معنى الفصاحة:1 الفَصَاحَةُ لُغَةً: تُطْلَقُ الفَصَاحَةُ فِي اللَّفْظِ عَلَى مَعَانٍ كثِيرَةٍ مِنْهَا: البَيَانُ، وَالظُّهُورُ، والانكِشَافُ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي﴾2. أيْ: أَبْيَنُ مِنِّي مَنْطِقَاً، وَأَظْهَرُ مِنِّي قَوْلاً.
يُقَالُ: أَفْصَحَ الصَّبِّيُّ فِي مَنْطِقِهِ، إِذَا بَانَ وَظَهَرَ كَلَامُهُ.
وَقَالَتِ العَرَبُ: أَفْصَحَ الصُّبْحُ: إِذَا أَضَاءَ.
يذكر علماء البلاغة عادةً انقسام الفصاحة إلى فصاحةٍ في الكلمة، وفصاحة في الكلام، وفصاحة في المتكلِّم، ثم يعرّفون الفصاحة في كل قسم من هذه الأقسام على حدة، ويعلّلون ذلك بأنّه يتعذّر جمع المعاني المختلفة غير المشتركة في أمرٍ يعمّها في تعريفٍ واحد.
الفَصَاحَةُ فِي الاصْطِلاَحِ: هِيَ الأَلفَاظُ البَيِّنةُ الظَّاهِرَةُ المُتَبَادِرة إِلَى الفَهْمِ، ومَأْنُوسَةُ الاسْتِعْمَالِ لِمَكَانِ حُسْنِهَا، وَهِيَ تَقَعُ وَصْفاً لِلكَلِمَةِ، أو الكَلَامِ والمُتَكَلِّمِ.
فَصَاحَةُ الكَلِمَةِ: مَا هِيَ شُرُوطُ الَّلفْظَةِ الفَصِيْحَةِ؟ أوْرَدَ العُلَمَاءُ شُرُوطَاً يَنْبَغِي تَوَافُرُهَا فِي الَّلفْظَةِ الوَاحِدةِ حَتَّى تَكُونَ فَصِيحَةً, وَمِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ: - أَنْ تَكُونَ الكَلِمَةُ مُتَبَاعِدَةَ المَخَارِجِ. - أَنْ تَكُونَ الكَلِمَةُ الفَصِيحَةُ غَيْرَ مُتَوَعِّرَةٍ. - أَنْ لا تَكُونَ مِنْ أَلْفَاظِ العَامَّةِ3.
وَمِنَ الموانع التي تمنع تحقّق الفصاحة في المفرد. 1- تَنَافُرُ الحُرُوفِ فِيهَا: كَيْفَ يَكُونُ تَنَافُرُ الحُرُوفِ؟ يَكُونُ بِتَتَابُعِ الحُرُوفِ المُتَقَارِبَةِ فِي المَخَارِجِ, فَتَكونُ الكَلِمةُ مُتَناهيَةً فِي الثِّقلِ عَلَى الِّلسَانِ وَيَكُونُ نُطْقُهَا عَسِيراً, وَلَا ضَابِطَ لِمَعرِفَةِ الثِّقلِ والصُّعُوبَةِ سِوَى الذَّوقِ السَّليِمِ المُكتَسَبِ بالنَّظَرِ فِي كَلامِ البُلَغَاءِ ومُمَارَسةِ أَسَاليِبهمْ.
ومِثَالُ ذَلِكَ: أ- رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيَّاً سُئِلَ عَنْ نَاقَتِهِ فَقَالَ: "تَركتُها تَرْعَى الهِعْخِعَ"4. ب- وَقَولُ امرؤِ القَيْسِ:5 غَدائِرُها مُستَشزِراتٌ إِلى العُلا تَضِلُّ العِقاصَ في مُثَنّىً وَمُرسَلِ
يقولُ: ذَوائِبُهَا وغَدَائِرُهَا مَرفُوعَاتٌ إلى فَوْقٍ، يُرَادُ بِهَا شَدّهَا عَلَى الرَّأسِ بِخيوُطٍ, ثمَّ قَالَ: تَغِيبُ عَقَائِصُها فِي شَعْرِهَا بَعضُهُ مُثنَّى وبَعْضُهُ مُرْسَلٌ.
نُلاحِظُ الثِّقلَ فِي: "الهِعْخِعَ - مستشزراتٌ" وصُعوبةَ النُّطْقِ بِهِمَا, لِذَا, فَهُمَا كَلِمَتانِ خَارِجَتانِ عَنِ الفَصَاحَةِ.
2- الغَرَابَةُ فِي الاسْتِعمَالِ: بِحَيْثُ تَكُونُ الكَلِمَةُ وَحشِيَّةً لَا يَتَّضِحُ مَعْنَاهَا إلَّا بَعْدَ النَّظَر فِي كُتُبِ اللُّغَةِ.
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِيسى بنِ عمرَ النَّحْويِّ أنَّه سَقَطَ عَنْ حِمَارٍ فاجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ لَهُمْ: مَا لَكُمْ تَكَأْكَأْتُم عَليَّ تَكَأْكُؤَكُم عَلَى ذِي جِنَّةٍ؟! افْرَنْقَعُوا عَنَّي!6
وَمَعْنَى هَذَا الكَلامِ: مَا لَكُم اجتَمَعْتُم عليَّ اجتِمَاعَكُم عَلَى مَجْنُونٍ؟ تَنَحَّوا عنّي! فالكلمتان: "تَكَأْكَأَ - افْرَنْقَعَ" كلمتَانِ خَارِجَتَانِ عَنِ الفَصَاحَةِ لِغَرابَتِهِما.
وَمِنْ ذَلِكَ أيْضاً استِخْدامُ كَلِمة "عُسْلُوج" بَدَلَ "غُصْنٍ" و "حَقَلَّدٍ" بَدَلَ "البَخِيلِ".
3- مُخَاَلفَةُ القياسِ: أيْ مخَالَفتَها لِقَواعِدِ القِيَاسِ الصَّرفيِّ
وَمِثَالُ ذَلِكَ: قَوْلُ أبِي النَّجْمِ7: الحَمْدُ للهِ العَلِيِّ الأجْلَلِ الواحِدِ الفَردِ القَدِيمِ الأوَّلِ
فَكَلِمَةُ "الأَجْلَلِ" هُنَا خَرَجَتْ عَنِ القِيَاسِ, إذِ الصَوَابُ أنْ يُقالَ: "الأجلّ" بالإدْغَامِ, ولا مسوِّغَ لِفَكِّهِ.
4- الكَرَاهَةُ فِي السَّمْعِ بِأَنْ تَكُونَ الكَلِمَةُ مَمْجُوجَةً، يَنْفِرُ مِنْهَا السَّامِعُ, كَقَولِ المُتَنَبي: مُبارَكُ الاِسمِ أَغَرُّ اللَقَبْ كَريمُ الجِرِشّى شَريفُ النَسَبْ
فَكَلِمَةُ الجِرِشَّى كَلِمَةٌ تَستَثقِلُهَا الأَسْمَاعُ, لِذَا هِي كَلِمَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الفَصَاحَةِ.
فَصَاحَةُ الكَلَامِ:8 وَلِكَي يَكُونَ الكَلامُ فَصِيحاً, يَجِبُ أنْ يَخْلوَ مِنَ العُيُوبِ التَّالِيةِ: 1- ضَعْفُ التَّألِيفِ, وَعَدَمُ التِزَامِ القَواعِدِ الُّلغَويَّةِ فِيهِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ, نَصْبُ الفِعْلِ المُضَارِعِ بِلاَ نَاصِبٍ نَحوُ:9 انظُرَا قَبْلَ تَلُومَانِي إِلَى طَلَلٍ بَيْنَ النَّقَا والمُنْحَنَى وَمِنْهُ كَذَلِكَ: "ضَرَبَ غُلامُهُ زَيداً"هنَا يُريدُ القائِلُ أنْ يَقولَ: "إنَّ زَيداً ضَرَبَه غلامُه"ولكنَّه أَخطأَ فِي تَرتِيبِ الكَلِمَاتِ, فَجَعَلَ الضَّمِيرَ فِي "غُلامُهُ" يَعُودُ عَلَى مُتَأَخِّرٍ لَفظاً وَرُتبَةً, وَهَوَ المَفْعُولُ بِهِ "زيداً". ورُجُوعُ الضَّمِيرِ إِلى المفعولِ بِهِ المتَأخَّرِ لفْظاً وَرتبَةً, مُمتَنِعٌ عِنْدَ أَهْلِ الُّلغَةِ10.
2- تَنَافُرُ الكَلِمَاتِ:بِحَيْثُ يسبِّبُ اتِّصالُ بعضها ببعضٍ ثِقَلَها على السَّمْعِ، وصُعوبةَ أدائِهَا بالَّلسَانِ، لِكَثْرَةِ الحُرُوفِ المُتَشابِهةِ فِيهَا, وتِكرارِهَا فِي التَركِيبِ الوَاحِدِ، كَقَولِ الشَّاعِرِ:11 وقبرُ حربٍ بمكانٍ قَفْرُ وليسَ قربَ قبْرِ حربٍ قبرُ
ومِنْ ذَلِكَ قَولُ أبِي تمَّام: كَريمٌ مَتى أَمدَحْهُ أَمدَحْهُ وَالوَرى مَعي، وَمَتى ما لُمتُهُ، لُمتُهُ وَحدي
فإنَّ فِي قَولِ "أمدَحْهُ" ثقلاً مَا، لِمَا بَيْنَ "الحَاءِ" و"الهَاءِ" مِن تَنَافُرٍ, ولَكِنَّه دُونَ البَيْتِ الأوَّلِ فِي التَّنافُرِ.
3- التَّعْقِيدُ: أنْ لَا يَكونَ الكَلامُ ظاهرَ الدَّلَالَةِ عَلَى المُرادِ بِهِ, وعَدَمُ وُضُوحِ المَعنَى يَرجِعُ إِلَى سَبَبينِ: أ- التَّعقِيدُ الَّلفْظيُّ: وَهُوَ أنْ تَكونَ الأَلْفاظُ مرتَّبةً لَا عَلَى وفْقِ تَرتِيبِ المَعَانِي, فَيَفسدُ نِظَامُ الكَلَامِ وتَأليفُهُ, بِسَببِ مَا يَحْصَلُ فِيهِ مِنْ تَقْديمٍ وتَأخِيرٍ, كَتَقْديمِ الخَبَرِ عَلَى المبتدَأِ فِي مَكَانٍ يُوجِبُ الَّلْبسَ, أَو فَصْلٍ بَيْنَ المُتلازِمَينِ, كالمُستَثْنَى وَالمُستَثْنَى مِنْهُ, أو المُضَافِ والمُضَافِ إِليْهِ, فَيصبِحُ الكَلَامُ حِينَهَا خَفِيَّ الدَّلَالَةِ عَلَى المَعْنَى المُرادِ, كَقَولِ أَبِى الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي: أنَّى يكُونُ أبا البَرِيَّةٍ آدَمٌ وأبُوكَ والثَّقَلانِ أنتَ محَمَّدُ؟
"والوضعُ الصحيحُ أن يقولَ: كيفَ يكونُ آدمُ أبَا البَرِيَّةِ، وَأَبُوْكَ مُحَمَّدٌ، وَأَنْتَ الثَّقَلاَنِ؟ يعنى أَنَّه قد جَمعَ مَا فِي الخَلِيقةِ مِنَ الفَضْلِ والكَمَالِ، فَقَد فَصَلَ
بَيْنَ المبتدأِ والخَبَرِ, وهُمَا "أبوك محمد"، وقدَّمَ الخَبَرَ عَلَى المُبتدأِ تَقديِماً قَدْ يَدعُو إِلَى الَّلبسِ فِي قولِهِ "والثَّقلانِ أنتَ"، عَلَى أنَّه بَعدَ التَّعسُّفِ لَمْ يَسلَمْ كَلَامُه مِنْ سُخفٍ وهَذَر"12. فَالكَلامُ الخَالِي مِنَ التَّعقيدِ الَّلفظيِّ مَا سَلِمَ نَظْمُهُ مِنَ الخَلَلِ, فَلَمْ يَكنْ فِيهِ مَا يُخالفُ الأصْلَ - مِنْ تقديمٍ أوْ تَأخِيرٍ أوْ إضمَارٍ أوْ غيرِ ذَلِكَ - إلَّا وَقَدْ قَامَتْ عَليهِ قَرينةٌ ظَاهِرةٌ - لفْظِيَّةٌ أوْ مَعْنَويَّةٌ -.
ب- التَّعقِيدُ المَعْنَويُّ: وَهُوَ أنْ يُوضَعَ المَعْنَى فِي مَوضِعٍ لَا يَفهمُ القَارئُ مقصودَ الكاتب مِنْهُ بِشَكلٍ صَحِيحٍ فَلَا يَكونُ انتِقَالُ الذِّهنِ مِنْ المَعنَى الأوَّلِ إِلَى المَعْنَى الثَّانِي - الَّذي هُوَ لازِمُهُ والمُرَادُ بِهِ - ظَاهراً, كَقَولِ العبَّاسِ بنِ الأَحْنَفِ13: سَأَطلبُ بُعْدَ الدَّارِ عَنْكُم لِتَقرَبُوا وَتَسكُب عيَنَايَ الدُّمُوعَ لتجمُدَا كنّى بسكْبِ الدَّمُوعِ عمَّا يُوجبُهُ الفِراقُ مِنَ الحُزنِ, لأنَّ مِنْ شّأنِ البُكاءِ أنْ يكونَ كِنايةً عنْهُ، ثمَّ أخطَأَ حِينَ طَرّدَ ذَلِكَ فِي نَقِيضِهِ، فَأرادَ أنْ يَكنِيَ دَوامَ التَّلاقِي مِنَ السُّرورِ بالجُمودِ, لظنِّهِ أنَّ الجُمودَ هُوَ خلوُّ العَيْنِ مِنَ البكاءِ مطلقاً, مِنْ غَيْرِ اعتبَارِ شيءٍ آخر, ولكنَّه أخطأَ لأنَّ الجمودَ هُوَ خلوُّ العَينِ مِنَ البُكاءِ فِي حَالِ إِرادةِ البكاءِ مِنهَا, أيْ أنْ يكونَ هناك موقفٌ يستدْعِي البُكَاءَ فَلَا يَستطيعُ البكاءَ, فالجُمُودُ فِي الحَقيقَةِ لا يكونُ كِنايةً عَنِ المسرَّةِ, بَل هُوَ كِنايةٌ عَنِ البُخلِ, كَمَا فِي
قَوْلِ أَحَدِ الشُّعراءِ14- وقَدْ أَجَادَ فِي وَضْعِ كَلِمَةِ "الجمود" في مكانِهَا الصَّحِيحِ-: أَلَا إنَّ عَيْناً لَمْ تَجُدْ يومَ واسطٍ عليكَ بِجَارِي دمعِهَا لَجَمُودُ
4- تَعَاقُبُ الأدَوَاتِ: أ- مجيءُ بعضِهَا إِثْرَ بعضٍ, مَا يَجْعلُ الكلامَ ثَقيلاً، ومِثالُ ذَلِكَ قولُ أبِي تمَّامَ: كأنَّه فِي اجتِمَاعِ الرُّوحِ فِيهِ لَهُ فِي كلِّ جَارِحةٍ مِنْ جِسْمِهِ رُوحُ
فمجيءُ "في" بَعْدَ "لَهُ", أورَثَتْ فِي البيتِ ثِقلاً جَعَلَ الِّلسَانَ يَتَعَثَّرُ عِنْدَ النُّطْقِ بِهِمَا.
ب- كَثرةُ التَّكرَارِ, وتَتَابُعُ الإِضَافَاتِ الَّذي يَجعلُ الكَلامَ ثَقيلاً, وَمثَالُ كَثرةِ الإضَافَاتِ, قولُ ابنِ بَابَك15: حَمَامَةَ جَرعَى حَوْمَةِ الجَنْدَلِ اسجَعِي فَأنْتِ بِمرأَى مِنْ سعادَ ومَسْمَعِ16
مُلاحظةٌ: إنَّ كَثرةَ التَّكْرارِ, وتَتَابعَ الإِضَافَاتِ, إذَا أفضَتْ بالَّلفْظِ إِلَى الثِّقلِ عَلَى الِّلسَانِ فَقَدْ خَرَجَتْ عَنِ الفَصَاحةِ, وإلَّا فَلَا يُخلُّ التَّكرَارُ بالفَصَاحَةِ.
فَصَاحَةُ المُتَكَلِّمِ: وأمَّا فَصَاحَةُ المُتَكَلِّمِ فَهِيَ: مَلَكَةٌ يُقتدرُ بِهَا عَلَى التَّعبِيرِ عَنِ المَقصُودِ بِلفظٍ فَصِيح.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق