وانت تقرأ هذا الموضوع استمع لتلاوة الشيخ علي جابر يعتبر من افضل القراء في العالم الاسلامي رحمه الله
الاسم :
والرقم الجامعي :
جامعة الدمام – تعليم
عن بعد
مصادر التشريع في عصر
الرسالة
واسم المادة : تاريخ التشريع
واسم أستاذ المادة :
والفصل الدّراسي : المستوى الثالث
المقدمة
بسم الله الرحمن
الرحيم، الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين.
أدوار الشريعة الإسلامية
لا
شك أن الشريعة الإسلامية مرت بمراحل تاريخية منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم
وحتى عصرنا هذا، لذلك نجد الباحثين في تاريخ الشريعة يقسمون هذه الحقب التاريخية
التي مرت بها الشريعة الإسلامية إلى عدة أقسام، ليتصور الدارس تسلسل مراحل الشريعة
في شتى العصور قوة وضعفاً.
إلا
أنه قد اختلف الباحثون في الأطوار التي مر بها التشريع الفقهي، فمنهم من قسمها
بحسب بنائها وقوتها: إلى طور التأسيس، ثم إلى طور البناء والكمال، ثم طور التنظيم،
ثم طور التوقف، ثم طور التطلع نحو التجديد، ومنهم من قسم تلك الأدوار إلى العصور
التاريخية بحسب الزمن، وهي عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عصر الصحابة، ثم
التابعين، ثم عصر الأئمة المجتهدين، وهكذا.
والسبب
الذي دعا إلى الاختلاف في هذه الأدوار و تعدادها هو ما حدث بين هذه الأدوار من
تداخل وتشابه؛ لأنه في الواقع لا توجد فواصل زمنية محددة بين تلك الأطوار، باعتبار
أن الفقه لم ينتقل من دور إلى دور آخر دفعة واحدة هكذا، وعلى كل حال فتقسيم أدوار
الفقه هو أمر اصطلاحي، وكما يقال لا مشاحة في الاصطلاح.
والتقسيم
المتبع عند كثير من الباحثين هو تقسيم أدوار الفقه الإسلامي إلى ستة أدوار رئيسة، الدور
الأول: الفقه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو من بعثته إلى وفاته، وهو دور
نشأة وتكون، واستمر أكثر من 22 عاماً، والدور الثاني: الفقه في عهد الخلفاء
الراشدين، من السنة 11 من الهجرة إلى السنة 40هـ،والدور الثالث: الفقه بعد الخلافة
الراشدة إلى أوائل القرن الثاني من الهجرة، أي بمعنى في عهد صغار الصحابة وكبار
التابعين، وذلك من سنة 41 هـ إلى 132 هـ، والدور الرابع: من أوائل القرن الثاني
إلى منتصف القرن الرابع الهجري، ويشمل الفقه في عصر الأئمة المجتهدين أي من سنة
132هـ 350هـ،ثم الدور الخامس: وهو دور الفقه في عصر أتباع المذاهب، ثم الدور
السادس: وهو الفقه في العصر الحديث.
الدور الأول :الفقه في
حياة الرسول صلى الله عليه وسلم
بدأ
التشريع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع بداية البعثة النبوية، أي قبل الهجرة
بثلاثة عشر عاماً، وانتهى بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة بعشر سنوات، وفي
هذه الفترة ابتدأ عصر الرسالة المحمدية بالوحي الذي أنزله الله على
محمد بن عبد الله، وبنزول الوحي ابتدأ التشريع، وبه ابتدأت مرحلة
التشريع بما نزل به القرآن الكريم وبما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول
أو فعل أو تقرير، فالفقه في هذا العصر هو فقه الوحي فقط.
ومن
الصعب على أي باحث يريد أن يتكلم عن الفقه أو عن أدوار الفقه الإسلامي، من الصعب
عليه أن يمر سريعاً على هذا العصر الذي هو عصر الفقه في عصر النبي صلى الله عليه
وسلم، بل لابد أن يقف عنده طويلاً ومتأملاً وناظراً؛ لأن النظر في الفقه في عصر
النبي صلى الله عليه وسلم يفتح أمامنا آفاقاً واسعة من المعرفة الدقيقة للتطور
التاريخي للتشريع الإسلامي الفقهي.
إن
عصر الرسول صلى الله عليه وسلم يعد بحق عصراً مستقلاً بذاته، عصراً متكاملاً في
تشريعاته، فيه نشأ التشريع الإسلامي، وفيه أيضاً اكتملت معالم التشريع بآخر آية
نزلت تشريعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث تقول: (الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإِسْلاَمَ دِيناً).
وتنقسم مباحث هذا
الدور إلى الآتي:
المبحث الأول: مميزات
التشريع في عصر النبي صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثاني: مراحل
التشريع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثالث: منهج
الرسول صلى الله عليه وسلم في بيان الأحكام.
المبحث الرابع: مصادر
التشريع في العهد النبوي.
المبحث الخامس: اجتهاد
النبي صلى الله عليه وسلم.
وتفصيلها على النحو
الآتي:
المبحث الأول: مميزات
التشريع في عصر النبي صلى الله عليه وسلم
الميزة الأولى :اتحاد
مصدر التشريع في هذا العصر، وهو الكتاب والسنة ،وهما مصدر التلقي، كما يقول الله
سبحانه وتعالى في محكم التنزيل (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن
رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا
تَذَكَّرُونَ)ويقول الله سبحانه وتعالى أيضاً: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ
فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ) ويقول تعالى:( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا
نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)، ففي هذا الآيات دلالة واضحة على أن مصدر التشريع هو الكتاب
والسنة، ولا شيء سواهما.
الميزة
الثانية :أن مصدر تلقي التشريع في هذا العصر هو الرسول صلى الله عليه وسلم
باعتبار البيان والبلاغ، وإن كان الملزم في الحقيقية هو الله سبحانه وتعالى، إلا
إن المبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ
إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ).
الميزة
الثالثة: واقعية التشريع، بمعنى أن الفقه في هذا الدور كان فيه واقعياً
عملياً، ولم يكن تصوريا ًوافتراضياً، بل لم يدون من الفقه شيء غير ما جاء به
القرآن الكريم والسنة النبوية، ولم تظهر المدونات الفقهية إلا بعد ذلك، فلم يقع
التشريع في هذا العصر على فرض الحوادث أو على تخيل الوقائع، بل سار مع الحوادث، وتمشى
مع النوازل الواقعة.
الميزة الرابعة: سهولة أحكام
التشريع في هذا العصر، فيشترك العالم والعامي في فهم الأحكام وإدراك معانيها في
الجملة، كما قال الله سبحانه وتعالى (هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى
وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ)، فالناس وهم الصحابة الموجودون في عصر النبي
صلى الله عليه وسلم ممن آمنوا به يشتركون في الجملة جميعاً في فهم أحكام التشريع، سواءً
من كان منهم ثاقب الفهم أو غير ذلك؛ لأن المعاني المطلوب فهما واعتقادها سهلة
المأخذ.
الميزة الخامسة: اكتمال التشريع
بوفاته صلى الله عليه وسلم فالشريعة كملت أصولها وتمت قواعدها وتحدد ضوابطها مع
وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتصور فيها قصور أو نقصان أو اختلال ،كما قال
الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ
دِيناً)، فلم يبق للمسلمين إلا الاستنباط من النصوص، وتنـزيل الكليات على
الجزئيات الواقعة لهم في حياتهم.
الميزة السادسة: أن التشريع في هذا
العصر كان متدرجاً، فلم يأت جملة واحدة، بل كان مفرقاً على حسب الوقائع، فقد كان
نزول الآيات وصدور الأحاديث من النبي صلى الله عليه وسلم تابعاً لوقوع النوازل، والحكمة
من مجيء التشريع الإسلامي متدرجاً أن ذلك أحرى للقبول وأيسر للفهم.
وقد
أخذ هذا التدرج عدة أشكال :
الشكل الأول: التدرج الزمني، بمعنى
أن نزول الأحكام استغرق فترة الرسالة المكية والمدنية، وامتد 23 سنة.
الشكل الثاني: التدرج البياني، وهو
الإجمال في الأحكام ثم تفصيلها، فالتشريع المكي مثلاً جاء مجملاً في الغالب، أما
التشريع المدني فقد فصلت فيه الأحكام وفرعت، لاسيما ما يتعلق بالمعاملات و
المناكحات والعقوبات ونحو ذلك.
الشكل الثالث: التدرج الكمي، بمعنى أن
أكثر أحكام الشريعة جاءت متضمنة في الآيات المدنية، أما الآيات المكية فقد اشتملت
على قليل من هذه الأحكام مقارنة بالآيات المدنية، فهذا تدرج كمي.
الشكل الرابع: التدرج النوعي، أي: أن
غالب الأحكام التي نزلت في مكة كانت تتعلق بجانب العقائد والأخلاق، أما الأحكام
التي نزلت في المدينة فغالبها تناولت العبادات والمعاملات وأحكام الأسرة والعقوبات
وما ألحق بها، ولا شك أن هذا تدرج نوعي في الأحكام، فالفترة المكية سلط الضوء على
أحكام العقائد وتصحيحها، وفي الفترة المدينة بعد أن آمن الناس ودخل الإيمان في
قلوبهم وتكونت الدولة الإسلامية جاء تفصيل الأحكام، أحكام المعاملات، والعبادات
التي إنما تكون من قبل من آمن أساساً بهذا الدين.
الشكل الخامس: التدرج الحكمي، ومعناه
الترقي في الحكم الشرعي من الأسهل إلى الأصعب، ومن الأيسر إلى الأشد، ومن المنسوخ
إلى الناسخ، فقد جاءت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، وبعث عليه
الصلاة والسلام في قوم قد ألفوا بعض المفاسد، وأصبح من العسير انتزاعها منهم مرة
واحدة؛ لما يترتب على ذلك من المشقة العظيمة والتنفير لهم من الامتثال، ولعل من
أصرح الأمثلة على ذلك وأوضحها تحريم الخمر، فإن أول ما نزل من ذلك قول الله تعالى
في الآية المكية: ( وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ
سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً)، فالآية وردت في مقام امتنان الله سبحانه وتعالى على عباده، وفيها
لفتة إلى قبح السكر، حيث قوبل السكر بالرزق الموصوف بالحسن، ويفهم من ذلك أن السكر
ليس بحسن، فهذا لفت الأنظار إلى ما في السكر من قبح، ثم نزل في المدينة قوله
سبحانه وتعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ
كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا)، وهذه الآية فيها
إرشاد إلى أن الحكم على الشيء باعتبار الجهة الغالبة من المصلحة أو المفسدة، ثم
جاء بعد ذلك مرحلة التدرج عن شرب الخمر وقت الصلاة في قول الله سبحانه
وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ
وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ)، ثم أخيراً جاء الحكم
القاطع الأخير، وهو قول الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ
مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ
بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ
عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)، ولذلك لما نزلت هذه
الآية على الصحابة قالوا: انتهينا انتهينا.
المبحث الثاني: مراحل التشريع
في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
ينقسم
عصر الرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى التشريع إلى مرحلتين تاريخيتين
متلاحقتين متكاملتين، وهاتان المرحلتان تعبر عن التدرج المرحلي في الدعوة
الإسلامية وبناء المجتمع الإسلامي، والمرحلتان هما: المرحلة المكية والمرحلة
المدنية.
المرحلة الأولى: التشريع
في العهد المكي
ابتدأت
المرحلة المكية مع بداية الرسالة، وانتهت مع بداية هجرة الرسول صلى الله غليه وسلم
إلى المدنية، وقد لبث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقرب من ثلاثة عشر سنة في مكة
المكرمة وهو يدعو إلى دين الإسلام، وقد اتجه الوحي في هذه المرحلة إلى ناحية
العقيدة والأخلاق في الغالب، ولم يتعرض إلى الأحكام العملية إلا قليلاً، وعلى صورة
كلية في الغالب، والسبب في ذلك أن العقيدة كانت هي الأساس الأول في بداية الدعوة
بكل ما تأتي به الشريعة من أحكام وتفصيلات، فلا بد إذاً من إصلاح العقيدة ولا بد
من تنقيتها من الشوائب والأباطيل ،التي كانت مغروسة في نفوس العرب.
ومن
الأمثلة على الآيات المكية التي دعت إلى أصول الاعتقاد و مكارم
الأخلاق، وحفظ الضروريات الخمس التي هي الدين والنفس والعقل والنسل والمال، قول
الله سبحانه وتعالى في سورة الأنعام: ( قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ
مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ
نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ
بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *وَلاَ تَقْرَبُواْ
مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ
وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ
اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *وَأَنَّ
هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَتَتَّبِعُواْ السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
)، ولعله يلحظ أن هذه
الأصول من الاعتقادات والعمليات التي أراد الشارع أن يركزها في نفوس المستمعين.
وعلى
كل حال فإنه يمكن أن يُلخص الكلام عن التشريع في العهد المكي بذكر مميزات التشريع
في هذا العهد، فمن مميزات التشريع في هذا العهد ما يأتي:
أولاً : الدعوة
إلى التوحيد وعبادة الله وحده، وإثبات الرسالة والبعث والجزاء بآيات الله الكونية،
والرد على المشركين ومجادلتهم، وقطع دابر خصومهم بالبراهين العقلية، وذكر القيامة
وأهوالها والنار وعذابها والجنة ونعيمها.
ثانياً: وضع الأسس العامة في
التشريع والفضائل التي ينبغي أن يقوم عليها المجتمع المسلم، وفضح جرائم المشركين
من سفك الدماء ووأد البنات وأكل الأموال ظلماً وعدواناً، وما كانوا عليه من سوء
العادات.
ثالثاً: ذكر قصص الأنبياء
والأمم السابقة زجراً للمستمعين حتى يعتبروا بمصير المكذبين قبلهم، وتسلية لرسول
الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه حتى يحصل الصبر على أذى المشركين .
رابعاً: قصر الفواصل في الآيات
القرآنية مع قوة الألفاظ وإيجاز العبارة، مما يشتد قرعه على السامع ويصعق القلوب.
خامساً: أن صيغ الخطاب في
الآيات المكية غالباً ما تكون عامة، كقول الله سبحانه وتعالى (يا أيها الناس) (ويا
بني آدم )،أما العهد المدني فالصيغة الخطاب فيه غالباً للمؤمنين (يا أيها الذين
آمنوا) .
المرحلة الثانية: التشريع
في العهد المدني
لقد
كانت حادثة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم منعطفاً مهماً في حياة الدعوة الإسلامية
والفقه الإسلامي، فقد ترسخت العقيدة الإسلامية في نفوس المهاجرين ومن تأثر بالدعوة
في المدينة من الأنصار، وتخلص المسلمون لما هاجروا إلى المدينة المنورة من أذى
المشركين، وقد تغير واختلف المجتمع في المدينة عن مجتمع مكة، فبعد أن كان الناس في
مكة فريقين، أي المؤمن والكافر، برز في المدينة أخلاط آخرون كاليهود والمنافقين، فكان
لزاماً أن ينتقل التركيز من الأصول إلى التركيز على التشريعات العملية التي تنظم
سلوك المجتمع والتي تنظم علاقات الأفراد فيما بينهم فبدأت الأحكام الفرعية
المتعلقة بالعبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج، وبدأت هذا الأحكام الفرعية تبرز بوضوح
في آيات القرآن في المدينة المنورة، وكذلك صارت الآيات تتناول نظام الأسرة وما
يتعلق بذلك من خطبة ونكاح ومهر وعشرة ورضاع ونفقة و مواريث، كذلك تناولت الآيات
نظام العقوبات على الجرائم من زنا وخمر و ردة وقذف ومحاربة وسرقة، وكذلك بين
القرآن أصول المعاملات من حيث حل البيع وحرمة الربا وأحكام الرهن والمداينة، ومن
ذلك ما يتعلق بالعلاقات الدولية و الجهاد والمهادنة والغنائم والفيء وغير ذلك.
مميزات التشريع
في العهد المدني:
أولاً : بيان العبادات
والمعاملات والحدود والمواريث وأحكام الجهاد، وبيان نظام الأسرة وصلات المجتمع
والدولة وقواعد الحكم ومسائل التشريع .
ثانياً: مخاطبة أهل الكتاب من
اليهود والنصارى ودعوتهم إلى الإسلام، وبيان تحريفهم لكتب الله وتجنيهم على الحق
واختلافهم من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم.
ثالثا: الكشف عن سلوك
المنافقين وتحليل نفسياتهم، وإزاحة الستار عن خباياهم، وبيان خطرهم على المجتمع
المسلم.
رابعاً: طول المقاطع
والآيات في الآيات المدنية، فهذا الأمر كان أمراً واضحاً في الآيات المدنية بالنسبة
إلى الآيات المكية ،وذلك لأجل تقرير الشريعة وتوضيح أهدافها ومراميها.
المبحث الثالث منهج
الرسول صلى الله عليه وسلم في بيان الأحكام
لا
شك أن الله سبحانه وتعالى أعطى رسوله وعبده محمداً صلى الله عليه وسلم الحق في سن
الأحكام الشرعية، فالأحكام القرآنية والأحكام النبوية الصادرة في عصر النبوة إنما
هي تشريع، وهذا التشريع أصل الدين وأساسه، ولقد كان التشريع يصدر في كثير من
الأحيان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في صورة واضحة لأنه كان في صورة قواعد
جامعة وأحياناً يبين النبي صلى الله عليه وسلم الحكم وعلته، وأحياناً يبين طرق
دلالة النصوص على الأحكام، ويمكن أن نلخص طريقة التشريع في عصر الرسول صلى الله
عليه وسلم بأن يقال: إن تشريع الأحكام في عصر الرسالة كان يتم بأحد وجهين:
الوجه الأول: وقوع
حوادث تقتضي حكماً من الشارع، أو وجود أمور تعرض للصحابة رضوان الله عليهم تقتضي
سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن حكمها، والنبي صلى الله عليه وسلم إن كان له
جواب ويعرف الحكم من عند الله سبحانه وتعالى قبل ذلك أفتاهم، وإلا فإنه صلوات الله
وسلامه عليه كان ينتظر الوحي من السماء، فتنزل عليه الآية أو أحياناً الآيات مبينة
حكم ما وقع، وقد يتلقى أحياناً الحكم بالمعنى من الله سبحانه وتعالى، ويعبر عنه
صلوات الله وسلامه عليه بقوله أو بفعله أو إقراره، وهذا ما يسمى بالسنة، وفي بعض
الأحيان لا ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالحكم المطلوب، فيجتهد صلوات
الله وسلامه عليه ويبين الحكم فيها، ولعل ذلك يتضح بالمثال فمن الأحكام التي نزلت
بعد وقوع حوادث: قول الله سبحانه وتعالى: ( إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ
يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ
يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي
الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، فهذه الآية إنما نزلت بعد حصول حادثة، وهي أن قوما من عرينه
قدموا المدينة فأصابهم مرض، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بإبل الصدقة أن
يشربوا من ألبانها وأبوالها، ففعلوا ذلك وصحوا وشفوا بإذن الله سبحانه وتعالى، إلا
أنهم أخذوا هذه الإبل واستاقوها وقتلوا الراعي وارتدوا عن الإسلام، فلما وصل الخبر
إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بعض الصحابة أن يأتوا بهم و أن يحضروهم، ففعلوا
ذلك فنزلت هذه الآية تبين حكم الإسلام فيهم وفي أمثالهم، كذلك من الأمثلة أنه لما
توفي أوس بن ثابت الأنصاري وترك امرأته وثلاث بنات قام أبناء عم الميت ووصياه، وهما
رجلان يقال لهما سويد وعرفجة قاما وأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا
بناته شيئاً من المال، فذكرت المرأة ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم واشتكت إليه فدعاهما صلوات الله وسلامه عليه، فقالا يا رسول الله ولدها لا
يركب فرساً ويحمل كلاً ولا ينكأ عدواً ،فقال صلى الله عليه وسلم انصرفا حتى أنظر
ما يحدث الله لي فيهن، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة الجامعة: (لِّلرِّجَالِ
نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ
مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ
نَصِيباً مَّفْرُوضاً)، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى سويد وعرفجة أن
لا يفرقا من مال أوس شيئاً؛ فإن الله جعل لبناته نصيباً، ولم يبين كم هو حتى أنظر
ما ينزل ربنا، ثم إن الله سبحانه وتعالى أنزل آيات المواريث:(يُوصِيكُمُ اللّهُ
فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)،فأعطى المرأة
الثمن، وأعطى البنات الثلثين، ثم أعطى الباقي لابني العم؛ لأنهما من العصبة.
أما
ما جاء من الأحكام العملية عقب سؤال عنه من الصحابة، فهذا أيضاً كثير، ومن
ذلك قول الله سبحانه وتعالى (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس
والحج)،ومثل ،(يسألونك عن الخمر والميسر) ومثل (ويسألونك عن المحيض قل وهو أذى فاعتزلوا
النساء في المحيض)،ومثل أيضاً (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه
كبير)،ومن الأمثلة أيضاً أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول
الله أرأيت إن جاء رجل يرد أخذ مالي قال: فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني، قال:
قاتله قال: أرأيت إن قتلني، قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته، قال: هو في
النار، والحديث رواه أصحاب السنن.
الوجه الثاني :ورود الأحكام من النبي
صلى الله عليه وسلم أو من الله سبحانه وتعالى غير مسبوقة بحادثة ولا بسؤال لكن
الشارع الحكيم يرى أنه قد آن الأوان لتشريع هذه الأحكام؛ لضرورتها للمجتمع الذي
يراد تأسيسه، ومن هذه الأحكام بيان عدد الركعات وكيفية الصلاة، وبيان مقادير
الزكاة ومبطلات الصوم، والأعذار المبيحة للفطر، وكيفية الحج وبيان البيع الحلال
والبيع الحرام وحكم الربا، والهبة وأنواعها المشروع منها وغير المشروع، وهكذا تنظيم
أحكام الأسرة والحدود والقصاص والطلاق، إلى غير ذلك مما يحتاجه المجتمع.
المبحث الرابع: مصادر
التشريع في هذا العهد
مصادر
التشريع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو الوحي بنوعيه، والوحي إما يتعبد
بتلاوته وهو القرآن، وإما لا يتعبد بتلاوته وهو السنة والأحاديث القدسية، وبيان
هذين بإجمال وأثرهما في هذا العهد على النحو الآتي:
فأولاً:
القرآن الكريم ,وهو كلام الله سبحانه وتعالى المنزل على محمد صلى الله
عليه وسلم المتعبد بتلاوته المكتوب في المصاحف بدأً من سورة الفاتحة و نهاية بسورة
الناس المنقول إلينا نقلاً متواتر، وهذا هو كتاب الله سبحانه وتعالى، وهو معلوم
لكل مسلم ما بين دفتي المصحف، فهو القرآن الكريم الذي أنزله الله للناس هدى وبينات
من الهدى والفرقان، والقرآن الكريم حجة؛ حيث اتفق المسلمون على حجية كتاب الله
سبحانه وتعالى، وأنه يجب العمل بما ورد فيه، ولا يجوز لأحد من المسلمين أن يعدل عن
أحكامه.
لكن
دلالة القرآن على الأحكام متفاوتة، وليست على درجة واحدة، وإن كان من المعلوم
والثابت أن القرآن جميعه قطعي الثبوت؛ لورده إلينا بطريقة التواتر المفيد للقطع
بصحة المنقول، لكن دلالته على الأحكام قد تكون قطعية الدلالة أو ظنية الدلالة.
فالنوع
الأول ما كانت دلالته على الأحكام قطعية، والمقصود به كل لفظ لا يحتمل إلا معنى
واحداً، وذلك مثل قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام )،ففي هذه
الآية دلالة صريحة قطعية على فرضية الصيام، وكقوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل)
ففي هذه الآية دلالة قطعية على وجوب العدل بين الناس، وهكذا في وجوب أدلة الأحكام
الأخرى من طهارة الحدث ووجوب الصلاة والزكاة وآيات المواريث والحدود، وهذا النوع
على كل حال لا إشكال في اعتبار دلالته، وهو لا يحتاج إلى بيان لأنه واضح.
أما
النوع الثاني فهو ما كانت دلالته على الأحكام ظنية، وهو كل لفظ لا يخلو من احتمال
في دلالته، بأن تكون ألفاظه موضوعة لأكثر من معنى، ومن الأمثلة على هذا النوع قوله
سبحانه وتعالى (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه)،فلفظ (من) في هذه الآية محتملة لأن
تكون للتبعيض ومحتملة لأن تكون لابتداء الغاية، فإذا كانت هنا (من) بمعنى التبعيض
كما أخذ بذلك الشافعي والإمام أحمد فإنه يتعين التيمم بتراب له غبار يعلق باليد؛ لأن
الله تعالى قال (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه)،أي من الصعيد الطيب، ولذلك اشترط
هؤلاء الفقهاء أن يكون للصعيد غبار، ومن وجه آخر فإن (من) تحتمل أن تكون لابتداء
الغاية، فيكون مقصود الآية أن مبدأ ذلك المسح كائن وحاصل من الصعيد الطيب، وعلى
هذا فلا يتعين أن يكون لذلك الصعيد غبار، فيجوز التيمم بالرمل و نحوه، وبهذا قال
أبو حنيفة ومالك، فالدلالة من هذه الآية تكون دلالة ظنية، ولا يترجح أحد المعنيين
على الآخر إلا بدليل خارجي، و مثال آخر أيضاً مثل ما يحصل من الألفاظ المشتركة
كلفظ القرء في قوله تعالى :(والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)،فلفظ القرء في
اللغة مشترك بين معنيين بين معنى الطهر ومعنى الحيض، ولذلك اختلف الفقهاء في تربص
المطلقة الحائل يعني غير الحامل إذا كانت ممن تحيض ،فذهب طائفة من الفقهاء إلى أنه
لا بد أن يكون بالحيض واستدلوا بهذه الآية (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة
قروء)،وقالوا القرء بمعنى الحيض، وذهب آخرون ومنهم الإمام الشافعي إلى أن المراد
الطهر، والمرأة تعتد بثلاثة أطهار واستدلوا أيضاً بهذه الآية (والمطلقات ..
إلخ)،أي ثلاثة أطهار، إذاً هنا الآية لا شك أنها قطعية الثبوت؛ لأنها جاءت بطريق
قطعي، إنما حصل الخلاف بناء على ظنية الدلالة.
بيان القرآن
للأحكام :
لا
شك أن القرآن الكريم في بيان كل شيء، والعالم بالقرآن على وجه التحقيق سيكون
عالماً بجملة الشريعة يدل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى (ونزلنا عليك الكتاب
تبياناً لكل شيء) وقول الله سبحانه وتعالى (ما فرطنا في الكتاب من شيء) وقوله
سبحانه وتعالى (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)،لكن بيان القرآن للأحكام جاء على
نوعين: النوع الأول :البيان الإجمالي للأحكام، وهذا النوع هو الغالب
في القرآن كما هو ظاهر من خلال الاستقراء والتتبع، كأحكام الصلاة وأحكام الزكاة
وأحكام الحج والمعاملات والقصاص والحدود، فهذه وأمثالها ذكرت على سبيل الإجمال، وتفصيلها
في موضع آخر من التشريع، كما أيضاً نلمس البيان الإجمالي على شكل قواعد كلية
ومبادئ عامة، كما في قول الله سبحانه وتعالى (وأمرهم شورى بينهم)،وقوله سبحانه
وتعالى (وشاورهم في الأمر)،وأحياناً تأتي قواعد واضحة في كتاب الله سبحانه وتعالى،
كقوله تعالى (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه)،فيؤخذ من ذلك أن الضرورات
تبيح المحظورات.
النوع الثاني: البيان التفصيلي
للأحكام، بمعنى أن يبين حكم مسألة بعينها تفصيلاً، وهذا النوع قليل في كتاب الله، إلا
أنه موجود، ومن الأمثلة على هذا النوع بيان أحكام المواريث، فأحكام المواريث جاءت
مفصلة في كتاب الله سبحانه وتعالى، والحكمة من تفصيل ذلك أنها تعبدية في الجملة لا
مجال للعقل فيها، وأنا أحكامها مستقرة لا تتغير بتغير الزمن ولا تختلف باختلاف
البيئات، وإنما يعلم المصلحة منها بتشريعها من عند الله سبحانه وتعالى، فلا مجال
لاختلاف الرأي فيها .
المصدر
الثاني: السنة النبوية، وهي ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن من
قول أو فعل أو تقرير، أو هي ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو
تقرير أو صفة أو سيرة، وعلى كل فالسنة النبوية تتخذ ثلاثة أنواع: السنة القولية، والسنة
الفعلية، والسنة التقريرية.
النوع الأول: السنة
القولية: وهي الأحاديث التي نص
عليها الرسول صلى الله عليه وسلم بلفظه وقالها بلسانه في مختلف المناسبات، مثل
قوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات)،أو مثل قول النبي صلى الله عليه
وسلم (لا ضرر ولا ضرار)،ونحو ذلك من النصوص القولية .
النوع الثاني السنة
الفعلية: وهي الأفعال التي
فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام الصحابة رضوان الله عليهم ليأخذوها منه، مثل
أفعال الوضوء وأفعال الصلاة وأداء شعائر الحج، ومثل قضائه صلوات الله وسلامه عليه
بشاهد ويمين، ومثل قطعه ليد السارق اليمنى من الرسغ، فهذه سنة فعلية.
النوع الثالث السنة
التقريرية : وهي ما أقره
النبي صلى الله عليه سلم صراحة، أو سكت عن إنكاره بعد أن صدر أمامه، أو حدث في
عصره و علم به، أو ظهر منه ما يدل على استحسانه والرضا به، ومثال ذلك أكل الضب
أمام النبي صلى الله عليه وسلم وعلى مائدته فأقرهم على ذلك، ومثل ذلك أيضاً إقراره
صلوات الله وسلامه عليه للصحابيين الذين تيمما ثم وجدا الماء فأعاد أحدهما ولم يعد
الآخر الصلاة، فقال لمن لم يعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاته، وقال للذي أعاد: لك
الأجر مرتين.
وعلى
كل فهذه أقسام السنة، وكلها حجة باتفاق المسلمين .
أما
بالنسبة إلى أقسام السنة من حيث السند :فالسنة من حيث السند تنقسم عند الجمهور من
أهل العلم إلى سنة متواترة وسنة آحاد، وتنقسم عند الحنفية إلى ثلاثة أقسام سنة
متواترة وسنة مشهورة وسنة آحاد.
فالسنة
المتواترة ما رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصور الثلاثة
(التي هي عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين) جمع يمتنع في العادة
تواطؤهم على الكذب، ومثال ذلك السنة المروية عنه في الوضوء والصلاة والصوم والحج
والزكاة والأذان والإقامة ونحو ذلك، ومن الأحاديث المتواترة عند أهل العلم حديث
ابن مسعود رضي الله عنه في قول النبي صلى الله عليه وسلم (من كذب علي متعمداً
فليتبوأ مقعده من النار).
والنوع
الثاني السنة المشهورة وهي ما رواها عن الرسول صلى الله عليه وسلم عدد لم
يبلغ عدد التواتر كالاثنين والثلاثة، ثم انتشر في القرن الثاني بعد الصحابة ثم
تناقله جمع التواتر الذين لا يتوهم تواطؤهم على الكذب، مثل حديث (إنما الأعمال
بالنيات)،وحديث (بني الإسلام على خمس)،وحديث (لا ضرر ولا ضرار).
النوع الثالث
:سنة الآحاد ،وهي ما رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم آحاد كالواحد
والاثنين أو جمع لا يبلغ حد التواتر، وأكثر الأحاديث آحاد ويسمى خبر الواحد.
والسنة
على كل حال قد أجمع المسلمون على أن ما صدر من الرسول صلى الله عليه
وسلم من قول أو فعل أو تقرير وكان مقصوداً به التشريع و الاقتداء ونقل إلينا بسند
صحيح فإنه حجة وهو مصدر تشريع.
- دلالة السنة على
الأحكام :
دلالة السنة على
الأحكام لا تخلو من واحدة من حالات أربع:
الحالة الأولى: أن تكون السنة قطعية
الثبوت وقطعية الدلالة، ومعنى قطعية الثبوت أن تكون رواية الحديث تمت بالنقل
المتواتر بحيث يرويه جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب أو جاءت السنة بطريق صحيح
صريح لا يمكن رده وإنكاره، ومثال ذلك ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من أعداد
الركعات و عدد الصلوات ومقادير الديات والزكاة وأشباه ذلك، وألحق المحققون العلماء
بذلك أيضاً أخبار المسح على الخفين، وخبر تحريم المتعة بعد الإباحة، وخبر نكاح
تحريم المرأة على عمتها وعلى خالتها، وخبر لا وصية لوارث، ونحو ذلك من الأخبار
التي تلقتها الأمة بالقبول .
الحالة الثانية: أن تكون السنة
قطعية الثبوت ظنية الدلالة، ومعنى ظنية الدلالة هنا أي أن لفظها يحتمل معنيين
فأكثر، ويجب العمل به بواسطة مرجح شرعي أو لغوي.
الحالة الثالثة: أن تكون السنة ظنية
الثبوت قطعية الدلالة، وهذا يكثر في أحاديث الآحاد التي قد لا نقطع بصحتها عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم لكن دلالتها قطعي، ومثال ذلك ما رواه أبو داود والنسائي
مثلاً عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا
يرث القاتل شيئاً"، فهذا الحديث صريح في دلالته وأن القاتل ليس له شيء من
الميراث، لكنه من حيث ثبوته ظني بسبب أن أهل الحديث كالدار قطني قد أعلوه و ضعفوه،
وحينئذ يعمل بهذا النوع من السنة إذا توبع وصدق بدليل آخر يدل عليه، أو أن يصح
سنده من طريق آخر .
الحالة الرابعة: أن تكون السنة ظنية
الثبوت ظنية الدلالة، وهذا النوع هو أقل أنواع السنة حجة، وهو لا يعمل به إلا إذا
وجد مرجح يدعمه ويسنده، ومثال ذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن عائشة رضي
الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا طلاق ولا عتاق
في إغلاق"، فالحديث مختلف في تصحيحه، ثم إن معناه مختلف فيه بسبب الاختلاف في
معنى كلمة إغلاق .
المبحث الخامس وهو
اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم
اختلف
العلماء في جواز اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن الراجح جواز اجتهاده
صلوات الله وسلامه عليه، ويدل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى :(فاعتبروا يا أولي
الأبصار)،فأمر الله سبحانه وتعالى بالاعتبار والاتعاظ والاجتهاد، والنبي صلى الله
عليه وسلم أعظم الناس بصيرة وأصفاهم سريره وأصوبهم اجتهاداً، فكان أولى بهذه
الفضيلة، وكان الأولى في الدخول تحت هذا الخطاب، وكذلك قول الله سبحانه وتعالى
:(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله)،والآية عامة
تتناول الحكم بالنص وبالاستنباط من النص؛ إذ الحكم بكل منهما حكم بما أراه الله
سبحانه وتعالى، ومن ذلك قول الله سبحانه وتعالى :(وشاورهم في الأمر)،والمشاورة لا
تكون إلا فيما يحكم فيه بطريق الاجتهاد.
ويدل
على ذلك أيضاً من السنة أنه قد وقع من النبي صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في وقائع
كثيرة، ومن ذلك ما جاء في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال هششت فقبلت
وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله صنعت اليوم أمراً عظيماً، قبلت وأنا صائم فقال
الرسول صلى الله عليه وسلم: "أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم"، قال: لا
بأس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فمه، وهذا الحديث إثبات للقياس بل وإعمال له
من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأيضاً جاء في الحديث أنه جاء رجل إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟
قال: "نعم فدين الله أحق أن يقضى"، ونحو ذلك من النصوص التي دلت على أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد بإلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عنه من قبل الله
سبحانه وتعالى، إلا أن جمهور العلماء الذين أجازوا اجتهاد النبي صلى الله عليه
وسلم يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان يجوز له أن يجتهد لكن الله
سبحانه وتعالى لا يقره على الخطأ ،إذا اجتهد فأخطأ أنزل الله سبحانه وتعالى ما
يرفع هذا الخطأ، وإن اجتهد فأصاب أقره الله سبحانه وتعالى على اجتهاده، وبهذا
يتميز اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم عن اجتهاد غيره من العلماء و المحققين
والفقهاء؛ لأن اجتهادهم يحتمل الخطأ، ولا تصويب لهم ولا إقرار، بخلاف النبي صلى
الله عليه وسلم الذي يقر من عند الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات.
نسأل الله سبحانه
وتعالى التوفيق والسداد، هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
.
الفهرس
المقدمة
|
ص 2
|
أدوار الشريعة الإسلامية
|
ص 2
|
الدور الأول :الفقه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم
|
ص 3
|
المبحث الأول: مميزات التشريع في عصر النبي صلى الله عليه وسلم
|
ص 5
|
المبحث الثاني: مراحل التشريع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
|
ص 8
|
المرحلة الأولى: التشريع في العهد المكي
|
ص 9
|
المرحلة الثانية: التشريع في العهد المدني
|
ص 11
|
المبحث الثالث : منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في بيان الأحكام
|
ص 12
|
المبحث الرابع: مصادر التشريع في هذا العهد
|
ص 14
|
المبحث الخامس وهو اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم
|
ص 19
|
الفهرس
|
ص 20
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق