وانت تقرأ هذا الموضوع استمع لتلاوة الشيخ علي جابر يعتبر من افضل القراء في العالم الاسلامي رحمه الله
مصادر التشريع الإسلامي
-أ- المصادر المتفق عليها
أولا: القرآن الكريم
1- تعريفه: [هو كلام الله تعالى المعجز المنزل على سيدنا محمد باللفظ العربي، المنقول إلينا بالتواتر، المكتوب بالمصاحف، المتعبد بتلاوته، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس].
2- حجيته: اتفق جميع المسلمين على حجية القرآن الكريم، ووجوب العمل بمقتضى كل حكم ورد فيه، ويعد المرجع الأول الذي يعود إليه المجتهد لمعرفة حكم الله، ولا ينتقل إلى غيره من المصادر إلا عند عدم وجود الحكم المبتغى فيه.
3- بعض وجوه إعجازه: اقتضت حكمة الله عز و جل أن يؤيد أنبياءه ورسله بالمعجزات للدلالة على أنه مرسلهم ومكلفهم بتبليغ دينه، وقد خص الله الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم بأعظم معجزة تمثلت في "القرآن الكريم".
وليس سهلا أن أتناول جميع وجوه الإعجاز في القرآن، لذلك أكتفي بذكر بعضها اختصارا على الوجه الآتي:
أ. فصاحة ألفاظه وبلاغة عباراته: وقد بلغ القرآن في ذلك أعلى المستويات، وبذلك شهد علماء اللغة وأئمة البيان، وقد تحدى الله العرب وهم عمالقة الفصاحة والبلاغة بالإتيان بمثل القرآن فعجزوا، ثم تحداهم بأن يأتوا بعشر سور فلم يقدروا، ثم تحداهم بأن يأتوا بسورة فعجزوا، قال تعالى:
﴿قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [سورة الإسراء، الآية 88].
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [سورة هود، الآية 13].
﴿يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [سورة يونس، الآية 38].
ثم يؤكد عجز البشر عن الإتيان بسورة واحدة - حاضرا ومستقبلا - فقال: ﴿وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [سورة البقرة، الآيتان 23- 24].
ب. الإخبار عن المغيبات:
- إخبار الله تعالى عن انتصار الروم على الفرس قبل وقوع الحرب: ﴿الم* غُلِبَتْ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [سورة الروم، الآيات 1- 5].
- إخبار الله عن فتح مكة: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [سورة الفتح، الآية 27].
- الإخبار بواقعات وحوادث وقعت سابقا، نجد لها أثرا في الصحيح من الكتب السماوية، كما قص القرآن أخبار الأنبياء مع أقوامهم، قال تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [سورة هود، الآية 49].
ج. اشتماله على الأحكام الشرعية المختلفة المتعلقة بالعقيدة والعبادة و الأخلاق والمعاملات.
د. بقاؤه وخلوده، مصداقا لقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [سورة الحجر، الآية 9].
ﻫ. الإعجاز العلمي في القرآن الكريم: إن القرآن الكريم كتاب هداية وتشريع، ولكن هذا لا يمنع من وجود إشارات إلى حقائق علمية أكدها العلم الحديث، من ذلك مثلا في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ [سورة الأنبياء، الآية 30]، وفي هذه إشارة إلى أن الأرض كانت جزءا من المجموعة الشمسية، ثم انفصلت عنها لتكون صالحة لاستقبال الإنسان على ظهرها، و قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [سورة الأنعام، الآية 125]، ففي هذه الآية إشارة إلى شعور الإنسان بنقص الأكسجين كلما ارتقى في أجواء السماء، و قوله تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [سورة الذاريات، الآية 49]، وقوله: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة يس، الآية 36]، إشارة إلى انبثاث الزوجية في كل شيء، وقوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ* بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ [سورة القيامة، الآيات 3-4]، إشارة إلى اختلاف بصمات البشر.
4- حكمة نزول القرآن منجما:
اقتضت حكمة الله عز وجل أن ينزل القرآن مفرقا مستغرقا مدة الرسالة كلها، وذلك لحكم يمكن تلخيصها فيما يلي:
أ. تثبيت قلب النبي : ويتجلى ذلك في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [سورة الفرقان، الآية 32]، وحينما تنزل الآيات على النبي يقوى صبره، وتشحذ همته، كيف لا والله يخاطبه بمثل هذه الآيات:﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ...﴾ [سورة الأحقاف، الآية 35]، ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ [سورة الطور، الآية 48]، ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة هود، الآية 120]، ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ [سورة الأنعام، الآية 34].
ب. التلطف بالنبي عند نزول القرآن: إن للقرآن هيبة وجلالا ووقارا، وذلك يستدعي التلطف بالنبي فأنزله الله منجما، يقول تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [سورة المزمل، الآية 5]، ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [سورة الحشر، الآية 21]، فإذا كان ذلك حال الجبل لو أنزل عليه القرآن، فكيف بالنبي وهو أرق الناس قلبا، وأكثرهم تقديرا لكلام الله؟
وتصف أم المؤمنين عائشة حال الرسول حين يتنزل عليه القرآن بقولها: (لقد رأيته حين ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا).
ج. تقريع الكفار باستمرار، وتجديد تذكيرهم بانحرافهم عن الطريق المستقيم، وفي المقابل، يثبت الله المؤمنين ويواسيهم، ويفرغ عليهم صبرا ويقينا.
د. التدرج في تربية المجتمع الإسلامي، وذلك بتبديد الرذائل، وزرع الفضائل، وذلك بآيات التخلية وآيات التحلية.
ﻫ. تيسير حفظ القرآن الكريم وفهمه للمسلمين، وذلك كونهم أميين: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [سورة الجمعة، الآية 2].
و. التدرج في تشريع الأحكام، ومثال ذلك الخمر الذي تم وفق تدرج حكيم حسب المراحل التالية:
المرحلة الأولى: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [سورة النحل، الآية 67].
المرحلة الثانية: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية 219].
المرحلة الثالثة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ...﴾ [سورة النساء، الآية 43].
المرحلة الرابعة: وهي مرحلة التحريم القطعي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ﴾ [سورة المائدة، الآيتان 90-91].
5- أنواع الأحكام التي اشتمل عليها القرآن الكريم: اشتمل القرآن الكريم على جميع الأحكام التي تخص الإنسان، ويمكن تصنيفها في الأنواع التالية:
أ. الأحكام الإعتقادية: وهي الأحكام المتعلقة بالعقيدة، ومن الآيات التي تنص على تلك الأحكام ما يأتي:
﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [سورة البقرة، الآية 285].
﴿الم* اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [سورة آل عمران، الآيتان 1- 2].
﴿...لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [سورة الشورى، الآية 11].
﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ* هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [سورة الحشر، الآيتان 23- 24].
﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [سورة الإخلاص].
ب. الأحكام الأخلاقية: وهي الأحكام المتعلقة بأمهات الفضائل، ومن الآيات التي تنص على تلك الأحكام ما يلي:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [سورة القلم، الآية 4].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [سورة التوبة، الآية 119].
﴿...وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [سورة النحل، الآية 126].
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [سورة آل عمران، الآية 134].
﴿...وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ...﴾ [سورة الحشر، الآية 9].
ج. الأحكام العملية: وتنقسم إلى قسمين:
1. عبادات.
2. معاملات.
ومن الآيات التي تنص على تلك الأحكام ما يلي:
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [سورة البقرة، الآية 43].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية 183].
﴿...وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا...﴾ [سورة آل عمران، الآية 97].
﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ [سورة النساء، الآية 7].
﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ...﴾ [سورة البقرة، الآية 229].
﴿...وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا...﴾ [سورة البقرة، الآية 275].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ...﴾ [سورة البقرة، الآية 282].
﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية 179].
6- بيان القرآن للأحكام
جاء بيان القرآن للأحكام على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: بيان كلي أي بذكر القواعد والمبادئ العامة التي تكون أساسا لتفريع الأحكام وابتنائها عليها، مثل:
أ. الأمر بالشورى: قال تعالى: ﴿...وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ...﴾ [سورة آل عمران، الآية 159]، وقال أيضا: ﴿...وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ...﴾[سورة الشورى، الآية 38].
ب. الأمر بالعدل والحكم به: قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [سورة النحل، الآية 90].
وقال أيضا: ﴿...وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ...﴾ [سورة النساء، الآية 58].
ج. لا يسأل الإنسان عن ذنب غيره: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى...﴾ [سورة فاطر، الآية 18].
د. العقوبة بقدر الجريمة: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا...﴾ [سورة الشورى، الآية.40].
ﻫ. حرمة مال الغير: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية 188].
و. الوفاء بالالتزامات، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ... [سورة المائدة، الآية 1].
ز. لا حرج و لا ضيق في الدين: ﴿...وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...﴾ [سورة الحج، الآية 78].
النوع الثاني: بيان إجمالي، أي ذكر الأحكام بصورة مجملة تحتاج إلى بيان و تفصيل، ومن هذه الأحكام:
أ. وجوب الصلاة والزكاة، قال تعالى: ﴿...فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ...﴾ [سورة الحج، الآية 78].
ولم يبين القرآن عدد ركعات الصلاة وكيفيتها، فجاءت السنة بتفصيل ذلك، قال : (صلوا كما رأيتموني أصلي) [رواه مسلم]، وكذلك جاءت السنة ببيان أحكام الزكاة، وتحديد مقاديرها وأنصبتها.
ب. وجوب الحج: ﴿...وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا...﴾ [سورة آل عمران، الآية 97]، فجاءت السنة بتفصيل وبيان الحج وأركانه، قال : (خذوا عني مناسككم) [مسلم].
ج. وجوب القصاص: ﴿...كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ...﴾ [سورة البقرة، الآية 178]، فجاءت السنة ببيان شروط القصاص.
د. حل البيع وحرمة الربا: ﴿...وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ﴾ [سورة البقرة، الآية 275]، فجاءت السنة ببيان البيع الحلال والبيع الحرام والمقصود بالربا.
النوع الثالث: بيان تفصيلي: أي ذكر الأحكام بصورة تفصيلية لا إجمال فيها، مثل: أنصبة الورثة، وكيفية الطلاق وعدده، وكيفية اللعان بين الزوجين، والمحرمات من النساء في النكاح.
7- دلالة القرآن على الأحكام:
إن آيات القرآن الكريم ثابتة بطريق قطعي، لأنها نقلت إلينا بالتواتر الذي يوحي بالجزم أن الآية التي يقرؤها كل مسلم في بقاع الأرض هي نفسها التي تلاها الرسول صلى الله عليه و سلم على أصحابه، و هي التي نزل بها جبريل عليه السلام من اللوح المحفوظ من غير تبديل و لا تغيير، تحقيقا لقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون...﴾ [سورة الحجر، الآية 9].
أما دلالة النص القرآني على الحكم فليست واحدة، فمنها ما هو قطعي الدلالة و منها ما هو ظني الدلالة. فالنص القطعي الدلالة هو ما دل معنى متعين فهمه منه، و لا يحتمل تأويلا آخر معه، و ذلك مثل النصوص التي وردت فيها أعداد معينة أو أنصبة محددة في المواريث و الحدود، قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ...﴾ [سورة النساء، الآية 12]، فإن دلالة النص قطعية على أن فرض الزوج النصف، و قال تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ...﴾ [سورة النور، الآية 2]، فالآية قطعية الدلالة في مقدار حد الزنا، و قال تعالى في كفارة اليمين: ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ...﴾ [سورة المائدة، الآية 89]، فالعدد قطعي الدلالة، ولا تقبل الكفارة بأقل من ذلك ولا بأكثر منه.
أما النص الظني الدلالة فهو ما يدل على عدة معان، أو ما يدل على معنى، و لكنه يحتمل معاني أخرى، مثل لفظة "القرء" في قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ...﴾ [سورة البقرة، الآية 228].
فلفظ القرء في اللغة مشترك بين معنيين: الطهر والحيض، والنص القرآني يحتمل أن يراد منه ثلاثة أطهار كما قال الشافعي وغيره، ويحتمل أن يراد منه ثلاث حيضات كما قال الإمام أبو حنيفة ومن معه.
ثانيا: السنة النبوية
1- تعريف السنة:
أ. لغة: الطريقة المعتادة، حسنة كانت أو سيئة، ومنه قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا﴾ [سورة الإسراء، الآية 77]، ومنه قول رسول الله : (من سن في الإسلام حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) [مسلم وغيره].
2- حجيتها: اتفق العلماء على أن السنة الصحيحة الثابتة التي صدرت عن رسول الله بقصد التشريع والإقتداء حجة على المسلمين، ومصدر تشريعي لهم متى ثبتت بطريق القطع أو غلبة الظن.
أ. أدلة من القرآن على حجية السنة:
﴿...وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ...﴾ [سورة النحل، الآية 44].
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [سورة النور، الآية 56].
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ...﴾ [سورة آل عمران، الآية 31].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ...﴾ [سورة النساء، الآية 59].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾ [سورة الأنفال، الآية 20].
﴿مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ...﴾ [سورة النساء، الآية 80].
﴿...فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ...﴾ [سورة النساء، الآية 59].
﴿...وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا...﴾ [سورة الحشر، الآية 7].
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [سورة الأحزاب، الآية 36].
﴿فلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [سورة النساء، الآية 65].
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ...﴾ [سورة النساء، الآية 64].
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [سورة الأحزاب، الآية 21].
هذه النصوص القرآنية - وغيرها كثير- برهان ودليل قاطع على حجية السنة، واعتبارها مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي، وأن أحكام السنة تشريع إلهي واجب الإتباع.
ب. أدلة من السنة على حجية السنة:
(تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله و سنتي).
(ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه).
(روى معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما بعثه إلى اليمن، قال له: كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي لا ألو، قال معاذ: فضرب رسول الله صدري، ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي الله ورسوله).
ج. إجماع الصحابة:أجمع صحابة رسول الله في حياته وبعد وفاته على وجوب إتباع سنته والعمل بها، والالتزام بما ورد فيها من أحكام، وتنفيذ ما فيها من أوامر، والانتهاء عما فيها من نواه.
3- مرتبة السنة في الاحتجاج بها:تأتي السنة النبوية - في الاحتجاج بها - في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم، فالمفتي والمجتهد يرجع إلى الكتاب أولا ثم إلى السنة ثانيا في كل ما يطرح من سؤال أو يقع من قضية.
4- تدوين السنة: من الثابت المعلوم أن السنة لم تكتب في عهد الرسول عليه السلام كما كتب القرآن، لأن الرسول نهاهم عن كتابتها خوف اختلاطها بالقرآن، وتوفي عليه السلام وهي محفوظة في صدور الصحابة كل على مقدار استعداده ومبلغ حضوره مجالس الرسول عليه السلام، وفي خلافة أبي بكر رضي الله عنه لم يفكر أحد في تدوينها للسبب السابق، ولقصر خلافة الصديق، فلما وليها عمر رضي الله عنه عرضت له فكرة التدوين، فشاور الصحابة فيها، فأشاروا عليه بجمعها، ولكنه مكث شهرا يستخير الله حتى انتهى إلى العدول عن هذا الأمر لأسباب منها:
أنه وجد هذا العمل يصعب تنفيذه، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي تاركا سنته موزعة في صدور أصحابه وهم كثيرون تفرقوا في البلدان، كما كان يخشى اختلاطها بالقرآن وانشغال الناس بها عنه، ثم عرضت الفكرة للخليفة العادل عمر بن عبد العزيز في أواخر حياته، ففي عام 100ﻫ أمر أبا بكر بن حزم قاضي المدينة أن يجمع السنة فامتثل، و لكن الخليفة توفي بعد عام في سنة 101ﻫ، والعام الواحد لا يكفي لتحقيق هذا الطلب حينذاك، ولم يعن من جاء بعده من خلفاء بني أمية بهذا الأمر لانشغالهم بالسياسة وإدارة الحكم، إذا استثنينا ما روي عن هشام بن عبد الملك أنه لما تولى الحكم سنة 105ﻫ حث ابن شهاب الزهري على تدوين الحديث بل قيل أنه أكرهه على ذلك، وتوفي هشام سنة 125ﻫ.
وفي عهد العباسيين جمعت السنة، وابتدأ تدوينها في منتصف القرن الثاني الهجري تقريبا في مكة والمدينة والشام ومصر والكوفة والبصرة، وكل بلد إسلامي وجد به علماء دونوا السنة، أمثال الإمام مالك بالمدينة، والإمام الأوزاعي بالشام، والإمام الليث بن سعد في مصر، وسفيان الثوري في الكوفة، إلا أن هذه المجموعات لم يصلنا منها إلا القليل، مثل: كتاب " الموطأ " للإمام مالك بن أنس، وهو يعطينا صورة عن الكتب التي ألفت في السنة حينذاك، وهي أنها كانت خليطا من الأحاديث و أقوال الصحابة و فتاواهم، و لم يعن أصحابها بالسنة عناية من جاء بعدهم ممن تخصص في جمع الأحاديث وترتيبها.
تلك هي الخطوة الأولى في جمع السنة ثم تلتها الخطوة الثانية، وفيها عني أصحابها بإفراد أحاديث رسول الله عن فتاوى الصحابة وأقوال التابعين، و كانت هذه الخطوة على رأس المائتين للهجرة، و لكنها ابتدأت بطريقة المسانيد، وهي جمع أحاديث كل صحابي على حدا في جميع الأبواب، وهذه وإن كانت جردت الأحاديث من غيرها إلا أنها لم تفرد الصحيح من غيره.
وفي القرن الثالث ظهرت طريقة جديدة، وهي تمييز الأحاديث الصحيحة من غيرها، والبحث عن الرواة، فكان هذا أزهى عصور الحديث، وفيه ألف البخاري المتوفى سنة 256ﻫ، ومسلم بن الحجاج المتوفى سنة 261ﻫ صحيحيهما، وأبو داود المتوفى سنة 275ﻫ، وابن ماجة المتوفى سنة 275ﻫ، والنسائي المتوفى سنة 303 سننهم، وكتب هؤلاء هي المعروفة بالكتب الستة، ويلحق بها مسند الإمام أحمد المتوفى سنة 241ﻫ.
5- أقسام السنة:
أ. من حيث ماهيتها تنقسم إلى ما يلي:
(إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
2. سنة فعلية: و هي كل ما فعله الرسول صلى الله عليه و سلم على سبيل التشريع، مثل كيفية أدائه الصلاة، و أدائه مناسك الحج.
3. سنة تقريرية: هي استحسان النبي صلى الله عليه و سلم أو سكوته عن إنكار قول أو فعل صدر عن الصحابة.
ب. من حيث سندها: وانقسم العلماء في ذلك إلى قسمين:
الأول: يمثله علماء الحديث وجمهور علماء الأصول، ويقسمون السنة إلى: سنة متواترة وسنة آحاد.
الثاني: يمثله علماء الحنفية الذين زادوا السنة المشهورة.
1. السنة المتواترة: التواتر لغة التتابع، وفي الاصطلاح: ما رواه جمع عن جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب، أي ينقله عن رسول الله عليه السلام عدد كبير من الصحابة، ثم ينقله عنهم عدد من التابعين، و هكذا حتى يصل العلماء الذين قاموا بتدوين السنة وتسجيلها في القرنين الثاني والثالث الهجريين.
والسنة المتواترة تكثر في السنة العملية، وتقل في السنة القولية. والسنة المتواترة حجة كاملة، وتفيد العلم اليقيني القطعي في صحتها وثبوتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2. السنة المشهورة: وهي ما رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم واحد أو اثنان، أي عدد لا يبلغ حد التواتر، ثم اشتهرت فنقلها جموع التواتر، ثم اشتهرت فنقلها جموع التواتر في عصر التابعين وتابعي التابعين، مثل ما رواه عمر بن الخطاب عن رسول الله أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
3. سنةالآحاد: وهي ما يرويها عن النبي عدد لم يبلغ حد التواتر، ثم يرويها عنهم مثلهم وهكذا حتى تصل إلى عهد التدوين.
6- السنة تشريع وغير تشريع:
تنقسم السنة باعتبارها تشريعا أو غير تشريع إلى قسمين:
الأول: ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره نبيا ومبلغا عن الله، فهذا يعتبر تشريعا للأمة بلا خلاف.
الثاني: ولا يعتبر تشريعا:
1. ما صدر عن الرسول عليه السلام من الأقوال والأفعال والتقريرات قبل البعثة.
2. ما صدر عنه بمقتضى طبيعته البشرية، كالأكل والشرب والنوم والمشي والتزاور...
3. ما صدر عنه بمقتضى الخبرة البشرية التي استقاها من تجاربه الخاصة في الحياة، كالتجارة والزراعة وقيادة الجيش ووصف الدواء وغير ذلك...
4. ما كان خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم مثل وصاله في الصوم والتزوج بأكثر من أربع زوجات والتهجد بالليل، واكتفائه في إثبات الدعوى بشهادة خزيمة وحده في مجال إثبات الواقعة.
7- قطعية السنة و ظنيتها:إن السنة النبوية قد تكون قطعية الثبوت إذا كانت متواترة، وقد تكون ظنية الثبوت والنسبة إلى الرسول إذا كانت مشهورة أو كانت أحادية. ثم هي بعد ذلك - سواء أكانت قطعية الثبوت أم ظنية الثبوت والورود - قد تكون قطعية الدلالة على معناها إذا لم تحتمل معنى غيره، وقد تكون ظنية الدلالة إذا احتملت معنى آخر، فقوله : (أطعموا الجدة السدس) ظني في ثبوته، لأنه حديث أحادي قطعي في دلالته على أن فرض الجدة السدس، وقوله : (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ظني في ثبوته لكونه حديثا أحاديا، وظني في دلالته أيضا لاحتمال توجه النفي إلى صحة الصلاة، كما قال الشافعي، أي لا صلاة صحيحة، أو توجهه إلى كمال الصلاة كما قال الإمام أبو حنيفة أي لا صلاة كاملة.
8- أنواع الأحكام التي جاءت بها السنة
النوع الأول: أحكام موافقة لأحكام القرآن ومؤكدة لها، مثل حديث: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه) فإنه موافق ومؤكد لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ...﴾ [سورة النساء، الآية 29]، ومثله أيضا ما جاء في السنة من النهي عن عقوق الوالدين وشهادة الزور، وقتل النفس بغير حق، ووجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج...
النوع الثاني: أحكام مبينة لما جاء في القرآن:
أ. بتفصيل مجمله: كالسنة العملية في كيفية الصلاة ومناسك الحج.
ب. بتخصيص عامه: كحديث: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة)، الذي خصص عموم قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ﴾ [سورة النساء، الآية 11]، وجعله غير شامل للأنبياء.
ج. بتقييد مطلقه: كحديث سعد بن أبي وقاص في الوصية التي قال فيها الرسول : (الثلث والثلث كثير)، فقد قيد مطلق الوصية في قوله تعالى: ﴿...مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ...﴾ [سورة النساء، الآية 12]، بعدم الزيادة على ثلث التركة.
النوع الثالث: أحكام جديدة لم يذكرها القرآن لأن السنة مستقلة بتشريع الأحكام، ولها كالقرآن في ذلك، وقد ثبت عنه أنه قال: (ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه)، ومن هذا النوع تحريم الذهب والحرير على الرجال، وتوريث الجدة...
9- تعريف بمشاهير أئمة الحديث
1. الإمام البخاري: هو أبو عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجعفي البخاري، ولد يوم الجمعة الثالث عشر من شوال سنة 194ﻫ في مدينة بخارى، و طلب العلم صغيرا سنة 205 ﻫ، وقد حفظ تصانيف بعض الأئمة وهو صغير، وسمع من شيوخ بلده، ثم رحل مع أمه وأخيه إلى الحجاز سنة 210ﻫ، وأقام في المدينة المنورة، فألف كتابه "التاريخ الكبير"، وهو مجاور قبر الرسول... رحل إلى شيوخ الحديث وأئمته في مختلف البلاد، وكتب عن أكثر من ألف شيخ، و قد ساعده صبره وذكاؤه وحبه للعلم على بلوغ مرتبة عالية في عصره، حتى أصبح إمام المسلمين في الحديث، و لقبه الأئمة بأمير المؤمنين في الحديث، توفي بقرية "خرتنك" في30 رمضان سنة 256ﻫ.
الجامع الصحيح: ترك الإمام البخاري نحوا من عشرين مؤلفا في الحديث وعلومه ورجاله، وفي غيرها من علوم الإسلام، وأشهرها الجامع الصحيح المشهور بصحيح البخاري، وقد جمع فيه البخاري 9082 حديثا، وهو أول الكتب الستة في الحديث وأفضلها عند الجمهور على المذهب المختار، قال النووي في شرح صحيح مسلم: [اتفق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن الكريم الصحيحان، صحيح البخاري صحيح مسلم]، وقد صح إن مسلما كان ممن يستفيد منه ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري و مسلم بعد القرآن].
بعض شروح البخاري:
- شرح الإمام أبي سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البتي الخطابي المتوفى سنة 308ﻫ، سماه "أعلام السنن".
- شرح الشيخ برهان الدين إبراهيم بن محمد الحلبي المعروف بسبط ابن العجمي، المتوفى سنة 841ﻫ، وسماه "التلقيح لفهم قارئ الصحيح".
- شرح العلامة أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، المتوفى سنة 852ﻫ، وسماه "فتح الباري".
- شرح الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، المتوفى سنة 911ﻫ، وسماه "التوشيح على الجامع الصحيح".
2. الإمام مسلم: هو أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، ولد سنة 204ﻫ، طلب العلم صغيرا من شيوخ بلده، ثم رحل في طلب العلم إلى بغداد مرارا وإلى الكوفة والبصرة والحجاز والشام ومصر وغيرها، وسمع من أئمة الحديث، وتردد على البخاري كثيرا عندما قدم البخاري نيسابور.
بلغ الإمام مسلم منزلة رفيعة في العلم، وكان بعض الأئمة يقدمه في معرفة الصحيح على مشايخ ذلك العصر، وقد أثنى عليه معاصروه وجمهور أهل العلم من بعده، وترك نحو عشرين مصنفا في الحديث وعلومه.
صحيح مسلم: صنف الإمام مسلم كتابه من ثلاث مائة ألف حديث مسموعة، واستغرق في تهذيبه وتنقيحه خمس عشرة سنة، قال الإمام مسلم: [ما وضعت شيئا في كتابي هذا إلا بحجة، وما أسقطت منه شيئا إلا بحجة].
وقال النووي: [وسلك مسلم في صحيحه طرقا بالغة في الاحتياط والإتقان والورع والمعرفة، وذلك مصرح بكمال ورعه وتمام معرفته وغزارة علومه وشدة تحقيقه].
بعض شروح صحيح مسلم:
- شرح الإمام الحافظ أبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف الخرامي النووي الشافعي، المتوفى سنة 676ﻫ، وسماه "المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج".
- شرح الإمام أبي عبد الله محمد بن خليفة الوشنالي الآبي المالكي، المتوفى سنة 827ﻫ.
- شرح الشيخ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، المتوفى سنة 911ﻫ.
الموازنة بين الصحيحين: لقد بذل الشيخان البخاري ومسلم ما بوسعهما في تصنيف الصحيحين تصنيفا علميا دقيقا يقوم على شروط الصحة التي لا يختلف فيها أئمة هذا الشأن، فتلقتهما الأمة بالقبول، وأجمع أهل العلم على أنهما أصح كتابين بعد القرآن الكريم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:[ليس تحت أديم السماء أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن].
و لكل من "الصحيحين" خصائصه ومميزاته، فالإمام البخاري ترجم لأبواب كتابه وكرر بعض الأحاديث في عدة مواضع من كتابه لفوائد حديثية وفقهية رآها، وقطع بعض الأحاديث وجعلها في مواضع عدة لبيان حكم أو زيادة فائدة، ولم يعمد الإمام مسلم إلى ذلك، بل جمع طرق الحديث في مكان واحد بأسانيده المتعددة، وألفاظه المختلفة بما يسهل على الباحث تناوله.
واتفق الجمهور على تقديم "صحيح البخاري" على "صحيح مسلم"، إلا أن بعض علماء المغرب قدم " صحيح " مسلم عليه لحسن الترتيب وجمع طرق الحديث في مكان واحد، وفي هذا يقول بعض العلماء:
تشاجر قوم في البخاري و مسلم لــدي وقالــوا: أي ذين تقــدم
فقلت: لقـد فاق البخاري صحة كما فاق في حـسن الصياغة مسـلم
3. أبو داود السجستاني: هو الإمام الثبت سيد الحفاظ سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأزدي السجستاني، ولد سنة 202ﻫ، و طلب العلم صغيرا ثم رحل إلى الشام والحجاز ومصر والعراق والجزيرة وخراسان، ولقي كثيرا من الأئمة كالإمام أحمد. وتوفي في البصرة سنة 275ﻫ، ودفن إلى جانب قبر سفيان الثوري.
لأبي داود عدة مصنفات أشهرها كتابه "السنن".
4. الإمام الترمذي: هو الحافظ أبو عيسى بن سورة الترمذي، ولد بعد سنة مائتين في قرية (بوج) من قرى ترمذ، وطلب العلم صغيرا، ورحل في طلبه إلى العراق والحجاز وخراسان وغيرها، كان من أئمة الحفاظ الذين اشتهروا بالضبط والإتقان، توفي سنة 279 ﻫ بترمذ.
ترك الترمذي عدة مؤلفات أشهرها كتابه "السنن".
5. الإمام النسائي: هو الحافظ شيخ الإسلام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخرساني النسائي، نسبة إلى بلدة نساء بخراسان، ولد سنة 215ﻫ، ورحل في طلب الحديث وله خمس عشرة سنة، وسمع من كبار علماء عصره في بلده وفي الحجاز والعراق ومصر والشام والجزيرة، ثم استوطن مصرن والراجح في وفاته أنه خرج من مصر في ذي القعدة سنة 302ﻫ، وتوفي بفلسطين بالرملة يوم الاثنين 13 صفر سنة 303ﻫ، ودفن في بيت المقدس. صنف نحو خمسة عشر مؤلفا، جلها في الحديث وعلومه، وأشهرها كتابه "السنن".
6. الإمام ابن ماجة: هو الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، وماجة لقب أبيه، ولد سنة 209 ﻫ، في قزوين، وطلب العلم في مطلع شبابه، ورحل إلى العراق والحجاز ومصر والشام وغيرها، ولقي كثيرا من أئمة عصره.
لابن ماجة مصنفات في التفسير والحديث والتاريخ، ومن أشهر كتبه "السنن". توفي ابن ماجة في 22 رمضان سنة 273ﻫ.
7. الإمام مالك: هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري المدني، أحد أعلام الإسلام وإمام دار الهجرة، ولد سنة 93ﻫ في المدينة المنورة، ونشأ فيها، وطلب العلم على أكابر علماء التابعين كالإمام ابن شهاب الزهري.
ألف كتابه "الموطأ"، وقد توخى فيه القوي من أحاديث أهل الحجاز و أخرج فيه إلى جانب الحديث النبوي آثار بعض الصحابة والتابعين. توفي سنة 179ﻫ بالمدينة.
8. الإمام أحمد: هو أبو عبد الله بن محمد بن حنبل الشيباني المروزي، خرجت أمه من "مرو" وهي حامل به فولدته في بغداد سنة 164ﻫ، وفي بغداد نشأ وطلب العلم، ورحل إلى البصرة والكوفة ومكة والمدينة واليمن والشام وغيرها، للإمام أحمد عدة مؤلفات أشهرها كتابه "المسند". توفي ببغداد سنة 241ﻫ.
ثالثا: الإجماع
1- تعريفه:
أ. لغة: له معنيان:
أولهما: العزم على الشيء والتصميم عليه، فيقال: أجمع فلان على السفر إذا عزم عليه، ومنه قوله تعالى: ﴿...فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ...﴾ [سورة يونس، الآية 71]، و قوله: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ...﴾ [سورة يوسف، الآية 15].
ثانيهما: الاتفاق على أي شيء، فيقال: أجمع القوم على كذا، أي اتفقوا عليه، ومنه قول الرسول : (لا تجتمع أمتي على ضلالة) أي لا يتفقون عليها، وهذا المعنى هو الأنسب للمعنى الاصطلاحي.
ب. اصطلاحا: في رأي جمهور العلماء هو اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على حكم من الأحكام الشرعية العملية.
2- حجيته:
أ. من القرآن: قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [سورة النساء، الآية 115].
و أول من استدل بهذه الآية على حجية الإجماع هو الإمام الشافعي، كما ذكرت أمهات كتب الأصول و غيرها.
وجه الاستدلال بالآية: إن الله جمع بين مشاقة الرسول و اتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد، حيث قال: ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾، و هذا يستلزم أن يكون إتباع غير سبيل المؤمنين محرما، وإذا حرم إتباع غير سبيل المؤمنين وجب تجنبه، ولا يمكن تجنبه إلا بإتباع سبيلهم لأنه لا واسطة بينهما، ولزم من وجوب إتباع سبيلهم كون الإجماع حجة.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ...﴾ [سورة النساء، الآية 59].
وجه الدلالة من الآية:شرط الله تبارك وتعالى التنازع لوجوب الرد إلى الكتاب والسنة فدل ذلك على أنهم إذا لم يتنازعوا لم يجب عليهم الرد، و أن الاتفاق منهم حينئذ كاف عن الرد إلى الكتاب والسنة، ولا معنى لكون الإجماع حجة إلا هذا.
ب. من السنة النبوية: روي عن رسول الله الكثير من الأحاديث التي تواتر معناها، وإن لم يتواتر لفظها لورودها بألفاظ مختلفة:
1. (لا تجتمع أمتي على ضلالة).
2. (لا تجتمع أمتي على خطأ).
3. (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن).
4. (يد الله مع الجماعة).
5. (من فارق الجماعة و مات فميتته جاهلية).
6. (من خرج عن الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه).
وجه الاستدلال بهذه الأحاديث: هذه الأحاديث ونحوها وإن لم يتواتر كل واحد منها لفظا إلا أن القدر المشترك بينها و هو عصمة الأمة متواتر فيها لوجوده في كل منها، وإذا ثبت عصمة الأمة تواترا كان الإجماع حجة.
أن هذه الأحاديث لم تزل مشهورة بين الصحابة و التابعين يتمسكون بها في إثبات الإجماع.
3- أنواعه:
أ. الإجماع الصريح: و هو الإجماع الذي يبدي فيه كل واحد من المجتهدين برأيه
صراحة في مسألة فقهية، و هو الإجماع المعتد عند جمهور العلماء.
ب. الإجماع السكوتي: هو الذي يعلن فيه أحد المجتهدين عن رأيه في مسألة فقهية، ويسكت باقي المجتهدين دون إنكار عليه
* موقف العلماء من الإجماع السكوتي:
ذهب الشافعي و بعض الحنفية إلى عدم الاحتجاج به، و دليلهم على ذلك ما يأتي:
1. إنه لا ينسب لساكت قول كما يقول الشافعي.
2. إن السكوت تحيط به احتمالات نفسية باطنة لا يمكن الجزم معها بأن باقي المجتهدين سكتوا موافقة ورضى، وذلك بأن السكوت قد يكون مهابة للقائل أو لعدم الانتهاء إلى رأي في موضوع الفتوى، أو لسبب آخر لا نعلمه.
وذهب الإمام أحمد وأكثر الحنفية و بعض أصحاب الشافعي إلا أنه يحتج بالإجماع السكوتي، ودليلهم على ذلك ما يأتي:
1. إن العادة قد جرت بتصدر الأكبر للفتوى و سكوت غيرهم عند موافقة رأيهم لرأي كبارهم، فالسكوت محمول على الرضا والموافقة بمقتضى العرف والعادة.
2. إن عمل المجتهدين هو بيان الحكم الشرعي، وسكوتهم عن بيانه في موضع البيان ووقته، حيث أعلن أحدهم رأيه يعد بيانا وموافقة على هذا الرأي، لأن السكوت في موضع البيان بيان.
3. إن السكوت لا يحمل على الرضا إلا إذا كان مجردا من الدلالة على الإنكار والمخالفة، وإلا إذا مضت مدة كافية للتروية تكوين الرأي، و القول بأن السكوت قد يكون مهابة للقائل وخوفا منه أو نحو ذلك لا يليق في جانب المجتهدين الذين بلغوا أعلى المراتب الفقهية والدينية، والساكت عن الحق شيطان أخرس.
* أمثلة عن الإجماع:الإجماع على تحريم الزواج بالجدة استنادا إلى قول تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [سورة النساء، الآية 22] أي أصولكم، إذن فالجدة أم.
إجماع الصحابة على توريث الجدة السدس، استنادا إلى ما رواه المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم.
إجماع الصحابة على جمع القرآن في مصحف واحد.
4- مرتبته:
يأتي الإجماع في المرتبة الثالثة بعد القرآن والسنة، قال ابن مسعود: [إذا سئل أحدكم فلينظر في كتاب الله، فإن لم يجد ففي سنة رسول الله، فإن لم يجد فلينظر في ما اجتمع عليه المسلمون وإلا فليجتهد].
رابعا: القياس
1- تعريفه:
لغة: التقدير، مثل: قست الثوب بالذراع، أي عرفت مقداره، يتعدى بالباء وبـ على، فيقال: قاسه على الشيء، و قاسه بالشيء، و يكثر في الأصول تعديه ب على.
اصطلاحا: هو مساواة أمر لأمر آخر في الحكم الثابت له لاشتراكهما في علة الحكم.
2- أركانه: يرتكز القياس على أربعة أركان هي:
الأصل: و هو المقيس عليه أو المشبه به.
الفرع: و هو المقيس أو المشبه ( الواقعة أو الحادثة التي نريد معرفة حكمها. )
حكم الأصل: و هو الحكم الشرعي الذي يراد بيان مساواة الفرع للأصل فيه.
العلة: التي انبنى عليها تشريع الحكم في الأصل، و يتساوى معه الفرع فيها، و تسمى جامعا.
3- حجيته:
أ. قال تعالى: ﴿...فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [سورة الحشر، الآية 2]، فالاعتبار هو القياس، و الآية أمرت بالاعتبار، و الأمر يفيد الوجوب، فيكون القياس واجبا على المجتهد.
قال الشوكاني: [الاعتبار مشتق من العبور، و القياس عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع، فكان داخلا تحت الأمر].
ب. إن القرآن يستعمل القياس في الإقناع و إلزام الحجة، فقد رد القرآن على منكري البعث الذين قالوا: ﴿...مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [سورة يس، الآية 78]، بقوله تعالى: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ...﴾ [سورة يس، الآية 79]، فقاس سبحانه إعادة المخلوقات وبعثها بعد فنائها على النشأة الأولى وبدء الخلقة، وبين أن من قدر على بدء الخلق قادر على إعادته، بل هو أهون عليه.
(إن أبي أدركته فريضة الحج، أفأحج عنه؟ فقال لها: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء). فكان هذا قياسا لدين الله على دين العباد.
د. (روي أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث معاذا وأبا موسى الأشعري إلى اليمن قاضيين، كل واحد منهما في ناحية، و أنهما لما سئلا قالا: إذا لم نجد في القرآن ولا في السنة نقيس الأمر بالأمر، فما كان أقرب إلى الحق عملنا به، فقال صلى الله عليه و سلم: أصبتما).
4- شروط صحة القياس:
أ. شروط حكم الأصل:
1. أن يكون حكم الأصل ثابتا بالكتاب كحرمة الخمر الثابتة بالقرآن، أو ثابتا بالسنة، أو بالإجماع (في رأي كثير من العلماء).
2. أن يكون الحكم معقول المعنى، يعني أن يستطيع العقل إدراك علته كتحريم الخمر، فإن الخمر تدرك علته و هي الإسكار.
3. أن لا يكون حكم الأصل مختصا به، لأن الدليل الدال على هذا الاختصاص يمنع تعدي هذا الحكم إلى الفرع بطريق القياس.
ب. شروط الفرع:
1. ألا يكون قد ورد نص أو إجماع بحكم في الفرع يخالف القياس.
2. أن يتساوى الفرع مع الأصل في علة الحكم دون فارق جوهري بينهما، حتى لا يكون القياس قياسا مع الفارق.
ج. شروط العلة:
تتضح شروط العلة من خلال تعريفها، فالعلة هي الوصف الظاهر المنضبط المتعدي المناسب للحكم، فيشترط في الوصف الذي يعلل به الحكم ما يأتي:
1. أن يكون وصفا ظاهرا يمكن التحقق من وجوده و عدمه كالإسكار.
2. أن يكون وصفا منضبطا، له حدود معينة.
3. أن يكون وصفا متعديا غير قاصر، يعني يمكن وجوده في غير الأمر الأصلي المقيس عليه.
4. أن يكون وصفا مناسبا ملائما لتشريع الحكم، أي أن ربط الحكم به وجودا و عدما من شأنه أن يحقق مصلحة للناس أو أن يدفع عنهم مفسدة.
ب- المصادر المختلف فيها
أولا: المصالح المرسلة
1- أنواع المصالح التي تقوم عليها الشريعة:
أ. المصالح الضرورية: (وهي التي تكون الأمة بمجموعها وآحادها في ضرورة إلى تحصيلها، بحيث لا يستقيم النظام باختلالها، بحيث إذا انخرمت تؤول حالة الأمة إلى فساد وتلاش).
وتتمثل هذه المصالح فيما يلي:
1. الدين.
2. النفس.
3. النسل
4. العقل
5. المال
ولقد شرع للمحافظة على الدين وجوب الجهاد في سبيل الله للذود عن الدين، كما شرع للمحافظة على النفس وجوب تناول القدر الضروري لبقائها من طعام وشراب، ووجوب ارتداء القدر اللازم لرفع الضرر عنها، ومما شرع للمحافظة على النسل تحريم الزنا والقذف وإقامة الحد على مرتكبي هاتين الفاحشتين، ومما شرع للمحافظة على العقل تحريم الخمر وسائر المسكرات، لأنها مدعاة لحدوث خلل في العقل، (فدخول الخلل على عقل الفرد مفض إلى فساد جزئي، ودخوله على عقول الجماعات وعموم الأمة أعظم، ولذلك يجب منع الشخص من السكر، ومنع الأمة من تفشي السكر بين أفرادها). ومما شرع للمحافظة على المال تحريم السرقة، وتحريم أكل المال بالباطل.
ب. المصالح الحاجية: ويراد بها الأمور التي يحتاج الناس إليها لرفع الحرج عنهم، وبدونها لا يختل نظام حياتهم ولكنهم يحسون بالضيق والحرج. ومن أحكام رفع الحرج إباحة الفطر في رمضان للمسافر والمريض، وقصر الصلاة الرباعية في السفر، والتيمم عند فقد الماء أو عدم القدرة على استعماله.
ج. المصالح التحسينية: وهي ما يتعلق بمكارم الأخلاق، ومحاسن العادات كالطهارة، ولبس الجديد من اللباس، وكل ما يرتقي بحياة الناس إلى مستوى أفضل.
2- أقسام المصالح من حيث اعتبار الشريعة أو عدم اعتبارها لها:
أ. المصالح المعتبرة: وهي المصالح التي وردت نصوص لتحقيقها، فهي معتبرة بذلك في نظر الشريعة كالمصالح المذكورة آنفا.
ب. المصالح الملغاة: وهي المصالح التي وردت نصوص دالة على إلغائها مثل: دعوى مساواة الابن والبنت في الميراث، فتلك مصلحة ملغاة بقوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ...﴾ [سورة النساء، الآية 10].
ج. المصلحة المرسلة: وهي المصلحة المطلقة التي لم يرد نص يعتبرها أو يلغيها. كما تعرف بأنها: (المعاني التي يحصل من ربط الحكم بها وبنائه عليها جلب منفعة أو رفع مفسدة، ولم يقم دليل معين يدل على اعتبارها أو إلغائها).
3- أدلة المعتدّين بالمصلحة المرسلة:
من الأدلة التي استدل بها المعتدّون بالمصلحة المرسلة ما يلي:
1. أن المعروف أن مصالح الناس في تجدد مستمر، وأن الشريعة الإسلامية جاءت لتحقيق مصالح العباد، فإذا ما استجد أمر في حياة الناس، ولا يوجد نص يتناول ذلك، فإن القول باعتبار المصلحة ينسجم مع بقاء الشريعة وخلودها، (فأينما وجدت المصلحة فثم شرع الله).
2. حصول إجماع الصحابة على الاحتجاج بالمصلحة المرسلة، ويتجلى ذلك في تشريعهم لكثير من الأحكام تحقيقا لمصالح مطلقة، ومن ذلك ما يلي:
أ. تم جمع القرآن الكريم في مصحف واحد في عهد أبي بكر الصديق.
ب. لقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحدا بعده، ولما رأى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن مصلحة الأمة تقتضي استخلاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه صنع ذلك تحقيقا لتلك المصلحة،
ج. وضع عمر بن الخطاب للخراج وتدوينه تحقيقا للمصلحة.
د. حكم عثمان بن عفان رضي الله عنه بتوريث المرأة التي طلقها زوجها في مرض موته بغية حرمانها من الميراث، وذلك معاملة بعكس مقصوده.
4. أهمية العمل بالمصلحة المرسلة: إن العمل بالمصلحة المرسلة يخدم مصالح الأمة، إذ أن الراسخين في العلم وولاة الأمور في إمكانهم تشريع ما يحقق مصالح الناس في إطار معالم الشريعة وروحها، ولا شك أن استجابة الشريعة لمصالح الناس المتجددة مظهر من مظاهر كمال الشريعة وصلاحيتها كل زمان ومكان.
5. شروط العمل بالمصلحة المرسلة: تشير كثير من المراجع إلى شروط لازمة للعمل بالمصلحة المرسلة تتمثل فيما يلي:
أولا: أن تكون المصلحة كلية، بمعنى أن تكون شاملة للكثير من الناس فإذا كانت خاصة فلا يعتمد عليها تشريع في الحكم.
ثانيا: أن تكون المصلحة حقيقية، بمعنى أن يكون تشريع حكم بناءا على تلك المصلحة من شأنه جلب النفع أو دفع الضرر.
ثالثا: أن تكون المصلحة ملائمة لمقاصد الشريعة، فإذا لم تكن كذلك لا يعتمد عليها في تشريع الأحكام.
رابعا: ألا تكون مصلحة ملغاة، فإذا ورد نص يلغي مصلحة معينة فلا مجال لتشريع حكم بناءً عليه.
6. مجال العمل بالمصلحة المرسلة:إن إدراك المصلحة يتحقق في المعاملات دون العبادات، لذلك فإن مجال العمل بالمصلحة المرسلة هو مجال المعاملات.
أمثلة لبعض الأحكام الصادرة بناءا على مصلحة:
أ. فرض الضرائب عند عدم وجود ما يكفي من المال لتحقيق مصالح الناس العامة.
ب. توثيق عقد الزواج تحديدا للمسؤوليات وحفظا للحقوق.
ج. النص على أن نقل الملكية من البائع إلى المشتري في عقد البيع يتم بعد تسجيله.
د. وضع قواعد المرور والإلزام بتطبيقها.
7. المصلحة المفسدة من حيث تعلق الخطاب بها شرعا:
يقول الإمام الشاطبي: ( فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد فهي المقصودة شرعا، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد ليجري قانونها على أقوم طريق وأهدى سبيل... وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد، فرفعها هو المقصود شرعا ولأجله وقع النهي).
ثانيا: العرف
1- تعريفه: هو ما تعارف الناس واستقامت عليه أمورهم من قول أو فعل.
والعرف والعادة أمران مختلفان، إذ العادة بمعنى التكرار، وكما يكون تعود الشيء من فرد يكون من جماعة، والأولى تسمى عادة فردية والثانية عادة جماعية، أما العرف فلا يصدق إلا على الجماعية، فما يعتاده بعض الناس لا يكون عرفا: لأنه لا بد في تحقق العرف من اعتياد الأغلب أو الكل.
2- حجيته: ذكر العلماء جملة من الأدلة للاستدلال بها على حجية العرف أذكر منها:
أ. قوله تعالى: ﴿خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ﴾ [سورة الأعراف، الآية 199].
قال القرافي: [فكل ما شهدت به العادة قضي به لظاهر الآية].
ج. ما ثبت أن الرسول قال لهند زوج أبي سفيان حينما اشتكت إليه بخل زوجها عليها بالنفقة، قال لها: (خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف). قال القرطبي: [في هذا الحديث اعتبار العرف في الشرعيات].
د. إن تعارف الناس على قول أو فعلما لدليل على أن في ذلك تحقيقا لمصلحة أو رفعا لحرج، وتحقيق المصالح ورفع الحرج مما جاءت الشريعة لتقريره.
وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى الاحتجاج بالعرف، ومع أنه قد اشتهر الأخذ به عند الحنفية والمالكية، فقد قيل أن الشافعي قد بنى أحكام مذهبه الجديد على عرف أهل مصر، وقد كان في مذهبه القديم ما بناه على عرف أهل العراق. يقول القرافي: [أما العرف فمشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك].
3- أقسامه:
أ. تقسيم العرف إلى قولي وعملي:
1. العرف القولي: مثل تعارف الناس على إطلاق لفظ "الولد" على الذكر دون الأنثى مع أن لفظ "الولد" ينطبق على الذكر والأنثى معا، يقول تعالى: ﴿يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ...﴾ [سورة النساء، الآية 11].
وتعارفهم على إطلاق لفظ "الدابة" على ذوات الأربع، مع أن كل ما يدب على الأرض يسمى "دابة"، قال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا...﴾ [سورة هود، الآية 6].
كما تعارف سكان بعض البلاد المصرية على إطلاق "الدابة" على الحمار فقط، في حين يطلق سكان بعض البلاد العراقية والسودانية لفظ "الدابة" على الفرس فقط.
كما تعارف الناس أيضا على إطلاق لفظ " اللحم" على ما عدا السمك من اللحوم، مع أن القرآن سماه "لحما" في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا...﴾ [سورة النحل، الآية 14].
2. العرف العملي: مثل تعارف الناس على البيع بالتعاطي في بعض السلع دون إيجاب و قبول، وتقسيم المهر إلى معجل ومؤجل، ودخول الحمامات والأندية والمقاهي دون تحديد لمدة المكث فيها.
ب. تقسيم العرف إلى عام وعام:
1. العرف العام: هو ما تعارف عليه الناس جميعا في عصر من العصور.
2. العرف الخاص: هو ما تعارف عليه الناس في طائفة معينة أو بلد معين، وهذا ما نجده في الواقع، حيث تختلف الأعراف من طائفة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر.
4- شروط العمل بالعرف:
أولا: ألا يناقض العرف نصا قطعيا، فلا عبرة لما تعارف عليه الناس من أكل الربا، لأنه عرف فاسد، لمصادمته قوله تعالى: ﴿...وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا...﴾ [سورة البقرة، الآية 275].
ثانيا: أن يكون العرف مطردا، أي في جميع الحوادث أو أغلبها، فلا عبرة بالعرف غير الغالب.
ثالثا: أن يكون العرف المراد تحكيمه في التصرفات موجودا عند إنشائها وذلك بأن يقارن الفعل دون تأخير عنه، فلو كان العرف طارئا فلا عبرة به.
رابعا: ألا يعارض العرف تصريح بخلافه، فمثلا إذا كان العرف الجاري تعجيل نصف المهر وتأخير النصف لكن اشترطت المرأة تعجيل كل المهر وقبل الزوج بذلك، فإن العرف لا يحكم في هذه الحالة لأنه لا يلجأ إليه إلا إذا لم يوجد ما يفيد مقصود العاقدين صراحة، فحيث علم المقصود صراحة من الشرط لا يصار إلى العرف.
5. اختلاف الأحكام باختلاف العرف:وردت أحكام كثيرة مبنية على العرف، وكان اختلاف الأعراف سببا لاختلاف تلك الأحكام، وهذا الاختلاف يقال عنه: أنه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان، ومن أمثلة هذا الاختلاف ما يأتي:
1. أن الإمام أبا حنيفة كان يرى الاكتفاء في الشهود بالعدالة الظاهرة فيما عدا الحدود والقصاص، ولم يشترط التزكية لقوله : (المسلمون عدول بعضهم على بعض)، وكان هذا الحكم مناسبا لزمان أبي حنيفة لغلبة الصلاح فيه، ولما تغير حال الناس وفشا فيهم الكذب رأى الصاحبان أن الأخذ بظاهر العدالة كما يقول أبو حنيفة يؤدي إلى مفسدة، وهي ضياع كثير من الحقوق، فدعا فساد الزمان وتغيره أن يقولا بتزكية جميع الشهود دفعا لهذه المفسدة.
2. أن أبا حنيفة قال:[لا يتحقق الإكراه من غير السلطان]، وقال الصاحبان: [إن الإكراه يتحقق من غير السلطان]، فهذا القول من أبي حنيفة مبني على ما شاهده في عصره من أن القدرة والمنفعة لم تكن إلا لسلطان، وهذا الحال تغير في زمن الصاحبين، وصار لكل ظالم القدرة على إيقاع ما هدد به من الأذى والمكروه، فقالا: [إن الإكراه يتحقق أيضا من غير السلطان].
3. اختلف أبو حنيفة وصاحباه فيما لو غصب شخص ثوبا وصبغه بلون أسود، فقال أبو حنيفة: إنه نقصان في قيمته، وقال الصاحبان: إنه زيادة فيها كما لو صبغه بلون أصفر أو أحمر. ومرجع هذا الاختلاف إلى العرف، فإن بني أمية في زمن أبي حنيفة كانوا يمتنعون عن لبس السواد، فكان مذموما، وفي زمن الصاحبين كان بنو العباس يلبسون السواد، فكان ممدوحا، فأجاب كل منهم على ما شاهد من عادة أهل عصره.
4. روي عن الإمام مالك أنه إذا تنازع الزوجان في قبض الصداق بعد الدخول فالقول قول الزوج، مع أن الظاهر أن القول يكون للزوجة لأن الأصل عدم القبض، فداء بعض فقهاء المالكية فقالوا: هذه كانت عادتهم بالمدينة أن الرجل لا يدخل بامرأته حتى تقبض صداقها، واليوم عادتهم على خلاف ذلك، فالقول قول الزوجة مع يمينها جريا على عادات الناس.
ثالثا: قول الصحابي
1- التعريف بالصحابي: الصحابي عند جمهور علماء الأصول هو من لقي النبي صلى الله عليه و سلم و آمن به و لازمه مدة كافية لإطلاق وصف الصحبة عرفا.
2- حجية قول الصحابي
أ. إشارة القرآن عن فضل الصحابة، و إعلان الرضا عمن تبعهم، والأخذ بأقوالهم و سنتهم هو إتباعهم. ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [سورة التوبة، الآية 100].
(فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ).
(أنا أمان لأصحابي وأصحابي أمان لأمتي).
(خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم).
ج. قال ابن قيم عن الفتوى التي يفتي بها الصحابة أنها ( لا تخرج عن ستة أوجه:
الأول: أن يكون سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن يكون سمعها ممن سمعها منه.
الثالث: أن يكون فهمها من آية من كتاب الله فهما خفي علينا.
الرابع: أن يكون قد اتفق عليها ملأهم، ولم ينقل إلينا إلا قول المفتي بها وحده.
الخامس: أن يكون لكمال علمه باللغة ودلالة اللفظ على الوجه الذي انفرد به عنا، أو لقرائن حالية اقترنت بالخطاب، أو لمجموع أمور فهموها على طول الزمان من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ومشاهدة أفعاله وأحواله وسيرته وسماع كلامه، والعلم بمقاصده، وشهود تنزيل الوحي، ومشاهدة تأويله بالفعل فيكون فهم ما لا نفهمه نحن.
وعلى هذه التقادير الخمسة تكون فتواه حجة يجب إتباعها.
السادس: أن يكون فهم ما لم يرده الرسول صلى الله عليه وسلم واخطأ في فهمه، والمراد غير ما فهمه.
وعلى هذا التقدير لا يكون قوله حجة، ومعلوم قطعا أن وقوع احتمال من خمسة أغلب على الظن من وقوع احتمال واحد معين، هذا ما لا يشك فيه عاقل، وذلك يفيد ظنا غالبا قويا على أن الصواب في قوله دون ما خالفه من أقوال من بعده وليس المطلوب إلا الظن الغالب، والعمل به متعين ).
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن قول الصحابي ليس حجة اعتمادا على أدلة منها:
1. الصحابة غير معصومين من الخطأ، ومن لا عصمة له لا حجة لرأيه.
2. الصحابة سمحوا بمخالفتهم في الرأي.
3. رأي الصحابي ليس حتما أكثر امتيازا من غيره.
ويرى الأستاذ زكريا البري أن أراء الصحابة الاجتهادية ينبغي ألا تكون حجة ملزمة كالقرآن والسنة، وإنما يستأنس بها في استنباط الأحكام من النصوص.
رابعا: الاستصحاب
1 تعريفه:
أ- لغة: يقصد به استمرار الصحبة.
ب- اصطلاحا: معناه استبقاء الأمر الثابت في الزمن الماضي إلى أن يقوم الدليل على تغييره.
2- حجيته: من الأدلة التي احتج بها القائلون بحجية الاستصحاب ما يأتي:
أولا: أن استقراء الأحكام الشرعية يظهر أن الشارع يحكم ببقائها حتى يحدث ما يغيرها، فعصير العنب حلال إلى أن يصير خمرا، والعشرة الزوجية حلال بين الزوجين إلى أن يزول عقد الزواج، والمفقود يكون حيا بالاستصحاب إلى أن يقوم الدليل على وفاته، وله كل أحكام الأحياء.
ثانيا: إن مما فطر الله الناس عليه، وجرى به عرفهم في معاملاتهم وسائر عقودهم وتصرفاتهم أنهم إذا تحققوا من وجود أمر في الماضي غلب على ظنهم بقاؤه واستمراره ما دام لم يثبت ما ينافيه، كما أنهم إذا تحققوا من عدم وجود أمر غلب على ظنهم استمرار عدمه حتى يثبت لهم وجوده.
3- أنواعه: يقسم الاستصحاب إلى الأنواع الآتية:
الأول: استصحاب الحكم الأصلي للأشياء وهو الإباحة: يقرر جمهور الفقهاء أن الأصل في الأشياء الإباحة استنادا إلى الأدلة التالية:
قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا...﴾ [سورة البقرة، الآية 29]، وقوله: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ...﴾ [سورة الجاثية، الآية 13]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ...﴾ [سورة الأعراف، الآية 32].
فإذا كان الله قد سخر لنا ما في السموات والأرض، فإن ذلك دليل الإذن والإباحة، ونفي الحرمة في الآية الأخيرة يعني إثبات الإباحة.
كما استدلوا بقول الرسول : (إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء فحرم من أجل مسألته)، وبقوله: (الحلال ما أحله الله في كتابه، والحرام ما حرمه الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه).
الثاني: استصحاب العدم الأصلي أو البراءة الأصلية، كالحكم ببراءة الذمة من التكاليف الشرعية والحقوق حتى يوجد الدليل الدال على ما يشغلها.
وعن هذا النوع قال ابن قيم الجوزية: [فقد تنازع الناس فيه، فقالت طائفة من الفقهاء والأصوليين أنه يصلح للدفع لا للإبقاء كما قاله بعض الحنفية، ومعنى ذلك أنه يصلح لأن يدفع به من ادعى تغيير الحال لبقاء الأمر على ما كان، فإن بقاءه على ما كان إنما مستند إلى موجب الحكم لا إلى عدم المغير له، فإذا لم نجد دليلا نافيا ولا مثبتا أمسكنا لا نثبت الحكم ولا ننفيه، بل ندفع بالاستصحاب دعوى من أثبته، فيكون حال المتمسك بالاستصحاب كحال المعترض مع المستدل، فهو يمنعه الدلالة حتى يثبته لا إن يقيم دليلا على نفي ما ادعاه، وهذا غير حال المعارض: فالمعارض لون والمعترض لون، فالمعترض يمنع دلالة الدليل، والمعارض يسلم دلالته ويقيم دليلا على نقيضه. وذهب الأكثرون من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم على أنه يصلح لإبقاء الأمر على ما كان عليه، قالوا: لأنه إذا غلب على الظن انتفاء الناقل غلب على الظن بقاء المر على ما كان عليه].
الثالث: استصحاب ما دل العقل أو الشرع على ثبوته، فإذا استدان شخص من آخر مبلغا من المال فقد ثبتت مديونيته، وتبقى ذمته مشغولة بهذا الدين حتى يقوم الدليل على براءتها بسداد الدين أو الإبراء. وإذا ثبت الملك لشخص بسبب من أسباب الملك: كالبيع أو الإرث مهما طال الزمان اعتبر قائما حتى يقوم الدليل انتفائه بسبب طارئ، وإذا تزوج شخص امرأة وثبت ذلك فإنه يحكم ببقاء الزوجية ما لم يقم عنده دليل على الفرقة.
* قواعد شرعية مبنية على الاستصحاب:من القواعد الشرعية المبنية على الاستصحاب ما يلي:
1. الأصل في الأشياء الإباحة.
2.. الأصل في الإنسان البراءة.
3. اليقين لا يزول بالشك.
4. الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت ما يغيره.
خامسا: الاستحسان
1- تعريفه: عرفه الفقيه الحنفي أبو الحسن الكرخي بقوله: [هو أن يعدل المجتهد عن أن يحكم في المسالة بمثل ما حكم في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول].
2.أنواعه:
النوع الأول: ترجيح قياس خفي على قياس ظاهر جلي لقوة تأثير القياس الخفي، ومثاله: ما قرره الفقهاء أن الشخص إذا وقف أرضا زراعية على جهة بر، فإن حقوقها من الشرب والمسيل والمرور تدخل في الوقف، ولو لم ينص في وقفه على ذلك، مع أن مقتضى القياس عدم دخولها إلا بالنص عليها كما في بيع الأرض، حيث لا تدخل في المبيع إلا بالنص عليها، ووجه الاستحسان أن الوقف لا يفيد ملك الموقوف عليه للمال الموقوف، وإنما يثبت له ملك المنفعة فقط، والأرض لا يمكن الانتفاع بها بدون حقوق الارتفاق، كما في عقد الإجارة، فهنا قيا سان: قياس ظاهر وهو إلحاق الوقف بالبيع من جهة أن كلا منهما يفيد إخراج المال من مالكه، وقياس خفي وهو إلحاقه بالإجارة من ناحية أن كلا منهما مقصود الانتفاع، فرجحوا الثاني.
النوع الثاني: استثناء مسألة جزئية من قاعدة عامة لوجه اقتضى هذا الاستثناء.
ومثاله أن المحجور عليه للسفه يصح وقفه على نفسه مدة حياته استحسانا استثناء من القاعدة العامة وهي عدم صحة تبرعاته، ووجه الاستحسان أن وقفه على نفسه يحفظ العقار الموقوف من الضياع للزوم الوقف، وعدم قبوله للبيع والشراء، فيتحقق الغرض الذي حجر عليه من أجله، وهو المحافظة على أمواله فهو استحسان يستند إلى المصلحة.
3- موقف العلماء من الاستحسان: ذهب الشافعي والظاهرية والشيعة إلى إنكار الاستحسان، بينما ذهب الجمهور إلى الاحتجاج به.
أدلة المنكرين:
1. قوله سبحانه وتعالى: ﴿...فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ...﴾ [سورة النساء، الآية 59].
فالله سبحانه وتعالى في هذه الآية قد ردنا إلى حكمه وحكم رسوله عليه السلام كما جاء في الكتاب والسنة عند حصول النزاع أو الاختلاف، ولم يقل فردوه إلى ما تستحسنونه بعقولكم.
2. ما روي عن سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: (قلت: يا رسول الله الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن ولم تمض فيه منك سنة؟ قال: أجمعوا له العالمين، أو قال: العابدين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينهم ولا تقضوا فيه برأي واحد).
أدلة المؤيدين:
1. قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ [سورة الزمر، الآية 18].
فالله سبحانه يمدح الذين يتبعون أحسن ما يستمعون من القول، والمدح لا يكون إلا عند فعل الأولى والمطلوب، ومن ثم لم يكن الاستحسان محظورا، ولا القول به ممنوعا.
2. قوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ...﴾ [سورة الزمر، الآية 23].
3. قوله تعالى: ﴿...فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا...﴾ [سورة الأعراف، الآية 145].
سادسا: شرائع من قبلنا
ليس المقصود بشرع من قبلنا ما أقره شرعنا، فليس في هذا خلاف، وليس المقصود بشرع من قبلنا ما ألغاه شرعنا، فليس في هذا خلاف كذلك، إنما المقصود بشرع من قبلنا ما لم يقره ولم يلغه شرعنا أيكون شرعا لنا؟
ذهب جمهور الحنفية والمالكية والشافعية إلى العمل به، في حين ذهب بعض العلماء - ومنهم المعتزلة والإمام أحمد في رواية عنه - إلى أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا.
أدلة المؤيدين:
1. وحدة الشرائع السابقة، قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ...﴾ [سورة الشورى، الآية 13]، فهذه الآية يفهم منها وحدة الشرائع، لذلك ينبغي العمل بمقتضى أحكام الشرائع السابقة، إلا إذا ورد الدليل على نسخها أو كونها خاصة بأمة من الأمم.
2. أن الله تعالى أمر رسوله عليه السلام بإتباع الأنبياء والرسل السابقين، والإقتداء بهم، كما في قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ...﴾ [سورة الأنعام، الآية 90]، وكما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾ [سورة النحل، الآية 123].
3. قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ...﴾ [سورة المائدة، الآية 44]، وقوله: ﴿...وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ [سورة الأعراف، الآية 154].
وفي هاتين الآيتين دلالة على أن التوراة فيها هدى ونور ورحمة، لذا فكل حكم ورد فيها ولم يصرح بنسخه يجب العمل به.
4. صح عن الرسول أنه صام يوم عاشوراء، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: يوم صالح، نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، فقال صلى الله عليه و سلم: أنا أحق الناس بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه).
أدلة المخالفين:
1. إن الشرائع السابقة كانت مؤقتة بزمن محدد، و بأمم معينة و الشريعة الإسلامية نسخت كل من عداها من الشرائع لأنها جاءت عامة و شاملة. قال الرسول : (كان النبي يبعث إلى قومه خاصة ويبعث إلى الناس عامة).
2. إن النبي لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: (كيف تقضي إذا عرض عليك قضاء ؟ قال بكتاب الله تعالى ،قال : فإن لم تجد ؟ فبسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم، قال فإن لم تجد ؟ قال: اجتهد رأيي ولا ألو.فقال له الرسول صلى الله عليه و سلم: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله)، فلو كان العمل بالشرائع السابقة واجبا لذكره معاذ أو ذكره له الرسول عليه السلام، ولما جاز الاجتهاد بالرأي إلا عند عدم وجود الحكم فيها.
والراجح هو ما ذهب أليه جمهور الفقهاء، فقوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ...﴾ [سورة المائدة، الآية 45]. استدل به الأحناف على قتل المسلم بالذمي والرجل بالمرأة أخذا من عموم قوله تعالى: ﴿أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ الذي يروي به ما كان مكتوبا في التوراة، كما استدل بعض العلماء على جواز عقد الجعالة أخذا من قوله تعالى: ﴿...وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾ [سورة يوسف، الآية 72]، فقد جعل لمن يأتي بصواع الملك جعلا مقداره حمل بعير، وقد رواه القرآن عن شريعة يوسف عليه السلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق