وانت تقرأ هذا الموضوع استمع لتلاوة الشيخ علي جابر يعتبر من افضل القراء في العالم الاسلامي رحمه الله
تدوين الحديث في عصر التابعين رضي الله عنهم
|
لقد تلقى التابعون علومهم علي يدي الصحابة ، وخالطوهم وعرفوا كل شيء عنهم، وحملوا الكثير الطيب من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريقهم وعرفوا متى كره هؤلاء كتابة الحديث ومتى أباحوه، فقد تأسوا بهم وهم الرعيل الأول الذين حفظوا القرآن والسنة، فمن الطبيعي أن تتفق أراء التابعين وآراء الصحابة حول حكم التدوين.
فإن الأسباب التي حملت الخلفاء الراشدين والصحابة علي الكراهية هي نفسها التي حملت التابعين عليها، فيقف الجميع موقفًا واحدًا، ويكرهون الكتابة مادامت أسباب الكراهية قائمة، ويجمعون علي الكتابة وجوازها عند زوال تلك الأسباب . بل إن أكثرهم يحض علي التدوين ويشجع عليه، ولن نستغرب أن نرى خبرين عن تابعي أحدهما يمنع الكتابة والآخر يبيحها، ولن نعجب من كثرة الأخبار التي تدل علي الكراهة في مختلف أجيال التابعين ـ كبارهم وأوسطهم وصغارهم ـ والأخبار التي تدل علي الإباحة ـ مادمنا نوجه كل مجموعة من هذه الأخبار وجهة تلائم الأسباب التي أدت إليها . ونرى أن سبيل الصحابة المتأخرين وكبار التابعين إباحة تقييد الحديث، بشروط تمتنع معها كراهته المأثورة عندهم عن النبي وكبار الصحابة، (1) . فقد امتنع عن الكتابة من كبار التابعين :- - عبيدة بن عمرو السلماني المرادي (-72هـ). - وإبراهيم بن يزيد التيمي (-92هـ) . - وجابر بن زيد(-93). - وإبراهيم النخمي(-96هـ) . ولم يرض عبيدة أن يكتب عنده أحد، ولا يقرأ عليه أحد (2)،وقد نصح إبراهيم فقال له: " لا تخلدن عني كتابًا"(3)،وقبل وفاته دعا بكتبه فأحرقها وقال: (أخشي أن يليها قوم يضعونها غير مواضعها(4)، وكره إبراهيم النخعي أن تكتب الأحاديث في الكراريس، وتشبه بالمصاحف،(5) وكان يقول: ( ماكتبت شيئا قط) (6)، حتى إنه منع حماد بن سليمان من كتابة أطراف الأحاديث(7)،ثم تساهل في كتابتها ، قال ابن عون:(رأيت حمادا يكتب عن إبراهيم فقال له إبراهيم: ألم أنهك؟ قال إنما هي أطراف)(8). ونسمع عامرًا الشعبي (17-103هـ) يردد عبارته المشهورة: (ما كتبت سوداء في بيضاء، ولا سمعت من رجل حديثًا فأردت أن يعيده علي (9)). وقد ازدادت كراهية التابعين للكتابة عندما اشتهرت آراؤهم الشخصية ، فخافوا أن يدونها طلابهم مع الحديث، وتحمل عنهم ، فيدخله الالتباس. ويمكننا أن نستنبط أن من كره الكتابة وأصر، إنما كره أن يدون رأيه ، وفي هذا يقول أستاذنا الدكتور يوسف العش: (وأما من ورد عنهم الامتناع عن الإكتاب من هذا الجيل، فيؤول امتناعهم بما لا يخالف ما انتهينا إليه، فهم جميعًا فقهاء(10)،وليس بينهم محدث ليس بفقيه، والفقيه يجمع بين الحديث والرأي، فيخاف تقييد رأيه واجتهاده إلي جانب أحاديث الرسول صلي الله عليه وسلم (11)). ويوضح هذا بأمثلة تثبت ماذهب إليه،فيقول: (إننا نجد في الواقع أخبارا تروي كراهتهم لكتابة الرأي، كاعتذار زيد بن ثابت عن أن يكتب عنه كتاب مروان ..وجاء رجل إلي سعيد بن المسيب ـ وهو من الفقهاء الذين روي امتناعهم عن الإكتاب ـ فسأله عن شيء فأملاه عليه ، ثم سأله عن رأيه فأجابه، فكتب الرجل، فقال رجل من جلساء سعيد: أيكتب يا أبا محمد رأيك؟ فقال سعيد للرجل ناولنيها، فناوله الصحيفة فخرقها(12)،وقيل لجابر بن زيد: إنهم يكتبون رأيك، قال: تكتبون ما عسي ارجع عنه غدًا(13)؟. وكل هذه الأقوال رويت من علماء ، حدث المؤرخون عنهم أنهم كرهوا إكتاب الناس، وهي تدل دلالة صريحة علي أن الكراهة ليست في كتابة العلم ( أي الحديث )، بل في كتابة الرأي ، وأن الأخبار التي وردت في النهي دون تخصيص إنما قصد بها الرأي خاصة ، ويشابه هذا الأمر ما حدث في أمر كراهة الرسول والصحابة الأولين: من التباس الحديث بالقرآن ، أو الانكباب عليه دونه، فما كانوا يخشونه من الحديث، ، أصبح خشية للتابعين الأولين من الرأي والتباسه بالحدث)(14). ويقوي هذا الرأي عندنا ما ورد عن هؤلاء التابعين من أخبار يحثون فيها علي الكتابة، ويسمحون لطلابهم أن يكتبوا عنهم،وقد نشطت الكتابة عندما فرق طلاب العلم بين النهي عن كتابة الرأي والنهي عن كتابة الرأي مع الحديث ونري التابعين ينكبون علي الكتابة ، في حلقات الصحابة. بل إن بعضهم كان يحرص علي الكتابة حرصًا شديدًا، فهذا سعيد بن جبير(-95هـ)، كان يكتب عن ابن عباس، فإذا ما امتلأت صحفه كتب في نعله حتى يملأها(15)، وعنه قال: (كنت أسير بين ابن عمر وابن عباس، فكنت أسمع الحديث منهما، فأكتبه علي واسطة الرحل حتى أنزل فأكتبه(16). ورخص سعيد بن المسيب(94هـ) لعبد الرحمن بن حرملة بالكتابة حينما شكا إليه سوء حفظه (17)ـ ونري عامرًا الشعبي بعد أن كان يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء، يردد قوله:(الكتاب قيد العلم(18))، وكان يحض علي الكتابة ويقول : (إذا سمعتم مني شيئا فاكتبوه ولو في حائط)(19)، ومع هذا فقد روي أنه لم يوجد له بعد موته إلا كتاب بالفرائض والجراحات(20)،وإذا كانت كتبه التي تركها قليلة ولا تدل علي نشاطه العلمي ـ فإننا نعزو هذا إلي القوة حافظته، لأنه كان يعتمد علي الحفظ أكثر من اعتماده علي الكتابة، وهذا لا ينافي قط املاءه لطلابه وحبهم علي الكتابة ويقول الضحاك بن مزاحم(-105هـ) :(إذا سمعت شيئا فاكتبه ولو في حائط) كما أنه أملى على حسين بن عقيل مناسك الحج(21). وانتشرت الكتب حتى قال الحسن البصري(-110هـ) : ( إن لنا كتبا كنا تتعاهدها(22)). وكان عمر بن عبد العزيز (61-101هـ) يكتب الحديث، روي عن أبي قلابة قال:(خرج علينا عمر بن عبد العزيز لصلاة الظهر ومعه قرطاس ، فقلت له : يا أمير المؤمنين ، ما هذا الكتاب؟ قال: حديث حدثني به عون بن عبد الله فأعجبني فكتبته(23).....) . وهذا يدل علي أن الكتابة قد شاعت بين مختلف الطبقات ولم يعد أحد ينكرها في أواخر القرن الأول الهجري وأوائل القرن الثاني، وقد كثرت الصحف والكتب في ذلك الوقت حتى لنرى مجاهد بن جبر(-103هـ) يسمح لبعض أصحابه أن يصعدوا إلي غرفته فيخرج إليه كتبه فينسخون منها(24). ويطلب هشام بن عبد الملك من عامله أن يسأل رجاء بن حيوة(-112هـ) عن حديث، فيقول رجاء: ( فكنت قد نسيته لولا أنه لكان عندي مكتوبا)(25) . وكان عطاء بن أبي رباح (-114هـ) يكتب لنفسه، ويأمر ابنه أحيانا أن يكتب له(26)، وكان طلابه يكتبون بين يديه (27)،وقد بالغ في حض طلابه علي التعلم والكتابة، فعن أبي حكيم الهمداني قال:( كنت عند عطاء بن أبي رباح، ونحن غلمان، فقال:يا غلمان ، تعالوا كتبوا ، فمن كان منكم لا يحسن كتبنا له ، ومن لم يكن معه قرطاس أعطيناه من عندنا (28)!!) . ونشطت الحركة العلمية وازدادت معها الكتابة والقراءة علي العلماء ، ويدل علي هذا ما روي عن الوليد بن أبي السائب قال: رأيت مكحولا ونافعا وعطاء تقرأ عليهم الأحاديث(29)، وعن عبيد الله بن أبي رافع ، قال: (رأيت من يقرأ علي الأعرج ـ عبد الرحمن بن هرمز(-117هـ)،حديثه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول: هذا حديثك يا أبا داود؟ قال : نعم(30)....). وها هو ذا نافع مولي ابن عمر(-117هـ) يملي العلم على طلابه ، وطلابه يكتبون بين يديه (31)،ويصور لنا قتادة بن دعامة السدوسي (-118هـ) بإجابته لمن يسأله عن كتابة الحديث ـ موقف هذا الجيل من التابعين من الكتابة، وبعد أن فشت فيهم وانتشرت وأصبحت من ضروريات كل طالب علم، فيقول:(وما يمنعك أن تكتب، وأخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب:"قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى(32)"؟ .؟ وكثرت الصحف المدونة ، حتى إن خالدًا الكلاعي(-104هـ) جعل علمه في الصحف له أزرار وعرًا(33). ------------------ (1) - انظر تقييد العلم : انظر تصدير أستاذنا الدكتور يوسف العش ص19 ومقالته في مجلة الثقافة المصرية : العدد (352) السنة السابعة الصفحة (8). (2),(3) جامع بيان العلم ص67 ج1 وتقييد العلم ص45، 46. (4) - جامع بيان العلم وفضله ص67ج1 ونحوه في سنن الدرامي ص121 ج1. (5) -انظر سنن الدرامي 121ج1، وجامع بيان العلم وفضله ص67ح1وتقييد العلم ص48. (6) -تقييد العلم ص60، وكان يقول: (لا تكتبوا فتكلوا) وانظر جامع بيان العلم ص68ج1. (7) -انظر طبقات أبن سعد ص190ج1. (8)- سنن الدرامي ص120ج1 ونحوه في كتاب العلم لزهير بن حرب ص194، (9) -العلم لزهير بن حرب ص187: بن وجامع بيان العلم ص67ج1. (10)-ذكر أستاذنا هنا أسماء بعض من ذكرتهم قبل وأضاف (سعيد بن المسيب (-94هـ) وطاوس (-106هـ) والقاسم (107هـ) وغيرهم) أنتهي مالم يذكره من النص. (11) -تقييد العلم: التصدير ص20. (12)-راجع الخبر في جامع بيان العلم ص144 ج2. (13) -انظر جامع بيان العلم وفضله ص31ج2. (14)- مجلة الثقافة المصرية : الصفحة 8-9 من العدد 352في السنة السابعة. (15)- انظر تقيد العلم ص 102 (16) - تقييد العلم ص103 ونحوه في جامع بيان العلم ص72 ج1 (17) -انظر المحدث الفاصل نسخة دمشق ص4:ب ج4، وجامع بيان العلم وفضله ص73ج1 (18) - تقيد العلم ص99، وجامع بيان العلم ص75ج1. (19) - المراجع السابق ص100 والعلم لزهير ص139:ب. (20) - انظر تاريخ بغداد ص 232اج11. (21) - انظر جامع بيان العلم وفضله ص27 ج1. (22) - جامع بيان العلم وفضله ص74ج1، والعلم لزهير ص189:ب. (23) - سنن الدارمي ص130ج1 (24) - انظر سنن الدرامي ص128ج1، وتقييد العلم من 105 (25)- سنن الدرامي ص129ج1، وتقييد العلم ص108. (26) - انظر المحدث الفاصل نسخة دمشق ص3:ب ج4. (27) - انظر سنن الدرامي ص129ج5. (28) - المحدث الفاصل نسخة دمشق ص3،ب ج4. (29) - الكفاية في علم الرواية ص264. (30) - طبقات ابن سعد ص209ج5. (31) - انظر سنن الدرامي ص129و126ج1. (32) - تقييد العلم ص103 والآية 52 من سورة طه (33) - انظر تذكرة الحفاظ ص87ج1. ========= المصدر : انظر كتاب " السنة قبل التدوين" للدكتور / محمد عجاج الخطيب |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق