حجر في هذا التوفيق
يقول: إن آية سورة لقمان كانت معلومة للصحابة -رضي الله عنهم- قبل، ولم تكن كالفهم
الذي فهم من الثلاثة روايات, في قوله: (فنزلت آية: ﴿إِنَّ الشِّرْك
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾) ، وإنما هي كانت نزلت قبل ذلك, وكانت معلومة للصحابة
بدليل r قوله: (أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه؟)
إذًا هنا في
قوله في تلك الرواية (فنزلت) ليس المراد هنا أنها أن الفاء هنا لتعقيب أنها نزلت بعد
ذلك إنما هي للحكاية؛ أن تلك الآية
نزلت وهي بالفعل نزلت ولكن نريد أن يُلحظهم وأن ينتبهوا لتلك الآية حتى يفسروا
الظلم بما جاء فيها؛ لأن الشرك هو الظلم
المراد، قال: ويُحتمل أن يكون نزولها وقع في الحال، فعندما شق ذلك على الصحابة
وأتوا إلى الرسول r نزلت آية: ﴿إِنَّ الشِّرْك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ فتلاها
عليهم مباشرة r, قال ابن حجر: فتلتئم بذلك الروايات, ولا يكون بينها تعارض ولا
تناقض ولا اختلاف.
المسألة
الثالثة: وهي الفهم والمصحح لهذا الفهم؛ فالحديث عن هذه المسألة سيكون على
ثلاث جهات:
الجهة الأولى: لا إشكال في الفهم الوارد على النفس؛ إن المعاني
الواردة على العقل لا تثريب عليها؛ لأنه ليس من قدرة المرء رد مثل هذه الفهوم عن
نفسه, فإذا ظهر له معنًى ما لجملة من القرآن أو جملة من السنة، فإن فهمه هذا قد
يكون صحيحًا و قد يكون خطأ وهو لا تثريب عليه في هذا الفهم الذي أنقدح في ذهنه.
ولذلك
إن العلماء -رحمهم الله- قسموا التفسير إلى قسمين وإلى نوعين:
1-
تفسير
محمود 2-
تفسير مذموم .
أما
النوع الأول / وهو التفسير أو الرأي المحمود قالوا: ذلك إذا كان مستندًا إلى علم
يقي صحابه الوقوع في الخطأ, ويمكن أن
نستنبط أدلة على جواز القول بالرأي المحمود من هذه الأدلة تلك الآيات
التي جاء فيها الأمر بالتدبر، نجد أن الله جل وعلا في غير في كتابه I يأمرنا
بالتفكير والتدبر في هذا القرآن العظيم, من ذلك قوله:I ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقرآن أَمْ
عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ وقوله:I ﴿كِتَابٌ أَنْزلْنَاه إِلَيْك
مبَاركٌ لِيَدَّبَّرُوا آياته وَلِيَتَذَكر أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ وغيرها
كثير في كتاب الله, وفي حث الله جل وعلا على التدبر في مثل هذه الآيات والتفكر ما يدل على أن علينا معرفة تأويل ما لم
يحجب عنا تأويله.
لماذا
نقول هذا الكلام؟ لأنه محال أن يُقال لمن لا يفهم: اعتبر بما لا فهم لك به, مادام
أن الله جل وعلا أمرنا بالتفكر والتدبر فلا بد أن نتفكر ونتدبر ونستنبط ونفهم حتى
ولو بفهمنا القاصر مراد الله جل وعلا بما أنزل إلينا, ولا شك أن ما يظهر لنا من
الفهم إنما هو اجتهادنا الذي بلغه علمنا ورأينا الذي وصلنا إليه, إذن الرأي
المحمود الذي يكون عن علم يقي صاحبه الخطأ ولا تثريب عليه حتى ولو كان فيما
بعد هذا الفهم الأولي للنص من الكتاب أو السنة لو كان خطأ بعد ذلك.
من الأدلة التي تدل على أن الرأي المحمود لا بد منه ولا
بد أن يجتهد الإنسان من السنة حديث الباب الذي معنا, فلاحظوا الصحابة -رضوان الله عليهم- لما سمعوا قول الله
جل وعلا: ﴿وَلَمْ يَلْبِسوا إيمانهمْ
بِظُلْمٍ﴾ اجتهدوا في تفسير هذه الآية لفهمهم ولما لديهم من علم
بلغة العرب ونحو ذلك, حتى إنه لا يبعد وليس بعيدًا ولا مستغربًا ولا مستهجنًا أن
يُقال: إن تفسير القرآن بالرأي نشأ في عهد النبي r أخذًا من
مثل هذا الحديث ونحوه.
في ذلك وقائع يمكن استنباط هذه المسألة
منها, من هذه الوقائع حديث الباب هذا الذي معنا الصحابة -رضي الله عنهم- قلنا:
فهموا عموم الآية وأن كل من لم يظلم نفسه له الأمن ومن ظلم نفسه فليس له الأمن،
وذلك الذي لو الأمن هو مهتد, وفهموا أن كلمة الظلم التي جاءت نكرة في سياق النفي هي
على العموم كما قرر هذا الأمر بعد ذلك جمهور الأصوليين وكما فهمها الصحابة -رضوان
الله عليهم- ولكن هذا العموم استشكل على الصحابة -رضي الله عنهم- فلم تقبله أنفسهم
لما أحسوا أن فيه مشقة عليهم, عند ذلك سألوا رسول الله r وسؤالهم كان
بسبب تعارض وجد عندهم بين الآية وبين المشقة التي سيتعرضون لها, وهو مستقر عندهم
أن هذا الدين لا يأتي بمثل هذه المشقة، بل إن الله جل وعلا يغفر الذنوب سبحانه
ويستر العيوب فكيف ينفي عنهم الأمن العام والاهتداء العام؟
الجهة الثانية: النبي r هو مرجع الصحابة المصحح لفهمهم، فكانوا إذا شكل عليهم شيء من القرآن سألوه r, ولم يكن قد نهاهم عن سلوك هذا السبيل، بل أرشدهم إلى
معنى الآية .
خلاصة الكلام عن هذه الجهة الثانية هي أن الصحابة -رضي الله عنهم-
كانوا يفهمون كتاب الله؛ لأنهم عرب فصحاء, فإذا أشكل عليهم فهم شيء من كتاب الله
لا يبادرون بمجرد فهمهم فيقولون بالمعنى والفحوى لهذا الفهم، بل يبادرون بسؤال
المصطفى r عن هذه الآية أو عن هذا الأمر هل فهمهم هذا كان صوابًا أم خطأ، أو
يعرضون عليه الإشكال ثم هو r يصحح ويبين ويُقيم هذه الأفهام لهم، إذن هو r المرجع الذي
يصحح أفهام الصحابة.
الجهة الثالثة: غير الصحابة المصحح لأفهامهم هم أهل الذكر أهل العلم، فبعد عصر الصحابة من وردت عليه
بعض المعاني فإنه يرجح إلى أهل العلم ليدلوه على صحة ما فهمه من خطئه، ولا يكون
كبعض الناس الذين ينشرون آراءهم للناس على أنها صواب فيتقلدون من غريب الأقوال ما
تضحك له العقول، وهذا يعني أن المرحلة الأولى وهي وورد المعاني على العقل لا يُعاب
المرء على ذلك، وإنما يُعاب عليه نشر ما يرد عليه من المعنى والاستنباطات وتدينه
له دون الرجوع إلى أهل العلم للتثبت من هذه الواردات عليه؛ فالرجوع لهم يميز
الصحيح من الضعيف.
المسألة
الرابعة: مصادر التفسير والكلام عن هذه المسألة سيكون بإذن الله في خمس جهات:
الجهة الأولى:
المفسر الأول/ إن أول مفسر هو
القرآن وأولى من يرجع إليه في تفسير القرآن هو
النبي r الذي أنزل
عليه القرآن فهو المبين لكلام ربه سبحانه كما قال جل وعلا: ﴿وَأَنْزلْنَا إِلَيْك الذِّكْر
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاس مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ فهو المبين لهذا الأمر المنزل وهو القرآن الكريم؛
فالرجوع إليه أصل من أصول التفسير، ومصادر تفسير القرآن بالقرآن عند التأمل
يظهر أنها أربعة:
الأول: وهو الذي
يخصنا التفسير النبوي، وهو أعلى مصادر تفسير القرآن بالقرآن ومن
أمثلته هذا الحديث الذي معنا وهو حديث الباب؛ فهو r فسر القرآن
بالقرآن وجاءنا ذلك عن طريق الحديث, فسر قوله I: ﴿وَلَمْ يَلْبِسوا إيمانهمْ
بِظُلْمٍ ﴾ فسر الظلم في هذه ا لآية بالآية الأخرى الواردة في سورة
لقمان: ﴿إِنَّ الشِّرْك لَظُلْمٌ
عَظِيمٌ﴾ ففسر الظلم بالشرك فسر القرآن بالقرآن .
قال الزركشي- رحمه الله -:"فحمل
النبي r الظلم هنا على الشرك لمقابلته بالإيمان واستأنس عليه بقول لقمان.",
أيضًا من أمثلة تفسير القرآن بالقرآن الذي ورد في الحديث ما خرجه البخاري- رحمه
الله -في كتاب تفسير القرآن من حديث أبي سعيد بن المعلى أن النبي r قال: (﴿الْحَمْدُ
لِلَّهِ ربِّ الْعَالَمِينَ﴾ هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أُوتيته)
وهذا إشارة وتفسير منه r إلى آية الحجر وهي قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاك سبْعًا
مِنَ الْمَثَانِي وَالْقرآن الْعَظِيمَ﴾ ففسر السبع المثاني والقرآن العظيم بسورة الفاتحة في قوله: (﴿الْحَمْدُ
لِلَّهِ ربِّ الْعَالَمِينَ﴾ هي
السبع المثاني والقرآن العظيم) ، وقد اصطلح شيخ الإسلام ابن
تيمية- رحمه الله -على تسميتها بطرق التفسير وذكر منها أربعة وهي: القرآن الكريم والسنة النبوية وأقوال الصحابة
وأقوال التابعين في التفسير, بل جعلها بدر الدين الزركشي مآخذ التفسير وذكر أمهاتها وهي أربع
فقال: النقل عن رسول الله r, ثم
الأخذ بقول الصحابة, ثم الأخذ بمطلق اللغة, ثم التفسير بالمقتضى من معنى الكلام
والمقتضب من قوة.
إذًا هل كل ما قيل فيه تفسير القرآن بالقرآن أن
النبي r هو المرجع في بيان القرآن؟ التفسير النبوي للقرآن إن التفسير على
هذه الأمور الأربعة التي جاءت في كلام أهل العلم تفسير القرآن بالقرآن وأعلى هذا
التفسير أن يرد في كلام النبيr؛ لأنه كما نعرف جميعًا أن هناك آيات تفسر بعضها بعضًا ولم يأت في حديث ما إشارة
إليها أو إلى نحوها، فنقول: إن تفسير القرآن بالقرآن أولى أمثلته و أعلى أمثلته
الذي يأتي في كلامهr فيكون هو الذي بين وأشار إلى تفسير هذه الآية بتلك الآية الأخرى.
أو يكون التفسير جاء بالحديث النبوي في
السنة النبوية من غير إشارة إلى أن هذا التفسير جاء في آية أخرى في كلام الله جل
وعلا، أو يكون هذا التفسير تفسير هذه الآية جاء في كلام صحابة رسول اللهr كأن يأتي
أحد الصحابة يأتي قول عن أحد الصحابة فيفسر معنى آية من الآيات كما في قوله جل وعلا: ﴿وَجَاهِدْهمْ بِهِ جِهَادًا كبِيرًا﴾ فسر
ابن عباس t هذا الجهاد قال: أي بالقرآن تعلمون جميعًا أن لفظة الجهاد إذا
أطلقت في كتابr ينصرف الذهن إلى القتال قتال الكفار باليد والسنان والسيف، لكن في
بعض في بعض الآيات يحال هذا المعنى إلى
معنى آخر بدليل وبقرينة، من هذه المواضع من هذه الأمثلة التي جاء فيها لفظ الجهاد
ويكون غير مراد به القتال أنه القرآن فيما قال ابن عباس: أي القرآن.
المحاضرة التاسعة
المسألة الرابعة:
في الجهة الثانية: منها وهي التفسير بالرأي وأن ذلك بدأ في عصر نبيناr.
فنقول: إن الاجتهاد في فهم القرآن
العظيم كان سابقًا فكان في عهد النبي r؛ وذلك لأن الصحابة -رضوان
الله عليهم- اجتهدوا في فهم معنى الظلم الواقع في آية الأنعام وحملوه على العموم،
ولم يمنعهم r من أن يفهموا القرآن بآرائهم؛ لأنهم لما استمعوا لتلك الآية
فسروها برأيهم وكما قلنا من قبل هذا الرأي محمود؛ لأنه سبقه علم بلغة العرب وعلم
بمعاني تلك الألفاظ، ولو كان سلوك الصحابة في تفسيرهم لمثل هذه الآية خطأ لنبههم
عليه r .
نقول: فلما لم يقع التنبه عليه في هذا
الأثر وغيره كان في ذلك دلالة على صحة هذا الأسلوب، الصحابة -رضي الله عنهم-
فسروا هذه الآية بالرأي وغيرها كثير يأتي في القرآن وفي السنة يفهمونه من نص
للكتاب أو من نص السنة ما يجتهدون فيه برأيهم إما بلغتهم أو بما يكون استعمال
العرب بتلك الألفاظ في مثل ذلك السياق أو نحو ذلك.
فإن
كان الفهم خطأ نبههم r إلى خطأ الفهم ولم ينبههم r إلى طريق الاستدلال وطريق الفهم خطأ من دل
على أن السبيل والطريق في تفسير الآية أو الحديث بالرأي الذي يسبق علم لا إشكال فيه
والله أعلم وكما قلت أن التفسير بالرأي بدأ في عصر النبي r دليله هذا الحديث الذي معنا وغيره.
الجهة الثالثة:
اللفظ العام يحمل على عمومه وهذا أصل في
أخبار الله جل وعلا وكذا في أحكامه وفي أحاديث رسول الله، فهي تُحمل على العموم دل على ذلك أدلة كثيرة من القرآن والسنة.
لنضرب مثالًا على ما هو معنا من حديث
ابن مسعود على أن اللفظ العام يحمل على عمومه إلا إذا أتى ما يقيده؛ فالصحابة -رضي
الله عنهم- لما فهموا من لفظة الظلم التي وردت في الحديث أنها على عمومها لأنها
كما تقدم نكرة في سياق النفي لما لم يكن العموم في النداء المقصود نبههم على ذلك r وأرشدهم إلى
المعنى المراد إذن الأصل حمل اللفظ العام على عمومه، فإن كان يراد به غير العموم
هنا جيء ونبه وأرشد المستمتع إلى غير ذلك الأصل؛ فالصحابة رضوان الله عليهم أخذوا
بعموم لفظة الظلم، وهذا دليل على أنهم يرون أن ألفاظ القرآن على عمومها إن جاءت
عامة والأخذ بعموم اللفظ جاء عند الصحابة -رضي الله عنهم- ؛ذلك لأن اللفظ
العام قد يدخله التخصيص فلا يبقى عمومه إذا دل على ذلك دليل؛ إما في الدليل نفسه
كقرينة، أو في دليل آخر.
الجهة الرابعة:
اللغة العربية مصدر من مصادر التفسير، فهي
مصدر من مصادر تفسير كلام الله جل وعلا وكلام النبي r والدليل على
ذلك أدلة كثيرة منها هذا الحديث نفسه أن الصحابة -رضي الله عنهم- فهموا معنى للظلم
الوارد في الآية على ما يعلمونه من لغتهم لغة العرب ولم يصحح لهم النبي r هذا المعنى،
مما دل بل مما أكد على أنه هو المراد أي أن المعنى الذي يُفهم من اللغة العربية
بلفظة الظلم هي المراد في الأصل وعند الإطلاق.
ولو كان لهذا المعنى إضافة شرعية أو
تقييدات لبينها المصطفى r، ولما لم يكن ذلك موجودا دل على صحة هذا الطريق وهو تفسير الآية
باللغة العربية وبما يفهم مناها في الصحابة t كانوا كثيرا
ما يرجعون إلى المعروف من لغتهم في فهم آية القرآن وأحاديث المصطفى r ففسروا كما
في هذه الآية فسروا الظلم بما يعرفونه من لغتهم -رضي الله عنهم- وهي اللغة
العربية، وهذا دليل واضح على ما نحن بصدده.
الجهة الخامسة:
في المسألة الرابعة والأخيرة: القرآن الكريم مصدر من مصادر التفسير بل هو أولها
وأولاها؛ فالقرآن وتفسير القرآن بالقرآن طريق صحيح معتبر نص على
ذلك هذا الحديث، بيانه أنهr لما استشكل الصحابة آية الأنعام فقالوا: ﴿وَلَمْ يَلْبِسوا إيمانهمْ
بِظُلْمٍ﴾ وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فسرr الظلم في
هذه الآية بآية أخرى وهي آية لقمان فقال: إن الظلم المراد في آية الأنعام هو الظلم
المراد في آية لقمان لما قال الله Iعلى لسان لقمان: ﴿إِنَّ الشِّرْك لَظُلْمٌ
عَظِيمٌ﴾ فالمراد بالظلم في آية الأنعام الشرك لا الظلم العام
المتبادر إلى ذهن كل عربي فصيح.
المسألة الخامسة
والأخيرة: وهي مشكل القرآن وجوده وبيانه،
والحديث عن هذه المسألة سوف يكون على ثلاث جهات:
الجهة الأولى: وقوع المشكل في القرآن العظيم، فوقوع الإشكال والمشكل في القرآن كان قديما منذ عهد
الصحابة إبان وجودهم في عهده وعصرr، وهذا النوع من المشكل الذي مر معنا في مثل هذا الحديث في آية
الأنعام وغيره عند الصحابة لما يستشكلوا ويبين لهم النبيr هذا الإشكال
هو من المتشابه النسبي لأن المتشابه في
القرآن أيها الإخوة على قسمين: متشابه كلي، ومتشابه نسبي.
القسم الأول: المتشابه
الكلي: هو الذي يستأثر الله جل وعلا بعلمه فلا يطلع عليه أي
أحد من الناس لا من العلماء ولا من الصحابة ولا غيرهم فإذا لم يعلم معنى هذه الآية
ومعنى هذه اللفظ إلا الله جل وعلا ولا تأويله إلا الله قلنا: إن هذا من المتشابه
الكلي الذي لا يعلمه إلا الله كما قال سبحانه في آل عمران: ﴿ وَمَا يَعْلَم تَأْوِيلَه إِلَّا اللَّه ﴾ فهذا من المتشابه الكلي.
القسم الثاني:
المتشابه النسبي: وهذا القسم المتشابه هو في مثل ما
نحن بصدده يكون المتشابه على بعض الناس ويعلمه أناس آخرون؛ فالتشابه في هذه الآية
وقع هذا الإشكال للصحابة فبينه لهمr بين لهم المعنى المراد، وهو أن الظلم هو الشرك، فإذن له هذا من
المتشابه النسبي لا الكلي فهو دليل على وقوع المشكل والمتشابه في آيات القرآن.
الجهة الثانية: حرص الصحابة على معرفة القرآن الكريم هذا الحديث يدل دلالة واضحة على حرصهم على تفهم معاني
القرآن بدلالة قوله: شق ذلك على المسلمين فإذا أشكل عليهم منه شيء سأل النبي r مما دل على
أنهم كانوا حريصين كل الحرص على تعلم معاني هذا القرآن.
الجهة الثالثة: تدارس الصحابة لمعاني القرآن، وفي هذا أيضًا الحديث دليل على أنهم -رضي الله عنهم-
كانوا يتدارسون القرآن ويتدارسون معانيه بدلالة قوله: شق ذلك على الصحابة، فلما
تدارسوه شق عليهم سألوا عن النبي r فبين r ذلك الإشكال وأوضحه لهم بتفسير آية الأنعام بآية لقمان.
إذًا الخلاصة : نبينا r كان في أغلب
أحواله وأكثرها يبتدئ الصحابة -رضي الله عنهم- بتعليمهم فلا ينتظر حتى يستشكلوا
ويسألوه وهنا في أغلب الأحيان r كما في حديث البخاري: (إن مثل
المؤمن كمثل شجرة) إلى آخر الحديث وغير ذلك.
وأنه كان يصلي الفجر فيقول: أيكم رأى
البارحة أو الليلة رؤيا وهكذا، ولكن في بعض الأحايين الصحابة -رضي الله عنهم-
يسألون النبيr عن معنى آية أو معنى أمر فيجيبهم عن ذلك ويزيل الإشكال الذي لديهم
وكل ذلك حرصًا منr على تعليم الصحابة وكما جاء في الحديث أنهr لما مات
النبي ما مات حتى ترك هذه الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها
إلا هالك.
المحاضرة العاشرة
هذا الحديث في باب الآداب
حديث أبي هريرة t أن النبيr قال: (يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى
قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ
يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ فَإِنِ اسْتَيْقَظَ
فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ
فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ
وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ.) أخرجه
البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه
وغيرهم أيضًا جميعهم من طريق أبي الزناد عن الأعرج عبد الرحمن بن هرمز عن أبي
هريرة رضي الله عنه, فالحديث صحيح بتخريج البخاري ومسلم في صحيحيهما له.
المعنى العام من هذا الحديث /
هذا الحديث يبين أن الشيطان يحرص على
أن يحول يبن العبد وبين قيامه بعبادة ربه جل وعلا ولقد أقسم على إغواء بني آدم
فقال: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي
لَأَقْعُدَنَّ لَهمْ صِراطَك الْمسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهمْ مِنْ
بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ إيمانهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ
وَلَا تَجِدُ أَكْثَرهمْ شَاكِرينَ﴾ ، قال: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهمْ صِراطَك الْمسْتَقِيمَ﴾ .
وهذا قسم منه أنه سوف يحرص
جهده على إغواء بني آدم حتى لا يقوموا
بعبادتك حق العبادة، حتى إنه كان يتفنن
ولا يزال في تزيين الكسل والخمول لمن يعتزم عبادة الله جل وعلا، ويثبط العزائم
ويستدرج وبخاصة عند نوم العبد، ليجتمع له مع إغوائه في هذا النوم شهوة النفس
وميلها إلى النوم مع إغواء هذا الشيطان الرجيم الذي نعوذ بالله منه.
فإذا أراد المسلم أن يصلي لله جل وعلا
قبل أن ينام جاءه فوسوس له وأتاه من زاوية الحق الذي يريد به الباطل فيقول له
مثلًا: قيام الثلث الأخير من الليل أفضل من قيام أوله فنم ثم قم، ويؤكد له القدرة
على قيامه بل ويقسم له أن ذلك سيكون، وأنه
من السهل اليسير حتى إذا نام العبد ولم يصل أثقل أذنيه حتى لا يسمع صوتًا
موقظًا أو منبهًا، وأوثق تغميض عينيه وعقد على عقله ثلاث عقد ليغلق عنه اليقظة
والانتباه.
فإذا ما أفلت المسلم من هذا الحصار
المنيع وتقلب في فراشه واستحضر في نفسه الرغبة في أداء الصلاة جاءه الشيطان فخدعه
مرة أخرى، وقال له: نم ما زال الليل طويلًا نم قليلًا ثم قم، فإذا ما استجاب لهذا
الإغواء فنام ثم تيقظ عاوده الشيطان أخرى بالخدعة نفسها شيئًا فشيئًا ومرة بعد
أخرى ويعده ويمنيه وما يعده الشيطان إلا غرورًا, كما قال ربنا جل وعلا حتى إذا ما
فات وقت الصلاة وضاعت الفرصة على العبد وتحقق الشيطان ما أراد بال في أذنيه:﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا
قُضِيَ الْأمر إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ
فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سلْطَانٍ إِلَّا أَنْ
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومونِي وَلُوموا أَنْفُسكُمْ ﴾
يقول ذلك سخرية منه واستهزاء هذا هو معنى الحديث بعامة وهو أن
الإنسان والعبد كلما أراد أن يصلي لله جل وعلا أو يتعبد الله جل وعلا بأي أنواع
العبادة يأتيه الشيطان الرجيم من باب الحق الذي يريد به الباطل فيثبطه ويكسله
ويثني عزيمته حتى لا يقوم بهذه العبادة التي تغيظ الشيطان الرجيم.
فمثل صلاة الليل إذا أراد الإنسان أن
يصلي في أول الليل قبل أن ينام جاءه من باب أنك لو نمت وقمت في آخر الليل في الثلث
الأخير لكان أولى لأنها الساعة التي ينزل فيها الرب تبارك وتعالى، وليس كذلك نصحًا
لهذا العبد وإنما حتى يترك الصلاة فينام على أمل أن يقوم في الثلث الأخير من الليل
.
فإذا تحقق للشيطان هذا الأمر فنام
الإنسان أثقله وثبطه وبال في أذنيه حتى لا يقوم البتة، ويفوت عليه قيام الليل فإن
قيام الليل في أثناء الليل عاوده بالحجة نفسها فقال: نم فما زال الليل طويلًا ثم
قم بعد ذلك استرح قليلًا نم قليلا فإن جسمك لا لا يزال متعبًا ما زال في الوقت
فسحة وخذ قسطًا من الراحة حتى تتقوى بذلك على العبادة وعلى الطاعة، وهلم جرا
وشيئًا فشيئًا إلى أن يطلع أو يخرج الفجر ويفوت وقت صلاة الليل. هذا هو المعنى
المراد العام بهذا الحديث.
بعد ذلك مسائل هذا الحديث وفوائده:
في قوله: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم) قوله: (قافية)
قافية الرأس هي مؤخره وهي إشارة إلى المخ ومركز الإدراك والتعقل وقافية كل شيء
مؤخره، ومن ذلك قافية القصيدة،
قوله: (أحدكم)
الخطاب فيه للتعميم في المخاطبين ومن في معناهم، ولكن يخص بهذا العموم الأنبياء
ومن قيل فيهم: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْس لَك عَلَيْهِمْ سلْطَانٌ﴾.
هذا الحديث: (يعقد
الشيطان على قافية رأس أحدكم) أي على جميعكم لأن أحدكم هنا مراد منها العموم إلا ما استثني من
قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْس لَك عَلَيْهِمْ سلْطَانٌ﴾، وأيضًا الأنبياء فلا يمكن للشيطان من هذه العقد على
رءوس الأنبياء r.
إذًا اللفظ في الحديث عام يشمل كل أحد إلا صنفين وهم
النبيون والمرسلون ومن يشملهم قول الله جل وعلا: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْس لَك عَلَيْهِمْ سلْطَانٌ﴾ أي من عباده المتقين المفلحين.
قوله: (إذا هو نام)
أي إذا هو نام بدون صلاة، هكذا قيد الإمام
البخاري ، ويرى جمهور شرَّاح الحديث أن
الشيطان يعقد على رأس ما صلى ومن لم يصل بمعنى أن هذا العقد يكون للجميع ولكن
من صلى بعد ذلك تنحل عقده بخلاف من لم يصل. إذًا تفسير (إذا هو نام) وهذه العقد على قولين: الجمهور على قول أنها عامة
لكل أحد من صلى ومن لم يصل، ولكن الإمام البخاري قيد ذلك من قام دون أن يصلي.
قوله: (ويضرب مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد) هذا في رواية البخاري (يضرب
مكان كل عقدة) أي يضرب بيده على العقد تأكيدا وإحكامًا لها قائلا: عليك
ليل طويل؛ فالضرب حقيقي وقيل: إن للكلام أي إن هذا الضرب وقول الشيطان كناية عن
أحكام الوسوسة وإتيانها والإيحاء للنائم بطول الوقت.
فتفسير هذه
العقد على قولين:
القول الأول: إما أن يكون هذا الكلام وهذا الضرب من الشيطان
الرجيم على حقيقته هي عقد على
الحقيقية، وقول الشيطان حقيقة أو كما قال بعض أهل العلم أن ذلك ليس حقيقة إنما هو
كناية عن أحكام الوسواس وإتيان الشيطان وإيحائه للعبد النائم، وقد اختلف العلماء
رحمهم الله في هذه العقد كما قلت قيل: هو على الحقيقة وأنه كما يعقد الساحر لمن يسحره فيأخذ الخيط فيعقد
عليه عقدا وهو يتكلم عليه بالسحر والطلاسم والشعوذة فيتأثر بذلك المسحور ومن ذلك
قوله جل وعلا: ﴿وَمِنْ شَر النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾
فالمقصود شيء عن قافية الرأس نفسها، هل العقد في شعر الرأس أو في
غيره؟ هذه العقد وهذا العقد الذي يقوم به الشيطان إذا قلنا: إنه حقيقة هل هو في
شعر الرأس أو في غيره؟ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: الأقرب الثاني أي أنه ليس في
شعر الرأس، وإنما في غيره بمعنى في شعر وفي غيره إذ ليس كل أحد له شعر، إذن هذا القول
الأول يقولون: إن هذه العقد، وأن هذا العقد من الشيطان.
وهذا القول: (عليك ليل طويل فارقد) من الشيطان هو على حقيقته
وهو تمامًا كما يفعل الساحر عندما يعقد هذه العقد يتمتم ويطلسم ويشعوذ عليها من
عند نفسه، وهذه العقد ليست في شعر الرأس فحسب، وإنما هي في شعر الرأس وفي غيره كما
استدل ابن حجر ؛ لأن ليس كل أحد منا له
شعر في رأسه.
القول الثاني: قالوا إن هذا
التعبير كناية وتصوير لوساوس الشيطان وتزيينه وتغريره بطول الوقت، وانحلال
العقد أيضًا هو كناية عن مكافحة الشيطان ودفع وساوسه والمقصود به كون العقد ثلاثا
تقوية الإغواء فكأنه إغواء وإغواء وإغواء.
بعد ذلك قوله: (عليك ليل طويل)
للرفع مبتدأ مؤخر، وقوله: (عليك) خبر
مقدم وفي رواية: (عليك ليلًا طويلًا) بالنصب
على أن عليك اسم فعل بمعنى ألزم ومراد الشيطان من هذه العبارة تسويفه بالقيام
والإلباس عليه، إذ ربما لو طلب منه عدم القيام كليًا لدفع المؤمن ذلك وهذه
المكيدة، أما أن يستدرجه شيئًا فشيئًا فقد ينخدع المؤمن، فكأنه يقول له: قم بعد
قليل فما زال الليل طويل قم بعد ذلك قم بعد قليل ونحو هذه العبارات، فبهذا
الاستدراج يصل الشيطان الرجيم إلى ما يريد.
قوله بعد ذلك: (فأصبح نشيطًا طيب النفس)
، وهذا النشاط وهذا الطيب بالنفس لسرور العبد لما وفقه الله جل وعلا من طاعته
ووهبه من ثوابه مع ما يبارك له في نفسه وتصرفه في كل أموره وسروره بالثواب الموعود
وسروره بإحباط كيد الشيطان وتثبيطه، وبانشراح صدره من ربه جل وعل، إذا استيقظ
العبد فذكر الله انحلت العقدة الأولى، ثم توضأ بعد ذلك فانحلت العقدة الثانية، ثم
صلى بعد ذلك انحلت العقدة الثالثة و بها تنحل العقد كلها. يصبح العبد نشيطًا طيب
النفس، فرحا بتقوية الله له وبإعانته له حتى قام بحل الثلاثة العقد كلها وبدحر
الشيطان وإحباط كيده وتثبيطه.
قوله: (وإلا)
أي وأن لم يقم يتوضأ ويصلي، والمعنى تنحل كل العقد الثلاث، لو لم يأت بالثلاث كلها
أو أتى ببعضها وترك البعض بقى خبيث النفس كسلان، لكنه يختلف عمن لم يأت بشيء منها
بالقوة والضعف.
المراد بهذا أن من لم يذكر الله، ولم
يتوضأ ولم يصل لم تنحل ولا واحدة من تلك العقد فيصبح خبيث النفس كسلان، فهو على
درجة أحسن منه حالًا من ذكر الله ولكنه لم يتوضأ ولم يصل فانحلت عقدة واحدة فقط،
فهل يصبح خبيث النفس كسلان أيضًا، لكنه أحسن حالًا من ذلك الذي لم تنحل منه ولا
عقدة واحدة، وهكذا كلما ازداد انحلال العقد كلما خف خبث النفس والكسل عن العبد.
قوله: (وأصبح خبيث النفس كسلان) معنى فيه لما عليه من عقد الشيطان، خبث النفس والكسل
جاء نتيجة لما عليه من عقد الشيطان وتثبيطه واستيلائه مع أنه لم يزل ذلك عنه ،
فظاهر الحديث أن من لم يجمع بين الأمور الثلاثة وهي الذكر والوضوء والصلاة؛ فهو
داخل فيمن يصبح خبيث النفس كسلان؛ ولفظة كسلان كلنا يعرف أنها ممنوعة من الصرف
للوصفية وزيادة الألف والنون.
الفوائد التي تستنبط من هذا الحديث:
1- فضل صلاة الليل,
وقد ادعى ابن العربي أن البخاري- رحمه الله -أومأ إلى وجوب صلاة الليل من هذا
الحديث لقوله لم خرج الحديث بوبه عليه بقوله: باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا
لم يصل الليل، قال الحافظ ابن حجر: ولم أر النقل في القول بإيجابه إلا عن بعض
التابعين والذي عليه جماعة العلماء أنه مندوب إليه؛ فصلاة الليل مندوب إليها وليست
واجبة.
2- الحث على ذكر الله جل وعلا عند الاستيقاظ وفي صيغة أحاديث كثيرة مشهورة جمعها الإمام النووي- رحمه
الله -ويتعلق بذلك في كتابه الأذكار قال: "ولا يتعين لهذه الفضيلة ذكر لكن
الأذكار المأثورة فيه أفضل".
3- الحث على الوضوء عند القيام من النوم؛ لأنه إذا قام الإنسان وتوضأ تنحل بهذا الوضوء العقدة
الثانية في ذلك حث على التوضؤ عند الاستيقاظ من النوم.
4- أخذ بعضهم من قوله: (عليك
ليل طويل) اختصاص العقد بنوم الليل، وهو كذلك لكن لا يعد أن مجيء مثله في
نوم النهار ولا يستبعد ذلك حتى ولو قلنا: إن ذلك مختص بنوم الليل.
5- أخذ بعضهم من طلب النوم لحل العقدة أن التيمم لمن ساغ
له لا يقوم مقام الوضوء؛ فالإنسان الذي يستطيع التوضؤ ليس له أن يتيمم؛ لأن في
الوضوء معاناة تعين على طرد النوم.
فالإنسان الذي ليس له عذر في الوضوء ثم
يذهب إلى التيمم على هذا القول لا تنحل بهذا التيمم تلك العقدة الثانية؛ لأن في التيمم ما في الوضوء من المعاناة والقيام
والذهاب والماء ونحو ذلك مما يطرد تبعا ذلك النوم، والحق الذي عليه الأكثر إجزاء
التيمم كما يجزئ الغسل للجنب فذكر الوضوء للغالب كما في الحديث.
فخلاصة هذا الكلام:
أن بعض أهل العلم قال: إن التيمم لا
يقوم مقام الوضوء في حل العقدة الثانية ونظروا إلى أن التيمم ليس فيه معاناة كما
في التوضؤ من الذهاب إلى الماء وما يحدث بعد ذلك من النشاط ومن وطرد النوم.ولكن
أغلب وأكثر أهل العلم قالوا بأن التيمم يقوم مقام الوضوء في هذه الحالة كما يجزئ
الغسل أيضًا للجنب في ذلك فإذا توضأ الإنسان أو إذا تيمم تنحل العقدة الثانية بإذن
الله.
إشكال في الحديث وحله :
كلنا
يحفظ حديث أبي هريرة هذا وهو أن الشيطان يعقد على قافية رأس أحدنا إذا نام ثلاث
عقد وكلنا أيضًا يحفظ حديث أبو هريرة ومعناه أن من قرأ آية الكرسي لم يقربه
الشيطان حتى يصبح.إذًا ما الجمع بين هذين الحديثين إذا قرأنا آية الكرسي هل
الشيطان ويعقد على قافية أحدنا أو لا يأتي؟
و الجمع بين
الحديثين لعل المراد والله أعلم بحديث الباب: (لا يقربك شيطان حتى تصبح) أي لا يفسد عليك عقلك أي
فطرتك فإن الشيطان كما هو معلوم يجري من ابن آدم مجرى الدم؛ فإذا قرأ العبد آية
الكرسي أو نحوها لم يقدر الشيطان على إفساد عقله أو فطرته .
وهذا لا ينافي
أنه أيضًا يأتي فيعقد على ناصيته أو على مؤخرة رأسه هذه الثلاث عقد ويضرب على كل
عقدة عليك ليل طويل فارقد وليس فيه أنه يوسوس صدره أو في عقله أو في فطرته ولعل
بهذا يجتمع معنى هذين الحديثين والله أعلم.
المحاضرة
الحادية عشرة
الحديث من أحاديث الأحكام وهو في كتاب
الحج في باب الإحرام
حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - : (أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَلْبَسُ
الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «لَا يَلْبَسُ الْقُمُصَ الْمُحْرِمُ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا
السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ، إِلَّا أَحَدٌ لَا
يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلِيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ
الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ
أَوْ وَرْسٌ) .
تخريج الحديث: هذا الحديث
متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي أربعتهم من طريق سفيان بن عيينة
عن ابن شهاب الزهري قال أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه t به وهذا
اللفظ للإمام مسلم رحمه الله.
معاني مفردات هذا الحديث:
قوله r: (المحرم)
لما سئلr: ما يلبس المحرم؟ المحرم هنا لفظ عام يشمل الصغير والكبير لكن
استثني من هذا العموم النساء ودليل هذا الاستثناء عدد من الأدلة، وليس المراد
المنع من المذكور فقط بل المراد المنع منه وما في حكمه.
فلفظة المحرم هنا عامة، لكن يُستثنى من
هذا العموم النساء؛ إذن فالمحرم هنا يراد به المحرم من الرجال، ويُستثنى النساء من
ذلك بدلالة نصوص أخرى أيضًا. الأمور التي نهى عنها ليست مراده بعينها فحسب؛ أي على
الحصر، وإنما هي مرادة أيضًا ما في معناها.
قوله
r (لا
يلبس القميص)، القميص هو ثوب
مخيط للبدن، وهو معروف،
(ولا
العمائم) ،
العمائم: هي التي يلف بها الرأس .
(ولا
السراويلات)، قوله: السراويل هي لباس مخيط لأسفل البدن.
(ولا
البرانس)، البرنس ثوب يغطي الرأس والبدن .
(ولا
الخفاف)، الخفاف هو لباس للقدمين، وكأنهr أراد أن
يذكر جميع ما قد يلبسه أو يقع فيه المحرم من لباس علوي بدأ من الرأس إلى لباس سفلي
إلى ما يلبس في القدمين فذكر القميص وهو الذي يغطي جميع البدن كالثوب ونحوه ثم ذكر
العمائم وهي التي يغطى بها الرأس أي أعلى الجسم، ثم ذكر السراويل وهو ما يغطي أسفل
البدن ثم ذكر البرانس وهو ما يغطي جميع البدن من الرأس إلى الأسفل ثم ختم كلامهr بالخفاف وهي
ما يغطي أسفل الجسم وهما القدمان.
مسائل الحديث:
المسألة الأولى:في
الحديث السؤال عن مناسك الحج ومحظورات الإحرام جاء قبل التلبس به للتحقق من
أداء النسك على وجهه، وهذا هو
المطلوب وهذا هو الذي ينبغي أن نسلكه جميعًا ونستفيده من مثل هذا الحديث، من مثل
سؤال هذا الصحابي الذي فعله.
المشكلة التي نسمعها كثيرًا عندما
يستفتى المفتي أو غيره من العلماء نسمع كثيرًا يقول السائل: حججت في العام الماضي،
وفعلت كذا وكذا أو اعتمرت وفعلت كذا وكذا، فالمشكلة والأكثر الذي يقع فيه عامة
الناس أنه بعد أن يقع ويتلبس بالمحظور أو بالفعل المشكل عليه يأتي ويسأل بينما كان
ينبغي له أن يستن بما في مثل هذا الحديث بأن يسأل عن شرعية ما يريد أن يفعله قبل
أن يفعل.
فالسنة للإنسان مثلًا الذي يريد أن
يذهب للعمرة في رمضان أو يريد الحج أو يريد أن يفعل أي فعل من الأفعال كأن يريد أن
ينذر لأجل أمر معين، وأن كان النذر في بدايته مكروهًا أقصد بذلك المثال ليس إلا
إذا أراد أن يفعل فعلًا الذي ينبغي له أن يستن بمثل ما في هذا الحديث أن يسأل قبل
أن يعمل لا أن يفعل ثم يأتي ويستشكل ويسأل بعد ذلك ويقول: هل على دم؟ هل علي
جبران؟ هل فعلي صحيح؟ هل صح حجي؟ هل صحت عمرتي؟ أو غير ذلك لكن لو كان الإنسان
استن ما هو مفهوم من مثل هذا الحديث فسأل قبل أن يفعل لكان على بينة وبصيرة من أمره
فيفعل الفعل الذي هو مأذون له فيه شرعًا ويترك غير ذلك على بينة وعلم.
المسألة
الثانية: في الحديث سؤال المباح للمحرم وسؤال عن المباح للمحرم. كما قال: سئل ما يلبس المحرم أي ما الذي يُباح للمحرم
أن يلبسه؟ فالسؤال لاحظوا -أيها الإخوة- السؤال كان عن الأمر المباح للمحرم، الأمر
الذي يجوز للمحرم أن يفعله وكان ذلك بخاصة لباس الثياب لكن لاحظوا الجواب في هذا
فكان الجواب بذكر المحرمات، الصحابي، والسؤال أتى عما يلبس المحرم من الثياب ما
الذي يجوز للمحرم أن يلبسه من الثياب جاء الجواب في ذكر ما الذي يحرم على المحرم
من الثياب أن يلبسه.
قالr: (لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا
الخفاف) والسؤال كان عن الأمر المباح فجاء الجواب بذكر الأمر المحرم
لماذا جاء هذا السياق وهذا الجواب؟
أقول يستفاد من هذا السياق من الجواب بذكر الممنوع عن
ذكر المسموح أن ما عدا ما سمى هو مباح لك أيها السائل عندما سأل هذا الصحابي عما يباح وأجابr عن الممنوع
يفهم من تعداد الأمور المحظورة أن ما عدا هذه الأمور هي مباحة للمحرم أن يلبسها
وأن يأتيها، وهذا من الجواب الحكيم منهr حيث سألوه عن شيء غير المحدد؛ لأنهr لو أراد أن
يجيب عن ظاهر السؤال بالأمور المسموحة التي تحل لطال به المقام، ولما استطاع أن
يحصرها لأنها غير محددة.
فأجابهمr جوابًا
حكيمًا بذكر المحدود المعدود؛ لأنه لو قال: فالبسوا كذا وكذا لطال به المقام فلما
جاء بالأمر الممنوع كأنه قال: البسوا ما شئتم إلا هذه الأشياء المذكورة وهي القميص
والعمائم والسراويلات والبرانس والخفاف؛ فقالr ذلك القول.
وهذا هو السنة بل هو الواجب أن المحرم
يجتنب هذه الملبوسات والتي عبر عنها الفقهاء رحمهم الله بالمخيط أي الذي يخاط على
قدر البدن أو على قدر جزء منه فالعمائم والقميص والسراويل والبرانس والخفاف كلها
مخيطة على جزء من أجزاء البدن؛ لذلك نجد كثيرًا ما يعبر الفقهاء في أن من محظورات
الإحرام لبس المخيط، فهذه الأمور الخمسة ونحوها يعبر عنها العلماء والفقهاء خاصة
بهذا التعبير إلا أن بعضهم عبروا بلفظ آخر ولعله هو الأنسب فبدل أن يقولوا أو يعبروا
بلفظة المخيط عبروا بلفظة المحيط بالمهملة بدل المنقوطة.
والتعبير بالمحيط لعله والله أعلم أدق
من التعبير بالمخيط وما ذلك إلا لأنه لا يشترط كما في قول أهل العلم لا يشترط فيما
يلبس على قدر البدن أو قدر بعضه أن يكون فيه مخيط بل يكفي أن يكون محيطًا بالبدن
أو محيطًا بالجزء الذي ليس عليه، ولو لم يكن فيه خياطة وإنما عبروا بالمخيط عبر
أكثر الفقهاء بالمخيط ذلك والله أعلم أن الغالب أن الذي يلبس على البدن أو على
بعضه يكون فيه شيء من الخيوط وإلا لو لبس الإنسان شيئًا على قدر البدن أو على جزء
من أجزاء البدن وليس فيه شيء من الخيوط فإن ذلك أيضًا من محظورات الإحرام ومما
يمنع المحرم من لبسه والخلافة أن التعبير بالمحيط أدق وأولى من التعبير بالمخيط،
لماذا؟ كما قلنا لأن المقصود في اللبس لبس
هذا الأمر وهذا الشيء على قدر جزء من أجزاء البدن حتى ولو لم يكن فيه خياطة، وإنما
جاء تعبير الفقهاء رحمهم الله بالمخيط؛ لأن
الغالب في الملبوسات أن يكون فيها شيء من الخياطة.
فمنع المحرم في هذا الحديث أن يلبس ما
يعم جميع البدن، وهو ما يكون رأسه منه كالبرانس كما تقدم في معنى تلك اللفظة وهي
ثياب يلبسها أهل المغرب كثيرًا حتى في عصرنا الحاضر نجد إخواننا من أهل المغرب
يلبسون البرانس التي تشمل ما يغطي الرأس إلى ما أسفل البدن، وهي مشهورة ومشاهدة
للجميع تكون رقبته مشبوكة برأسه، الثوب مع ما يغطي الرأس مشبوك ببعضه فيعم البدن
كله من الرأس إلى القدمين فهذا لا يلبسه المحرم؛ لأنه مصنوع لجميع البدن.
كذلك أيضًا العمائم الرأس رأس المحرم
لا يغطى إلا بالعمائم ولا بغيرها فيجتنب المحرم ما يغطي رأسه، كذلك أيضًا يجتنب ما
يكون لأعلى البدن من فانيلة أو نحوها أو كذلك ما يكون لبعض البدن من التكفين إلى
أسفل البدن كالقميص أو الجبة أو المشالح والبشوت وما أشبه ذلك هذا في حق الرجال
يجتنبونها .
كذلك مما يجتنبه المحرم ما يكون لأسفل
البدن، وهي السراويلات فيجتنبها وكل ذلك يجتنبه المحرم يأتي كذلك أيضًا مما يجتنبه
المحرم ما يتعلق في آخر الحديث لما ذكرr ما يتعلق بالزعفران والورس وما يتطيب به يجتنبه أيضًا المحرم في
حال إحرامه.
أما في حق النساء؛ فالنساء يلبسن كل
شيء وما أردن إلا أن النسوة والنساء والمرأة من النساء لا تنتقب ولا تلبس
القفازين، لا تنتقب لا تلبس النقاب أو البرقع ولا تلبس القفازين وذلك في حال
إحرامها فلا تلبس ما صنع للوجه ولا تلبس ما صنع لليدين، أما وجهها فإنها تجتنب فيه
النقاب لكن تغطيه عن الأجانب وهذا أمر مهم، لا بد أنه إذا مر بها أجنبي أو كان
أمامها أو في محيطها أجنبي فلا بد أن تغطي المرأة محرمة كانت أو غير محرمة وجهها
عن الأجنبي؛ فوجهها في الإحرام كبدن الرجل ليس كرأسه وهذا قد أشكل على بعض الناس
فقال بعضهم إن وجه المرأة كرأس الرجل لا يغطى في الإحرام البتة بأي شيء، والصواب
–والله أعلم- أن وجه المرأة المحرمة كبدن الرجل في حال الإحرام.
بمعنى أنه لا يغطيه بما هو مصنوع،
المرأة لا تغطي جسمها بما هو مصنوع للوجه أما إذا كانت تغطيه بشيء لا يصنع أو لم
يصنع للوجه مثل ما يسمى في مجتمعنا الشيلة مثلًا أو غيرها فلا بأس. شيء من الخمار
تضعه على وجهها فلا يكون برقعًا ولا نقابًا، وهذا لا بد منه حتى لا ترى الأجانب
ولا يروها ، لا بأس أن تغطي وجهها لأنها لم تنهَ أن تغطي وجهها وإنما نهيت أن تلبس
النقاب وما في حكمه كما قلنا كالبرقع.
ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله
عنها تقول: لقد كنا نكشف وجوهنا أي في حال الإحرام هي والصحابيات -رضي الله عنهن
أجمعين- قالت: لقد كنا نكشف وجوهنا فكان الركبان يمرون بنا ، فإذا مروا بنا سدلت
إحدانا من جلبابها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه، وفي هذا دليل ظاهر على المرأة
إذا مر بها أجنبي يجب عليها وجوبًا أن تغطي وجهها حتى لا يراها ذلك الأجنبي، وكما
في حديث أسماء أيضًا عن أبي داود كما قالت عائشة رضي الله عنها، وفي الموطأ أنهن -رضوان
الله عليهن- كن يغطين وجوههن يعني بغير النقاب؛ لأن النقاب منصوص على أن المرأة المحرمة تجتنبه؛
فهي تستر وجهها.
وهذا من أدلة العلماء الذين قالوا
بوجوب ستر وجه المرأة، وهو دليل ظاهر أن الصحابيات لما كن في حال الإحرام كاشفات
لوجوههن قالت عائشة: فإذا مر بنا الركبان سدلت إحدانا جلبابها على وجهها وما ذاك
إلا لأنهن فهمن وتيقن وثبت واستقر في أذهانهن وجوب ستر المرأة لوجهها عن الرجال
الأجانب في حال الإحرام وفي غيره.
فإذا كان في حال الإحرام كن يفعلن ذلك؛
ففي غيره من باب أولى، ولكن أؤكد بأن هذه التغطية ليست بالنقاب ولا البرقع وإنما
هو ستر كامل للوجه فإذا كانت عائشة تقول: إننا نغطي وجوهنا في حال الإحرام إذا مر
بهن الرجال فهذا من أدلة لتغطية المرأة وجهها؛ لأن المرأة إذا كانت وحدها أو كانت مع النساء تكشف
وجهها مع مثيلاتها فكونها تغطي وجهها إذا مر بها الرجال يدل ذلك على أنه أمر متعين
متأكد ألا وهو تغطية الوجه وعدم كشفه والمقصود أنها تلبس ما شاءت إلا هذين النوعين
القفاز تغطيه اليدين تمنع منه المرأة حال إحرامها والنقاب ومثله البرقع تمنع منها
المرأة المحرمة كما يمنع الرجل مما ذكر من الأمور الخمسة.
الحلقة الثانية عشرة
استكمال بشرح الحديث السابق :
قوله: (إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس
الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين) المحرم إذا لم يجد
النعلين يلبس الخفين كما قال r لكن قال بعد ذلك:
(وليقطعهما
أسفل من الكعبين)
وهذا جاء في حديث عبد الله بن عمر الذي هو معنا حديث الباب وكان ذلك أي قول النبي r لهذا الحديث وسمعه ابن عمر ومعه غيره من الصحابة كان ذلك في
المدينة قبل الحجِّ قبل أن يسافرr ويسافر معه الصحابة وقبل أن يحرموا قال ذلك r إذا لم يجد المحرم النعلين فليلبس
الخفين وليقطعهما حتى يكونا
أسفل من الكعبين قال ذلك في المدينة قبل الحج
.
لكن
جاء حديث آخر وهو حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في الصحيحين أنَّ النبي r عندما حجَّ وخطب الصحابة في عرفة كان من ضمن ما قال r
في ذلك الحديث: (ومن لم
يجد النعلين قال: فليلبس الخفين ومن لم يجد إزارًا قال: فليلبس
السراويلات)
ولم
يذكر القطع ولا أمرهم بالقطع rوعلى
هذين الحديثين حديث ابن عمر الذي معنا حديث الباب وحديث ابن عباس هذا الذي ذكرته
قبل قليل في خطبتهr في عرفة اختلف
العلماء في هل يجب على المحرم أو هل يقطع المحرم
الخفين إذا لبسهما إن لم يجد النعلين فيقطعهما حتى يكونا
أسفل من الكعبين أو لا يجب عليه ذلك القطع أخذًا بحديث ابن عباس ؟
القول الأول:قول الحنابلة:
لا حاجة للقطع لأن حديث ابن عباس الذي في
عرفة ليس فيه القطع قالوا:
وهو متأخر فينسخ حديث ابن عمر .
القول الثاني : وحمل الجمهور المطلق في حديث ابن عباس
على المقيد في حديث ابن عمر وقالوا:
من لم يجد النعلين جاز له لبس الخفين بعد قطعهما وقالوا:
لأنه لا يصار
إلى النسخ مع إمكان الجمع وهذا رد منهم على الحنابلة الذين قالوا بنسخ حديث ابن
عباس المتأخر لحديث عبد الله بن عمر المتقدم قالوا:
لا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع ومن أوجه
الجمع عندهم قالوا حمل المطلق على المقيد والمطلق هو حديث ابن عباس الذي لم يذكر
فيه القطع والمقيد هو حديث ابن عمر فقيد هذا
الحديث حديث ابن عمر حديث ابن عباس قالوا وليس كأنه
جواب لما قد يرد في أذهان البعض بل قد قال به بعض العلماء وليس في ذلك إفساد للمال
إن هذا القطع لهذا الخف ليس ذلك إفساد للمال قالوا: بل هو إصلاح له؛ لأن أعظم الإصلاح
اتباع شرع الله جل وعلا
لأنه شرع على لسان رسوله r هذا القطع فاتباع
الشرع بقطع الخفين ليس إفساد وإنما هو إصلاح
لأنه اتباع وليس ابتداع.
ومثل
ذلك قالوا: مثل إخراج الزكاة من المال وشرع بذل
المال في الجهاد في سبيل الله هو ذلك كله ليس إفسادًا للمال بل هو إصلاح
له
والجهاد في سبيل الله ليس إفسادًا للمال بل هو إصلاح
له ومنه قوله جل وعلا: ﴿ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسوقِ وَالْأَعْنَاقِ﴾ وقوله جل وعلا: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَه السَّعْيَ قَالَ
يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا
أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ستَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّه مِنَ الصَّابِرينَ﴾
قال فهذه الأدلة تدل على أن القطع وإخراج المال وذبح الولد لو كان حصل وذبح تلك
الخيل ليس فيها إفساد لأن ذلك هو لاتباع الشرع وإصلاح للمال والله أعلم .
تلخيص القولين :
اختلف في فهم هذه المسالة على قولين حديث
ابن عمر يدل على القطع وحديث ابن عباس يدل على عدم القطع الحنابلة رحمهم الله
قالوا بأن المحرم يلبس الخفين إذا لم يجد النعلين من دون أن يقطعهما قالوا: وحديث ابن عباس كان في عرفة وحديث ابن
عمر كان بالمدينة قبل أن يحج النبي r فحديث ابن عباس متأخر وحديث ابن عمر
متقدم فحديث ابن عباس ناسخ لحديث ابن عمر فقالوا به بعدم قطع الخفين عند لبسهما
إذا لم يوجد النعلان هذا قول الحنابلة وهو
القول الأول
.
القول
الثاني: قول الجمهور: قالوا لا بد
لعادم
النعلين ولابس الخفين أن يقطعهما حتى يكونا
أسفل الكعبين وذلك لأن حديث ابن عباس بعرفة مطلق لم يأت فيه ذكر للقطع وحديث ابن
عمر الذي في المدينة مقيد ؛فقيد اللبس
بالقطع ولا بد من تقييد المطلق في
حديث ابن عباس بالمقيد في حديث ابن عمر .
قالوا: ولا يصار
إلى النسخ الذي هو قول الحنابلة
الأول إذا أمكن الجمع والجمع بحمل
المطلق على المقيد أولى ومتيسر وهو
أولى من القول بالنسخ هذا خلاصة الخلاف في هذهِ المسألة وقالوا إنَّ القطع ليس فيه
إفساد للمال بل هو إصلاح له لأنه هو محض اتباع الشرع وفي
التوجيه .
نقول: الصواب والله أعلم أنه لا يحمل المطلق هنا على المقيد
قول الجمهور أن المطلق في حديث ابن عباس يقيده الكلام المطلق الذي هو في حديث ابن
عمر الذي يظهر أنه لا يحمل الكلام هنا على التقييد في حديث ابن عمر ذلك والله أعلم
لأن القائد في حمل المطلق على المقيد ألا
يلزم منه تأخير البيان عن وقت حاجته.
فالنبيr في حديث ابن عباس لما خطب الصحابة -رضي الله
عنهم- في خطبة يوم عرفة قال لهم ذلك القول من دون أن يبين لهم القطع وكان معه جمع
غفير من الصحابة بل كل من حج في تلك السنة كان معه r في ذلك الموقف وكان يسمعه وكانوا من سائر الأرض ولم يقتصر الحاضرون على من كان معه
بالمدينة ومع ذلك قال لهم النبي r
ذلك القول ولم يأمرهم ولم يبين لهم بأنه
لا بد من قطع الخف عند اللبس مع عدم وجود النعلين فمن حضر معه
بالمدينة سمع قوله ذلك ومن لم يحضر لم يعلم ذلك فالقول
بحمل المطلق على المقيد فيه تأخير للبيان عن وقت الحاجة فقال r
لهم: (البسوا الخفين إن لم تجدوا النعلين والبسوا السراويلات إن لم تجدوا الإزار)
ولم يقل لهم: اقطعوا مع أنه لم يبلغهم ذلك الحكم الذي
قاله r
قبل ذلك بالمدينة فكيف إذن
يحيلهم على أمر لم يعلموه.
فنقول
يحمل هذا المطلق على ذلك المقيد الذي في حديث ابن عمر وما يدري هذا الجمع أنه لا بد من القطع وأنه r
قال ذلك في المدينة إذن
هذا يلزم منه تأخير البيان عن وقت حاجته فإذا لزم من تقييد المطلق تأخير البيان عن
وقت الحاجة فإنه لا يجوز تقييده به بل الظاهر والله أعلم أن حديث ابن عباس كما أنه
هو المتأخر ناسخ لحديث ابن عمر وأنه إذا
لم يوجد النعال أو وجدها ولم يجد ثمنها أو تعذر عليه لبسها فإنه يلبس الخفين ولو
كانت مجاوزة
للكعبين من دون أن يقطع أيضًا أن يلبس السراويلات ولا يلزمه أيضًا أن يفتق
السراويل لتكون كالإزار، ولا
يلزمه
أيضًا أن يقطع الكنادر إذا كانت فوق الكعبين يعني كالخفاف وما في حكمها فلا يلزمه ذلك كله بل لا بأس أن يلبس هذه التي فوق الكعبين إذا لم يجدها أو وجدها ولم
يجد ثمنها أو تعذر عليه لبسها ثم بعد ذلك إذا وجدها أو وجد ثمنها لزمه أن يخلع
الخفين ويخلع السراويلات ويلبس النعلين إذا وجدها أو وجد ثمنها ويلبس الإزار
والرداء.
وخلاصة
الكلام:كما قلت بأنَّ
الصواب والله أعلم هو نسخ حديث ابن عباس لحديث ابن عمر والله جل وعلا أعلم قال بعد ذلك فمن لم يجد النعلين فليلبس الخفين في هذا دليل على تحريم لبس الخفِّ للمحرم بداية كما قال به الجمهور خلافا لبعض الشافعية وقوله فليلبس أمر بعد النهي فلم يكن للوجوب قال كما هو معلوم عند
الجميع أن الأمر يدل على الوجوب إلا بصارف
من هذه الصوارف إذا جاء الأمر بعد نهي فإنه يدل على الإباحة لا على الوجوب.
واستدل
بالحديث على جواز النعلين مطلقا على المحرم وغير المحرم ولو كان لهما عقب ما لم يتجاوز الكعب وفي هذا مذهب الإمام أحمد وفي مذهب الإمام أحمد اختلاف بين أصحابه في جواز ذلك.
ظاهر
الحديث والله أعلم أن عادم النعل لابس الخف لا فدية عليه لعدم ذكره هنا كما قال
الجمهور خلافا لأبي حنيفة
النبي
r
لما قال:
(فمن لم يجد النعلين فليلبس الخفين) لم
يذكر أن عليه فدية أو غير ذلك نقول بهذا الظاهر ولا نلزم من لبس الخفين بأن عليه
فدية كما قال بذلك الحنفية .
وفي الحديث أيضًا منع المحرم من التطيب بالزعفران والورس
ويلحق بهما سائر الأنواع واختلفوا في أشياء بناء على اختلافهم فيها هل تعد طيبًا
أو لا تعد من الطيب أيضًا من تطيب عمدًا وجبت عليه الفدية أما إن كان ناسيًا فلا
فدية عليه وذلك عند أحمد والشافعي.
وفي الحديث أيضًا -أيها الإخوة- تحريم لبس المحرم ما مسه
روثٌ أو زعفران وذلك باتفاق العلماء فإن فعله فعليه فديةٌ عند
الشافعي وأحمد ويدخل في ذلك ما لو لبسه أو حتى
لو جلس عليه أو نام عليه قال أبو حنيفة:
لا تجب الفدية إلا إذا كان رطبا يلي
البدن واستدل الإمام مالك بهذا الحديث حديث ابن عمر على منع المحرم مما فيه لون
زعفران ولو ذهبت رائحته خلافًا للجمهور وقاس أبو حنيفة على الزعفران المعصفر للنساء وخلافه الشافعي وأحمد أيضًا استدل الشافعي وأحمد بالحديث حديث الباب حديث ابن عمر
على منع المحرم من الطعام الذي يحتوي
على زعفران ونحوه من أنواع الطيب لكن أجازه الإمام مالك رحمه الله .
والنهي عن المخيط خاص بالرجال اتفاقًا أما الطيب فيشمل النساء، النهي
عن المخيط كما تقدم في القميص والعمائم والسراويلات والبرانس والخفاف سواء قلنا: المخيط أو المحيط النهي فيه أي كونه من محظورات الإحرام هذا خاص بالرجل فهو من محظورات
الإحرام للرجل المحرم أما المرأة فإنها تلبس المخيط وتلبس المحيط في إحرامها فتحرم
في الثياب ومن الثياب بما شاءت هي أما الطيب في قوله:
(ولا يمس الزعفران ولا الورس) فإن ذلك يشمل الرجل والنساء على حد سواء
.
أخيرًا: استدل بالحديث على منع استدامة
لبس الثوب الذي فيه طيب
لأنه ليس منافيا لطيب
البدن وألحق العلماء رحمهم الله بالقميص القباء
والبشت وما في معناهما فالثوب أو القميص أو البشت الذي فيه طيب مستديم منع بعض أهل
العلم منه أخذا من هذا الحديث وأن المحرم يمنع من لبسه بحيث يدخل يديه فيه أما إن
أدخل الكفين ولم يدخل يديه فمنعه مالك والشافعي
وأجازه أبو حنيفة والله أعلم.
وأود
أن أختم شرح هذا الحديث بالمسألة التي نبهت عليها وهي
أنه ينبغي علينا جميعًا أن
نسأل قبل أن نختلف العمل لا أن نفعل
الفعل فنذهب إلى الحج أو إلى العمرة
ثم بعد ذلك نأتي ونستفتي
فنقول: فعلنا كذا وكذا فماذا علينا هل علينا
ذنب أو فدية أو غير ذلك؟
فينبغي للجميع أن يسأل عن أمور دينه قبل أن
يفعل حتى يأتي الأمر المشروع
والمأمور به على بينة وبصيرة وعلم
حتى
يستكمل هذا الفعل ويأتي
به على الصواب والسنة حتى يتقبل الله جل وعلا
ذلك منه طيبًا كاملًا نسأل
الله جل وعلا
أن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه صوابًا على سنة رسوله r
وأن يجعلنا ممن إذا ذكر تذكر وإذا أعطي
شكر وإذا أذنب استغفر فإن هذه
الثلاث هي عنوان السعادة.
المحاضرة الثالثة
عشرة
وحديث الباب في باب العقائد, وفي
الحقيقة إن هذا الحديث وضع في المنهج تحت أبواب العقائد وإلا
هو داخل تحت باب العقائد وباب الآداب وباب
الأحكام وباب الدعوة إلى الله فهو يصلح أيضًا أن يكون تحت هذه الأبواب الأربعة
كلها.
عن أبي رقية تميم بن أوس
الداري t
قال: قال رسول اللهr: (الدين النصيحة)
قلنا: لمن يا
رسول
الله؟ قال:
(لله ولكتابه
ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)
.
تخريج هذا
الحديث
خرجه
الإمام مسلم في صحيحه وأحمد
في مسنده وأبو داود والنسائي من طريق سهيل بن
أبي صالح عن عطاء بن يزيد الليثي عن تميم بن أوس
الداري t
وهذا الحديث مشهور عن أبي تميم t
وإلا فقد جاء من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- وجاء من
الحديث أيضًا ابن عباس عنهما وأن كان في بعضها مقال إلا
أن الحديث صح في صحيح مسلم وغيره من حديث تميم بن أوس
الداري t
فلا يحتاج إلى غيره هذا
من جهة تخريج الحديث وصحته فهو صحيح بتخريج وإخراج
الإمام مسلم له في صحيحه.
مسائل الحديث:
هذا الحديث عده كثير من
العلماء من الأحاديث الكلية العظيمة التي اشتملت على الدين كله
فاشتمل هذا الحديث على حقوق الله جل وعلا وحقوق كتاب الله جل وعلا وحقوق رسول
الله r
وحقوق عباد الله الأئمة منهم والعامة فقد اشتمل على الدين بكله أو بشموله فليس ثم أجمع
في بيان تلك الحقوق من لفظ (الدين النصيحة) لأن النصيحة عامة شاملة في حقوق من ذكرت حقوقهم أو من ذكر
أنه مستحق لهذه النصيحة في هذا الحديث وهم
خمسه يأتي
الكلام عنهم واحد تلو الآخر
بإذن الله.
ولفظ النصيحة فعيلة من النصح، وأصل النصح في لغة العرب فسر بأحد تفسيرين:
التفسير الأول: أن النصح بمعنى الخلوص من الشوائب والشركة فيقال: عسل ناصح أو يقال عسل نصوح وذلك إذا لم
يشبه شيء هذا هو التفسير الأول
. وهو أن النصيحة بمعنى الخلوص من الشوائب وذلك في اللغة.
التفسير
الثاني: أن النصيحة التئام شيئين بحيث لا يكون ثم
تنافر بينهما فيعطى هذا الصلة بهذا حتى يكون التئام يوافق بين هذا وذاك
قال: من ذلك قيل للخياط: ناصح لماذا؟ لأنه
قالوا: لأنه
ينصح الطرفين إذ يجمع بينهما بالخياطة والحياكة.
وقد عرفت النصيحة في هذا
الحديث لما قال r: (الدين النصيحة) عرفت بأنها إرادة الخير
للمنصوح له وهذا يتعلق بنصح أئمة المسلمين
وعامتهم بمعنى الرابع والخامس؛ لأنه
كما سيأتينا بإذن الله النصيحة
الأولى لله جل وعلا، الثانية لكتاب الله جل وعلا ، الثالثة لرسول الله r
ولا يقال في هذا الثلاث بأن النصيحة تفسيرها إرادة
الخير للمنصوح حاشا وكلا وإنما تفسير النصيحة بالحديث بأنها إرادة الخير للمنصوح له ينطبق هذا التفسير
على الرابع والخامس وهو النصيحة للأئمة
المسلمين والخامس النصيحة لعامتهم.
أما في الثلاثة الأولى: النصيحة لله ولكتابه ولرسولهr
:
فإن النصيحة كما ذكرنا من
حيث اللغة أن تكون الصلة بين الذاتين على التئام بحيث يكون قد أعطي حق هذا فلم يكون بينهما تنافر ومن
المعلوم أن العبد صلته بربه I عليه حقوق كثيرة منها الواجب ومنها
المستحب وكذلك بالنسبة لكتاب الله عز وجل القرآن الكريم.
وكذلك أيضًا بالنسبة لحق رسولنا r قال r:
(الدين
النصيحة) جعل
الدين كله نصيحة لأنه كما سيأتي بيانه قريبا بإذن
الله
لأن النصيحة تجمع الدين كله وذلك عندما يذكر
فيها الواجبات والمستحبات ففسرها بعد ذلك بقوله لما قال الراوي قلنا:
لمن يا رسول الله؟ قال:
(لله وكتابه
...)
لذلك
قال بعض أهل العلم قوله:
(الدين
النصيحة) المعنى أن معظم الدين وجل الدين هي النصيحة.
ولهذا الحديث نظائر عدة وذلك مثل قوله r:
(الدعاة هو
العبادة) فكأنه حصر العبادة في
الدعاء ومعنى هذا الحديث أن
الدعاء هو العبادة أي غالب العبادة ومشتمل على جميع أنواع
العبادة وكذلك ممن هو نظير لهذا الحديث قولهr: (الحج عرفة)
وأشبه ذلك كثير في السنة النبوية لمن أراد
تتبع ذلك لكن لو تأملنا في كون هذه الأشياء
الخمسة المذكورة لها النصيحة رأينا أنها
جمعت الدين كله فيها العقائد وفيها العبادات والمعاملات وفيها حقوق الخلق وفيها
حقوق من له الحق بجميع صوره I.
قالوا: لمن يا رسول الله؟
اللام
هنا في
قوله: (لمن) هي للاستحقاق
فالنصيحة لله يعني مستحقة قالوا: لمن؟
يعني من يستحقها في الدين أجابهم r
بقوله: (لله وكتابه ولرسولهr وللأئمة المسلمين وعامتهم)
إذًا كما قدمت اشتمل هذا
الحديث على ذكر حقوق خمسة أجملها ثم نأتي على بيانها مفصلة بإذن الله جل وعلا .
الحق الأول: النصيحة لله I.
الحق الثاني: النصيحة لكتاب الله جل وعلا .
الحق الثالث: النصيحة لرسول اللهr
.
الحق الرابع: النصيحة لأئمة
المسلمين.
الحق الخامس: النصيحة لعامة المسلمين.
نأتي بعد هذا الإجمال إلى التفصيل:
أما الحق الأول:
وهو النصيحة لله جل وعلا فهذه كلمة جامعة لأداء حق الله جل وعلا
الواجب منه والمستحب
فحق الله I الواجب هو
الإيمان به وبربوبيته وألوهيته وبأسمائه وبصفاته إيمانًا بأنه سبحانه هو الرب المتصرف في هذا
الملكوت وحده لا شريك له في ربوبيته
ولا تدبير لغيره
ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد هذا في حق الربوبية .
والنصيحة لله
I في إلهيته
أن يعطى سبحانه الحق الذي له في ألوهيته
وهو أن يعبد وحده بجميع أنواع العبادة وأن لا يتوجه لأحد بشيء من العبادات إلا له I
كل عبادة توجه بها إلى غير الله جل وعلا فهي خروج
عن النصيحة لله سبحانه يعني عن أداء الحق
الذي له I .
والنصيحة لله
في أسمائه وصفاته وذلك
بأن نؤمن بأن ربنا سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العلا وأنه سبحانه لا
سمي له ولا ند ولا كفء له كما قال جل وعلا: ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ
تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾
وكما قال جل وعلا: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا
أَحَدٌ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
إذًا فعلى المسلم المؤمن
بالله جل وعلا المريد أن
يحقق النصيحة لله جل وعلا أن يعتقد أن ربه I
له ما أثبت لنفسه من الأسماء الحسنى ومن الصفات العلا
وأنه في
أسمائه وصفاته ليس له مثيل كما أخبر I
عن نفسه بقوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾.
أيضًا من جهة أخرى إن الغلو في الصفات بالتجسيم ترك للنصيحة
الواجبة كما قلنا من جهة إثبات الاسم وإثبات الصفة أيضًا نقول: من جهة عدم الغلو في هذا الإثبات
لأن الغلو في الصفة هو تجسيم وهو أيضًا
ترك للنصيحة الواجبة المأمور بها في هذا الحديث وتفريط فيها والجفاء بالتعطيل ترك أيضًا للنصيحة
الواجبة والنصيحة الحقة بالتئام ما بينك أيها
العبد وبين الله جل وعلا في شأن أسمائه
وصفاته أن تثبت له سبحانه له تأويله الأسماء الحسنى والصفات العلا من غير تمثيل
ولا تعطيل ومن غير تحريف ولا تأويل يصرفها
عن حقائقها اللائقة لله جل وعلا.
أيضًا من النصيحة لله جل وعلا
أن يحب I
وأن يتبع أمره وأن تتبع شرعته وأن يصدق خبره وأن يقبل عليه المرء بقلبه مخلصا له
الدين فالإخلاص في الأقوال والأعمال حق لله جل وعلا
والذي يقع في قلبه غير الله في الأعمال من جهة الرياء أو من جهة التسميع فهو في
حقيقة الأمر ما أدى الذي لله جل وعلا .
هناك أيضًا أشياء مستحبة لله جل وعلا من مثل
ألا يقوم بالقلب غيره I
فيزدري الخلق جميعهم في جنب الله جل جلاله وأن
يراقب الله سبحانه دائما في السر وفي العلن فيما يأتي
الإنسان وفيما يذر
من
الأمور المستحبة وأن يستحضر ما قام نفسه بين يدي ربه سبحانه دائما في الآخرة ونحو
ذلك مما يدخل في المستحبات.
فإن النصيحة فيه لله جل
وعلا مستحبة فهي إذًا منقسمة إلى ما
أوجبه الشرع في حق الله فيكون واجبًا وما كان مستحبًا في الشرع فيكون من
جهة النصيحة مستحب .
أما الحق الثاني: وهو النصيحة لكتاب الله
جل وعلا وذلك في قوله r
بعد أن قال: (النصيحة لله ولكتابه) وهو القرآن العظيم
معنى ذلك أن يؤتى القرآن حقه وهو أي هذا الحق أن
يوقن بأن كلامه بأن كلام الله جل وعلا تكلم
به سبحانه وأنه آية عظيمة بل أعظم الآيات التي أوتيها الأنبياء وأنه الحجة البالغة إلى
أن تقوم الساعة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وأن هذا القرآن مما يعتقد فيه وهو نصيحة
لكتاب الله جل وعلا أن فيه الهدى والنور كما قال ربنا سبحانه: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ
يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ وأن حكمه
واجب الإنفاذ
ما أمر الله به في القرآن وجب إنفاذه وما نهى الله عنه في القرآن وجب
الانتهاء عنه وما أخبر به الله I
في القرآن وجب تصديقه وعدم التردد فيه إلى غير ذلك مما
يستحقه هذا الكتاب العظيم هذه كلها أمور واجبة.
أما الحقوق المستحبة والنصيحة المستحبة للقرآن العظيم
فهو أن يكثر العبد من تلاوته هذا الكتاب وألا
يهجره في تلاوته وتدبره أيضًا أن
يكون علاجه به أنه كما ربنا I
بأن فيه شفاء فقال: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ
شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ وأشباه ذلك مما جاءت به السنة وما جاء به
أيضًا كتاب الله جل وعلا من الحديث عن آياته أي عن آيات هذا الكتاب.
الحق
الثالث: وهو النصيحة لرسول الله r
وتكون
أولا بطاعته rفيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر وألا يعبد الله إلا بما شرع r
وأن يؤمن العبد بأنه r هو خاتم الأنبياء والمرسلين وأن كل دعوة
للرسالة بعده كذب
وزور وباطل وطغيان وأنه r هو الذي يطاع كما
قال جل وعلا: ﴿ وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.
فالنصيحة أولًا تكون
بطاعته في الأمر بالإتيان وفي النهي
بالاجتناب وتصديقه فيما أخبر وأن لا يعبد الله إلا
بما شرعهr بمعنى أن
نستن بسنته وأن نتعبد العبادة لله Iكما
تعبدها r حتى تكون هذه العبادة مقبولة لله جل وعلا لأنه كما تعلمون حتى تكون مقبولة لا
بد لها من شرطين:
الشرط الأول :
أن تكون العبادة عبادة مخلصة ويكون العبد مخلصًا
قلبه فيها لله جل وعلا.
والشرط الثاني:
أن يكون متابع فيها أي في أدائه لسنة رسول الله
r
.
وهذه هي النصيحة لرسول
الله r
وأنه r يحب لأمر الله جل وعلا بذلك ولما
يستحقه r
من المحبة الواجبة وأن تقدم محابه على محاب العبد نفسه ونحو ذلك من النصيحة التي
هي منقسمة كما تقدمت إلى واجبة وإلى مستحبة كما قال
r: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين).
المحاضرة الرابعة عشرة
الحق الرابع: هو حق ولاة أمور المسلمين
: فالنصيحة لأئمة المسلمين أن يعطوا حقهم الذي أعطأهم
الله جل و علا إياه وبينه في كتابه وبينه رسوله r
في سنته المطهرة وذلك من جهة طاعتهم في المعروف وعدم طاعتهم في المعصية وأن
يجتمع معهم على الحق والهدى وعلى ما
لم تعلم فيه معصية, وأن تؤلف القلوب لهم وأن يجتمع عليهم وأن يدعى لهم وهذا يشمل الحق
الواجب و المستحب.
وأن يترك الخروج عليهم بالسيف طاعة لله
جل وعلا وطاعة لرسول الله r
وأن يبايع ولي الأمر المسلم وألا يموت المرء وثم وال
مسلم وليس في عنقه بيعة له وأن يأتمر إذا أمره
الإمام بما ليس فيه معصية
وأن ينتهي إذا نهاه عن غير طاعة
يعني ما كان من قبيل الواجبات فإن أمره بخلافها لا يطاع فيه وإذا
أمر
بمعصية لا يطاع فيه وما كان من قبيل المستحبات
والاستفادات يعني ما يدخله
الاجتهاد والنظر.فإنه
يترك الرأي أي الاجتهاد
المخالف لرأي الإمام لما يراه إمام المسلمين؛ لأن في ذلك مصالح للعباد
والبلاد
كما قرر ذلك أهل العلم في مواضع عديدة منها كلامهم وشرحهم لهذا الحديث الذي معنا وهو حديث:
(الدين النصيحة).
إذًا من النصيحة لأئمة
المسلمين أن نبذل النصح لهم بمعنى النصح الذي يعلمه الناس بأن ننبههم
على ما يخطئون فيه وما يتجاوزن فيه الشريعة وذلك لمن وصل له الأمر وهذه المرتبة كما
قال الإمام ابن دقيق العيد
في شرحه وقاله غيره أيضًا: هي فرض كفاية تسقط بفعل البعض من
أهل العلم ونحوهم عن غيرهم من عموم المسلمين فحق ولي الأمر المسلمين أن ينصح بمعنى أن يؤتى إليه وأن يبين له الحق وأن يبصر به وأن يوضح له ما الله I به وما أمر به رسول الله r
وأن يعان على الطاعة ويسدد فيها ويبين لهما ما
قد
يقع فيه من عصيان أو مخالفة للأمر.
وهذه النصيحة الخاصة بولاة الأمر جاء لها
شروط وضوابط معلومة عند أهل العلم
ذكروها في كتبهم ومن مواضع ومواطن ذكر هذه الشروط شرح مثل هذا الحديث الذي معنا
ومن أمثلة من تكلم عليها في هذا الموضع أو في
شرح هذا الحديث هو الإمام ابن رجب الحنبلي-
رحمه الله -في كتابه جامع العلوم والحكم تحت أو ضمن
شرح هذا الحديث فساق عن ابن عباس وعن غيره -رضي الله عنهما- أنواعًا من الآداب والشروط التي ينبغي للناصح أن
يتحلى بها إذا نصح ولي الأمر المسلم؛ لأنه كما
تعلمون النصيحة للإمام من أئمة المسلمين ليست كالنصيحة لعبد من عباد الله ممن هو غير الأئمة.
فمن ذلك ممن ذكره أهل
العلم من الآداب والشروط والضوابط في نصيحة الولاة النصيحة برفق وسهولة لفظ.
قالوا: لأن
حال ولي الأمر في الغالب أن تعز عليهم النصيحة إلا
إذا كانت بلفظ حسن وهذا ربما كان في غالب الناس أنهم
لا ينتصحون بمعنى لا يقبلون النصيحة في الغالب إلا إذا كانت بلفظ حسن مقبول وقد قال ربنا
جل في علاه للموسى وهارون:
﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا
لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾.فإذا كان الله جل وعلا أمر موسى وهارون بأن يقولا لفرعون وهو من
هو قولا لينا لعله يتذكر ويخشى فكيف بحال من أراد نصح ولي الأمر المسلم أقول
هذا من باب أولى وأحرى أن يقول له قولًا لينًا سهلًا خفيفًا
حتى يكون ذلك أدعى لقبول هذه النصيحة ويصلح ما وقع فيه
من خطأ في هذا الأمر.
ومن الآداب والشروط في
ذلك أن تكون النصيحة كما قلنا بلفظ حسن؛
لأنه ربما كان اللفظ خشنا
فأداه ذلك إلى رفض الحق ومعلوم أن
الناصح يريد الخير للمنصوح له كما قلنا في تعريف النصيحة كما قال أهل العلم: إنها إرادة الخير للمنصوح فكلما كان السبيل
لهذا الخير للمنصوح فإنه يؤتى ومن أولى من
يؤتى الرفق واللين وسهولة العبارة.
ومن الشروط أيضًا أن
تكون النصيحة لولي الأمر سرًا وليس علانية؛
لأن الأصل في النصيحة بعامة لولي الأمر وغيره أن تكون سرًا بخلاف إنكار المنكر كما في الحديث أبي سعيد الخدري
t
أنه r
قال: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده) لاحظوا قال أولًا: (بيده)
ومن المعلوم أن التغيير
باليد لا يكون سرًا وإنما يكون علانية .(فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع
فقلبه وذلك أضعف الإيمان)
فإنكار المنكر في الغالب يكون علانية
وهذا بخلاف النصيحة التي هي الأصل فيها أن تكون سرًا لولي الأمر ولغيره بل لولي
الأمر من باب أولى وكما ذكر أهل العلم أن
ذلك من الشروط للنصيحة لولاة الأمر وأن الأصل في النصح أن يكون سرًا كما تقدم.
فالنصيحة
لولي الأمر يجب بل ويشترط لكونها شرعية أن تكون سرًا بمعنى أن لا يعلم بها
من جهة الناصح إلا هو وألا
يتحدث بها بأنه نصح وعمل وفعل وكذا وكذا لأنه ربما
أفسد المراد من النصيحة بذكره ذلك لغيره وإفشائه
السر وإعلانه له وصعب قبول النصيحة على
الولي بعد اشتهار الأمر وأشباه
ذلك من الأمور.وعلى هذا جاء الحديث المعروف
الذي صححه بعض أهل العلم وهو قوله r: (من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية ولكن ليخلُ به وليدنُ منه فإن قبل منه فذاك وإلا فقد أدى الذي عليه) .
ثم بعد ذلك تكون أديت
الذي عليك فإن قبل منك فذاك وإلا فقد أديت الذي عليك بنصه r
وتكون ذمتك برئت
بذلك وقد سئل ابن عباس -رضي الله عنهما- هل
أنكر على الإمام علنا قيل مما قبل له هل أنكر
على الإمام علنا فقال t
قال: لا بل داره بذلك سرًا.
أجمع أيضًا في صحيح البخاري أن أسامة
بن زيد t جاءه جماعة
وقالوا له: ألا
تنصح لعثمان – عثمان بن عفان t
لما كان واليًا-
ألا
ترى
ما نحن فيه؟ فقال رضي الله عنه: أما إني
لا
أكون فاتح باب فتنة وقد بذلته له سرًا.
الحق
الخامس: وهو قوله r
(وعامتهم).فالعامة هم غير الأئمة والأئمة
إذا أطلقت فإنه
يراد بهم الأئمة في الأمر العام وليس الأئمة في العلم فحسب لأنه على هذا جرى
اصطلاح أهل العلم أما ولي الأمر هذا اللفظ فإنه
في الأصل أن ولي الأمر يُعنى به الإمام العام للمسلمين؛ لأن ولاة
الأمر في عهد الخلفاء الراشدين وفي عهد معاوية ولاة الأمر
في هذا الزمان كانوا يجمعون بين فهم الدنيا وفهم الشريعة أما بعد ذلك فقد قال أهل
العلم: إن ولاة الأمر كلا
فيما يخصه هم العلماء والأمراء
فالأمراء في الأمر العام الذي يتعلق بأمور
المسلمين العامة والعلماء في أمر
دين الناس فهذا حصل تفسير أن
ولاة الأمر يعنى بهم هذا وذاك أي العلماء والأمراء هما
اللذان يفسر بهم لفظ ولي الأمر.
فالنصيحة تكون لعامة المسلمين أن يُحب الخير لهم وأن يبذل الخير للناس وأن
ينصروا على إتيان
أمور هذه الشريعة وأن
يذب عنهم وعن أعراضهم وأن يحبوا لأنهم مؤمنين فالله جل وعلا عقد الولاية بين المؤمنين أجمعين
بقوله سبحانه: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ يعني بعضهم يحب بعضًا
وينصر بعضًا ومن المعلوم أن أعلى المؤمنين إيمانًا
هم الراسخون في العلم.
المحاضرة الخامسة
عشرة
هذا الحديث هو في باب العقائد:
عبد الله
بن مسعود t قال: قال رسول الله r: (سِبَابُ الْمُسْلِمِ
فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ).
تخريج الحديث
/
خرجه الإمام البخاري ومسلم والترمذي في جامعه والنسائي
وابن ماجه
في سننهما, إذًا أخرج
هذا الحديث الخمسة على مصطلح الحافظ ابن حجر
الذي ذكره في مقدمة كتابه "بلوغ المرام" فذكر في تلك المقدمة؛
أنه إذا قال: خرجه
الستة وهذا عندما يطلق في الاصطلاح أنهم صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود وجامع الترمذي وسنن النسائي وسنن ابن
ماجه .
وإذا قال: خرجه الخمسة فهم كما ذكرت عدا ابن ماجه
هل الحديث خرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي
وبين ماجه فسقط من هؤلاء الستة
هو سنن أبي داود- رحمه الله -خرج هؤلاء الخمسة هذا
الحديث من طريق منصور والأعمش
كلاهما عن أبي
وائل عن عبد الله بن مسعود t به
أي به مرفوعًا أن النبي r
قال: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) .
معاني مفردات الحديث:
قوله: (سباب):
السباب هو المشاتمة والمخاصمة سبه
يعني عيبه ووصفه بما يكره لكن لا بد
أن يكون ذلك في حضوره
حتى يقال فلان سب فلانًا
أما إذا كان ذلك في حال غيبته فلا يقال:
سبه وإنما يقال: اغتابه.
قوله: (فسوق) :
الفسوق:
لغة هو الخروج عن الطاعة يقال فسقت الثمرة قشرًا إذا كان خرجت ومنة سميت الفويسقة الفأرة وذلك لخروجها عن
سائر الدواب بإفسادها وإهلاكها
.
مسائل الحديث:
المسألة الأولى:إننا نلحظ في هذا الحديث أن نبينا r
فرق بين السباب وبين القتال فقال r: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)
مما
يدل على أن السباب غير القتال وأن القتال أشد من السباب كما سيأتي
بيانه بإذن الله.
فالسباب فسوق لكن كان القتال أشد من السباب وذلك لما يفضي
إليه من إزهاق الروح ونحو ذلك عبر
عنه بلفظ أشد من لفظ الفسق وهو الكفر فقال:
(وقتاله كفر) ولم يرد r
حقيقة الكفر التي هي الخروج عن الملة كما هو معروف وكما هو الأمر عند الإطلاق بل أطلق عليه الكفر ولهذا قال r
وذلك تنفيرًا من مثل
هذه الأفعال, ولهذا قال r
في الصحيح: (لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض) وغير هذين الحديثين اللذين يطلق فيهما r
لفظ الكفر على المقاتلة.
إذًا
فلا يجوز قتال المسلم لأخيه
المسلم لكن مع حصول ذلك وأنه لا يجوز إلا
أنه لا يخرجه من الإيمان ولا يكون به كافرًا
كفرًا مخرجًا من الملة.قال
الكرماني-
رحمه الله -في شرحه لصحيح البخاري عند هذا الحديث: قوله (قتاله):
أي المقاتلة المعروفة ويحتمل أن تكون المقاتلة بمعنى المشادة أي المخاصمة ثم قال
بعد ذلك قال: في الأول فلم قال: في الأول
فسوق وقال: في الثاني كفر؟
قلت -والكلام لا
يزال
للكرماني رحمه الله-
قلت: لأن الثاني أغلظ
أو لأنه بأخلاق الكفار أشبه هذا تعليل من الكرماني-
رحمه الله -لماذا النبي r أطلق على السباب لفظ الفسوق بينما أطلق على
القتال لفظ الكفر فغاير بينهما؟
يقول الكرماني لعله
لأن الثاني أشد من فلما كانت المقاتلة أشد من المسابة أطلق الكفر على المقاتلة
والفسوق على المسابة قال أو لأنه بأخلاق الكفار أشبه في هذا
ثم قال: فإن
قلت: فلم أولت الكفر وجعلت الفسوق باقيًا على حقيقته.
نحن قلنا قبل قليل أن الكفر
المراد في الحديث ليس الكفر المخرج من الملة هنا يقول الكرماني: لأن قال قائل لم أولت الكفر ولم تأخذ لفظ الكفر على ظاهره بأنه مخرج من
الملة لم أولت الكفر وجعلت الفسوق باقيًا على حقيقته قلت:
هذا الكرماني يجيب عن هذا التساؤل يقول:
قلت: لأن
الإجماع من أهل السنة منعقد على أن المؤمن
لا يكفر بالقتال.
وفي هذا أدلة
من القرآن والسنة سيأتي
بعضها في مثل قوله جل وعلا:
﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا ﴾ فأطلق
عليهم مسمى الإيمان وسماهم
بالمؤمنين مع أنهم
يتقاتلون فيما بينهم مما دل على أن القتال
بمجرده لا يخرج الإنسان من الملة ولذلك صح هذا التأويل للفظة الكفر في مثل هذا الحديث ونحوه.
يقول الكرماني: "إن الإجماع من أهل لسنة منعقد على أن المؤمن لا
يكفر بالقتال ولا يفعل معصية أخرى" اهـ
يجيب الكرماني-
رحمه الله -عن هذا التساؤل
الذي يسأل عن لماذا أول لفظ الكفر وترك لفظ الفسوق على حاله؟ بأن الإجماع من أهل السنة والجماعة منعقد على
عدم خروج المسلم المرتكب القتال من الملة بمعنى أن
الكفر الذي أطلق على لفظ المقاتلة إنما
هو كفر دون كفر كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
لكن هناك ملاحظة وأمر ينبغي بل لا بد ويجب أن ينبه عليه في ختام
كلام الكرماني لما قال: لأن
الإجماع من أهل السنة منعقد على أن المؤمن
لا يكفر بالقتال ثم قال بعد ذلك: ولا
بفعل
معصية أخرى.
وهنا أمر ينبغي أن ننتبه إلى مثل هذه الألفاظ في قول الكرماني : (ولا بفعل معصية
أخرى) هذه فيها مأخذ عقدي
شرعي نقول:
الصحيح أن المسلم قد يخرج من الإسلام بفعل بعض المعاصي
الكبار ولذلك أمثلة كثيرة بل أن معتقد ذلك أن المسلم لا يخرج من دائرة لإسلام بفعل
أي معصية يشبه في مثل هذا القول وهذه العقيدة قول المرجئة
بل قد يكون فيه شيء من الإرجاء
إذا اعتقد ذلك.
فالصحيح الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الإنسان المسلم قد
يرتكب بعض الأفعال
التي هي معاصي ولكنها من الكبائر ويخرج بها عن دائرة
الإسلام وبالمثال يتضح المقال: سب
الله جل وعلا -عياذًا بالله- من ذلك هو معصية ومع ذلك إذا وقع
المسلم في مثل هذا السب يخرج به من دائرة الإسلام -والعياذ
بالله- كذلك تمزيق المصحف وإهانته إلى غير ذلك هي من الأعمال والمعاصي الكبار ولكنها أيضًا تخرج فاعلها من
دائرة الإسلام فهذه أمثلة على أن ارتكاب بعض المعاصي
يخرج الإنسان من دائرة الإسلام فيكون به كافرًا كافرًا
أكبر مخرجًا من الملة لا كما قال الكرماني- رحمه الله - في آخر ما قال: ولا
بفعل معصية
أخرى .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله -في
معرض ذلك إن سب الله جل وعلا أو سب رسوله r
كفرًا ظاهرًا وباطنًا سواء كان الساب
يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلًا له أو كان ذاهلًا
عن اعتقاده.هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة
القائلين بأن الإيمان قول وعمل ..اهـ وهذا أيضًا ما
يدل على أن أهل السنة والجماعة يرون خروج
الإنسان عن دائرة الإسلام بفعل بعض المعاصي.
ويقول أيضًا ابن القيم- رحمه الله
-في معرض هذا الحديث أيضًا:
أما كفر العمل فينقسم إلى ما يضاد الإيمان وإلى ما لايضاده؛ بمعنى أن من المعاصي وأفعال الإنسان المسلم
التي قد يخرج بها من دائرة الإسلام فتكون مضادة لأصل الإيمان ومن هذه المعاصي من أفعال المسلم ما لا يضاد الإيمان ولا
يخرجه عن دائرة الإسلام قال: أما
كفر العمل وهي أيضًا من
الأعمال لا الاعتقادات فينقسم إلى ما يضاد الإيمان وإلى ما لا
يضاده ثم أخذ يمثل على ذلك قال: فالسجود
للصنم, والاستهانة بالمصحف, وقتل النبي
وسبه يضاد الإيمان اهـ.
يريد ابن القيم بذلك - رحمه الله -عليه وعلى أهل السنة أجمعين أن يبين أن من أعمال المسلم
وأفعاله العملية قد يخرج ببعضها عن دائرة الإيمان فقال: إن
أعمال المسلم وهي المعاصي
تنقسم إلى قسمين منها: ما يضاد الإيمان بالكلية
وفاعله يخرج به عن دائرة الإسلام.
ومنها ما لا يضاد الإيمان بالكلية فيبقى الإنسان على إسلامه مع أنه مرتكب
لمعصية يستحق عليها العقاب والإثم, ومثل على القسم الأول وهو الأعمال
التي تضاد الإيمان بالكلية ويخرج بها صاحبها عن الإيمان بالسجود
للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل
النبي وسبه فمن وقع -عياذًا
بالله من ذلك- في أحد هذه الأفعال
إما أن يسجد لصنم أو يستهين بمصحف أو يسب النبي r
، أو يقتل أحد الأنبياء وذلك فيما سبق هذه الأفعال
وغيرها تضاد الإيمان بالكلية
ويخرج بها صاحبها من الإسلام .
خلاصة القول أيها الأحبة:
جعل السب فسوقا وجعل القتل كفرًا فعلى هذا إذا سب
المسلم أخاه صار هذا الساب فاسقًا لا تقبل
شهادته ولا يجعل له ولاية
ولا حتى على ابنته لأنه صار فاسقًا بنص هذا الحديث ولا يصح كذلك أن يكون إمامًا للمسلمين ولا يصح أن يكون مؤذنًا كذلك وهذا قاله كثير من العلماء وفي بعض
المسائل التي ذكرتها خلاف بينهم .
المهم الذي نخلص منه أن الساب يكون فاسقًا بمجرد سبه لأخيه المسلم البريء أما من
قاتل
أخاه المسلم بأنه يكفر أن استحل المقاتلة بغير حق كفرًا مخرجًا من الملة لكن إن
لم يستحل تلك المقاتلة ولكنه قاتل أخاه المسلم لهوى
في نفسه فإنه يكون كافرًا لكن كفر لا
يخرجه من الملة، الدليل
على
ذلك أن الإنسان المسلم إذا قاتل أخاه المسلم لا استحلالًا لقتاله وإنما لهوى في نفسه أو نحو ذلك ومع ذلك لا
يكون خارجًا عن الملة الدليل على ذلك في
كتاب ربنا جل وعلا وفي سنة نبينا r المثال على
ذلك والدليل على ذلك قوله جل وعلا كما ذكرت قبل قليل في
الآية: ﴿وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ
بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ
إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ ثم
قال الله جل وعلا بعد ذلك:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾.فجعل
الله جل وعلا الطائفتين المقتتلين
إخوة للطائفة
المصلحة فقال:
﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ﴾ فكلا الطائفتين كل واحدة منهما أخت
للطائفة الثالثة
المصلحة هذا من ناحية وهذا يدل على أنهما لا
يخرجان من الإيمان بمجرد القتال بل هو كفر دون كفر ولذلك قال جل وعلا بعد ذلك: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ فلا يزالون في دائرة
الأخوة الإيمانية التي يبقون بها مسلمين مؤمنين وهذا يبين
أن من المعاصي ما هو كفر.
لكن نعلم أن الكفر كفران كما أن الفسق فسقان
والنفاق نفاقان أيضًا والظلم ظلمان وهكذا وهذا هو الشفاء والنور الذي هدى الله له
أهل السنة والجماعة
حيث فرقوا بين الكفر الأكبر
والكفر
الأصغر والنفاق
الأكبر والنفاق
الأصغر والشرك الأكبر
والشرك الأصغر وغير
ذلك.
وهذا ليس من مشتهيات النفوس لا وإنما
جاءت به نصوص الكتاب والسنة
وقد جاءت النصوص بالشرك أيضًا ولا فرق بين
الشرك والكفر يسمى الشرك شركًا أصغر كذلك الكفر يسمى كفرًا أصغر فإذا جاءت النصوص في شتى
أنواع من المعاصي التي قد علم أنها ليست
من الكفر المخرج من الملة
فيقال في ذلك كفر أصغر وشرك أصغر وغير ذلك
مثل ما نفي بفعل تلك المعصية الإيمان عن صاحبه ومثل ما أثبت الإيمان I للطائفتين المقتتلتين
وصفهما بالإيمان من ذلك قوله I: ﴿وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ فسماهم أهل الإيمان مع اقتتالهم
وهنا في الحديث قال: (قتاله كفر)
وقال
في الحديث الآخر:(لاترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)
فكانوا مع اقتتالهم معهم أصل الإيمان
ولهذا ينبغي
لطالب العلم وطالب الحق أن ينظر فما جاء في النصوص في شيء قد علم أن صاحبه من أهل الإسلام وسمي فعله ذلك كفرًا لا نسميه كفرًا أكبر مخرجًا من الملة
وإنما نقول:
هو كفر دون كفر وفي هذا نظائر كثيرة من السنة
فعن
أبي ذر t أن
النبي r قال:
(من دعا أخاه بكفر أو فسق عاد عليه ما لم يكن صاحبه كذلك)
.
وفي هذا دليل على أن هذا من كبائر الذنوب لأن النبي
r
توعد هذا القائل أن يكون هو الذي يتصف بهذه الصفة وعلى هذا فلا يحل للإنسان أن يصف أخاه بفسق أو بكفر أو نحو ذلك من هذه الأوصاف
أيضًا في هذا التحذير الشديد من تكفير المسلمين بغير دليل شرعي خلافا لما يتجاسر به بعض الناس -والعياذ بالله- من إطلاق
الكفر على أدنى شيء من تلك الأفعال وقد قال جل وعلا في تحريم أذية المؤمنين بعامة: ﴿وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ
احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ أي
عقوبة -والعياذ بالله- وهذا يشمل كل أذية سواء كان في القول أو في الفعل وكلما كان
الإنسان أحق بالإكرام كانت أذيته أعظم وأكبر وأشد إثمًا فأذية القريب
ليست كأذية البعيد وأذية الجار
ليست كأذية غير الجار وأذية من له حق عليك
ليست كأذية من لا حق له عليك.
فالأذية إذًا يتفاوت إثمها
وجرمها بحسب المؤذى والعجب أن كثيرًا
من المسلمين اليوم يؤذون جيرانهم بالمضايقات وبالإطلاع
على العورات وغير ذلك وهذا من أعظم ما يكون من الإثم قال r
: (والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن) قالها ثلاثا قالوا: من يا رسول الله؟ قال:
(الذي لا يأمن جاره
بوائقه) يعني ظلمه وغشمه وهذا
يبين أن النفي إذا جاء في الشرع فإنه لنفي
كمال الإيمان في نصوص عديدة إلا
ما جاء به من النص بأنه مخرج من الملة ولا يحصل النجاة للعبد أيها الإخوة إلا بأصل
الإيمان الواجب ولا يستحق الدخول في النار إلا إذا انتفى ذلك الأصل -عياذًا بالله- من ذلك .
المحاضرة السادسة عشرة
حديث الصلح بين المسلمين بعامة وهو من
أحاديث الأحكام .
عن عمرو بن عوف المُزني t
عن النبي r أنه قال: (الصُّلْحُ
جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ صُلْحًا حَرَّمَ حَلاَلًا، أَوْ أَحَلَّ
حَرَامًا, الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلاَلاً
أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا).
تخريج
الحديث :هذا الحديث قال عنه الحافظ ابن حجر رحمه الله في
كتابه "بلوغ المرام": أخرجه الترمذي وصححه وأنكروا عليه لأن راويه كثير
بن عبد الله بن عمرو بن عوف ضعيف, وكأنه اعتبره بكثرة طرقه وقد صححه ابن حِبَان من
حديث أبا هريرة t.اهـ
هذا يدل على أن لهذا الحديث وإن كان ضعيفا إلا أن
له شاهدًا آخر جاء من حديث أبي هريرة t
خرجه ابن حبان وصححه, وهذا الحديث خرجه ابن حبان أيضًا صححه, وممن صححه ابن خزيمة
وخرجه أيضًا الداراقطني والبيهقي وغيرهم رحم الله الجميع، فهذا الحديث -حديث أبي
هريرة- لعله يكون من قبيل الحديث الحسن؛ لأن في إسناده راويان لم يصلا رتبة الثقة
حتى يُصَحَح حديثهما.
مسائل
هذا الحديث:
هذا الحديث جمع بين أنواع الصلح وأنواع الشروط فهو على
قسمين أو نستطيع أن نقسم هذا الحديث إلى جملتين: الجملة الأولى ما يتعلق بالصلح,
والجملة الأخرى ما يتعلق بالشروط /
فقال r
في القسم الأول : (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا
حرم حلالا أو أحل حرامًا.)
القسم الثاني قال: (والمسلمون
على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حرامًا), إذًا في هذا الحديث كلام
وحديث عن الصلح وكلام وحديث عن الشروط الصحيح منها والفاسد .
والصلح جائز بين المسلمين ومشروع بين المسلمين
والصلح يكون بين المتَنَازِعَين وبين المتَنَازِعِين, ويكون بين فئتين الباغيتين؛
فالصلح يكون بين الجميع كما قال جل وعلا: ﴿ وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ﴾ قال: ﴿ فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا﴾ , يكون في حقوق
العباد بعضهم لبعض أما في حقوق الله جل وعلا
فليس هناك مصالحة بل يجب أداء حقوق الرب I كاملة من غير نقصان وإن كان يدخل فيها باب
المسامحة والعدل والمغفرة إذا تفضل الله جل وعلا بذلك
وهو الغفور الرحيم المتفضل ذو الفضل العظيم سبحانه .
أما الكلام
عن الصلح فهذا يكون في حقوق العباد فيما بينهم وبين بعضهم قوله: (الصلح جائز بين المسلمين)؛ أخبر أن الأصل في
الصلح أنه جائز لا بأس به إلا إذا حرم حلالا أو أحل حراما, وهذا كلام محيط
يدخل فيه جميع أقسام الصلح ﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾
كما قال ربنا جل وعلا؛ وذلك لما فيه من حسم مادة النزاع وسلامة القلوب أيضًا
وبراءة الذمم فيدخل فيه أي في الصلح كما قال أهل العلم أنواع الصلح الاثنان:
وهما صلح الإقرار, وصلح الإنكار.
فصلح الإقرار:
هو أن يقر الإنسان لآخر بدين أو عين أو حق فيصالحه عنه به أو ببعضه أو بغيره ,
وصلح الإقرار اتفق أهل العلم جميعًا على جوازه وعلى وقوعه وثبوته.
وأما صلح
الإنكار فهو أن ينكر المدعى عليه صحة الدعوى من المدعي ثم بعد هذا الإنكار يصالح
المدعي على ترك الدعوى ويتفقان على المصالحة على ذلك بعين أو دين أو منفعة أو
إبراء أو غير ذلك, وهذا جائز عند جمهور العلماء إلا من
خالف كالشافعي وغيره .
ويدخل في ذلك أيضًا أي في عموم الصلح الجائز بين
المسلمين ما يُسمى بالصلح عن الحقوق المجهولة:
وذلك كأن يكون بين اثنين معاملة يشتبه فيها ثبوت الحق على أحدهما أو عليهما أو
يشتبه مقدار الحق أو يكون بين اثنين مشاركة في ميراث أو في وقف أو في وصية أو في
مال آخر من ديون أو أعيان أو غير ذلك, فيتصالحان على ما يتفقان عليه ويتحريان
العدل في ذلك, وتمام ذلك الصلح أن يحلل كل منهما الآخر, هذا ما يسمى بالحقوق
المجهولة ليس هناك دعوى من أحد على الآخر أو غير ذلك وليس هناك معرفة بالضبط ما هو
هذا الحق وما هو مقداره أو ما هي صفته وإنما يشتبه عليهما الأمر مع وجود أصل
المسألة وهي أن هناك حق معين لواحد منا أو لكلانا ولا يعرفان المقدار فيصطلحان
فيما بينهما على أمر يتفقان عليه من عين أو دين أو نحو ذلك هذا يدخل في عموم قوله r:
(الصلح جائز بين المسلمين).
كذلك مما يدخل في الصلح المصالحة بين الزوجين في حق من حقوق الزوجية وذلك كمثل النفقة أو
الكسوة أو المسكن أو غير ذلك وسواء كانت ماضية أو حاضرة حتى وإن اقتضى الحال أن
يغض أحدهما عن بعض حقه لاستيفاء بقيته أو لبقاء عقد الزوجية أو لزوال الفضل أو لغير
ذلك من المقاصد فكل ذلك حسن كما قال جل في علاه في حقهما: ﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ قال جل وعلا: ﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾؛ فلذلك نقول فذلك حسن
حتى وإن اقتضى الحال أن يغض أحدهما من حقه بعض الشيء وذلك لاستيفاء البعض الآخر أو
لبقاء عقد الزوجية ونحو ذلك.
كذلك الصلح عن
القصاص في النفوس أو في الأطراف وذلك
بمال يتفقان عليه أو المعاوضة عن ديات النفوس والأطراف والجروح, أو يصلح الحاكم
بين الخصوم بما تقتضيه الحال متحريا في ذلك مصلحتهما جميعا فكل ذلك داخل في قوله r:
(الصلح جائز بين المسلمين) فإذا اتفقا أن أحد من الناس كتب عليه القصاص فلا
يصطلح وليه مع ولي صاحب الحق على مال أو عوض أو كان الصلح في ديات؛ سواء كانت في
النفوس أو في الأطراف فذلك جائز ويدخل في (الصلح
جائز بين المسلمين), أو حتى لو كان الصلح من قبل الحاكم بين المتخاصمين
بما يقتضيه الحال في ذلك الصلح أيضًا هذا يدخل في قوله r:
(الصلح جائز بين المسلمين).
بعد ذلك نقول بعدما عرفنا أن الصلح الأصل فيه الجواز
وأنه على قسمين , فإن تضمن هذا الصلح تحريم حلالا أو تحليل حرام فهو فاسد بنص
هذا الحديث؛ لأنه قال r:
(الصلح جائز بين المسلمين إلا) استثنى من
الصلح الجائز: (إلا صلح حرم حلالا أو أحل حراما)
وذلك كالصلح على رق الأحرار من الصلح المحرم: الصلح على رق الأحرار أو
إباحة الفروج المحرمة أو الصلح الذي فيه ظلم, كل ذلك مما يحل حراما أو يحلل حراما
فلا يكون من الصلح الجائز؛ ولذلك لما ذكر ربنا جل وعلا الصلح وأنه خير قَيَّدَهُ I
بقوله: ﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ فقيده بالعدل والقسط, أو صلح اضطرار في المكره
مما لا يصح أن يجعل من الصلح الجائز صلح اضطرار كالمكره الذي يكره على الصلح أيضًا
كالمرأة إذا عضلها زوجها ظلما لتفتدي منه, وكالصلح على حق الغير بغير إذنه وما
أشبه ذلك, هذا كله من أنواع الصلح المحرم غير الصحيح وغير الجائز .
وقوله r: (الصلح جائز بين المسلمين) لفظة
المسلمين نقول: ذكر المسلمون في الحديث وهذا اللفظ المسلمين هنا في الحديث هو لقب
لا مفهوم له, إذًا ما فائدة ذكر هذه اللفظة هنا في هذا الحديث, لماذا لم يقل r:
الصلح جائز إلا صلحا؟ نقول: جاء بهذا اللقب وهو المسلمين مع أنه لا مفهوم له ذلك؛
لأنهم هم المنقادون لأحكام الإسلام وشريعته فنقول: وذكرهم
في الحديث لأنهم أي المنقادون لأحكام الإسلام وهذه هي فائدة ذكرهم في الحديث؛ لأن
الذي لا يفعل أمرا حراما كالصلح على تحريم حلالا أو تحليل حرام هو الإنسان المسلم
وهو الذي ينقاد لمثل هذا النص الشرعي الشريف.
القسم
الثاني : وهو الكلام عن الشروط قال بعد ذلك r:
(والمسلمون على شروطهم)؛ أخبر في هذا
الحديث أن المسلمين على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا, وهذا أصل كبير
في الشرع وفي مسائل كثيرة من مسائل العلم.
فإن الشرط هي التي يشترطها أحد
المتعاقدين على الآخر مما له فيه حظ ومصلحة فذلك جائز, وهو لازم إذا وافقه الآخر
عليه واعترف له بذلك, ومثل ذلك -مثل هذه الشروط الجائزة-
إذا اشترط المشتري في المبيع وصفًا مقصودًا، وذلك كشرط العبد كاتبًا إذا أراد
الإنسان أن يشتري عبدا وشرط هذا المشتري من البائع أن يكون هذا العبد كاتبًا؛ أي
متعلمًا يعرف القراءة والكتابة أو يكون هذا العبد يحسن العمل الفلاني المعين أو
تكون هذه الدابة المشتراة لبونًا أو هذا الجارح صيودًا أو هذه الجارية بكرًا أو
جميلة أو فيها الوصف الفلاني المقصود أو غير ذلك, هذه من الشرط الجائزة التي يصح
للإنسان أن يشترطها عندما يشتري مثل هذه السلع, فالمسلمون على شروطهم إذا كانت مثل
هذه الشروط لا تحل حراما ولا تحرم حلالا.
أيضًا مثل أن يشترط المشتري أن الثمن أو بعضه مؤجل
بأجل مسمى أو يبيع الشيء ويشترط البائع أن ينتفع به مدةً معلومةً كما باع جابر بن
عبد الله الأنصاري -رضي الله عنهما- للنبي r
جَمَلَهُ واشترط ظهره إلى المدينة, وهذا نص صريح في جواز مثل هذه الشروط التي لا
تحل حرامًا ولا تحرم حلالًا.
جابر بن عبد الله t
باع على النبي r
جمله وكان خارج المدينة ومع ذلك اشترط أن له ظَهْرَهُ إلى المدينة فاشترط أن يركبه
إلى المدينة بعد ذلك عند وصولهما إلى المدينة يسلمه إليه r,
وهذه من الشروط الجائزة بين المتبايعين, مثل ذلك أن يشترط البائع سكنى البيت أو
الدكان مدة معلومة أو يستعمل الإناء مدة معلومة وما أشبه ذلك, وكذلك شروط الرهن
والضمان والكفالة هي من الشروط الصحيحة اللازمة, ومثل الشروط التي يشترطها
المتشاركان في مضاربة أو شركة عنان أو وجوه أو أبدان أو مساقاة أو مزارعة ذلك كله
من الشروط الصحيحة.
أيضًا مثل شروط الواقفين والموصين في أوقافهم
ووصاياهم من الشروط المقصودة كلها صحيحة بهذا القيد ما لم تكن أو ما لم تدخل في
أمر محرم كأن تحل حراما أو تحرم حلالا على هذا الخبر العام الذي هو أصل كبير
وكالقاعدة في عموم تصرفات العباد.
بعد ذلك نقول أيضًا الشروط بين الزوجين؛
كأن تشترط دارها أي تشترط بلدها أو نفقة معينة أو نحو ذلك فإن حق الشروط ومن حق
الشرط أن يوفى به في مثل هذه الأنواع وفي الحديث من الأحكام أن الصلح لا بد فيه من
التراضي بين المتصالحين وذلك لقوله r:
(جائز) مما أشعر أيضًا أنه لا بد من التراضي
بينهما, فلا يكفي أن يكون أحدهما اشترط ذلك والآخر لا يرتضيه؛ أي أنه ليس لازمًا
عندما قال: (جائز) فليس بلازم حتى يتصالحا
ويتراضيا على ذلك, وفي الحديث مشروعية الصلح بين المتخاصمين وأن الأصل في عقود
الصلح الصحة, والحديث بعمومه يشمل الصلح في الأنكحة والدماء والأموال وفي غير ذلك,
أيضًا وفيه أن الأصل في الشروط الصحة ومن ذلك اشتراط مقتضى العقود أو ما فيه منفعة
عائدة للمعقود عليه وصحة هذين النوعين من الشروط محل اتفاق بين أهل العلم.
أخيرًا قال r
في آخر الحديث: (إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا)
كالتي تعود هذه الشروط إلى الجهالة والغرر؛ فاشتراط أمرٍ محرم أو ما يناقض
مقتضى العقد أو اشتراط ربط عقد بآخر هذا كله لا يصح؛ لأنه شرط أحل حرامًا أو حرم
حلالًا.
المحاضرة السابعة عشرة
الحديث من
أحاديث الأحكام
عن حفصة أم
المؤمنين -رضي الله عنها- أن النبي r
قال: (مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ
الْفَجْرِ ، فَلاَ صِيَامَ لَهُ)
تخريج الحديث : أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي
وأحمد وغيرهم, من طريق عبد الله بن أبي بكر عن ابن شهاب الزهري عن سالم بن عبد
الله عن أبيه عن حفصة , وقد اُختلف في رفعه وفي وقفه, لكن كما يقول الحافظ ابن حجر:"
مال الترمذي والنسائي إلى ترجيح وقفه وصححه مرفوعا ابن خزيمة وابن حبان." بل
صحح الوقف ورجحه قبلهما الإمام البخاري والإمام أبو حاتم الرازي -رحمهما الله- قال
الحافظ ابن حجر:"وعمل بظاهر الإسناد جماعة من الأئمة وصححوا الحديث المذكور
منهم ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن حزم." وهذا إشارة منه -رحمه الله- إلى
أن هؤلاء الأئمة إنما صححوا هذا الحديث مرفوعًا أخذًا بظاهر الإسناد وإلا فإن
الإسناد فيه علة وهي أن الحديث الصواب فيه الوقف لا الرفع كما رجحه البخاري وأبو
حاتم والنسائي والترمذي أيضًا والدارقطني وغيرهم رحم الله الجميع.
مسائل الحديث: الحديث دليل على اشتراط النية لصحة
الصوم,
وهذا محل إجماع بين أهل العلم لا بد حتى يكون صيام المرء صحيحًا سالمًا متقبلًا بإذن
الله جل وعلا لا بد أن يكون بنية.
الحديث
أيضًا دليل على اشتراط أن تكون هذه النية في صيام الفرض وصيام القضاء وصيام النذر
أن تكون هذه النية من الليل، كذلك أيضًا في صيام الكفارات
وذلك لحديث: (من لم يجمع الصيام من الليل فلا صيام
له.) والإجماع يراد به العزم؛, ويكفي في ذلك قوله r:
(إنما الأعمال بالنيات)؛ لأن هذا الصوم
عمل واجب فيجب أن تكون فيه النية, وهذه النية لا بد أن تكون من الليل عند صيام
الفرض والقضاء والنذر والكفارة.
في الحديث صحة أن تكون نية الصيام في أي جزء من أجزاء الليل
وبذلك قال الجمهور حتى ولو كان من نصف الليل الأول أو قبل طلوع الفجر فيشمل ذلك ما
كان قبل الفجر حتى ولو بدقيقة واحدة وإنما وجب ذلك؛ لأن صوم اليوم كاملا لا يتحقق
إلا به لما قال r:
(من لم يجمع الصيام من الليل فلا صيام له)
وقال: (من لم يبيت الصوم قبل الفجر فلا صيام له)
دل ذلك على وجوب النية بأن تكون من أثناء الليل وهذه الأثناء يصح أن يكون من
أول الليل ومن وسطه ومن آخره؛ فليس هناك وقت لازم فرض لا بد أن تكون النية فيه حتى
ولو نوى الإنسان الصيام قبل الفجر بدقيقة واحدة.
س:
لماذا لا بد من اشتراط النية من الليل؟
الجواب : لأن
صوم اليوم كاملًا لا يتحقق إلا بنية الصوم من الليل قبل طلوع الفجر؛
لأنه كما تعلمون أن الصيام يكون من طلوع الفجر الثاني إلى غروب شمس ذلك اليوم فحتى
يصح أن يطلق على الإنسان أنه صام ذلك اليوم كاملًا لا بد أن تكون النية قبل طلوع
الفجر الثاني، فمن نوى بعد طلوع الشمس لا يُقال إنه صام يومًا كاملًا؛ فلذلك يجب
لصوم يوم واجب أن ينويه قبل طلوع الفجر وليس بلازم أن تبيت النية قبل النوم بل
الواجب ألا يطلع الفجر إلا وقد نوى الإنسان الصوم؛ لأجل أن تشمل النية جميع أجزاء
النهار إذ إنه قد فرض عليك أن تصوم يوما كاملا, فإذا كان كذلك فلا بد أن تنويه قبل
الفجر وهذا واضح في أن صوم اليوم الكامل لا بد أن يكون من طلوع الفجر الثاني إلى
غروب الشمس وهذا الوقت كله لا بد أن يكون بنية .
بعد ذلك نقول:
في الحديث أن من نوى الصيام من الليل ثم أتى بمفطر قبل طلوع الفجر فإن نيته صحيحة
ولا يشترط أن يُجدد النية بعد ذلك خلافًا لبعض الشافعية، أما
إذا نوى الصوم ثم نوى الفطر فلا عبر بنيته الأولى؛ لأنها زالت ولا بد له من
تجديد النية.
الفرق
بين المسألتين : إنسان نوى صوم يوم قضاء لرمضان من
وسط الليل ثم قام في آخر الليل وأتي بمفطر كأن يكون أكل طعامًا أو شرب شرابًا أو
نحو ذلك, نقول: هذا الذي نوى في منتصف الليل الصوم ثم أتى بمفطر لا يشترط أن يأتي
بالنية مرة أخرى, كما أن هذا المفطر الذي أتاه لا يفسد عليه نيته في ذلك الصوم
لذلك اليوم، وهذا بخلاف من نوى في منتصف الليل الصيام ثم لما قام في آخر الليل نوى
الفطر فقطع نية الصيام ونوى الفطر فأكل وشرب إذا أراد أن يصوم بعد ذلك نقول: لا بد
أن تجدد النية؛ لأنك أبطلت وأزلت نية الصوم الأولى بنيتك وليس بإتيانك المفطر
وإنما بنيتك الفطر إذ يلزمك أن تنوي مرة أخرى من الليل حتى يصح لك صيام ذلك اليوم
قبل طلوع الفجر, وهذا هو الفرق بين الصورتين .
بعد ذلك نقول
في الحديث: أن نية الصيام في نهار اليوم
السابق لا تجزئ إلا إذا استصحب النية إلى جزء من الليل، صورة هذه المسألة
إنسان يريد أن يصوم يوم الاثنين مثلًا على أنه صوم يوم نذره أو هو كفارة أو هو
قضاء لصوم فرض, ثم في نهار يوم الأحد نوى أن يصوم من الغد صوم يوم الاثنين نقول:
هذه النية التي شرع بها أو التي نواها في نهار ذلك اليوم لا تصح له لذلك اليوم وهو
يوم الاثنين, لماذا؟ لأنه كما قررنا بأن صوم الفرض والقضاء والكفارة والنذر لا بد
من تبيت النية له من الليل, وهذا إنما أتي بالنية في أثناء نهار اليوم السابق
فنقول: لا يصح اللهم إلا إذا استصحب هذه النية حتى بلغ جزءًا من الليل فيصح له
فنقول: هذه الصحة ليست لأجل أنه نوى الصوم في نهار اليوم السابق, وإنما لأجل أنه
استصحب النية حتى بلغ جزءًا من أجزاء ليلة ذلك اليوم, وعليه صح صيام ذلك اليوم
وإلا إن لم يستصحب النية إلى دخول الليل لا بد له من أن يأتي بالنية في ليلة ذلك
اليوم والله أعلم .
نقول: استدل
بحديث الباب على اعتبار النية لكل يوم وحده؛ كما قال ذلك أبو حنيفة والشافعي وأحمد
في المشهور عنه قال مالك -رحمهم الله-:" يكفي في ذلك نية واحدة." بمعنى
أنه يجزئ للإنسان أن يصوم شهر رمضان كاملا بنية واحدة في أول الشهر، وعللوا هذا
القول بأن كل يوم عبادة مستقلة, ولذلك مما يدل على أن كل يوم هو عبادة مستقلة إلا
بنفسه لذلك لا يفسد صيام يوم الأحد بفساد صيام يوم الاثنين مثلًا مما دل على أن كل
يوم هو عبادة لوحده فلا بد أن تكون له نية خاصة له لوحده وذهب بعض أهل العلم إلى
أن ما يشترط فيه التتابع تكفي النية في أوله هذا كالقول الثالث من أقوال أهل العلم
في المسألة القول.
القول الأول:
لا بد لكل يوم من نية مستقلة لوحده .
القول الثاني:
هو قول مالك أنه يكفي نية واحدة لجميع الشهر.
القول الثالث:
ذهب ورجحه بعض أهل العلم أن الصيام المتتابع يكفيه نية واحدة بخلاف الصيام المتقطع,
فقالوا: ما يشترط فيه التتابع تكفي النية في أوله ما لم يقطعه لعذر فيستأنف النية
إن قطعه لعذر، وعلى هذا فإن نوى إنسان الصيام في أول يوم من رمضان للشهر كله فإنه
يجزئه عن الشهر كله ما لم يحصل, لماذا قالوا ؟ لأنه يشترط فيه التتابع فشهر رمضان
هو ثلاثون أو تسع وعشرون يومًا متتابعًا قالوا: ما لم يحصل عذر ينقطع به التتابع؛
وهذا العذر كما لو سافر الإنسان وأفطر فإنه لو عاد لا بد أن يجدد النية لما بقي من
الشهر. ونقول : لعل هذا هو الأصح وهو الصواب؛ لأن المسلمين جميعًا لو
سألتهم لقال كل واحد منهم: أنا ناو الصوم من أول الشهر إلى آخره, وعلى هذا فإذا لم
تكن النية في كل ليلة حقيقة فهي واقعة حكمًا على هذا القول؛ لأن الأصل عدم قطع هذه
النية, ولهذا قلنا إذا انقطع التتابع لسبب يبيحه ثم عاد إلى الصوم فلا بد من تجديد
النية، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس ولا يسع الناس العمل إلا به؛ لأن في
خلافه بعض مشقة على الناس إن ألزموا به.
والمراد
بالنية في الحديث: هي جزم القلب على الصيام وليس مجرد اللفظ من مفهوم النية لا لغة
ولا شرعًا, قال الجمهور: لا بد من صحة النية من الجزم بأن غدا
من رمضان, وأجاز بعض الحنابلة ولو لم يجزم بذلك استدل الحنفية بهذا الحديث على صحة
صوم من نوى بالليل وأغمي عليه قبل الفجر ولم يفق إلا بعد غروب الشمس، لكن قال
الشافعية والحنابلة: لا يصح منه صيام ذلك اليوم, لماذا؟ قالوا: لأنه لم يدع الصيام
والشراب وسائر المفطرات بقصد منه؛ لأنه لا يملك القصد باعتبار أنه مغمي عليه.
واستدل بعض
الحنابلة بالحديث على عدم اشتراط تعين المنوي فيكفي أن ينوي الصيام ولا يشترط أن
يعين نوعه هل هو قضاء أو هو كفارة أو هو من رمضان؟ قالوا: لأن الحديث اشترط تبيت
الصيام, قال الجمهور ومنهم مالك والشافعي وأحمد في المشهور: إنه لا بد من تعيين
الصوم المنوي والذي في قوله: (الصيام) يراد به
أصل الصيام ونوعه وعليه فلا بد أن ينوي ويعين صيامه لذلك اليوم هل هو صيام فرد من
رمضان أو هو قضاء أو هو كفارة أو غير ذلك؟ استدل بالحديث أيضًا على وجوب تبييت نية
صيام رمضان من الليل كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد قال أبو حنيفة:"تجزئ
نية صيام رمضان من النهار ما لم يطعم." وأكثر الحنفية على اشتراط كونها قبل
الزوال, لكن الصحيح ما ذهب إليه الجمهور بأنه لا بد من تبييت صيام رمضان من
الليل, واستدل المالكية بحديث الباب على وجوب كون نية صيام النفل من الليل,
قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد: يجوز أن تكون نية صيام النفل من النهار وهذا هو
الصواب واستدلوا على ذلك بحديث عائشة -رضي الله عنها- الذي خرجه مسلم قالت: (دخل على النبي r ذات يوم فقال هل عندكم شيء؟ قلنا: لا قال: فإني إذ صائم، ثم أتانا
يوما آخر فقلنا: أهدي لنا حيس فقال: أرنيه) والحيس هو
التمر مع السمن والأقط فقال r:(أرنيه فلقد أصبحت صائمًا فأكل منه r) إذا هذا
الحديث نص على أن صيام يوم النفل لا يشترط فيه تبييت النية من الليل بدليل أنهr
قال:
(هل عندكم شيء؟) لما دخل على عائشة يريد
أن يأكل لما قالوا: لا, قال:(فإني إذ صائم)؛ أي
أنه شرع في نية الصيام من أثناء النهار وذلك في صيام النفل أيضًا في اليوم الثاني
لما قال: (هل عندكم
شيء؟ فقالت: عندنا حيس فقال: لقد أصبحت صائمًا)؛ بمعنى أنه نوى فلما
كان هناك ما يؤكل أفطر r
وهذا في أمر صيام النفل لا يشترط ولا يجب تبييت النية له من الليل, بل يجوز كما
يقول الجمهور: أن تكون النية من أثناء النهار بنص هذا الحديث.
ولكن ذلك بشرط
ألا يأتي مُفَطِّرًا من بعد طلوع الفجر حتى ينوي صيام ذلك اليوم, فإن أتى بمفطر
فإنه لا يصح له, مثال ذلك: رجل أصبح ولكن في أثناء النهار لم يأكل
ولم يشرب ولم يجامع أيضًا ولم يأت مفطرًا ثم بعد ذلك نوى أن يصوم ذلك اليوم,
فنقول: يصح له ذلك ما دام أنه لم يأت مفطرًا من طلوع الفجر إلى وقت نيته .
لكن هناك
مسألة وهي هل يثاب هذا الإنسان الذي نوى من أثناء النهار, هل يثاب ثواب صيام يوم
كامل, أو يثاب من أثناء نيته فحسب؟ لا بد من
تصور المسألة, إنسان أصبح في يوم الخميس أو في يوم الاثنين ولم يبيت الصيام من
الليل وعند الضحى نوى ذلك اليوم صائمًا فهل نقول: إنه يصح له صيام أو يثاب ثواب
صوم يوم كامل كما يقال إنه صام يوم الاثنين كاملا أو يوم الخميس كاملا أو يثاب من
أثناء نيته؟
نقول:
في هذه المسألة قولان لأهل العلم:
القول الأول:
أنه يثاب من أول النهار؛ بمعنى أنه يثاب ثواب يوم كامل؛ لأن الصوم الشرعي لا بد أن
يكون من أول النهار .
القول الثاني:
أنه لا يثاب إلا من وقت النية فقط فإذا نوى عند الزوال فأجره أجر
نصف يوم, وهذا القول الثاني لعله والله أعلم هو
الأقرب وهو الراجح وذلك لأن نبينا r
قال: (إنما الأعمال
بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وهذا الرجل لم ينو إلا أثناء النهار
فيحسب له الأجر من حين نيته والله أعلم .
فخلاصة هذا
الحديث: لا بد عند صيام الفرض والكفارة والنذر وصيام رمضان لا بد له من تبيت النية
من الليل, أما النفل فيصح أن يبيت الإنسان الصوم من أثناء النهار إن لم يجد ما
يفطر عليه أو نحو ذلك.
فالحديث إذًا
يتعلق بصيام الفرض ونحوه من الكفارات والنذور وغيرها, أما النفل فالأمر فيه سعة
فيصح من الليل ومن غيره إلا أن الصيام الذي تعلق به فضل كيوم الاثنين والخميس لا
بد أن يبيت من الليل حتى يصدق له ويصح له ويحصل له ذلك اليوم كاملا.
المحاضرة الثامنة عشرة
الحديث
في باب الآداب
عن
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ t قَالَ : قُلْت يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا
وَهُوَ خَلَقَك . قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك
خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك . قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : ثُمَّ أَنْ
تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك) .
تخريج الحديث : الحديث
خرجه الخمسة فأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وأبو داود والنسائي في سننهما
والترمذي في جامعه جميعهم من طريق أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود t
به.
مسائل الحديث : هذه الأمور المذكورة في هذا الحديث هي من الأمور
المحرمة بل هي من كبائر الذنوب -والعياذ بالله- وقد أشتمل لفظ هذا الحديث على ثلاث
خصال :
الخصلة الأولى: هي الشرك الأكبر ذلك في
قوله r:
(أن تجعل لله ندا وهو خلقك),
الخصلة
الثانية
: (أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك),
الخصلة
الثالثة :
(أن تُزاني بحليلة جارك) هي خصال ثلاث
نأتي إليها تباعًا .
أما
الخصلة الأولى: وهي نوع خاص من الشرك قال: (أن تجعل لله ندا وهو خلقك)؛
I
أي شريكًا فالله سبحانه هو الخالق وهو المستحق للعبادة وأعظم الحقوق وأجلها هو حقه
جل وعلا وأعظم الباطل هو إبطال هذا الحق, ومن ذلك أن تجعل معه سبحانه ندا وشريكا
ولهذا كان هذا من أكبر الكبائر التي لا ينفع معها عمل عند الله جل وعلا قال
سبحانه: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ الإنسان المشرك بالله جل وعلا الجاعل له ندًا وشريكًا
في عبادته مهما أتى بعملٍ فإن هذا العمل في يوم القيامة يجعله الله جل وعلا هباءً
منثورًا وذلك لإتيانهم بما يناقض أصل التوحيد الذي لا يقبل معه عملٌ ولا سائر
الأعمال وقال جل وعلا: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾
لئن أشركت؛ أيُ إنسانٍ وتكون له أعمال كثيرة أو قليلة لئن أشرك بالله جل وعلا معه
غيره: ﴿ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾؛ أي
أن هذا العمل قليله وكثيره يكون حابطًا, وقال
أيضًا I: ﴿ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ ﴾ فكل هؤلاء
البشرية أنبياؤهم ورسلهم والصالحون والمؤمنون منهم كلهم لو أشرك واحد منهم أو
جميعهم لحبط ما كانوا يعملون, ولكانوا من الخاسرين ولجعل الله جل وعلا أعمالهم بعد
ذلك الشرك هباءً منثورًا مما دل على أن الشرك
من أعظم الظلم ومن أكبر الكبائر عند الله جلا وعلا الذي لا ينفع معه عمل
كما قال I: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا ﴾
مما دل على أن الشرك لا يغفر إلا بتوبة نصوح منه ومن لم يتب إلى الله منه وإن كان
له أعمال فجميع أعماله تكون حابطة باطلة هباءً منثورًا. وإن هذا الشرك من أقبح
وأشد أنواع الظلم فالظلم نوعان:
1- ظلم يتعلق بحقوق الله جل وعلا 2- ظلم يتعلق بحقوق العباد
ولكن
أعظم هذا الظلم هو المتعلق بحدود الله جل وعلا والإشراك به , فإن النبي r
كما في هذا الحديث عندما سئل أي الذنب أعظم؟
أجاب r بهذا الظلم الذي هو في حق الله جل وعلا وهو
الإشراك به قال: (أن تجعل لله ندا وهو خلقك), ويليه
أي الظلم في الكبائر ثم الظلم في الصغائر ونحو ذلك.
أما
في حقوق الله جل وعلا فالظلم يدور على ثلاثة أشياء
بينها نبينا r في خطبته في حجة الوداع حينما قال r:
(إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة
يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا).
الأول: هذا
الظلم في النفس هو الظلم في الدماء بأن يعتدي الإنسان على حق غيره بسفك الدم أو
الجروح أو ما أشبه ذلك .
الثاني:
الظلم في الأموال بأن يعتدي الإنسان ويظلم غيره في ماله إما بعدم بذل الواجب وإما
بإتيان محرم وإما بأن يمتنع من واجب عليه وإما بأن يفعل شيئًا محرمًا في مال غيره
.
الثالث:
الظلم في الأعراض فيشمل الاعتداء على الغير بالزنا واللواط والقذف وما أشبه بذلك -عياذا
بالله- من ذلك كله .
وكل
الظلم بأنواعه محرم كما قال جل وعلا:(يا عبادي إني
حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا) ولن يجد الظالم
من ينصره أمام الله جل وعلا قال سبحانه في
محكم التنزيل: ﴿ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ
وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾ فبين أن الظالم لا يجد حميمًا أي صديقًا يحجزه
أو ينصره من الله جل وعلا في ذلك اليوم كما أنه لا يجد شفيعًا يشفع له فيطاع؛ لأنه
منبوذ بظلمه وعدوانه قال جل وعلا: ﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ .
من خلال ما مر معنا نعرف مغبة هذا الظلم وأنه
محرم على العبد كما أن الله -جل وعلا -جعل حتى الظلم محرم على نفسه I
كما هو محرم على عباده, ومن أشد وأعظم وأقبح أنواع الظلم الظلم في حقوق وفي حدود
الله جل وعلا, ومن أعظم هذا الظلم الشرك الأكبر وهو أن يجعل العبد لله جل وعلا ندا
وهو خلقه .
الخصلة
الثانية
: قال r في الحديث: (ثم
أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك) ذكر r
نوعًا خاصًا من القتل وهو قتل الولد وهذا فيه قتل وفيه أيضًا قطيعة للرحم حيث قتل
ولده؛ والسبب في ذلك كما قال r:
(خشية أن يأكل معك) خشية أن يطعم معك كما كان
يفعله أهل الجاهلية في قتل أولادهم من البنين والبنات أو خشية العار للبنات كما
قال جل وعلا وذلك كله من المحرمات بل يعد من أعظم الذنوب عند الله جل وعلا وكما
قال I:
﴿ وَلَا تَقْتُلُوا
أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾ الإملاق هو الفقر أي وأنتم فقراء لا تقتلوا أولادكم
لأجل هذا الفقر , وقال جل وعلا: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ
نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ﴾
قدم المخاطبين في الآية الأولى ﴿نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾
على الأبناء؛ لأنهم في حال الفقر فهم متلبسون بالفقر .
أما
في الآية الأخرى فقال: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ﴾
هم ليسوا بفقراء ولكن خشية الفقر يقتلون أولادهم من البنين والبنات فلذلك قال ربنا
I:
﴿ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ
وَإِيَّاكُمْ ﴾ فقدم
البنين والبنات عليهم تأكيدا بأنه I
سيرزقهم إن لم تقتلوهم خشية الإملاق.
الخلاصة / في
حال الفقر قدم إطعام الفقراء على البنين والبنات وفي حال خشية الفقر قال: ﴿ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ
وَإِيَّاكُمْ ﴾ فأنتم
سنرزقكم أيضًا هم إن أتوا ولم تقتلوهم سنرزقهم فلا تقتلوا أحد خشية الفقر؛ فإننا
سوف نرزقه قبلكم هذا هو المعنى- والله I أعلم- فقتل الولد هذا أيضًا من أعظم الذنب ومن أكبر
الكبائر إلا أنه بعد الشرك بالله جل وعلا.
الخصلة
الثالثة:
قال r:
(ثم أن تزاني حليلة جارك) وذلك
لأن الزنا قبيح, وإذا كان الزنا قبيح ومحرم فهو بحليلة الجار أقبح وأقبح وأشد حرمة
وأعظم جرما وإثمًا؛ ذلك لأن الجار الذي حقه من أعظم
الحقوق عند الله جل وعلا في صلته وبره ذلك إذا كان ينتظر منك هذه الصلة وهذا البر
ثم مع ذلك تختاله وتزني بحليلته ذلك من أقبح الذنوب وأعظمها, ولذلك قال
في الحديث: (ثم أن تزاني) جاء بهذا اللفظ تزاني
مما يدل على أن الأمر وقع عن مخاتلة ومخادعة, ولذلك روى الإمام أحمد رحمه الله في
مسنده: (لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات خير من أن يسرق
من الجار ولئن يزني بعشر نسوة خير من أن يزني بحلية جاره)؛ يعني أن زناه
بامرأة جاره شر من زناه بعشرة نسوة وسرقته من بيت جاره شر من سرقته من عشرة أبيات,
وهذا الحديث ضعيف لا يصح إلا أن معناه هو معنى الحديث الذي معنا وهو التأكيد على
عظم حق الجار, وأن الجرم والإثم والبغي والعدوان على الجار أشد وأقبح وأعظم جرمًا
وإثمًا من الاعتداء على الغير؛ إذ المقصود من هذا الحديث تقبيح أمر الزنا وأمر
السرقة من الجار مع أن السرقة والزنا من الجار ومن غيره محرم على الإطلاق والعموم
ولهذا في قوله جل وعلا: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا
يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا
يَزْنُونَ ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ
يَلْقَ أَثَامًا % يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ
مُهَانًا ﴾ ، وجاء
في رواية مسلم عقب حديث الباب قال: فأنزل الله جل وعلا تصديق ذلك بقوله: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ
مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ.. ﴾
نزل تصديقًا لما ذكره النبي r.
وهكذا
أيضًا ما يأتي به r
تارة تتواطأ عليه النصوص من الكتاب والسنة وهذا أقوى الأدلة وهو ما اتفق عليه
الكتاب والسنة على شيء فهو من أبلغ ما يكون يليه في الرتبة ما جاء في السنة مفسرة
لهذا المعنى يليه أيضًا أي بمعنى في كتاب الله الأول ما جاء في كتاب الله وفي سنة
رسول الله r, الثاني ما جاء في سنة النبي r
مفسرًا وموضحًا ومبينا لما جاء حكمه في كتاب الله جل وعلا, الرتبة الثالثة
والأخيرة ما جاء في السنة استقلالًا, ما جاءت به السنة مستقلة فهذا كله من طرق
الإثبات وهو محل إجماع بين أهل العلم.
إذًا
أعظم الذنوب وأشدها :
1-
الإشراك بالله جل وعلا.
2- أن يقتل
الإنسان ولده خشية أن يطعم معه
3- أن يزني
الإنسان بحليلة جاره.
فخلاصة
كلامي: ما اتفق عليه الكتاب والسنة اتفاقًا واضحًا, والمعنى يكون فيه واضحًا لا
يحتاج إلى تفسير هو أول الرتب يليه ما كان في الكتاب ثم جاء تفسيره في السنة هي
رتبة ثانية يليه ما جاءت به السنة مستقلة كل هذه من الطرق يليه الإجماع ثم يليه
القياس والاعتبار الصحيح, هذه خمسة طرق كلها متفق عليها بين أهل العلم في إثبات
الأحكام الشرعية ومجمع عليها إجماعًا مقطوعًا به, والشرك الذي هو أعظم الذنوب كل الأمة مجمعة على أنه أكبر الكبائر وأنه
الوحيد الذي لا يغفره الله جل وعلا إن أتى الإنسان به في ذلك اليوم فإنه يكون خالدًا
مخلدًا في نار جهنم, أما ما سواه من الذنوب حتى ولو كان كبيرًا فإنه يدخل تحت
دائرة المغفرة عند مشيئة الله جل وعلا, دليل ذلك قوله جل في علاه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ فأعظم الذنوب
على الإطلاق الشرك وهو لا يغفر البتة إلا ما دون ذلك فإنه إذا شاء ربنا جل وعلا
غفره كما في الآية السابقة .
المحاضرة التاسعة عشرة
الحديث من
أحاديث الأحكام
قبل أن نشرع
في حديث الباب أود أن نقدم بمقدمة عن الصيام تعريفًا والحكمة من شرعيته وأدلة
شرعيته ونحو ذلك, ثم نزلف إلى شرح حديث الباب -مستعينا بالله جل وعلا- نقول :
الصيام
لغة:
هو الإمساك ومنه قوله سبحانه:﴿ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ
الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ فقوله: ﴿صَوْمًا﴾ أي إمساكًا عن الكلام بدليل
قوله سبحانه: ﴿ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا ﴾؛ أي إذا رأيت
أحدًا فقولي: إني نذرت للرحم صومًا؛ يعني إمساكا عن الكلام فلن أكلم اليوم إنسيًا.
شرعاً : التعبد لله جل وعلا بالإمساك عن الأكل
وعن الشرب وعن سائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
وصوم شهر رمضان ركن من أركان الإسلام وفرض من فروض
الله جل وعلا معلوم من الدين بالضرورة دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع, فمن
الكتاب قول الله جل وعلا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ % أَيَّامًا
مَعْدُودَاتٍ ۚ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ
عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ۚ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ % شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى
لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
ومعنى كتب؛ أي فرض قال:﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ وهذا
أمر والأمر كما هو متقرر يدل على الوجوب, أما من السنة ففي حديث ابن عمر الذي
أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين قالr: (بني الإسلام
على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمدًا رسول الله, وإقام الصلاة, وإيتاء
الزكاة, وصوم رمضان) وهذا من الأحاديث الدالة على فرضيته وفضله وهي أحاديث
كثيرة مشهورة, وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على وجوب صومه وعلى أن من أنكره كفر
وخرج من ملة الإسلام -عياذا بالله- من ذلك.
الحكمة في شرعية الصيام : تزكيةٌ
للنفوس وتطهيرٌ وتنقيةٌ لها من الأخلاق الرديئة والأخلاق الرذيلة؛ لأنه أي الصوم
يضيق مجاري الشيطان في بدن الإنسان؛ لأنه كما هو معلوم أن الشيطان يجري من ابن
آدم مجرى الدم فإذا أكل أو شرب انبسطت نفسه للشهوات وقلت رغبتها في العبادات,
والصوم على العكس من ذلك تمامًا كما قال rفي نحو هذا المعنى: (يا معشر الشباب من استطاع
منكم الباءة؛ فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج, ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه
له وجاء).
وفي الصوم تزهيد في الدنيا وشهواتها وترغيب في الآخرة,
وفيه أيضًا باعث على العطف على المساكين وإحساس بآلامهم لما يجده الصائم من ألم
الجوع والعطش.
وقت بدء الصوم وانتهاءه : فيبتدئ وجوب الصوم
اليومي بطلوع الفجر الثاني وهو البياض المعترض في الأفق كما أنه ينتهي بغروب الشمس
قال الله I: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ وهذا
هو الفجر الثاني: ﴿ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى
اللَّيْلِ ﴾ ومعنى يتبين لكم الخيط
الأبيض من الخيط الأسود من الفجر؛ أي يتضح بياض النهار من سواد الليل هذا في
ابتداء وانتهاء الصوم اليومي, وأما في ابتداء وجوب صوم الشهر فيبتدئ وجوب صوم
شهر رمضان إذا علم دخوله, وللعلم بدخول شهر
رمضان ثلاثة طرق:
الطريقة
الأولى: رؤية هلال شهر رمضان قال
الله جل وعلا: ﴿ فَمَنْ
شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ وقال r: (صوموا لرؤيته) فمن رأى الهلال بنفسه وجب عليه الصوم.
الطريقة
الثانية: الشهادة على الرؤية أو الإخبار عنها؛ فيصام برؤية عدل مكلف إخباره بذلك بأنه رأى الهلال وذلك لقول ابن عمر -رضي
الله عنهما-: "فرأى الناس الهلال فأخبرت النبي r أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه." .
الطريقة
الثالثة: إتمام عدة شعبان ثلاثين يومًا, وذلك حينما لا يرى هلال رمضان ليلة الثلاثين من شعبان مع وجود ما يمنع
الرؤية من غيم أو قتم أو وجود شيء من ذلك ودل على ذلك قوله r:(إنما الشهر تسعة وعشرون يومًا فلا تصوما حتى تروا الهلال ولا
تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له) ومعنى قوله: فاقدروا له؛ أي
أتموا شهر شعبان ثلاثين يومًا لما ثبت في حديث أبي هريرة t: (فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين) .
بعد
ذلك حديث الباب نصه :
عن أبي هريرة t قال: قال r: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوما
فليصمه).
تخريج
الحديث : أخرجه البخاري
ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وأحمد في مسنده, إذًا يصح أن نقول:
إن هذا الحديث خرجه السبعة الستة المصطلح عليهم وهم البخاري ومسلم وأبو داود
والترمذي والنسائي وابن ماجه والسابع هو أحمد ممن يطلق عليهم عند
اجتماعهم السبعة جميعهم من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة t به وهذا اللفظ
هو لفظ مسلم قوله: (إلا رجل) هذه هي
رواية الإمام مسلم وأما عند البخاري فقال: (إلا أن
يكون رجلٌ) .
مسائل
الحديث:
- في الحديث مشروعية صوم رمضان وقد أجمع العلماء على أنه فرض وركن من أركان الإسلام .
- في الحديث جواز تسمية الشهر باسم رمضان وعدم تعين لفظ
شهر رمضان فيصح أن نقول: جاء شهر رمضان ويصح أن نقول جاء رمضان
كما يصح أن نقول: شهر رمضان وأن نقول: رمضان؛ لأنه في الحديث قال r: (لا تقدموا رمضان) ولم يقل لا تقدموا شهر رمضان
مما دل على صحة أن يقال رمضان بدون لفظ شهر فيسمى الشهر باسم رمضان .
- في الحديث النهي عن تقدم صوم رمضان بيوم أو يومين, والأصل أن النهي يدل على التحريم قال الترمذي: "والعمل
على هذا عند أهل العلم"؛ أي إنه يحرم على الإنسان أن يتقدم صيام شهر رمضان
بصوم يوم أو يومين وذلك لحديث عمار بن ياسر t قال:"من
صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم r."وذلك
التحريم إنما جاء لأجل أنه يلزم منه يلزم من صيام يوم أو يومين قبل رمضان إدخال
يوم من غير رمضان وزيادة يوم ليس مشروعًا واستدراك على الشارع هل هذا كان محرمًا
بالنهي عنه وإخبار أنه قد عصى أبا القاسم r, والصحابة -رضوان
الله عليهم- لا يقول أحدهم مثل هذه العبارة: "فقد عصى أبا القاسم." إلا
وأنه قد تحقق أنه قد نهى عنه r وهذا له حكم الرفع؛ بمعنى أنه يكون كالحديث
المرفوع من قوله r تمامًا في الحديث.
- في الحديث مشروعية الفصل بين الفرائض والنوافل من
الأعمال؛ وذلك لئلا يختلط بعضها في بعض, فالإنسان الذي يريد أن يتنفل في شهر شعبان له ذلك كما كان r يكثر الصيام
في شعبان بل كما قالت عائشة: لم أره صام شهرًا في بعض الألفاظ كاملًا إلا شعبان,
فينبغي للإنسان أن يكثر من النوافل في هذا الشهر وهو شهر شعبان إلا أنه ينبغي له
أن يفصل بين نوافله وفضله بعدم صيام يوم الشك أو تقدم صوم رمضان بيوم أو يومين .
- والحديث دليل على جواز صيام آخر شعبان إذا وافق عادة
إنسان كصيام الاثنين أو الخميس واستثنى
العلماء في من بقي عليه قضاء من رمضان السابق فله أن يصوم اليوم أو اليومين اللذان
يسبقان شهر رمضان وذلك يدل عليه حديث عائشة عند البخاري ومسلم أنها كانت تؤخر صيام
القضاء لشعبان لمكان النبي r منها .
- استدلت طائفة من أهل العلم بحديث الباب على جواز
الصيام بعد منتصف شعبان؛ وذلك لأن حديث الباب لم ينه إلا عن تقدم صوم رمضان بصوم
يوم أو يومين مما دل بمفهومه على جواز الصوم قبل ذلك وهذا هو مذهب الجمهور, وقال آخرون من الشافعية والحنابلة بعد الجواز وذلك
لحديث أبي هريرة t: (إذا انتصف
شعبان فلا تصوموا) وهذا الحديث خرجه أصحاب السنن قالوا: والمنطوق في
هذا الحديث: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)
مقدم على المفهوم من حديث الباب: (لا تقدموا رمضان
بصوم يوم أو يومين) يفهم منه جواز الصيام قبل ذلك هنا يقول الشافعية
والحنابلة: بأنه لا يجوز الصيام؛ لأن منطوق هذا الحديث حديث أبي هريرة: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) مقدم على مفهوم
حديث: (لا تقدموا صوم رمضان بيوم أو يومين), وقال
آخرون: المراد بالحديث حديث أبي هريرة: (إذا انتصف
شعبان فلا تصوموا) النهي عن استئناف صيام بعد منتصف شعبان بخلاف أصحاب
العوائد الذين من عادتهم صيام يوم وإفطار يوم أو صيام الثلاث البيض أو صيام
الاثنين والخميس أو نحو ذلك بخلاف أصحاب العوائد أو من صام من أول الشهر أقول:
ولعل هذا أولى؛ لأنه كما تعلمون القاعدة أنه إذا أمكن الجمع بين الأدلة لم يصر ولم
يُذهب إلى الترجيح؛ لأن في الجمع إعمال للأدلة كلها فنحمل هذا الحديث: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) على من يجدد أو
يستأنف الصيام بعد انتصاف الشهر نقول: أنت منهي عن الصوم استئنافا بعد انتصاف شهر
شعبان, أما من كان صائمًا في أول الشهر أو من كانت له عادة أو من كان عليه قضاء
فيجوز له أخذًا بمفهوم ذلك الحديث وإخراجًا له عن منطوق حديث أبي هريرة وبهذا نجمع
بين الدليلين والله تعالى أعلم
فأما
إذا صام قبل النصف من شعبان فلا بأس بذلك وهذا باتفاق
ولهذا كان r يصوم شعبان في حديث عائشة -رضي الله عنها-
قالت: (كان يصوم شعبان كله) وهذا في
البخاري وعند مسلم قال: قالت رضي الله عنها-: (كان
يصومه إلا قليلا) وهو r
لم يصم شهر رمضان كاملًا؛ لهذا قالت عائشة كما عند مسلم أيضًا: "ما استكمل r
شهرا كاملًا قط إلا رمضان"؛ ولذلك رواية مسلم (إلا
قليلًا) تفسر رواية البخاري وتحمل عليها.
وهذا يوضح
الحديث الذي جاء عن أم سلمة -رضي الله عنها- أنه r
كان يصل شعبان برمضان؛ يعني أنه كان يصوم أغلبه وأكثره لا أنه يصوم شهر شعبان
كاملا ويصله بشهر رمضان كاملا, والعرب يطلقون لفظة الكل وأحيانًا يريدون بها
الأغلب فيقولون: قمت الليل كله أو يقولون مثلا: صمت الشهر كله أو ما أشبه ذلك
ويريدون في الحقيقة الأغلب والأكثر وهذه طريقة معروفة عند العرب وعند من قرأ في
لغة العرب, ومنه أيضًا ما نقلته عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أنه صام شعبان
كله كما في البخاري قبل قليل هذا لو لم تأت روايات تبين أنه r
لم يصم إلا بعضه r
فلا يمكن أن يقال بذلك لكن كما قدمت جاءت رواية مسلم مبينة وموضحة أنها قالت: أنه r
صام رمضان إلا قليلا وقالت أيضًا: (ما استكمل رسول
الله r صيام شهر إلا رمضان), فهذه القرائن
مع ما قلت من معرفة لغة أهل العرب وأنهم يطلقون ذلك على الأعم والأغلب والأكثر,
أقول هذه قرائن يصرف بها لفظ البخاري النبي r
أن عائشة قالت: "أنه صام شهر شعبان كله" يصرف بها لفظ الكل إلا الأغلب
وهو واضح في ذلك والله أعلم .
- في الحديث
ارتباط الصيام بالرؤية والمنع من تقديم الصوم على الرؤية
كما قال r:(صوموا
لرؤيته) فإن لم نرى الهلال فلا نصوم ونمتنع عن الصوم بما دل عليه أيضًا
هذا الحديث: (لا تقدموا صوم رمضان بصوم يوم أو
يومين) فإذًا يحرم صيام يوم الشك؛ لأن تعليق الصوم جاء بالرؤية فإن
رأيناه صمنا وإن لم نره لا نصوم إلا إن استكمل شعبان ثلاثون يومًا .
- ظاهر الحديث
تحريم صوم يوم الشك, ولم يفرق بين حال الصحو وحال الغيم والجمهور, ومنهم الأئمة
الثلاثة على تحريم صوم يوم الشك وعدم جواز احتسابه من رمضان ولو ثبتت الرؤية بعد
ذلك,
وقال بعض التابعين:"الناس في ذلك تبع لإمامهم." بمعنى أنه إذا أمر
الإمام بالصوم يصام وإن لم يأمر لا يصام ولم يتعلقوا بالرؤية في حال الغيم.
أما الحنابلة
فقالوا: يجب صيام يوم الشك في حال الغيم ويجزئ عن رمضان قال شيخ الإسلام ابن تيمية
-رحمه الله- عند أحمد: يجوز صومه ولا يجزئ عن رمضان ففرقوا بين حال الصحو وبين حال
الغيم فحال الصحو يحرم صوم يوم الشك أما في حال الغيم قال الحنابلة: يجوز صوم يوم
الشك لأجل الغيم كما يجوز أن يحسب أيضًا من رمضان.
والأظهر في هذه المسألة والله أعلم تحريم
صوم يوم الشك مطلقًا في حال الصحو وفي حال الغيم وذلك لحديث الباب: (لا تقدموا صوم رمضان بيوم أو يومين) وهذا كما قلت
متفق عليه بل خرجه السبعة وأيضًا لحديث البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر -رضي
الله عنهما- قال: (فإن غم عليكم) وهو نص
في مسألة الغيم قال:(فإن غم عليكم فأكملوا العدة
ثلاثين) ولم يقل r
فصوما ذلك اليوم واحتسبوه من رمضان مما دل على حرمة صيام يوم الشك فإن كان الحال
صحو فلا يجوز صيام يوم الشك, إن رأينا الهلال صمنا وإن لم نره نستكمل شهر شعبان
ثلاثين يومًا وإن كان هناك غيم أو قتر أيضًا لا نصوم ويحرم صوم يوم الشك ونستكمل
شهر شعبان ثلاثين يومًا, وبذلك نكون عملنا بنص هذا الحديث: (لا تقدموا صوم رمضان بيوم أو يومين), وعملنا
بحديث: (فإن غم عليكم فأكملوا العدة شعبان ثلاثين
يومًا) ونكون به متبعين لهدي نبينا r
في هذه الأحاديث.
المحاضرة العشرون
الحديث من
أحاديث أبواب الأحكام
حديث أبي
هريرة t قال: قال النبي r: (أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ
فَحُجُّوا) أخرجه مسلم .
مسائل
الحديث
المسألة
الأولى:
تعريف الحج وحكمه / فالحج لغة: هو قصد الشيء المُعَظَّم وإتيانه,
الإنسان عندما يقصد شيئًا يقال له: حجه, وإذا سمعنا فلان حج فلانا أو فلان حج
المكان الفلاني؛ أي إنه قصده وقصد إتيانه,
وأما في الشرع: هو قصد البيت الحرام والمشاعر العظام وإتيانها في وقت
مخصوص على وجه مخصوص, وهو الصفة المعلومة في الشرع من الإحرام والتلبية
والوقوف بعرفة والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بالمشاعر ورمي
الجمار وما يتبع ذلك من الأفعال المشروعة فيه, فإن ذلك كله من تمام قصد البيت الذي
هو الحج شرعًا .
أما حكمه:
فالحج كما هو معلوم من الدين بالضرورة أحد أركان الإسلام
ومبانيه العظام وهو خاصة هذا الدين الحنيف وسر التوحيد الذي هو لله جل وعلا على
العبيد الله جل وعلا على أهل الإسلام بقوله: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾
فسمى الله تعالى تارك الحج كافرًا فدل على كفر من تركه مع الاستطاعة وحيث دل على
كفره فقد دل على من جهة أخرى آكاديته وركنيته.
أيضًا جاءت
السنة الصحيحة عن النبي r
بالتصريح بأن الحج أحد أركان الإسلام والمباني العظام؛ ففي هذا الحديث يقول r:
(يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا)
بمعنى أنه جعله ركنًا من أركان الإسلام وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر -رضي
الله عنهما- أن النبي r
قال: (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله
وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام),
أيضًا في حديث جبريل المشهور حديث عمر t
الذي هو في البخاري ومسلم في البخاري من حديث أبي هريرة وفي مسلم من حديث عمر أن
جبريل u قال للنبي r:
(ما الإسلام؟) عندما قال: (جاء رجل أسود الشعر أبيض الثياب لا يعرفه منا أحد حتى جلس
إلى النبي r فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخديه وقال: يا محمد
أخبرني عن الإسلام؟ قال r: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم
الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا) فذكر
r
في هذا الحديث الحج من أركان الإسلام, وأنه أحد الأمور التي يعرف بها الإسلام التي
لا يكون الإسلام تامًا إلا بها والأحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما تدل على هذا
المعنى وبفرضه يكمل بناء الدين ويتم بناؤه على أركان خمسة كما جاءت تسميتها في
الأحاديث المتقدمة وهي الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج فهي مبانٍ أربع
لهذا الدين وقواعد وأركان أربع لا يقوم الدين ولا يتم إلا بها .
وأجمع
المسلمون على أنه ركن من أركان الإسلام وأنه فرض من فروضه إجماعًا ضروريًا لا يسع
المسلم جهله, وهو من العلم المستفيض الذي توارثته الأمة خلفًا عن سلف فكل أحد من
الناس كل أحد من المسلمين صغيرًا أو كبيرًا ذكرًا أو أنثى متعلمًا أو غير متعلم
يعرف أن الحج ركن من أركان الإسلام لا يتم إسلام العبد إلا به.
قال بعض أهل
العلم: الحج على الأمة فرض كفاية كل عام على من لم يجب عليه عينا يقول: إن حكم الحج فرض كفاية على عموم الناس ممن لا يستطيع
الحج في ذلك العام ولا يكون عليه فرضًا واجبًا عينيًا, فيجب الحج على كل
مسلم حر مكلف قادر في عمره مرة واحدة, المسلم الحر المكلف القادر يجب عليه الحج في
عمره مرة واحدة, وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم, يبقى مسألة
القدرة: المسلم الحر المكلف هذا ظاهر, لكن القدرة ما هي؟
نقول: التي
تجعل الإنسان يجب عليه الحج وجوبًا عينيًا, هذه القدرة هي استطاعة السبيل التي
جعلها الشارع مناط الوجوب؛ لأن الله جل وعلا قال في الآية التي
أسلفت:﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾
هذه الاستطاعة وهذه القدرة هي مناط الوجوب وهي استطاعة السبيل, روى الدراقطني
بإسناده عن أنس t
عن النبي r في قوله جل وعلا: ﴿
مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ قال: قيل: يا رسول الله, ما
السبيل؟ قال: (الزاد والراحلة) وجاء عن
ابن عباس أيضًا عند ابن ماجة والداراقطني بنحوه وعن جماعة من الصحابة, جاء أيضًا
هذا المعنى مما يقوي بعضها بعضا للاحتجاج بها, ومن ذلك ما جاء عن ابن عمر أن
أعرابيًا جاء إلى النبي r
فقال: ما يوجب الحج؟ الأعرابي يسأل النبي r
ما يوجب الحج فقال r:
(الزاد والراحلة) قال الترمذي العمل عليه
عند أهل العلم, وهذا أيضًا مما يقوي معنى الأحاديث السابقة؛ لأن القدرة هي استطاعة
السبيل وهي امتلاك الزاد والراحلة, قال شيخ
الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بعد سرد الأحاديث في هذا المعنى قال: "هذه
الأحاديث مسندة من طرق حسان مرسلة وموقوفة تدل على أن مناط الوجوب الزاد والراحلة." هذه الأحاديث منها ما هو
مرسل ومنها ما هو موقوف كما قلنا: يشد بعضها بعضًا ويقوي بعضها بعضًا جميعها نفهم
منها وتدل على أن المراد ومناط الوجوب هو الزاد والراحلة, وهو الذي يفسر به القدرة
على الذهاب للحج وهي ما عبر عنها بعض أهل العلم باستطاعة السبيل؛ أي امتلاك الزاد
والراحلة.
والمراد
بالزاد ما يحتاج إليه الحاج في سفره إلى الحج ذهابًا وإيابًا فالزاد
المشترط في الاستطاعة والقدرة للحج يفسر بأمرين:
الأمر الأول:
زاد المسافر نفسه من خروجه من منزله ذهابًا إلى الحج وإيابًا من مأكل ومشرب وكساء .
الأمر الثاني:
حاجة ومئونة أهله من المأكل والمشرب والكسوة حتى يرجع إليهم ذلك المسافر من الحج .
وأما المراد
بالراحلة فهي المركوب الذي يمتطيه العبد في سفره إلى الحج ورجوعه منه بحسب حاله
وزمانه,
فلا بد للمسافر إلى الحج من مركوب يمتطيه في سفره إلى بيت الله الحرام وهذا
المركوب يختلف باختلاف أحوال الناس كما يختلف أيضًا باختلاف أزمان الناس؛ ففي
الزمان السابق والماضي كما تعلمون كانت الراحلة هي بهيمة الأنعام وهي الدابة من
الجِمَال ونحوها, أما في مثل هذه الأزمنة فالدابة إما جوا كالطائرات وإما برا
كالسيارات وإما بحرا كالسفن وغيرها فيختلف وتختلف الراحلة من زمن إلى آخر كما
يختلف أيضًا من حال إلى آخر فما يركبه الفقير غير ما يركبه الغني وما يركبه
الجماعة غير ما يركبه الواحد إلى غير ذلك, إذ
تعتبر الراحلة متى مع بعد المسافة عن بيت الله الحرام فقط وهو ما تقصر هذه المسافة
هو ما تقصر فيها الصلاة لا ما في دونها, إذًا الإنسان الذي يسكن دون مسافة
السفر فيما بينه وبين بيت الله الحرام لا نقول له: من شروط استطاعتك للحج الراحلة؛
لأنه ليس بينه وبين بيت الله الحرام تلك المسافة التي تقصر من أجلها الصلاة ويسقط
منه شرط الراحلة وتشترط الراحلة فيمن كان سكنه بعيد عن بيت الله الحرام مسافة تقصر
فيها الصلاة ويكون معها الإنسان مسافر, هذا حد حده بعض أهل العلم لاشتراط الراحلة
في السفر للحج والمعتبر شرعًا أيضًا في الزاد والراحلة في حق كل أحد قال أهل
العلم: ما يليق بحاله عرفًا وعادتًا لاختلاف أحوال الناس كما تعلمون أن حال الفقير
في زاده وفي راحلته غير حال الغني والوجيه وصاحب الجاه في زاده وفي راحلته .
المشروط
للاستطاعة في الحج أمران متفق عليهما وهما: الزاد والراحلة زاد بعض أهل العلم سعة
الوقت, وعند الجمهور أيضًا أمن الطريق بلا خفارة فإن
لم يؤمن الطريق بأن كان فيه لصوص أو قطاع طرق فلا يجب على الإنسان الحج حينئذ,
وإن كان هناك عدم أمن ويحتاج المسافرون مع اختلال ذلك الأمن إلى خفارة قال
الجمهور: حتى في هذه الحال لا يجب على الإنسان الحج في ذلك العام فلا يجب عليه إلا
مع امتلاك الزاد والراحلة وأمن الطريق وإن قلنا بالرابع أيضًا فنقول: وسعة الوقت
أيضًا لتعذر الحج مع ضيق الوقت وقد أوضح الله جل وعلا في سياق ذكر فرض الحج على
الناس بشرطه محاسن البيت العظيم وهو ما شأنه إما يدعو النفوس المتخيرة إلى قصده
وحجه فقال I في معرض تلك الآيات: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ
مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ
إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾ الآية ففي هذا السياق يذكر الله جل وعلا محاسن وبركة
هذا البيت وأنه هدى وأن في قصده سيرى آيات بينات لهذا البيت وعظم شأنه حتى تشتاق
النفوس وترغب في : قصده وحجه .
ثم قال: ﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ
كَانَ آمِنًا ﴾, هذا أيضًا من أعظم المرغبات والمحفزات إلى حج بيت
الله الحرام وقصده وقال جل وعلا في موضع آخر وأخبر أنه إنما شرع حج البيت كما قال:
﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ الآية
كل ذلك مما يدل على الاعتناء بهذا البيت والتنويه بذكره والتعظيم لشأنه والرفعة من
قدره, ولاحظوا ولو لم يكن إلا إضافة هذا البيت لله جل وعلا لكفى بذلك تعظيمًا
ورفعة ومكانة وذلك في قوله I: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ﴾ فأضاف البيت له I إضافة تشريف وتعظيم ورفعة فلو لم يكن إلا إضافة هذا البيت لله جل وعلا لكفى
بذلك شرفا وفضلا.
إذًا هذه النصوص وأمثالها هي التي أقبلت بقلوب العالمين
جميعًا من شتى بقاع الأرض من شرقها وغربها وشمالها وجنوبها إلى هذا البيت العظيم؛
حبًا له وشوقًا إلى رؤيته, فلا يرجع قاصده منه إلا وتجدد حنينه إليه وجد في طلب
السبيل إليه وهذا أمر ملاحظ مشهود بالعيان مسموع بالآذان في وقتنا الحاضر وقبل
ذلك, نجد أن الناس من شتى بقاع الأرض يقصدون هذا البيت العتيق فإذا رأوه ووقعت
أعينهم عليه عيانًا سالت دموعهم لأجل هذا المنظر وما ذاك إلا لما في قلوبهم من
الشوق والحنين إلى هذا البيت العظيم .
أما من كفر بنعمة الله جل وعلا في شرعه وأعرض عنه وجفاه
فلا يضر إلا نفسه كما قال جل وعلا: ﴿ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ فمن كفر فلم
يحج البيت وأذى واستكبر وأعرض فإنما يضر نفسه والله جل وعلا غني عنه وعن حجه ولن
يضر الله شيئًا .
المحاضرة الحادية والعشرون
المسألة
الثانية: وهي الفورية في أداء الحج /
فمن
اكتملت له شروط الحج وجب عليه أدائه فورًا عند أكثر أهل العلم, ومعنى
هذه الفورية هي الشروع في الامتثال عقب الأمر مباشرة من غير فصل فلا
يجوز تأخيره إلا بعذر شرعي دل على ذلك ظاهر قول ربنا I:
﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ
غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾وقوله r
كما في حديث الباب: (أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فُرِضَ
عَلَيْكُمُ الْحَجُّ فَحُجُّوا) فهذا اللفظ: (فحجوا)
وقبل ذلك قوله I:
﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾
قال أهل العلم: إن ذلك يقتضي الفورية في تحقيق المأمور به والتأخير بدون عذر يعرض
صاحبه للإثم والعقاب؛ لذلك روى ابن عباس -رضي
الله عنهما- أن النبي r
فيما يروى عنه أنه قال: (فعجلوا إلى الحج)؛
يعني الفريضة: (فعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري
ما يعرض له) .
وقد روى سعيد
بن منصور في سننه عن عمر بن الخطاب t
أنه قال: "لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة
ولم يحج ليضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين, ما هم بمسلمين." أي إن حالهم في
تأخير الحج إلى بيت الله الحرام مع استطاعتهم وملكهم للزاد والراحلة ومع ذلك لم
يحجوا ولم يبادروا بالحج إن حالهم هذا حال غير المسلم المنقاد لأمر الله جل وعلا
وأمر رسوله r.
وروي أيضًا عن
علي بن أبي طالب t
أنه قال: "من قدر على الحج فتركه فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا."
وهذا أيضًا مفهومه كما قلنا في مفهوم كلام عمر بن الخطاب t.
وعن عبد
الرحمن بن باسط يرفعه: (من مات ولم يحج حجة الإسلام
لم يمنعه مرض حابس أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حال يهوديا أو نصرانيًّا),
ولهذا الحديث طرق توجب أن له أصل هذا ما دل على أن الحج ينبغي أن يكون على الفور .
فحديث الباب دليل على أن الوجوب في مسألة الحج على
الفور, هناك أيضًا أدلة أخرى عامة في كتاب الله تدل على المسارعة إلى الخيرات
والمسارعة والمبادرة إلى امتثال الأمر فمن ذلك قوله I: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ وقوله سبحانه: ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾
ولا شك أن المسارعة والمسابقة كلتيهما على الفور يدخل في الاستباق إلى امتثال
أوامره I فإن صيغة أفعل في قوله: ﴿ فَاسْتَبِقُوا ﴾
إذا تجردت من القرائن اقتضت الوجوب, وهذا من المعلوم في علم أصول الفقه أن لفظ
الأمر يدل على الوجوب ما لم يصرفه صارف كما هو الصحيح المقرر في علم الأصول, مما
يؤكد ذلك أيضًا تحذيره I
من مخالفة أمره في آيات عدة من ذلك قوله I:﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
وقال I:
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ فصرح ربنا I
أن أمره قاطع للاختيار موجب للامتثال ومما لا شك فيه أن ذلك يكون على الفور إن لم
يعرض عارض أو يحبس حابس هذا الإنسان المخاطب بذلك .
نقول : وكم في
القرآن الكريم من النصوص الصريحة الحاثة على الامتثال لأوامره سبحانه والمحذرة من
عواقب التراخي والتثاقل عن فعل ما أمر الله جل وعلا به, وأن الإنسان قد يحال بينه
وبين ما يريد إما بالموت وإما بغيره ومن ذلك قوله سبحانه: ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ
اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾
في هذه الآية دليل واضح على وجوب المبادرة إلى الطاعة خشية أن يعاجل الموت الإنسان
قبل التمكن منها .
فرض الحج على الصحيح من أقوال أهل العلم في السنة التاسعة من الهجرة النبوية, ولكن نبينا r
لم يتمكن من الحج إلا في السنة العاشرة وأهل العلم -رحمهم الله- بينوا وذكروا أنه r
لم يتمكن من الحج في السنة التاسعة لأسباب ذكروها, أقول هذا الكلام حتى لا يستدل
مستدل ولا يحتج محتج على قولنا بأن الحج فرضيته تكون على الفور ولا يجوز تأخيره
إلا لعذر لما وقع للنبي r
وأنه إنما فرض عليه الحج في السنة التاسعة ثم أخر ذلك r ولم يأت بالحج إلا في السنة العاشرة مما يدل
هذا في زعم واستدلال من يستدل بذلك مما يدل على أن فرضية الحج ليست على الفور
أقول: إن هذا الفهم غير صحيح؛ وذلك لأن أهل العلم قرروا الفورية في وجوب أداء الحج
ثم ذكروا الأسباب التي من أجلها نبينا r لم يحج في تلك السنة من
ذلك:
السبب الأول:
إن الله I كره لنبيه r أن يحج في تلك السنة التاسعة مع أهل الشرك وفيهم الذين يطوفون
بالبيت عراة؛ ولهذا بعث الصديق t
تلك السنة يقيم الحج للناس ويبلغهم أنه لا يحج العام مشرك ولا يطوف بالبيت عار.
السبب الثاني:
إن ذلك من أجل استدارة الزمان وذلك حتى يقع الحج في وقته الذي شرعه الله جل وعلا.
السبب الثالث:
عدم استطاعته r الحج تلك السنة وذلك لخوف منعه ومنع أكثر أصحابه من المشركين.
السبب الرابع :لأجل
أن يتبلغ الناس أنه r سيحج العام القادم ونتيجة لذلك يجتمع له الجمع الغفير من الناس
حتى يبين لهم r المناسك ويوضح لهم الأحكام ويضع عنهم أمور الجاهلية ويودعهم
ويوصيهم في خاصة أنفسهم وأهليهم وذويهم وحتى يأخذوا
عنه r
مناسكهم وحتى يودعهم وهذا هو ما حصل في تلك السنة التي خطبهم فيها في خطبة وحجة
الوداع .
ونقول: لعله
ليس لأجل سبب واحد من هذه الأسباب نبينا r أخر الحج في تلك السنة بل لعله لأجل هذه
الأمور كلها مجتمعة مرادةً له r,
وحتى يوسع r على الناس ويبين لهم جواز تأخير الحج إلى
العام المقبل لعذر شرعي يقتضي على الإنسان تأخيره, وذلك رحمة منه r
بهذه الأمة وشفقة منه عليهم والله جل وعلا أعلم بالصواب.
المحاضرة الثانية والعشرون
المسألة الثالثة : فضل الحج
والعمرة والحكمة من تشريعها:
قال ربنا I في ذلك: ﴿وَأَذِّنْ
فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ
كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ % لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ
بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾
وفي الحديث عن
نبينا r أنه قال: (إنما جعل الطواف بالبيت
وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله جل وعلا), فالمقصود من تشريع الحج والعمرة أن يحصل الناس منافع
لهم كما قال سبحانه:﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ وكما قال r: (لإقامة ذكر الله) فالمقصود من تشريعهما أن يحصل الناس منافع لهم ويقيموا ذكر الله جل وعلا في تلك البقاع التي عظمها
الله I وشرفها وجعل زيارتها على الوجه الذي شرعه من تعظيم حرماته وشعائر
دينه.
وذلك خير
لصاحبه في العاجلة والآجلة, وأمارة على تقوى القلوب التي جعل الله جل وعلا لأهلها
البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة وذلك من أعظم المنافع كما I: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ
رَبِّهِ﴾ ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ
اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾.
في
الصحيحين من حديث أبي هريرة t قال: (سُئل النبي r : أي العمل
أفضل؟ قال: الإيمان بالله ورسوله ، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل:
ثم ماذا؟ قال: حج مبرور) .
أيضًا في الصحيحين عنه t أي عن أبي هريرة t قال: سمعت رسول الله r يقول: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع
كيوم ولدته أمه), أي أن العبد يرجع
من الحج وقد غُفرت ذنوبه فلم يبق عليه منها شيء .
وفيهما أيضًا عنه t أن النبي r قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما
بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) لم يذكر نبينا r بأن الحج المبرور له كذا وكذا من الحسنات أو من
الفضل أو من الأجر بل ذكر ما هو أرفع من ذلك فقال: (ليس
له جزاء إلا الجنة) .
أيضًا عند
مسلم من أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنه r قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق
الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو سبحانه فيباهي بهم الملائكة
فيقول: ما أراد هؤلاء؟) إلى آخر الحديث .
فهذه نصوص تدل صراحة على فضل الحج وعظيم مكانته,
وأيضًا الحكمة من تشريعه وأن له مكانة عظمى ومنزلة كبرى وهي ما سمعنا في هذه
الأحاديث, وأيضًا الحكمة في تشريعه أنه فيه منافع للناس وأيضًا لإقامة ذكر الله جل
وعلا فيه.هذا ما يتعلق بالفضائل .
أما ما يتعلق بالمنافع التي تعود على
الحجاج: فمنها :
- أن الحج اجتماع عام للمسلمين يلتقون فيه من شتى أقطار الأرض فيكون من
أسباب جمع كلمتهم ولم شملهم ووحدة صفهم بل وإصلاح ذات بينهم وتقوية أواصل المودة والإخاء
فيما بينهم مع ما يحصل فيه من التفقه في الدين والتعاون على مصالح الدنيا وقيام كل
طائفة وشخص بما يجب عليه نحو إخوانه من الدعوة إلى الله جل وعلا والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر والتواصي بالحق والصبر والمرحمة, والتفاهم في القضايا المهمة
والحوادث المستجدة وتحصيل ما رتب الله جل وعلا من القيام بهذه الطاعات من الأجور
العظيمة.
- ما يصيبونه في أيام الهدي والأضاحي من لحوم الهدي والبدن وغيرها مع
عبوديتهم لله جل وعلا فيها بذكر اسمه سبحانه عليها فيأكلون منها ويُهدون
ويتصدقون كما قال I:﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ .
- ما يحصل لمن اتجر في الحج من الأرباح العظيمة وذلك في الغالب مع زيادة
الفضل من الله جل وعلا, فالإنسان مع أنه جاء للحج إلا أنه يجوز له أن يقوم بهذا الفعل المباح له
وهو الاتجار في تلك الأيام فيتحصل له من جراء تلك التجارة الأرباح العظيمة
والكبيرة.
وقد اتفق علماء التفسير على أن معنى قوله I: ﴿ لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ أنه
ليس على الحاج حرج ولا إثم إذا ابتغى فضل الله جل وعلا خلال موسم الحج بالتجارة
والكِرَى؛ أي الإجارة فليس عليه جناح أن يتجر وليس عليه جناح أن يؤجر ويكري ما هو
في ملكه ما دام ذلك-وهذا
شرط وقيد- لا يشغله عن شيء من نسكه ولا يعرضه ذلك إلى الوقوع في شيء مما يُخل
بالحج وذلك من مثل: الرفث والفسوق والجدال ونحو ذلك.
المحاضرة الثالثة
والعشرون
المسألة الرابعة: الأمور التي تنبغي لمن عزم على السفر
للحج أو للعمرة لا بد أن يأتي بها منها :
الأمر الأول:
استحضار النية: للحديث المتفق على صحته : (إنما
الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى).
فلا بد حتى يكون هذا العمل مقبولًا, لابد فيه من نية بأن ينوي الإنسان بأن
ينوي آتي هذا الفعل سفرًا كان لقربى أو لغيره سفرًا للحج أو سفرًا لغيره حتى بدون
سفر لابد أن ينوي التقرب لله جل وعلا في ذلك الفعل, فناوي السفر لحج بيت الله
الحرام يقصد بحجه وعمرته وتعبه ونفقته وجه الله تعالى والدار الآخرة والتقرب في
ذلك إلى الله بما يُرضيه من الأقوال والأعمال, والإحسان إلى عباد الله بالقول
والفعل في هذه الأزمان الفاضلة والمواطن الفضيلة والشريفة والبقاع المباركة
والمشاعر المُعَظَّمَة.
وذلك كما قال I: ﴿ بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ
وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ
عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ أي قصد بعمله وجه الله ناويًا القربى والزلفى إلى الله,
وهذه هي النية التي نقول: إنها مطلوبة من كل آتٍ طاعة من الطاعات.
وقال أيضًا I:﴿إِلَّا الَّذِينَ
تَابُوا وَأَصْلَحُوا
وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَٰئِكَ مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾فهذا
الإخلاص لابد له, ولابد منه أن يكون العمل منويًا به وجه الله وحده لا شريك له كما
هو مفسر بذلك الإخلاص لله جل وعلا في شتى القرب والطاعات له I.
الأمر الثاني:
ينبغي أن نحذر كل الحذر أن يكون في مقاصدنا شيء لغير الله جل وعلا: كمن يأتي إلى الحج أو إلى العمرة وهو مستحضر في نفسه عدد
تلك الحجات أو تلك العمرات التي أتى بها فعندما يُسأل أو حتى لم يسأل نجده يتفاخر
ويتقصد أن يذكر أنه حج بيت الله جل وعلا كذا وكذا من المرات أو اعتمر بيت الله جل
وعلا كذا وكذا من المرات.
هذا إذا لم يكن قصده بهذا الحج وهذا العمرة إلا مثل
قوله هذا؛ فليحذر كل الحذر من أن ينوي الإنسان هذه النية أو يقصد هذا القصد الذي
قد يحبط عمله, وقد يكون كمن لم يأت بعمل بل أشد من ذلك, قد يأتي إلى الحج والعمرة
ويعود بعد ذلك بالوزر بدل من الأجر فإن ذلك من أقبح المقاصد ومن الموجبات لحبوط
العمل ورده إلى وعدم قبوله.
دل على ذلك قوله I: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا
وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
إِلَّا النَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ ﴾ مع أن الله تعالى ذكر أنه
سوف يوفيهم أعمالهم التي قصدوا بها هذه الدنيا ومتاعها إلا أنه جل وعلا أخبر بعد
ذلك حتى لا يغتر هؤلاء المغترون ويحذر الحاذرون فقال: ﴿
أولئك ﴾ أي الذين لم يريدوا بهذه الأفعال هذه الطاعات هذه القربات إلا
الحياة الدنيا وزينتها ﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ
لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا ﴾؛ أي
بطل وحبط عملهم فليس لهم أجر, بل عليهم وزر في ذلك قال: ﴿
وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ ذلك البطلان إنما كان نتيجة لأن
قصدهم من هذه القربات والطاعات لم يكن خالصًا لوجه الله جل وعلا, وإنما كان لأجل
الحياة الدنيا وزينتها.
وأيضًا دل على ذلك قوله I: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا
نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا
مَدْحُورًا ﴾ فمن أراد الحياة الدنيا وزينتها يعطيه الله جل وعلا ذلك
ومن أراد العاجلة يعجل الله لمن أراد ذلك, لكن انتبه واعلم وكن على حذر بأنه ليس
لهم في الآخرة إلا النار وسوف يجعل الله لهم جهنم يصلونها مذمومين مدحورين -عياذًا
بالله- من ذلك.
وفي المقابل قال بعد ذلك I:﴿ وَمَنْ
أَرَادَ الْآخِرَةَ
وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ من أرد الله I والدار الآخرة بعمله بقربته بطاعته وسعى لها سعيها, هذا
يدل على أن القصد بمجرده أو بوحده لا يكفي بل لا بد مع القصد والنية من عمل ﴿ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا ﴾ لابد من السعي
والاجتهاد والعمل وعدم الاتكال فقط على مجرد النية والإرادة, لابد من السعي ومع
ذلك هو في نفسه مؤمن الله I قال: ﴿ فَأُولَٰئِكَ
كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾؛ أي بمعنى أنه سوف يؤجرهم I على هذا
السعي وسوف يُثيبهم منه I على أعمالهم تلك.
أيضًا في الصحيح r مما يدل على
ذلك أنه قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن
الشرك من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) في هذا الحديث الله
جل وعلا أغنى الشركاء عن الشرك فهو غني عنا سبحانه غني عن طاعتنا وغني عن أعمالنا
سواء نوينها له سبحانه أو أشركنا معه غيره ومع ذلك من عمل عملًا ممن يُراد به وجه
الله ثم أشرك مع الله معه غيره؛ أي جعله كله وهذا من باب أولى لغير الله جل وعلا
يبين الله جل وعلا في هذا الحديث القدسي أنه يترك الإنسان وشركه وهذا الترك يلزم
منه الإثم والعقوبة لفاعل ذلك الفعل وهو الإشراك مع الله جل وعلا غيره في عبادته.
إذًا لابد من أن
نأتي بهذه الأمور:
الأمر الأول:
أن تكون نيتنا عند قصدنا الحج والعمرة أو إتياننا بطاعة وقربة لله أن تكون نيتنا
خالصة لوجه الله .
الأمر الثاني:
ينبغي أن نحذر كل الحذر أن يكون في مقاصدنا شيء لغير الله جل وعلا مما يتعلق بمثل
هذه القربات؛ حتى لا ندخل في ما
سمعناه من آيات الله جل وعلا التي فيها التهديد والوعيد لمن أتى قربة وجعلها لغير
الله جل وعلا أو من أحاديث نبينا r.
الأمر الثالث: تعلم
الأحكام والآداب: مما ينبغي
على من عزم على السفر للحج أو العمرة أن يراعيه ينبغي له أن يتعلم ما يشرع في حجه
وفي عمرته وفي أثناء سفره وفي أثناء إقامته من الأحكام والآداب فيتفقه في ذلك
ويتعلم ويسأل أهل الذكر عما أشكل عليه؛ حتى يكون على بصيرة من دينه وحتى يتجنب
الوقوع في المحظور أو التقصير في المشروع, فإنه كما قلنا وكما تعلمون حتى
يكون العمل متقبلًا لابد له من شرطين:
أحدهما: الإخلاص لله جل وعلا
الثاني: الموافقة لسنة r
دل على اشتراط هذين الشرطين حتى يكون العمل متقبلًا قول ربنا I: ﴿ بَلَىٰ مَنْ
أَسْلَمَ وَجْهَهُ
لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
فإسلام الوجه لله هو الخضوع له I والانقياد له رهبة ورغبة , والإحسان / هو العمل بالقرآن
وبالطاعات وبالقربة على الطريقة التي أتى بها وفعلها النبي r ولهذا قال I في الحج: ﴿ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ
مُشْرِكِينَ بِهِ ﴾ حنفاء؛ أي متبعين لسنة رسول الله, غير مشركين به؛ أي
مخلصين لله جل وعلا, فهنا شرط الإخلاص وشرط المتابعة والموافقة لرسول الله r.
قال أيضًا r مما يدل على
وجوب المتابعة في خصوص الحج قال: (خذوا عني مناسككم)؛
أي افعلوا ما فعلته واتركوا ما تركته حتى تكونوا متبعين مقتدين في حجكم وعمرتكم
لله جل وعلا, وقبل ذلك تكونون مخلصين في نيتكم لله I .
وقال r أيضًا كما
في حديث عائشة: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه
فهو رد) مما يدل على أنه لابد من المتابعة والموافقة لسنة رسول الله r وما لم
يفعله وما لم يشرعه لا يكون لنا دينًا ولا شرعًا , وقد بين r للناس أحكام
المناسك بقوله وبفعله وبتقريره وقال في حجته حجة الوداع: (خذوا
عني مناسككم).
الأمر الرابع:
توفر نفقة طيبة من مال حلال: ممن ينبغي الاعتناء به ممن أراد السفر الحج أو العمرة أن
يُهيئ لحجته وعمرته نفقة طيبة من مال حلال لا شبهة فيه فإن أكل الحلال يُصلح القلب
وينشط على الطاعة, ويكون من أسباب وجل القلب وخوفه من الله مما يعينه على الانكفاف
على المعصية والحياء من الله أن يُجاهره بمخالفته, وقد صح في الحديث عنه أنه r قال: (إن الله طيب سبحانه لا يقبل إلا طيبًا).
إذًا ينبغي للحاج أن يطيب نفقته ليبر حجه وتقبل نفقته ويستجاب دعاؤه؛ وحتى
يستغني بفضل الله عن الحاجة إلى ما في أيدي الناس, بل ويحسن إليهم مما فضل وزاد عن
حاجته ويتصدق بما تيسر وذلك اغتنامًا لشرف الزمان والمكان والعبادة, لكن عليه
أيضًا أن يقصد أن يقتصد فلا يتوسع في المبيحات حتى لا يحتاج إلى منة الناس بعد ذلك
بل عليه أن يتعفف عن سؤالهم أو التطلع إلى ما في أيديهم وكما قال r: (من يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله).
وقال r: (ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس) كما ذكر أهل التفسير أن أناسًا كانوا يحجون ولا
يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون, فإذا قدموا مكة أخذوا يسألون الناس حجاتهم فأنزل
الله I فيهم: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ
الزَّادِ التَّقْوَىٰ ﴾ يعني
تزودوا لحجكم ما يكفيكم من النفقة على حسب حالكم.
أخيرًا مما
ينبغي للمرأة في حال سفرها للحج أو للعمرة :
لا يجوز لها أن تسافر للحج ولا غيره إلا ومعها محرم سواء كان السفر طويلًا
أو قصيرًا, وسواء كان معها نساء أو لم يكن معها, وسواء كانت شابة أو عجوزًا لعموم
نهي النبي r في قوله: (لا
تسافر المرأة إلا مع ذي محرم)؛ والحكمة من لزوم المحرم أن المرأة عورة
وهي ضعيفة وذات عاطفة, وهي أيضًا مطمع لرجال فتفتتن وتُفتن والمحرم يغار عليها
فيصونها ويحافظ عليها ويمنعها مما يضرها ويدافع عنها وتهاب من أجله؛ ولذا يشترط أن
يكون المحرم بالغًا عاقلًا.
والمحرم كما تعلمون هو الزوج وكل
من تحرم عليه تحريمًا دائمًا بقرابة أو رضاع أو مصاهرة كالأب والجد والابن وابنه
والأخ من أي جهة وابنه وابن الأخت إلى غير ذلك لقوله r: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) فوجود المحرم
للمرأة شرط في وجوب الحج عليها فإذا توفر مع الزاد والراحلة وجب على المرأة فإن لم
يتوفر فلا يجب عليها.
المحاضرة الرابعة والعشرون
الحديث الأخير من أحاديث الدعوة إلى الله جل وعلا
حديث حذيفة بن اليمان t
الذي يقول فيه قال النبي r:
(وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ , وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَو لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ
عَلَيْكُم عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونُه فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُم)
أخرجه الإمام أحمد والترمذي من طريق عمرو بن أبي عمرو عن عبد الله بن عبد الرحمن
أحد بني عبد الأشهل عن الصحابي الجليل حُذيفة بن اليمان t.
مسائل
الحديث:
ما جاء به هذا الحديث من أهم المهمات وأفضل القربات
وهو التناصح والتوجيه إلى الخير والتواصي بالحق والتواصي بالصبر, والتحذير أيضًا
هذا في جملة الأمر بالمعروف؛ أيضًا التحذير مما يُخالف ويُغضب الله جل وعلا ويُباعد
من رحمته وهذا ما يتعلق بالنهي عن المنكر.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منزلته عظيمة حتى إن بعض العلماء قد عده الركن السادس من أركان الإسلام بل إن الله Iقد قدمه على الإيمان به سبحانه كما في قوله I : ﴿كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾وقدمه الله جل
وعلا أيضًا في سورة التوبة على إقامة الصلاة وعلى إيتاء الزكاة فقال I: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
فتقديم الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر جاء على الإيمان بالله في آية, وفي آية أخرى جاء تقديمه على إقامة
الصلاة وإيتاء الزكاة مما يدل على عظم وأهمية هذه
الشعيرة العظيمة.
نقول: وفي هذا التقديم إيضاح لعظم
شأن هذا الواجب وبيان لأهميته في حياة الأفراد والمجتمعات والشعوب, وبتحقيقه
والقيام به تصلُح الأمة ويكثر فيها الخير ويضمحل الشر ويقل المنكر, وهذا أمر مشاهد
ملحوظ إذا انتشر في أحد المجتمعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انتشر الخير
وكثر وذاع وازداد واضمحل الشر وقل وانعدم, بل وتصاغر وقل لدرجة ألا يكاد يكون
موجودًا ولا ظاهرًا.
وكلما قل القيام بهذه الشعيرة كلما
قل المعروف وانتشار الخير وازداد وظهر الشر والمنكر وبإضاعته .
قوله r (ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم.) الحديث عن هذه الجملة سوف يكون على خمس مسائل:
المسألة الأولى: وهي مشروعية
الدعاء, فقد قال الله جل وعلا: ﴿وَقَالَ
رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ وقال سبحانه:
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾.
وفي حديث
النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- أن النبي r قال: (الدعاء هو العبادة) وهذا الحديث خرجه أبو داود
والترمذي. وفي حديث ابن عباس الذي خرجه
الحاكم في مستدركه أنه rقال: (أفضل العبادة
الدعاء).
وعن سلمان الفارسي قال: قال r: (لا يرد القضاء إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر)
خرجه الترمذي. كما خرج الترمذي أيضًا في جامعه من حديث أبي هريرة t أنه r قال: (من لم يسأل الله يغضب عليه).
من هذه النصوص من كتاب ربنا جل
وعلا وسنة نبينا r نتبين أن الدعاء
عبادة عظيمة تظهر فيها روح العبادات كلها وهي الذل والخضوع والافتقار إلى الله
إضافة إلى ما فيه؛ أي ما في الدعاء من التعرض لرحمة الله جل وعلا وفضله؛ فلذلك كان
الدعاء أفضل العبادة كما قال r في حديث ابن عباس، وما من عبادة من العبادات إلا وهي مُتضمنة
للدعاء والله I يحب من يدعوه ويلح في دعائه ويظهر الافتقار
إليه, وكما هو معروف بأن الدعاء على قسمين:
- دعاء عبادة -
دعاء مسألة
وفي هذه النصوص التي تلوتها عليكم قبل قليل من الفوائد: -
1- عظم منزلة الدعاء؛ حيث عده
نبينا r هو العبادة؛ أي هو الركن الأعظم فيها ومن
ذلك أنه أفضل العبادة لما فيه من ذكر الله جل وعلا والالتجاء إليه والرغبة إليه
والاعتماد عليه وإظهار الافتقار إليه سبحانه.
2- الدعاء عبادة لا يجوز صرفها إلا لله ومن صرفها لغير الله فقد أشرك.
3- الدعاء سببًا لتبديل القضاء وهو أي الدعاء من القضاء.
4- محبة الله جل وعلا لمن يدعوه وغضبه سبحانه على من لا يدعوه.
المسألة الثانية:
من آداب الدعاء قال I عن زكريا عليه السلام: ﴿إِذْ
نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾ وقال جل وعلا: ﴿ادْعُوا
رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ .
وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كان
النبي r يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك) وهذا من آداب الدعاء وفي حديث جابر الذي رواه مسلم قال r: (لا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا
من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم) .
وفي حديث أبي هريرة قال: قالr: (إذا دعا
أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت ارزقني إن شئت ليعزم المسألة إنه يفعل ما يشاء
لا مكره له) وهذا الحديث في الصحيحين
ومعنى قوله r ليعزم المسألة؛ أي ليجزم في طلبه ويتيقن
الإجابة.
هذه النصوص من الآيات قوله I عن زكريا: ﴿إِذْ
نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾ وقوله: ﴿ادْعُوا
رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾, وما جاء في الأحاديث أن الله يستجيب من الدعاء ما كان
من جوامعه وأنه r قال: (لا
تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء
فيستجيب لكم), وعدم تعليق الدعاء على المشيئة بل ينبغي للإنسان أن يعزم
المسألة.
نقول: الدعاء عبادة عظيمة شرع الله
جل وعلا لها آداب تقرب الداعي إلى الله وتجعله أحرى بالإجابة, فشرعية هذه
الآداب ترجع في خاصتها وفي عمومها من أجل أو لأجل مصلحة الداعي نفسه حتى يتقبل
منه هذا الدعاء ويستجيب الله جل وعلا له فيأجره ويمنحه ما دعاه به سبحانه, فينبغي
للداعي الحرص عليها ومن هذه الآداب – أي آداب
الدعاء - :
- خفض الصوت:
لما فيه من الخشوع والتذلل, وكما كان
زكريا u يدعو
ربه سبحانه نداء خفيًا وكما أمر الله تعالى أيضًا بقوله: ﴿ادْعُوا
رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾أي بصوت خافت فيه خشوع وتذلل.
- اختيار
الجوامع من الدعاء: وهو الكلام
القليل الذي يشتمل على الخير الكثير, وقد كان r يستحب
الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك كما قالت عائشة -رضي الله عنها-.
- أن يتجنب
الدعاء على نفسه أو على ولده أو على ماله؛ حتى لا يوافق ساعة إجابة فيُستجاب له, وذلك كما جاء عنه r كما في حديث
جابر: (لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أموالكم
ولا تدعوا على أولادكم لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم).
- عدم تعليق
الدعاء بالمشيئة؛ أي بمشيئة الله جل وعلا وذلك منهي عنه لما فيه من إظهار
الاستغناء وعدم الإلحاح في الطلب فقال r كما في حديث أبي هريرة: (فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت ارزقني إن شئت ليعزم المسألة
إنه يفعل ما يشاء لا مكره له) .
المسألة الثالثة: وهي
الدعاء بظهر الغيب:
قال I: ﴿وَالَّذِينَ
جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا
الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا
لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ .
وقال I إخبارًا عن
إبراهيم u ﴿رَبَّنَا
اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾
وقال عن نوح u ﴿رَبِّ
اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾.
وقال سبحانه لنبيه محمدr:﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾.
وفي حديث مسلم
عن أبي الدرداء t أنه سمع النبي r يقول: (ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك بمثل)
.وفي رواية: أن النبي r: (دعوة
المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك
الموكل به: آمين ولك بمثل) وهذه الرواية أيضًا في صحيح مسلم.
في هذه النصوص التي سقناها في الدعاء بظهر الغيب من
الفوائد:
الفائدة الأولى: فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب: فالدعاء للمسلمين بظهر
الغيب فيه هذا الفضل العظيم وأنه من عمل الأنبياء والصالحين, ويكفي في هذا الفضل
وعظيمه أن المًؤمِن على دعائك هو ملك من
ملائكة الله المقربين فيقول: آمين على دعائك ثم يدعو لك فيقول: ولك بمثل، فالمؤمن
والداعي ليس بشرًا وإنما هو أحد الملائكة المقربين مما يكفي في ذلك في فضل هذا
الأمر.
الفائدة الثانية: أنه أقرب للاستجابة لتحقيق الإخلاص لله جل وعلا فيه ولمحبة المؤمنين
ولتأمين الملك عليه, فمن المعلوم أن الإنسان المسلم إذا دعا لأخيه المسلم في حال
غيبته أن ذلك يكون بإخلاص منه لله جل وعلا لا يريد بذلك لا رياء ولا سمعة ولا
مقابلًا لأجل أنه دعا له, وإنما يكون دعاؤه له بظهر الغيب فيه تحقيق؛ لأنه أخلص له
في هذا الدعاء لله جل وعلا وما كان منه هذا الدعاء لأخيه بظهر الغيب إلا أنه يحبه
في ذات الله جل وعلا ويحب المؤمنين أجمع لذلك الأمر.
المحاضرة الخامسة والعشرون
المسألة الرابعة: أوقات إجابة الدعاء
:
عن أبي هريرة t
أن رسول الله r قال: (أقرب ما
يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء) خرجه مسلم والترمذي.
حديث أنس أن رسول الله r
قال: (الدعاء بين الأذان والإقامة لا يُرد) خرجه
الترمذي .
حديث سهل بن سعد الساعدي t
قال فيه r: (ثنتان لا
تردان أو قلما تردان الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضًا) خرجه أبو داود
وحديث أبي هريرة t
الذي خرجه مسلم في صحيحه أنه r
قال: (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى
ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له, من يسألني فأعطيه, من يستغفرني
فأغفر له).
وأخيرًا في حديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه قال: سمعت النبي r
يقول: (إن في الليل ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل
الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة).
فهذه النصوص جاء فيها ذكر بعض أوقات
الإجابة التي يتأكد فيها الدعاء وتكون أقرب للاستجابة لدعاء العبد من غيرها:
1- إجابة الدعاء هو عند
سجود العبد لله جل وعلا.
2- الدعاء بين الأذان
والإقامة .
3- حين يلتقي الصفان في
الحرب,
قال: عند البأس حين يلحم بعضهم بعضًا
4- حين يبقى ثلث الليل
الآخر .
من خلال هذه النصوص نستفيد من الفوائد:
أولا: أن هناك أوقات ترجى فيها إجابة
الدعاء أكثر من غيرها
ثانيًا: الحث على اغتنام هذه الأوقات,
والحرص على كثرة الدعاء فيها.
ثالثًا : من هذه الأوقات السجود وما بين
الأذان والإقامة وعند لقاء العدو في الحرب وفي آخر الليل حينما يبقى ثلث الليل
الآخر.
المسألة الخامسة:
وهي موانع إجابة الدعاء :
وهي متعلقة أصالةً بحديثنا لما قال r:
(أو ليوشكن الله أن يعمكم بعقاب منه) قال: (ثم
تدعونه فلا يستجاب لكم).
عن أبي هريرة t
أن النبي r قال: (لا يزال
يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل) خرجه البخاري
ومسلم
وفي حديث عبادة بن الصامت tقال
r:
(ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه
الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم) خرجه الترمذي, وفي رواية قال r:
(أو يدخر له من الأجر مثلها).
وهذه
الرواية فيها ثلاثة أمور مترتبة على هذا الدعاء: ما من مسلم يدعو الله
بدعوة (إلا آتاه الله إياها) أو (صرف عنه من السوء مثلها) أو (يدخر
له من الأجر مثلها)
وفي حديث أبي هريرة t
الذي
يقول فيه: قال رسول الله r
: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا وإن الله أمر
المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال سبحانه:
﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا
صَالِحًا﴾ وقال جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ ثم ذكر الرجل
يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام
وملبسه حرام وغذي بالحرام قال r: فأنى يستجاب له؟) وهذا الحديث عند مسلم في صحيحه.
أخيرًا كما في حديث الباب الذي ذُكر فيه أحد موانع إجابة الدعاء
حديث حذيفة بن اليمان tأن
النبي r قال: (والذي
نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا
منه ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم).
فللدعاء موانع تمنع الإجابة ينبغي للمسلم أن يتجنبها حتى يكون
دعاؤه أقرب للإجابة, لكن لا بد أن نعرف أنه لا يلزم من عدم تحقق المطلوب أن
الدعاء لم يُستجب, فليس ضرورة أن العبد إذا دعا الله جل وعلا ثم لم يُستجب له في
تلك الدعوة أن يقال: إن هذا الدعاء لم يستجب من الله جل وعلا, لأنه كما قدمنا
في الحديث الذي يذكره ويرويه عبادة بن الصامت t
الذي خرجه الترمذي أن الله جل وعلا إما أن يُؤتي الداعي ما دعاه أو يصرف عنه من
السوء بمثل ما دعا أو يدخر له من الأجر بمثل ما دعا.
إن الله I
وهو العليم بما يصلح الناس قد يدخرها لصاحباها يوم القيامة, فقد يسأل العبد منا
ربه مالا في هذه الدنيا أو ذرية أو أي أمر من الأمور ولا يستجيب الله جل وعلا له,
لا لأنه أتى بمانع أو لأن الدعاء لم يستجب, بل لأن الله جل وعلا لحكمته وكمال شرعه
علم أن ذلك لا يصلح لعبده فادخره له في ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون.
وقد يصرف الله جل وعلا عن الداعي من السوء بمثل ما دعا فيكون
هذا إجابة لدعائه, فينبغي إذًا للمسلم إذا دعا الله جل وعلا ألا ييأس من الإجابة
حتى ولو لم يتحقق ما يريده من دعائه .
في هذا النصوص من الفوائد:
-إن من موانع إجابة الدعاء أكل الحرام
ولبس الحرام والتغذية من الحرام.
- أن الاستعجال في طلب إجابة الدعاء يمنع
الإجابة؛
لأنه نوع من أنواع القنوط من رحمة الله U.
- أنه لا يلزم من إجابة الداعي تحقيق ما
طلبه بالذات لما ذكرنا قبل قليل.
- أنه لا يستجاب للداعي بإثم أو قطيعة
رحم؛
لأنه جاء بمثل هذه الدعوة المحرمة فكانت مانعًا من موانع إجابة هذه الدعوة.
إذًا ما هو الدور الذي يجب أن نقوم به مع وجود هذا
التقصير وهذا النقص الكبير الواضح في حالنا؟
الأهم ألا نتعرض لوعيد النبي r لمثل هذه
الدعوة وذلك يكون بالقيام بهذه الشعيرة العظيمة الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر.
من
الآداب والصفات والبشارات لمن قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أولًا: صفات
الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر:
1- الإخلاص, وهو إفراد الله جل وعلا بالقصد في الطاعة, والإخلاص هو
روح كل عمل والأعمال التي يستعظمها الناس لا وزن لها عند الله جل وعلا إذا فقدت
هذه الروح, قال الله جل وعلا في ذلك: ﴿وَمَا
أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ .
2- العلم: من أهم ما يحسن للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن
يتحلى بصفة العلم؛ فإن العلم زينة له ووسيلة صحيحة للعمل ومرافق دائم لمجال الدعوة
إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال I: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ وإن جهالة من يأمر وينهى فيما يأمر به أو ينهى عنه قد
يوقعه في حماقات كثيرة وإشكالات عديدة بل ربما حدث بسبب ذلك مفاسد متعددة أو تعطلت
مصالح راجحة مما كان عدم أمره ونهيه أولى به من ذلك الفعل مع عدم العلم الذي أودى
به إلى المفاسد العظيمة.
3- القدوة الحسنة
: لأن التأثير بالاقتداء والتقليد له قيمة كبيرة في نفوس
المدعوين؛ ولذلك كان نبينا r كان أسوة حسنة وقدوة صالحة ليحتذي الناس بأقواله وأفعاله, فمن
أسرته نفسه وأصبح عبدًا لهواه فلا يمكن أن ينكر على الآخرين؛ لأنه ليس قدوة حسنة
فلن يستطيع في نفسه أن يأسر نفسه ويلجم هواها حتى يتمكن من الإنكار على الآخرين.
4- الرحمة بمن
يفعل المنكر والخوف عليه من عذاب الله, فينبغي أن يستشعر هذه الصفة وهذا الأدب وأن ينظر إلى
الواقع في المنكر نظرة الشفقة والرحمة والرغبة في الإحسان إليه لكونه يتنازع مع
الشيطان ومع هواه ومع نفسه الأمارة بالسوء ؛ ولذا ينبغي عدم إعانة هؤلاء الأعداء
عليه بل ينبغي الوقوف معه وفي صفه حتى يتخلص من هذا الداء الذي ألم به, فقد جاء في
الحديث عنه r الذي خرجه
البخاري من حديث أنس: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه
ما يحب لنفسه).
5- الرفق وهو لين
الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل وهو
ضد العنف, وقد سلك نبينا r جانب الرفق في عملية التغيير والبناء مع كل المدعوين وأولئك الذين
كان يحتسب عليهم سواء كانوا من اليهود أو من المشركين أو حتى من المسلمين, ولقد حث
r في ذلك
فقال: (إن الله رفيق يحب الرفق ويُعطي على الرفق ما
لا يعطي على العنف).
6- الصبر : قال ابن القيم -رحمه الله- : "الصبر خلق فاضل
من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن وما لا يجمل, وهو قوة من قوى النفس
التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها", وإذا كان الصبر ضروريًا لكل مسلم فإنه
للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أشد ضرورة؛ لأنه يعمل باستصلاح نفسه واستصلاح
أنفس الناس وقد قال الله جل وعلا على لسان لقمان: ﴿يَا
بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.
المحاضرة السادسة والعشرون
مراتب تغيير المنكر:
إن من رحمة الله جل وعلا أنه لا يكلف نفس إلا وسعها
وهذه قاعدة متينة من قواعد هذا الدين العظيم, ولو كان الأمر بالإنكار لكل الناس
باليد مثلًا لحصل من ذلك الشر والبلاء والتطاحن والشجار والخلاف بين الخلق ما لا يُحصي
شره إلا الله وحده, ولهذا قال r
مبينًا هذه المراتب كما في حديث أبي سعيد الخدري t
عند مسلم في صحيحه: (من رأى منكم منكرًا فلغيره بيده
فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)؛ فهذا توجيه نبوي بإنكار المنكرات ولكن كل على
حسبه كما يلي:
المرتبة الأولى: إنكار المنكر باليد :
ولكن هذه المرتبة مشروطة بـ :
القدرة وعدم ترتب مفسدة أكبر من جرائه,
وليس لكل أحد الإنكار باليد.
المرتبة الثانية: الإنكار باللسان ؛ وإنما
تنتقل إلى هذه المرتبة إذا عجزت عن التي قبلها, ولا شك أن هذه المرتبة الثانية هي
أيسر وأخف من الأولى, لكن الذي ينبغي أيضًا في هذه المرتبة أن يكون هناك تغيير
لهذا المنكر على نحو ما قال الله جل وعلا: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ .
المرتبة
الثالثة: إنكار المنكر بالقلب وهذه أدنى تلك المراتب ولا شك
ولا رخصة لأحد من الناس في ترك هذه الرتبة عند إنكاره للمُنكر, وضابط هذه
الرتبة هو الإيمان بأن ذلك الفعل منكر وكراهته والاستمرار في كرهه وبغضه
فإن لم يكن الإنكار بالقلب فإن ذلك دليل على عدم استقرار الإيمان في قلب ذلك
العبد, أيضًا هو دليل على موت القلب -والعياذ بالله- وذلك لأن الإنكار بالقلب هو
آخر حدود الإيمان كما قال r:
(وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) وكما
قال في الرواية الأخرى: (وذلك أضعف الإيمان).
المبشرات لمن قام بهذه الشعيرة :
إن القائم بهذه الشعيرة العظيمة ألا وهي شعيرة الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر والذي حمل على عاتقه الهم الأعظم ألا وهو هم الدين
ومرضاة رب العالمين قد انتظم في سلك المفلحين وسلك طريق الأنبياء والمرسلين, وأعلم
أن الله جل وعلا لم يأمرنا بما فيه مضرة محضة وحتى لو كان ظاهر هذه الشعيرة غير
هذه الحقيقة فمن كانت همته ورغبته متعلقة بالعرش ويرغب في مرضاة ربه فليعلم أن
الراحة الأبدية في جنات الخُلد لا في هذه الدنيا الفانية.
فإليك أيها الآمر بالمعروف والناهي عن
المنكر نحسبك كذلك هذه المبشرات والمحفزات لعل الله جل
وعلا أن ينفعنا جميعا بها:
أولها : أن في
ذلك الفعل التشبه بالرسل والقيام بدعوتهم والسير في طريقهم :
- أن الآمرين بالمعروف والناهين
عن المنكر لهم النجاة من العذاب الدنيوي والأخروي, وحينما يحل العذاب بقوم
ظالمين فإن الله سبحانه ينجي الذين كانوا ينهون عن السوء كما قال I:﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ
أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا
بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ .
- الخروج من عهدة التكليف؛ ولذا قال الذين حذروا المعتدين في السبت من بني إسرائيل لما قيل لهم: ﴿لِمَ
تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا
قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ﴾ وفي هذا خروج
من عهدة التكليف؛ لذلك قالوا: معذرة إلى ربكم حتى ولو لم يستجب المدعوون لابد أن
تقوم بهذه الشعيرة حتى تكون لك معذرة عند ربك جل وعلا في ذلك اليوم.
- أن في القيام بهذه الشعيرة إقامة حجة الله تعالى على خلقه كما قال I:﴿رُسُلًا
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ
بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ .
- أداء بعض حق الله عليك من شكر هذه النعم التي أسجاها الله I لك من صحة
في البدن وسلامة في الأعضاء كما قال r في الحديث
الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة t: (يصبح على كل
سُلامى من الناس صدقة) إلى أن قال: (وأمر
بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة)
ثانيًا: من
تلك المبشرات / أن من دعا الناس فهو خير الناس, قال سبحانه: ﴿كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ فهذه
الأمة لم تكتسب هذه الخيرية إلا بقيامها بهذه الشعيرة العظيمة وبإيمانها بربها I
وكما قال r: (خيركم من
تعلم القرآن وعلمه)
ثالثًا: أن الدعاة هم المفلحون في
الدنيا والآخرة قال سبحانه: ﴿وَلْتَكُنْ
مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
رابعًا: أن الدعاة أحسن الناس حديثًا
قالI:﴿وَمَنْ
أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ﴾
خامسًا: أن أهل السموات وأهل الأرض
يستغفرون لمن دعا إلى الله قال r:
(إن الله وملائكته وأهل السموات وأهل الأرض حتى
النملة في جحرها والحيتان في البحر ليُصلون على معلمي الناس الخير) فصلاة الله U على خلقه ثناء ورحمة وصلاة الملائكة والخلق
دعاء واستغفار كما قرر ذلك أهل العلم رحمهم الله.
سادسًا: أن
الدعاة لا تنقطع أجورهم قال r:
(من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه
لا ينقص من أجورهم شيئًا).
سابعًا: أن
الدعاة لهم في هدايتهم خير من الدنيا وما فيها قال
r
لعلي بن أبي طالب t:
(لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر
النعم) وفي رواية: (خير لك مما طلعت عليه
الشمس).فهذا في شأن هداية شخص واحد, فكيف إذا كان سببًا في هداية أسرة
أو جماعة أو أمة بأسرها.
أما ما يترتب على ترك الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر أمور منها :
أولًا:
وقوع الهلاك والعذاب قال الله I:
﴿وَاتَّقُوا
فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ وقال r:
(والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتهون عن المنكر
أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم) ولما قالت أم المؤمنين زينب -رضي الله عنها- : أنهلك
وفينا الصالحون؟ قال النبي r:
(نعم إذا كثر الخبث).
ثانيًا:
عدم إجابة الدعاء عن عائشة مرفوعًا: (مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يُستجاب
لكم).
ثالثًا:
انتفاء خيرية الأمة قال r:
(وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ , وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ , وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى
يَدَيِ الْمُسِيءِ , وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا أَوْ لَيَضْرِبَنَّ
اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ , وَلَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا
لَعَنَهُمْ.) وهذا الحديث عند أبي داود في سننه.
رابعا:
تسلط الفُساق والكفار والفجار وتزيين المعاصي وشيوع المنكر واستمراره.
خامسًا:
ظهور الجهل واندثار العلم وتخبط الأمة في ظلمة حالكة لا فجر لها, ويكفي عذاب الله
جل وعلا لمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتسلط الأعداء والمنافقين عليه
وضعف شوكته وقلة هيبته.
في ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : "ومن
لم يكن في قلبه بغض ما يبغضه الله ورسوله من المنكر الذي حرمه من الكفر والفسوق
والعصيان لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجبه الله عليه فإن لم يكن مُبغضًا لشيء من
المحرمات أصلًا لم يكن معه إيمان أصلًا."
ويقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-:
"فالله الله إخواني تمسكوا بدينكم أوله وآخره أُسه ورأسه وهو شهادة ألا إله
إلا الله واعرفوا معناها وأحبوا أهلها واجعلوهم إخوانكم ولو كانوا بعيدين واكفروا
بالطواغيت وعادوهم وأبغضوا من أحبهم أو جادل عنهم أو لم يكفرهم أو قال: ما علي
منهم أو قال: ما كلفني الله بهم فقد كذب هذا على الله وافترى بل كلفه الله بهم
وفرض عليه الكفر بهم والبراءة منهم ولو كانوا إخوانه أو أولاده." انتهى كلامه
رحمه الله.
ويقول العلامة الشيخ حمد بن عتيق -رحمه الله-: "فلو
قُدر أن رجلا يصوم بالنهار ويقوم بالليل ويزهد في الدنيا كلها وهو مع هذا لا يغضب
لله ولا يتمعر وجهه ولا يحمر فلا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر, قال: فهذا
الرجل من أبغض الناس عند الله وأقلهم دينًا وأصحاب الكبائر أحسن عند الله منه." انتهى كلامه رحمه
الله.
خطوات الإنكار والأمر:
أولًا:
التعريف: فإن الجاهل يقوم على الشيء لا يظنه منكرًا فهو
يفعله عن جهل منه فيجب عند ذلك إيضاحه له, وأمره بالمعروف وتبيين أن فعله ذلك عليه
من المأخذ والجرم الأمر العظيم وتركه له فيه أجر وجزيل ثواب في ذلك ويكون ذلك بحسن
أدب ولين ورفق.
ثانيًا: الوعظ: وذلك
بالتخويف من عذاب الله U
وعقابه وذكر آثار الذنوب والمعاصي ويكون ذلك بشفقة ورحمة له, فإذا لم ينته عن
المنكر بالتعريف وبأسلوب فيه أدب ولين ورفق نعظه موعظة مذكرين له بعذاب الله
وبآثار هذا الذنب بأسلوب فيه شفقة ورحمة .
ثالثًا: الرفع
إلى أهل الحسبة إذا ظهر عناده وإصراره.
رابعًا:
التكرار عليه وعدم اليأس منه, فإن الأنبياء والمرسلين أمروا
بالمعروف وأعظموا بالتوحيد وحذروا عن المنكر وأعظموا بالشرك سنوات طويلة دون كلل
أو ملل .
خامسًا: إهداء
كتاب أو شريط نافع.
سادسًا: لمن
كان له ولاية كزوجة وأبناء فله الهجر والزجر بل والضرب.
سابعًا: الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر يستوجب من الشخص الرفق والحلم وسعة الصدر والصبر وعدم الانتصار للنفس ورحمة
الناس والإشفاق عليهم كل ذلك مدعاة إلى الحرص وبذل النفس.
قد شاع في بعض أوساط الناس الغفلة الشديدة عن هذه
الشعيرة العظيمة ألا وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى إنهم اعتبروا ذلك
تدخلًا في شئون الغير وهذا من قلة الفهم ونقص الإيمان, دل على ذلك ما جاء عن أبي
بكر t
قال: "يا أيها الناس إنكم لتقرءون هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ
مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ وإني
سمعت النبي r يقول: (إن
الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه).
وتأملوا أيضًا في سفينة المجتمع التي صورها النبي r
بقوله: (مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ
وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ
بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي
أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ
فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ
فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ
أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا.)
ولكن مع الأسف الشديد ظهرت في بعض المجتمعات ظاهرة
خطيرة ألا وهي الاستهزاء أيضًا بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ولمزهم
وغمزهم, والله U
قد توعد الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بعذاب أليم.
وذلك يستلزم منا أن نقوم بهذه الشعيرة العظيمة غير
آبهين بما ينالنا من سب أو استهزاء أو نحو ذلك؛ لأننا نقوم بهذه الشعيرة مخلصةً
لله جل وعلا قلوبنا وأفعالنا ونياتنا ولا يكون هدفنا الثناء أو الاستجابة أو غير
ذلك.
المحاضرة السابعة والعشرون
الحديث
في قسم الآداب , يتضمن أمرًا وللأسف هو منتشر في كثير من المجتمعات الإسلامية
وغيرها بل قد لا يخلو مجتمع من المجتمعات من وجود هذه الظاهرة فيهم ألا وهي أي هذه
الصفة المشار فيها في حديث أبا هريرة t
قال: قال النبي r: (تَجِدُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ
اللهِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاَءِ
بِوَجْهٍ).أخرجه البخاري ومسلم ومالك وأحمد وابن حِبَان وغيرهم.
مسائل
الحديث :
قوله r: (ذا الوجهين) : هو الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه؛ أي يأتي إلى
أناس بوجه يُحدثهم ويُجالسهم بوجه يكون معهم ودًا لهم, ويأتي آخرين بوجه آخر
وأفعال وأقوال أخرى تناقض وتخالف الوجه والأقوال والأفعال التي التقى القوم أولئك
بها.
وذلك كما يفعله المنافقون قال الله تعالى جل وعلا في شأنهم: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا
آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا
نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ فهؤلاء المنافقون هم تنطبق عليهم صفة ذا الوجهين فهم
إذا التقوا المؤمنين أظهروا لهم الإيمان في أقوالهم وفي أفعالهم أما إذا خلوا
بشياطينهم وخلوا بأنفسهم قالوا:﴿قَالُوا
إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ وقال جل وعلا
عن المنافقين أيضًا: ﴿مُذَبْذَبِينَ
بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ
اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ قال
المفسرون: مذبذبين -يعني المنافقين- متحيرين بين الإيمان وبين الكفر فلا هم مع
المؤمنين ظاهرًا وباطنًا ولا هم مع الكفار ظاهرًا وباطنًا بل ظواهرهم مع المؤمنين
وبواطنهم مع الكافرين, بل حتى إن منهم من يعتريه الشك تارة يميل إلى هؤلاء وأخرى
يميل إلى هؤلاء
وهذا منتشر في كثير من المجتمعات اليوم -والعياذ بالله- أعني هذه الصفة ذا
الوجهين وهي من شعب النفاق, تجد إن من يتصف بهذه الصفة القبيحة السيئة يأتي
إليك فيتملق ويُثني عليك وربما يغلو في الثناء عليك ولكنه لا يلبث من ورائك أن
يقول في ذمك وشتمك وذكر ما ليس فيك ما لا يخطر لك على بال, فهذا -والعياذ بالله-
ينطبق عليه تمامًا قول النبي r في هذا الحديث: (تجدون
شر الناس ذا الوجهين يأتي هؤلاء بوجه, وهؤلاء بوجه) فعندما التقاك أخذ
يمدح ويثني ويذكر ويذكر من الأفعال والأقوال الحسنة أمامك فما لبث لما تركك والتقى
غيرك انقلب وقلب لك ظهر المجن فأخذ على العكس من ذلك تمامًا أخذ في السب والشتم
والذم لك فأصبح أتاك بقول وبوجه وأتى غيرك بقول وبوجه آخر.
وهذه الصفة هي
من كبائر الذنوب وذلك أن
النبي r وصف فاعله بأنه شر الناس والواجب على
الإنسان أن يكون صريحًا لا يقول إلا ما في قلبه فإن كان ما في قلبه خيرًا حمد الله
جل وعلا عليه وحمد غيره وإن كان سوى ذلك وجه ذلك العبد إلى الخير, أما كونه يأتيه
بوجه ويأتي غيره بوجه آخر فهذا هو الذي يكون مُنكرًا ويدخل صاحبه في هذه الصفة
المقيتة المذمومة.
وسواء كانت هذه الصفة فيما يتعلق بعبادات الشخص نفسه كأن يظهر للناس أنه عابد مؤمن تقي في ظاهر الحال وفي
حقيقة الأمر في باطنه هو على العكس من ذلك, وسواء كان فيما يتعلق بمعاملته
فيظهر أنه ناصح للإنسان يُثني عليه ويمدحه فإذا غاب عنه عقره وذمه وشتمه هذا كله
لا يجوز لا في عبادات المرء ولا في معاملاته لغيره, قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-:"قال
القرطبي: إنما كان ذو الوجهين شر الناس لأن حاله حال المنافق إذ هو متملق بالباطل
وبالكذب مُدخل للفساد بين الناس, إنما كان ذا الوجهين شر الناس؛ لأنه حاله حال
المنافقين؛ ولأنه يتصف بالباطل وبالكذب وأن حاله يدخل من الفساد على الناس ما الله
به عليم."
وقال النووي -رحمه الله- عن ذي الوجهين:"هو الذي يأتي كل طائفة بما
يرضيها فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها وصنيعه نفاق ومحض كذب وخداع وتحين على
الاطلاع على أسرار الطائفتين وهي مداهنة محرمة" قال: "فأما من يقصد بذلك
الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود." ونستفيد من كلام النووي ونفهم بأن هناك
أمر محمود وهناك أمر مذموم كما سيأتي بعد قليل تفصيله وزيادة بيانه -إن شاء الله-.
فالمذموم: أن يأتي هذه الطائفة بصنيع وقول وهو في حقيقة أمره كاذب
مخادع متحيل وإنما جاء بذلك من أجل
الاطلاع على أسرار هذه الطائفة, ويأتي الطائفة الأخرى أيضًا بكذب وباطل وتحيل حتى
يطلع أيضًا على أسرار هذه الطائفة الأخرى فينقل هنا ما يراه ويسمعه وينقل هناك ما
يراه ويسمعه حتى يُشعر ويُوهم ويُفهم كل طائفة بأنه منهم.
أما
المحمود: من يقصد الإصلاح بين الطائفتين أو بين الناس فيأتي
هؤلاء بوجه فيذكر من محاسن تلك الطائفة وأقوالهم الحسنة في هذه الطائفة ونحو ذلك قال
أهل العلم: إن هذا ليس من صفة ذي الوجهين المذموم وإنما هذه صفة ممدوحة والله
أعلم.
قوله r بعد ذلك: (تجد من شر الناس) وفي رواية: (تجد من شرار الناس)
بصيغة الجمع وجاء عند مسلم بلفظ: (تجدون من شر الناس
ذا الوجهين) وهذه الألفاظ متقاربة
والرواية التي فيها (شر الناس) تُحمل على
الرواية التي فيها (من شر الناس)؛ أي
للتبعيض فذا الوجهين ليس هو شر الناس على الإطلاق كما هو ظاهر رواية (تجدون شر الناس), وإنما تحمل هذه
الرواية على الرواية التي جاء فيها التبعيض بمن شر الناس فيكون ذا الوجهين من شرار
الناس وليس هو أشرهم على الإطلاق. وأما
وصفه بكونه شر الناس أو من شر الناس فإنما ذلك جاء مبالغة في ذكر هذه الصفة
للتنفير منهاوالتقبيح لها حتى يحذرها المسلم ويكون على بعد منها.
وأما الرواية التي جاء فيها (أشر الناس) بزيادة
الألف فهي لغة من لفظ شر فيقال: خير وأخير ويقال: شر
وأشر وكلاهما بمعنى, وهذا أيضًا
كما جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها- عندما قالت: (كان
نبينا r ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم
يكن إثمًا) وجاء
في رواية : (إلا اختار أخيرهما ما لم يكن إثمًا)
فلفظة أشر وأخير هي لغة عند العرب من شر وخير وإن كانت هذه اللغة قليلة الاستعمال
إلا أنها صحيحة وجاءت بها الأحاديث في بعض الروايات.
ولكن التي بالألف أقل استعمالًا فلفظ أشر أقل استعمالًا من لفظ شر كما أن
لفظ: أخير أقل استعمالًا عند العرب من لفظ خير, وأيضًا يُحتمل أن يكون المراد
بالناس في قوله: (تجدون من شر الناس) يُحتمل
أن يكون المراد بالناس من ذُكر من الطائفتين المتضادتين خاصة فهذا الذي هو موصوف
بأنه ذو الوجهين هو شر الناس أي شر هؤلاء الناس الذين هم من هاتين الطائفتين, فإن
كل طائفة منهما مجانبة للأخرى ظاهرًا فلا يتمكن من الاطلاع على أسرارها إلا بما
ذكر من خداعه الفريقين ليطلع على أسرارهم فهو شرهم كلهم.
معنى هذا الكلام أن قوله r :(تجدون من شر
الناس) عن ذي الوجهين الناس هؤلاء أو لفظة الناس يُحتمل ألا يراد بها
على عمومها؛ أي شر الناس على إطلاق وإنما يُحتمل أن يكون نبينا r أراد بالناس
أهل الطائفتين فهناك طائفتان بينهم ذو الوجهين واحدًا أو كان متعددًا هؤلاء الناس
هؤلاء الطائفتين هذا الذي هو موصوف بأنه ذو الوجهين هو شر هؤلاء الناس؛ أي
شر هاتين الطائفتين وهذا احتمال ذكره بعض أهل العلم .
ولكن البعض الآخر من أهل العلم قال: الأولى حمل لفظة الناس على عمومها؛ لأن
ذلك يكون أدعى وأبلغ في الذم والتنفير من هذه الصفة القبيحة السيئة الشنيعة قال
القرطبي -رحمه الله- :"إنما كان ذو الوجهين لأن حاله حال المنافقين إذ هو
متملقٌ بالباطل وبالكذب مدخل للفساد بين الناس ."كما تقدم نقله عن ابن حجر -رحمه
الله- قبل قليل .
فالفرق بين المحمود والمذموم:أن
المذموم من يزين لكل طائفة عملها ويقبحه عند الأخرى ويذم كل طائفة عند الأخرى,
أما المحمود فهو أن يأتي لكل طائفة بكلام فيه صلاح للأخرى ويعتذر لكل واحدة
عن الأخرى وينقل إليها ما أمكنه من الجميل ويستر القبيح, ويؤيد هذا التفريق بين
النوع المذموم والنوع المحمود الرواية التي جاء في آخرها بيان ذا الوجهين بأنه
الذي يأتي هؤلاء بحديث وهؤلاء بحديث أو قال: الذي يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء وهؤلاء
بحديث هؤلاء.
قال ابن عبد البر المالكي -رحمه الله-:"حمله على ظاهره جماعة وهو أوله
وتأوله قوم على أن المراد به من يرائي بعمله فيُري الناس خشوعًا واستكانة ويوهمهم
أنه يخشى الله حتى يكرموه وهو في الباطن بخلاف ذلك." قال: وهذا محتمل لا اُختصر
في الحديث على صدره فإنه داخل في مطلق ذي الوجهين لكن بقية الحديث ترد هذا التأويل
وهي قوله: (يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه),
وقد اقتصر في رواية الترمذي على صدر الحديث لكن دلت بقية الروايات على أن الراوي
اختصره وقد رواه البخاري -رحمه الله- في الأدب المفرد من وجه آخر عن أبي هريرة t بلفظ: (لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أمينًا).
خلاصة كلام ابن عبد البر أن من أهل العلم من حمل هذا الحديث على ظاهره وأن المراد
بذي الوجهين: هو الذي يأتي إلى طائفتين من الناس فيظهر عند هذه خلاف ما يظهر
عند هذه حتى يجعل كل طائفة تظن أنه منها وتظن أنه موافق ومُسالم ومُنطو تحت
لوائها, ولكن البعض الآخر من أهل العلم فسر ذا الوجهين بالإنسان المرائي الذي يُرائي
الناس في الخشوع والاستكانة حتى يوهمهم أنه ممن آمن بالله وخشي الله فيكون ظاهره
فيه الصلاح ولكن باطنه فيه الفساد العظيم.علق ابن عبد البر على هذا الاحتمال
الثاني قال: إن هذا الاحتمال الثاني بأن المراد بذي الوجهين يستقيم إذا اُختصر في
الحديث على صدره, يقصد إذا اقتصر على الجملة الأولى في الحديث فلو قيل في الحديث: (تجد من شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين)
لصح تفسير ذا الوجهين بأنه المرائي الذي يوهم الخشية والاستكانة وهو في باطنه غير
ذلك, لكن لما جاء لحاق هذا القول فسر ذا الوجهين بتفسير ينتفي معه هذا الاحتمال
فقال: الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ومع هذا التفسير يبطل تأويله بأنه المرائي
للناس ويلزم أن يكون الحديث على ظاهره بأن ذا الوجهين (الذي
يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه) وكما في الرواية الأخرى: (الذي يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء, ويأتي هؤلاء بحديث هؤلاء).أيضًا
خرج أبو داود من حديث عمار بن ياسر t قال : قال النبي r : (من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من
نار) وهذا يصدق عليه ويتناوله الاحتمال الذي ذكره ابن عبد البر وهو
المرائي الذي يُظهر خلاف ما يبطن بخلاف حديث الباب حديث ذي الوجهين الذي يأتي
هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه فإنه فُسر بأنه الذي يتردد بين طائفتين من الناس فينقل
لهذه ما لا ينقله لتلك ونحو ذلك .
المحاضرة الثامنة والعشرون
الحديث من أحاديث الأحكام
حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي r
قال: (إِذَا
دَخَلَتِ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسُّ مِنْ
شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا) هذا هو اللفظ الأول وفي رواية قال r: (فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ) وفي
أخرى قال: (فَلاَ يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلاَ
مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّىَ) .
تخريج
الحديث: لهذا الحديث طريقان مشهوران عن أم سلمة -رضي الله
عنها-:
الطريق الأول:
أخرجه مسلم وأحمد من طريق سفيان بن عُيينة عن عبد الرحمن بن حُميد بن عبد الرحمن
بن عوف عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي r
بلفظ الرواية الأولى التي قدمناها, وعند مسلم قيل لسفيان؛ أي سفيان بن عُيينة راوي
الحديث قيل لسفيان: فإن بعضهم لا يرفعه أي يرويه موقوفًا وأنت ترفعه إلى النبي r
فإن بعضهم لا يرفعه قال سفيان: لكني أرفعه؛ بمعنى أنه متيقن وجازم لحفظه لتلك
الرواية بالرفع, ثم إنه لم يختلف فيه على سفيان فكل من رواه عن سفيان بن عُيينة -رحمه
الله- إنما رواه على الوجه المرفوع .
الطريق الثاني:
فرواه مالك عن عمرو بن مسلم عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة , أخرجه مسلم والترمذي
والنسائي وابن ماجه.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- عن هذا الحديث:"قد
اختلف الناس في هذا الحديث وفي حكمه, لماذا؟ لما قدمت قبل قليل بأنه رُوي مرفوعًا
ورُوي موقوفًا قال:فقالت طائفة: لا يصح رفعه وإنما هو موقوفٌ.
وقال الدارقطني:"والصحيح عندي قول من وقفه,
ولكن نازع الدارقطني وغيره في ذلك آخرون من أهل العلم فصححوا الحديث مرفوعًا عن أم
سلمة إلى النبي r, ومن
هؤلاء الأئمة الذين صححوا رواية الرفع مسلم بن الحجاج -رحمه الله- وذلك بتخريج
الحديث له مرفوعًا في صحيحه, ومنهم أيضًا أبو عيسى الترمذي -رحمه الله- حيث قال
عقب تخريجه للحديث في جامعه: "هذا حديث حسن صحيح", ومنهم أيضًا ابن حِبَان
-رحمه الله- حيث خرجه في صحيحه, ومنهم أبو بكر البيهقي -رحمه الله- حيث قال عقبه: "هذا
حديث قد ثبت مرفوعًا من أوجه لا يكون مثلها خطأ" وأودعه مسلم في كتابه .
خلاصة ذلك: أن الحديث له وجهان أو طريقان عن
سعيد بن المسيب: الطريق الأول: طريق عبد الرحمن بن حُميد بن عبد الرحمن بن
عوف عن سعيد عن أم سلمة, والطريق الثاني: طريق عمرو بن مسلم عن سعيد بن
المسيب عن أم سلمة.
الطريق الأول:
مرفوع من رواية سفيان بن عُيينة, والطريق الثاني: موقوف من رواية الإمام
مالك -رحمه الله- وقد صحح المرفوع مسلم والترمذي والبيهقي وابن حِبَان وغيرهم رحمة
الله على الجميع.
مسائل
الحديث :
في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- نهي صريح لمن أراد
أن يُضحي ألا يأخذ من شعره وبشره شيئًا إذا دخلت عشر ذي الحجة, وفي بعض روايات
الحديث أمر صريح بالإمساك عن الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي إذا دخلت عشر ذي الحجة.
وكما هو متقرر في علم أصول الفقه وكما هو معلوم
لديكم أن الأصل في النهي التحريم والأصل في الأمر الوجوب وهنا جاء النهي
صريحًا عن أخذ شيء من الشعر أو البشرة أو الظفر إذا دخلت العشر وأراد الإنسان أن
يضحي مما دل على أن هذا الأصل أن هذا النهي على التحريم على أصله وبهذا الظاهر
للحديث من أن هذا النهي للتحريم, أخذ الحنابلة في المشهور من مذهبهم والظاهرية
وحكاه الترمذي -رحمه الله- عن الإمام أحمد وعن إسحاق وزاد غير الترمذي عن سعيد بن
المسيب وربيعة بن أبي عبد الرحمن وغيرهم وهو وجه عند الشافعية هذا هو:
القول الأول:
وهو حمل النهي على التحريم كما هو ظاهر النهي للتحريم وهو
المشهور من مذهب الحنابلة , والظاهرية
القول الثاني:
ترك جماهير العلماء العمل بظاهر هذا الحديث, وانقسموا على
فريقين:
الفريق الأول: منهم من حمل الأمر في
هذا الحديث على الاستحباب وحمل النهي في هذا الحديث على التنزيه لا على التحريم
ولا على الوجوب في الأمر, وهذا القول هو مذهب المالكية
والمعتمد عند الشافعية وبه قال بعض الحنابلة ومنهم القاضي أبو يعلى قال المرداوي : "وهو أولى". وقد استدل من قال بهذا
الرأي بحديث عائشة -رضي الله عنها-: (كنت أفتل قلائد
هدي للنبي r ثم يقلده ويبعث به ولا يحرمُ عليه شيء أحله الله له حتى ينحر
هديه)
لاحظوا
قالت: (ولا يحرمُ عليه شيء أحله الله له حتى ينحر
هديه) .
قال المرداوي -رحمه الله-: وحكمها؛ يعني الهدي أغلظ
بسوقها إلى الحرم, فلما لم يحرم على نفسه شيئًا كان غيره أولى إذا ضحى في غير
الحرم, قال: ووجب استعمال الخبرين فنحمل الأمر به على السنة والاستحباب دون
الإيجاب بدليل الخبر الآخر فلا يكون واحد منهما مُطَّرحًا
أما الفريق الثاني: فقد اطرح العمل
بهذا الحديث جملة ورأى أنه لا بأس بقص الشعر وقلم الأظفار لمن أراد أن يُضحي إذا
دخلت عشر ذي الحجة عليه, وهذا القول هو قول الحنفية والمشهور
من مذهب الإمام مالك.
أولًا: هؤلاء منهم من طعن في إسناد هذا الحديث حديث
أم سلمة -رضي الله عنها- وقال: هو موقوف فرجح الوقف على الرفع, فقال: هو موقوف إذًا
لا حجة فيه وحديث عائشة مرفوع.
ومنهم من رأى أنه معارض لحديث عائشة -رضي الله عنها-
وعليه رجح حديث عائشة: (كنت أفتل قلائد هدي للنبي r ثم يقلده ويبعث به ولا
يحرم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر هديه) قدم هذا
الحديث حديث عائشة على حديث أم سلمة -رضي الله عنها- بذلك اطرح العمل بهذا الحديث
جملة, قال أبو عمر ابن عبد البر -رحمه الله-: "وقد أجمعوا على أنه لا بأس بالجماع
في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي وأن ذلك مباح." ثم قال: "فحلق الشعر
والأظفار أحرى أن يكون مباحًا."
ابن عبد البر -رحمه الله- استدل على اطراح العمل
بهذا الحديث بالقياس فقال: أجمع أهل العلم على أن من دخلت عليه عشر ذي الحجة وكان
مريدًا للأضحية فأجمعوا على أنه يجوز له مواقعة وجماع زوجته في نهار أو في ليل عشر
ذي الحجة, فإذا كان الجماع جائزًا له مع نيته للأضحية فقص شعره أو أخذ شيء من
بشرته أو أظفاره أحرى ومن باب أولى أن يكون مباحًا .
ولعل الراجح
من هذين القولين والله أعلم هو القول الأول: وهو القول بوجوب الإمساك عن أخذ شيء
من الشعر والظفر إذا دخلت عشر ذي الحجة وأراد الإنسان أن يضحي
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وأسعد الناس بهذا الحديث من قال بظاهره لصحته
وعدم ما يعارضه"
وأما حديث عائشة الذي سقناه قبل قليل وقال بعض أهل
العلم: إنه معارض لحديث أم سلمة قال ابن القيم : "وأما حديث عائشة فهو إنما
يدل على أن من بعث بهديه وأقام في أهله فإنما يقيم حلالًا ولا يكون محرمًا بإرسال
الهدي" فخص حديث عائشة بهذه الصورة الإنسان الذي يرسل الهدي إلى البيت
الحرام ويبقى هو عند أهله فلا يكون حرامًا كهدية وإنما يبقى على حله, وإذا بقي على
حله فإنه يجوز له ولا شك أن يأخذ من شعره وبشرته وأظفاره, قال: وحديث أم سلمة
يدل على أن من أراد أن يضحي أمسك في العشر عن أخذ شعره وظفره خاصة ثم قال ابن
القيم -رحمه الله-: فأي منافاة بينهما؟ ولذلك كأن أحمد وغيره يعمل بكلا الحديثين
هذا في موضعه وهذا في موضعه. انتهى كلام ابن القيم -رحمه الله- وهذا كلام متين
سديد منه -رحمه الله- بأن حمل حديث عائشة على وجهٍ غير الوجه الذي فيه حديث أم
سلمة -رضي الله عنها- وكان لذلك عاملًا بكلا الحديثين غير مُطَّرحٍ لأحدهما والله
أعلم.
ثم إذا سلمنا وافترضنا جدلًا التعارض بين الحديثين
حديث أم سلمة وحديث عائشة -رضي الله عنهما- فإن الجمع بينهما أولى من اطِّراح
أحدهما, ووجه الجمع أن حديث أم سلمة خاص في
المنع من أخذ شيء من الظفر والشعر والبشرة, وحديث عائشة عام فيُنزل العام على ما
عدا مدلول الخاص بأن يقال: حديث أم سلمة في خصوص الشعر والبشرة والظفر أما غير ذلك
فيدخل فيه حديث عائشة؛ فيجوز للإنسان أن يأخذ ما سوى ما في حديث أم سلمة -رضي
الله عنها- ولا يقال: إن نبينا r
كان يفعل ذلك الذي ذكرت عائشة -رضي الله عنها- وهو قد نهى عنه في حديث أم سلمة -رضي
الله عنها- ذلك لأن نبينا r
لم يكن ليفعل ما نهى عنه ولو كان مكروهًا وأقل أحوال النهي الكراهة فيجب حمل ما
ذكرته عائشة -رضي الله عنها- على غير المنهي عنه في حديث أم سلمة -رضي الله عنها-
حتى يستقيم الكلام ويصح أن يكون النبي r
نهى عن شيء ثم لم يأته فلم يأت الأمر الذي نهى عن وإنما أتى غيره في حديث عائشة -رضي
الله عنها-.
ولو قلنا بالترجيح لكان حديث أم سلمة -رضي
الله عنها- أرجح من حديث عائشة -رضي الله عنها- وذلك لأمور :
الأول: لأنه ناقل عن الأصل وحديث عائشة
مُبقٍ عليه
ومن المعلوم المتقرر أن الناقل عن الأصل مقدم على الباقي عليه؛ لأن فيه زيادة .
الثاني: فإن خبر أم سلمة نهي صريح من قول النبي r,
وأما حديث عائشة فإنما هو إخبار عن فعل
النبي r و القول مقدم على الفعل .
ما الحكمة من الأمر بالإمساك
عن أخذ شيء من الشعر والظفر في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي ؟
التمس أهل العلم -رحمهم الله- بعض الحكم فكان مما
ذكروا :
أولًا: قالوا
فيه تشبه بالمحرمين فلما كان المحرم يحظر عليه أشياء لأجل
إحرامه منع الذي يقصد الأضحية من أشياء, أيضًا لأجل أضحيته وكان مشابها في ذلك
للمحرم إلا أن النووي -رحمه الله- ضعف ذلك فقال: قال أصحابنا وهذا غلط؛ لأنه لا
يتعزل النساء ولا يترك الطيب واللباس وغير ذلك مما يتركه المحرم.
ثانيًا: ليبقى
كامل الأجزاء فتشمل المغفرة والعتق من النار جميع أجزائه والله
جل وعلا أعلم بالصواب في ذلك.
أخيرًا نص بعض
فقهاء الحنابلة على أن هذا الحكم شامل لمن أراد أن يُضحي أو يضحى عنه
ولفظ الحديث خاص فيمن أراد أن يضحي لا من يضحى عنه فالنهي وارد على من أراد أن
يضحي بنفسه لا على من يضحى عنه, والله جل وعلا أعلم.
نبه على ذلك شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله- والله جل
وعلا أعلم بالصواب
المحاضرة التاسعة والعشرون
الحديث من أحاديث الآداب
عن عبد الله بن مسعود t
عن نبينا r أنه قال: (عَلَيْكُمْ
بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي
إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ،
حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ
الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ،
وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ
اللَّهِ كَذَّابًا) خرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وأحمد من
طريق أبي وائل شقيق ابن سلمة عن ابن مسعود t
عن النبي r .
مسائل
هذا الحديث :
قوله r:
(عليكم بالصدق) أي
معناها ألزموا الصدق؛ والصدق مطابقة الخبر للواقع, وقد جاء في حديث كعب بن مالك t
وصاحبيه -رضي الله عنهم- ما يدل على فضيلة الصدق وحسن عاقبته وأن الصادق هو الذي
له العاقبة وإن كان في بدء الأمر يظهر خلاف ذلك, وأن الكاذب هو الذي يكون عمله
هباءً وإن كان في بداية الأمر يكون الأمر على خلاف ذلك.
والكذب على
قسمين:
1-
كذب هو نطق باللسان وهو بالقول .
2-
كذب هو فعل بالجوارح والأركان وهو بالفعل .
و يكون الكذب بالفعل عندما يفعل الإنسان خلاف ما يُبطن,
فهذا قد كذب بفعله فأشبه المنافقين الذين يُظهرون خلاف ما يبطنون فهم كاذبون وهو
بفعله ذلك كاذب أيضًا لماذا؟ لأنه يظهر للناس, الإنسان مثلًا المُرائي يظهر للناس
أنه مؤمن يصلي معهم وأنه يصوم مع الناس وأنه يتصدق ولكنه في حقيقة أمره بخيل, ومن
رأى أفعاله حكم عليه بالصلاح لكن هذه الأفعال -في الحقيقة- لا تُنبئ ولا تُمثل ولا
تُفصح عما في باطنه, إذًا هو كاذب بفعله؛ ذلك لأنه أظهر من الفعل خلاف ما يبطن في
حقيقة أمره.
والصدق
أيضًا على قسمين:
1-
صدق يكون باللسان 2- صدق يكون بالجوارح والأركان
فمتى ما طابق الخبر الواقع فالإنسان يكون فيه صادق
بلسانه ومتى ما طابقت أعمال الإنسان بجوارحه ما في قلبه فهو صادق بجوارحه وأفعاله
فتم له الصدق باللسان وبالفعل .
قوله r : (عليكم بالصدق) بين أمر الصدق وعاقبته فقال r: (فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن
الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا).
البر بينه أهل العلم بأنه :
كثرة الخير , فالصدق يدل ويهدي إلى البر فيكون كلما صدق الإنسان في قوله وفي
فعاله أصبح قريبًا واهتدى إلى البر الذي هو كثرة الخير ومن كثرة الخير من مسمى البر, هذا اسم الله جل وعلا البر فهو سبحانه البر
الرحيم؛ أي كثير الخير والبركة والإنعام, والبر هو من نتاج الصدق فالإنسان
كلما كان صادقًا في أقواله وأفعاله هداه ربه جل وعلا إلى البر الذي هو يهدي إلى
الجنة فكان مآل الصدق ومآل الصادقين جنة رب العالمين الله ربي جل وعلا .
قوله r: (وإن البر
يهدي إلى الجنة) صاحب البر
يهديه بره إلى الجنة والجنة غالية المطلب وهي غاية كل مطلب, ولهذا يُأمر الإنسان
بأن يسأل ربه جل وعلا الجنة ويستعيذ به سبحانه من النار قال I: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ وقوله
r: (إن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا) في رواية: (ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا)
ولفظة الصِّدِّيق هي المرتبة الثانية للخلق من الذين أنعم الله جل وعلا عليهم , فالوصف
الذي يشمل هؤلاء جميعًا أنهم أنعم الله عليهم وهم على أربع مراتب:
الأولى: النبيون, الثانية:
الصديقون, الثالثة: الشهداء, الرابعة: الصالحون.
كما قال I: ﴿وَمَنْ
يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ
وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا﴾فالصديق هو في المرتبة الثانية بعد الأنبياء .
فالرجل الذي يتحرى الصدق في أقواله وفي أفعاله يكتب عند ربه جل وعلا صديقًا,
ومعلوم أن الصديقية درجة عظيمة لا ينالها إلا
أفذاذ من الناس, وتكون في الرجال كما تكون أيضًا في النساء , دل على ذلك
كتاب ربنا قال I: ﴿مَا
الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ
لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾ فأثبت لمريم
رتبة الصديقية وهي من النساء
وأفضل
الصديقين على الإطلاق هو أصدقهم وهو أبو بكر الصديق t عبد الله بن عثمان بن أبي قحافة t الذي استجاب
لنبينا r حينما دعا إلى الإسلام ولم يحصل عنده أي
تردد أو توقف فبمجرد ما دعاه r أسلم وأمن
وصدق به وصدق النبي r حين كذبه قومه, وصدقه أيضًا t حين تحدث r عن الإسراء
والمعراج وحينما كذبه الناس فذهبوا إلى أبي بكر t فقالوا له:
أما تسمع ما يقول صاحبك ؟ يقول كذا وكذا فقال t ولم يكن علم
بأمر الإسراء والمعراج ولم يسمع النبي r تحدث بذلك قبل قالt: إن كان قد
قال ذلك فقد صدق, ومنذ ذلك اليوم سُميt صديق هذه
الأمة, ولُقب بالصديق فلا يقال إلا أبو بكر الصديق t .
قوله r: (وإياكم
والكذب)؛ أي احذروا الكذب والكذب
هو الإخبار بما يخالف الواقع وسواء كان بالقول أو بالفعل .
قوله r : (وإن الكذب يهدي إلى الفجور)؛ يعني
الخروج عن طاعة الله الكذب يهدي ويدل ويسوق إلى الخروج عن طاعة الله جل وعلا ذلك
لأن الإنسان يفسق ويتعدى طوره ويخرج عن طاعة الله جل وعلا إلى معصيته وأعظم الفجور الكفر فإن الكفرة فجرة بنص قول ربنا جل
وعلا:﴿أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَة﴾.وقال جل وعلا:﴿كَلَّا إِنَّ
كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ %
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ % كِتَابٌ مَرْقُومٌ % وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ % الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ وقال U :﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ
لَفِي جَحِيمٍ﴾ .فالكذب
يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار كما قال r:
(وإن الرجل ليكذب) وفي لفظ: (ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا)
.
الكذب من الأمور المحرمة كما هو معلوم, بل قال بعض
أهل العلم: إن الكذب من كبائر الذنوب؛
وذلك لأن النبي r
توعده بأنه يُكتب عند الله كذابًا, وأن كذبه ذلك يهديه على الفجور, وأن الفجور
يهدي إلى النار, ومن أعظم الكذب ما يفعله الناس اليوم يأتي أحدهم بالمقالة كذبًا
لا لأجل أمرٍ عظيمٍ وإنما لأجل أن يُضحك الناس, وسواء كان لأجل أمر عظيم أو أن
يضحك الناس كل ذلك من الأمور المحرمة وكل ذلك كذب هو حرام ويأثم من أتى به, لكن
أقول ممن انتشر في أوساطنا في هذه الأيام أن الإنسان يأتي بهذه المقالة كذبًا حتى
فقط ليضحك الناس, وقد جاء الحديث بالوعيد الشديد على من يفعل هذا الفعل وذلك في
قوله r:
(ويل لمن حَدَّثَ فكذب ليُضحك به القوم ويل له ثم
ويل له) وهذا وعيدٌ على أمر استسهله
وللأسف كثير من الناس.
مما يستثنى من الكذب :
ورد في الحديث أنه يستثنى من ذلك ثلاثة أشياء:
1- في الحرب 2- في الإصلاح بين الناس 3- حديث الرجل زوجته
وحديث المرأة زوجها
ولكن بعض أهل العلم قالوا: إن المراد بالكذب في هذا
الحديث؛ أي هذا الاستثناء في الحرب والإصلاح وحديث الرجل إلى زوجته ليس المراد
الكذب الذي عرفناه قبل قليل بأنه الإخبار بخلاف ما عليه الواقع, قالوا: المراد بهذا الكذب في هذه الثلاثة أمور المباح
التورية وهي ليس الكذب الذي هو إخبار بما يخالف الواقع, فقالوا: المراد في هذا
الاستثناء التورية وليس الكذب الصريح .
وقالوا:
التورية تسمى كذبًا كما جاء ذلك في حديث أبي هريرة t
أن النبي r قال: (لم يكذب
إبراهيم u إلا ثلاث كذبات اثنتين
فيهم أو اثنتين منهن في ذات الله جل وعلا الأولى قوله: إني سقيم والثانية: بل فعله
كبيرهم هذا
فهاتان كذبتان في ذات الله جل وعلا والثالثة: قال
وواحدة في شأن سارة عندما قال: بأنها أخته...) إلى آخر الحديث وهو uلم
يكذب وإنما ورى تورية هو فيها صادق uفاستدلوا
بهذا الحديث أن المراد بالكذب المستثنى في الحرب والإصلاح وحديث الرجل زوجته
التورية لا الكذب المشار إليه في الحديث وهو الإخبار عن خلاف ما عليه الواقع.
وأشد
الكذب : أن يكذب الإنسان ويحلف على ذلك حتى يأكل أموال الناس
بالباطل, مثل: أن يدعي عليه إنسان بحق ثابت فينكره ويقول: والله ما لك علي
حق أو يدعي هو ما ليس له على إنسان فيقول: لي عندك كذا وكذا وهو كاذب ثم يحلف على
دعواه كذبًا وزورًا وهذا ما يسمى باليمين
الغموس التي تغمس صاحبها في الإثم ثم تغمسه في النار -والعياذ بالله- وقد
ثبت عن نبينا r أنه قال: (من
حلف على يمين صبر هو فيها فاجر يقتطع فيها مال امرئ مسلم لقي الله جل وعلا وهو
عليه غضبان).
المحاضرة الثلاثون
الحديث من أحاديث الآداب
عن أبي هريرة t
قال: قال النبي r:
(إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ
الحَدِيثِ)
خرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي جميعهم من
طريق الأعرج عبد الرحمن بن هُرمز عن أبي هريرة t
به.
مسائل
الحديث :
قوله r: (إياكم والظن) هذه الصيغة هي للتحذير , والمراد بالظن
في الحديث هو الظن السيئ, وسوء الظن
هو اعتقاد جانب الشر وترجيحه على جانب الخير فيما يحتمل الأمرين معًا , وسوء
الظن يجب أن نحفظ منه قلوبنا وهو ما يظهر أثره على جوارحنا وهو قرين وقريب من
الحسد.يقول ربنا Uعن
هذا الخلق الذميم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾فلابد
أن نجتنب الكثير من الظن خشية الوقوع في القليل الذي هو إثم, وليس الأمر على العكس
من ذلك الذي يظن الناس ظنون سيئة فجعلوا الظن الغالب والأكثر هو الظن السيئ, فربنا
جل وعلا أمرنا باجتناب الظن وإن كان باجتناب كثير من الظن؛ لأن فيه بعض الظن السيئ
الذي يُوقع الإنسان في الإثم.
والإنسان ينظر إلى بعض الأمور ثم يتوسع ظنهُ حتى يَسوء
ظنه كثير من أجل احتمال بدأ قليلًا في نفسه وفي عقله, بل ربما يكون هذا القول صدر
أو بدر من أخيك وله احتمال من الحق واحتمال من الخطأ والباطل, فإذا وسعته أنت أكثر
مما يحتمل فقد عكست مفهوم الآية ومضمونها تمامًا؛ لأن الأصل في الظنون أن تكون على
السلامة وعلى الحق والصواب اللهم إلا إذا جاء احتمالٌ يسير للخطأ وللسوء فإن ظننت
بأخيك سوء فقد وسعت هذا القليل وكثرته فعكست مفهوم هذه الآية التي جاء فيها: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾
وذلك من باب التقليل.
فالواجب علينا أن نجتنب كثير من الظن؛ لكون البعض
منه إثمًا حتى نحفظ قلوبنا ونحفظ جوارحنا من النيل والوقوع في أعراض إخواننا
المسلمين, وسوء الظن يُولِّد في الإنسان البغضاء ويوقع في الحسد والبغي ويوقع
في العدوان والفتنة, وأصل ذلك كله ناشئ من سوء الظن -والعياذ بالله- قال بعض
السلف وهذا قول متين قال: "إنما يُسيء
الظن بالله خبيث النفس" قالوا: كيف ذلك؟ قال:"إنه تترشح صفاته فتخرج في
غيره." أي إن هذا الذي أساء الظن هو نفسه خبيثة وأعماله وباطنه خبيث
فعندما يرى أخاه يفعل فعلًا أو يقول قولًا يترشح ذلك الخبث الذي في قلبه وفي نفسه
ويُخرجهُ بشكل إساءة الظن في أخيه المسلم.
بالمثال يتضح هذا المقال فمثلًا: القول الصادق إذا
سمع قولًا لإنسان صادق قال: لا هذا كذب, وإذا قيل له: لماذا؟ يقول: ماذا لو كان
صاحبه كاذبًا قد يكون وقد يكون وما ذاك إلا أنه هو في نفسه يقول الأقوال الكاذبة
فظن أن الناس مثله, وهذا هو معنى قول بعض السلف "إنما يُسيء الظن بالله خبيث
النفس قالوا كيف ذلك؟ قالوا: إنه تترشح صفاته فتخرج لغيره"؛ أي يرى من أفعاله
أن الناس يفعلون ذلك ويوصف له إنسان بالخير والصلاح والتقى فيقول: لا إنما فيه كيت
وكيت وكيت, فإذا سُئل قال: هناك أشياء لا تعلمون عنها لعله يفعله أو قال: لأنه
يظهر التقوى ويبطن أعمال خفية سيئة, فنقول: إنما قال ذلك لأنه في نفسه يفعل تلك
الأفعال وهو في الواقع يُصور حاله ويتحدث عن نفسه ويرى أن الناس مثله تمامًا.
وإن أصدق
الناس ظنًا بإخوانه المسلمين هو أسلم الناس باطنًا,
وهذه قاعدة تكاد تكون مُطردة؛ لأنه لا يتصور أن أحد يقول الحق ثم يفعل هذه
الموبقات؛ ولذا فإنه لا يتهم بها الناس لكن الذي يفعلها -والعياذ بالله- يتهم
الآخرين بلا دليل إلا سوء الظن فحسب.
مسألة تتعلق بهذا الحديث / وهو
سوء الظن هو سبب اتباع الهوى كما قال ذلك أهل العلم؛ فسوء الظن
بداية لاتباع الهوى وهذا من أخطر الأمور, وإذا اتبع العبد الهوى حاد عن الطريق
المستقيم ولم يرتدع بأي رادع, وهذه فتنة عظيمة يفتن بها العبد بعد الشرك بالله جل
وعلا بل إن الشرك أحيانًا عندما يقع من العبد
فهو يقع نتيجة إتباع الهوى كما أخبر الله جل وعلا في غير آية من كتابه عن
المشركين الذين وقع منهم الشرك ووقعوا في المحذورات وكل ذلك كان بسبب اتباع الهوى
فيُخل العبد بحق الله I
وبحق المؤمنين ويُصبح متعصبًا لرأيه ولهواه, وذلك التعصب يُعميه ويصمه عن قبول
الحق وعن الانقياد والإذعان له فيشبه حاله حال اليهود والنصارى الذين تعصبوا لما
عندهم من الباطل ورفضوا دعوة النبي r
ورفضوا
قبول الحق.
ولهذا يقول عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله-:"العلماء
يكتبون ما لهم وما عليهم -يقصد علماء الإسلام وهم أهل السنة والجماعة- يكتبون
ما لهم وما عليهم, وأما أهل الأهواء فيكتبون ما لهم ويذرون ما عليهم."
فإن العالم بالله على الحقيقة هو الذي يخشى الله سبحانه كما قال لنا جل وعلا عنهم:
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ إذا بلغه شيء
يخالف ما كان يظن أو ما كان يفتي به أو ما كان يقوله أو ما كان كتبه سواء كان له
أو عليه حتى لو كان رأيه في المسألة على خلاف ذلك ثم بلغه عن النبي r
أنه عمل به أو عن الصحابة فإنه يكتبه ويتأمله ويبحث فيه حتى لا يقول إلا الحق ولا
يفتي بالباطل ولا يعتقده, هذه هي حال علماء السنة والجماعة.
أما أهل الأهواء فلو أتيته بكل آية وبالأحاديث
والبراهين من الواقع وتقول: هذا الدليل فأنظر فإنه لا ينظر إليه, وإذا وجد شبهة أو
كلمة أو احتمال ينفعه تعلق به وأخذه وكتبه وحفظه ونشره واهتم به هذا دليل على أنه
صاحب هوى ليس متبعٌ للحق بل هو مبتدعٌ .
ما
هو حكم سوء الظن؟
أعد الإمام ابن حجر -رحمه الله- سوء الظن بالمسلمين
من الكبائر الباطنة فقال:"وهذه الكبائر مما يجب على المكلف معرفتها ليعالج
زوالها؛ لأن من كان في قلبه مرض منها لن يلقى الله -والعياذ بالله- لن يبقى الله
بقلب سليم, وهذه الكبائر يُذم العبد عليها أعظم مما يُذم على الزنا والسرقة وشرب
الخمر ونحوها من كبائر البدن, وذلك لعظم مفسدتها وسوء أثرها ودوامها إذ إن آثار
هذه الكبائر ونحوها تديم بحيث تصير حالًا وهيئة راسخة في القلب بخلاف أثار معاص
الجوارح فإنها سريعة الزوال؛ تزول بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية."
انتهى كلام ابن حجر -رحمه الله- .
فابن حجر -رحمه الله- يبين في هذا
الكلام حكم سوء الظن وأنه يعد من الكبائر الباطنة لا الظاهرة, بل إنه كما قال:
أعظم من كبيرة الزنا والسرقة وشرب الخمور الكبائر البدنية؛ ذلك لعظم مفسدتها
وأثرها السيئ على الأمة أجمع ودوامه أيضًا بحيث أنه يصير متفشيًا
وهيئة راسخة في القلب مترسخ هذا الظن السيئ في أخيه المسلم, ويكفي في ذلك أن صاحب
الظن السيئ يلقى الله جل وعلا في ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من
أتى الله بقلب سليم, يلقى ربه جل وعلا وقلبه ليس بسليم, ليس سليم من سوء الظن الذي
تلبس به واعتراه.
أقسام
سوء الظن: تكلم بعض أهل العلم عن سوء الظن وقسمه إلى قسمين وقال:"
هما من الكبائر " :
الأول: سوء
الظن بالله جل وعلا وهو أبلغ وأعظم في الذنب من اليأس
والقنوط .
الثاني : سوء
الظن بالمسلمين, وهذا أيضًا من كبائر الذنوب إلا أن
الأول أعظم وأقبح وأشد وأشنع إثمًا وجرمًا وقبحًا وسوءًا من الثاني, مع أن الثاني
من كبائر الذنوب, وذلك أن من حكم بشر على غيره بمجرد الظن حمله شيطانه على احتقاره
وعدم القيام بحقه والتواني في إكرامه, وإطالة اللسان في عرضه, وكل هذه مهلكات
لصاحب الظن السيئ.
وكل من رأيته سيئ الظن بالناس طالبًا لإظهار
معايبهم فاعلم أن ذلك كما قلنا لخبث باطنه
وسوء نيته؛ لأنه يشبه ويقرر حاله على من أساء به الظن فظن أنه مثله كاذب في دعواه
كاذب في أقواله كاذب في أفعاله مبطن خلاف ما أظهره , نقول ذلك لماذا؟
لأن
المؤمن يطلب المعاذير لسلامة قلبه أولًا, أما المنافق فيطلب العيوب لخبث باطنه -عياذا
بالله- من ذلك قال ابن قدامة المقدسي -رحمه الله-:"فليس لك أن تظن بالمسلم شرًّا
إلا إذا انكشف أمرًا لا يحتمل التأويل؛ فإن أخبرك بذلك عدل فمال قلبك إلى تصديقه
كنت معذورًا؛ لأنك لو كذبته كنت قد أسأت الظن بالمخبر؛ فلا ينبغي أن تحسن الظن بواحد
وتسيئه بآخر بل ينبغي أن تبحث هل بينهما عداوة أو حسد؛ فتطرق التهمة حينئذٍ بسبب
ذلك." انتهى كلامه -رحمه الله-
يشير بهذا الكلام إلى أنه لا ينبغي ولا يجوز للمسلم
أن يظن بالمسلم شرًّا فالأصل ألا يظن بالمسلم إلا خيرًا اللهم إن جاء أمر لا يحتمل
التأويل أو ليس لك محيص عن أحد أمرين؛ كأن يأتي إنسان ثقة فيروي إليك خبرًا عن آخر
وهذا الخبر يكون سيئ يقول ابن قدامة -رحمه الله-:"فإنك لابد أن تقبل هذا
الخبر من هذا الثقة عن ذلك الشخص؛ لأنك لو رددته لأسأت الظن بهذا الثقة."
ولابد لك من فعل أو من اعتقاد أحد هذين الأمرين إلا إن وجدت وفتشت وتيقنت أن
بينهما عداوة أو تهمة فتحمل هذا القول على ذلك؛ حتى تسلم من سوء الظن بأحدهما,
والله أعلم
علاج
سوء الظن :
يقول ابن قدامة المقدسي -رحمه الله-: متى خطر لك خاطر سوء على مسلم فينبغي أن تزيد في
مراعاته وتدعو له بالخير فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك, وإذا تحققت هفوة مسلم
فانصحه في السر واعلم أن من ثمرات سوء الظن التجسس وهذا يوصل إلى هتك ستر المسلم.
انتهى كلامه.
من
الأسباب المعينة إلى حسن الظن بإخواننا المسلمين:
أولًا: الدعاء.
ثانيًا: إنزال النفس منزلة الغير؛
حتى لا نسيء بهم الظن.
ثالثًا: حمل الكلام على أحسن
محامل كما قال عمر t
:"لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا, وأنت تجد لها في الخير محملًا."
رابعًا: التماس الأعذار للآخرين.
خامسًا: تجنب الحكم على النيات,
لأن النيات محلها القلب ولا يعلم ما في القلب إلا الله جل وعلا.
سادسًا وأخيرًا: استحضار آفات سوء الظن
وعدم تزكية النفس واتهام الغير بذلك.
تم بحمد الله ,,
قام بتلخيص المادة
: المكافح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق