وانت تقرأ هذا الموضوع استمع لتلاوة الشيخ علي جابر يعتبر من افضل القراء في العالم الاسلامي رحمه الله
بسم الله الرحمن
الرحيم
تاريخ
التشريع الإسلامي
¯ المقدمة:
الحمد
لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم لك الحمد ملىء السموات وملىء الأرض وملىء ما شئت من شيء بعد. وبعد،
سوف
نتناول في بحثنا هذا مواضيع تتعلق بالشريعة الإسلامية وتاريخها وكيفية تكاملها
وكيفية وصولها إلينا وسنفصِّل مصادر التشريع الإسلامي ونشرح كيفية تدوين القرآن
والسنة مع ذِكر آراء ومذاهب الصحابة، ونركز على مسألة المذاهب ونشأتها ووجه الحاجة
إلى أن يتبع المسلم مذهباً من هذه المذاهب، ذلك لأن الكثيرين لا يعلمون شيئاً عن
كيفية نشأتها، ومن ثم فهم لا يعلمون لماذا ينبغي لهم أن يتبعوا واحداً منها. وهذا
بحث ينبغي على كل مسلم أن يتعلمه لأنه يتعلق تعلقاً وثيقاً بأساس الدين.
وسنبدأ
إن شاء الله تعالى بدراسة تاريخية للشريعة الإسلامية منذ فجر ظهورها تقريباً إلى
يومنا هذا، سائلين المولى عز وجل أن يتقبل منا عملنا المتواضع جداً بقبول حسن
¯ أدوار
تاريخ التشريع الإسلامي
ينقسم
تاريخ التشريع إلى ستة أدوار:
-1
الدور الأول: التشريع في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم
-2
الدور الثاني: التشريع في عصر كبار الصحابة (من سنة 11 إلى سنة أربعين هجرية)
-3
الدور الثالث: التشريع في عهد صغار الصحابة ومن تلقى عنهم من التابعين
-4
الدور الرابع: تدوين السنة وأصول الفقه وظهور الفقهاء الأربعة الذين اعترف الجمهور
لهم بالإمامة والاجتهاد المطلق، وأنه من اتبع واحداً منهم كان ناجياً عند الله
تعالى إن شاء الله عز وجل.
-5
الدور الخامس: القيام على المذاهب وتأييدها و شيوع المناظرة والجدل من أوائل القرن
الرابع إلى سقوط الدولة العباسية.
-6
الدور السادس: من سقوط بغداد على يد هولاكو إلى الآن وهو دور التقليد المحض.
وسنتناول في هذا
البحث إن شاء الله تعالى معالجة أهم النقاط المتعلقة بالأدوار الأربعة الأولى فقط
والتي تهمنا.
مصادر التشريع
الإسلامي
القرآن - السُنَّة
النبوية - الإجماع – القياس
التشريع
أو الفقه الإسلامي هو مجموعة الأحكام الشرعية التي أمر الله عباده بها، ومصادره
أربعة وهي التالية:
-1القرآن:
وهو
كلام الله تعالى وهو المصدر و المرجع لأحكام الفقه الإسلامي، فإذا عرضت لنا مسألة
رجعنا قبل كل شيء إلى كتاب الله عز وجل لنبحث عن حكمها فيه، فإن وجدنا فيه الحكم
أخذنا به، ولم نرجع إلى غيره. ولكن القرآن لم يقصد بآياته كل جزئيات المسائل
وتبيين أحكامها والنص عليها، وإنما نص القرآن الكريم على العقائد تفصيلاً،
والعبادات والمعاملات إجمالاً ورسم الخطوط العامة لحياة المسلمين، وجعل تفصيل ذلك
للسنة النبوية. فمثلاً: أمَرَ القرآن بالصلاة، ولم يبين كيفياتها، ولا عدد
ركعاتها. لذلك كان القرآن مرتبطاً بالسنة النبوية لتبيين تلك الخطوط العامة وتفصيل
ما فيه من المسائل المجملة.
-2السُنَّة
النبوية:
وهي
كل ما نقل عن النبي صلى الله عليه و سلم من قول أو فعل أو تقرير. وتُعَدُّ في
المنزلة الثانية بعد القرآن الكريم، شريطة أن تكون ثابتة عن الرسول صلى الله عليه
وسلم بسند صحيح، والعمل بها واجب، وهي ضرورية لفهم القرآن و العمل به.
-3الإجماع:
هو
اتفاق جميع العلماء المجتهدين من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في عصر من
العصور على حكم شرعي، فإذا اتفق هؤلاء العلماء - سواء كانوا في عصر الصحابة أو
بعدهم - على حكم من الأحكام الشرعية كان اتفاقهم هذا إجماعاً وكان العمل بما
أجمعوا عليه واجباً. ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن علماء
المسلمين لا يجتمعون على ضلالة، فما اتفقوا عليه كان حقاً.
روى
أحمد في مسنده عن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: " سألتُ الله عز وجل أن لا يَجمَعَ أمَّتي على ضلالةٍ فأعطانيها ".
والإجماع
يأتي في المرتبة الثالثة من حيث الرجوع إليه، فإذا لم نجد الحكم في القرآن، ولا في
السنة، نظرنا هل أجمع علماء المسلمين عليه، فإن وجدنا ذلك أخذنا وعملنا به.
مثاله،
إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم على أن الجد يأخذ سدس التركة مع الولد الذكر،
عند عدم وجود الأب.
-4
القياس:
وهو
إلحاق أمر ليس فيه حكم شرعي بآخر منصوص على حكمه لاتحاد العلة بينهما. وهذا القياس
نرجع إليه إذا لم نجد نصاً على حكم مسألة من المسائل في القرآن ولا في السنة ولا
في الإجماع. فالقياس إذاً في المرتبة الرابعة من حيث الرجوع إليه.
أركان
القياس أربعة: أصل مقيس عليه، وفرع مقيس، وحكم الأصل المنصوص عليه، وعلة تجمع بين
الأصل والفرع.
ودليله
قوله عز وجل: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، أي لا تجمدوا
أمام مسألة ما، بل قيسوا وقائعكم الآتية على سنَّة الله الماضية. وروى مسلم وغيره
عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران،
وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر ". وروى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة أن
معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أرسله رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم إلى
اليمن ليُعَلِّمَ الناس دينهم، فقال: يا معاذ بما تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن
لم تجد في كتاب الله ؟ قال: فبسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم
تجد؟ قال: أقيس الأمور بمشبهاتها ( وهذا هو الاجتهاد )، فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقد تهلل وجهه سروراً: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما
يرضي رسول الله، وفي رواية أخرى قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله ؟ قال: أجتهد
رأيي ولا آلو (أي أجتهد و لا أترك).
مثاله:
إن الله تعالى حرَّم الخمر بنص القرآن الكريم، و العلة في تحريمه: هي أنه مسكر
يُذهِب العقل، فإذا وجدنا شراباً آخر له اسم غير الخمر، ووجدنا هذا الشراب مسكراً
حَكَمنا بتحريمه قياساً على الخمر، لأن علة التحريم - وهي الإسكار - موجودة في هذا
الشراب؛ فيكون حراماً قياساً على الخمر.
وسيأتي
فيما يلي معالجة وتعريف وتبيان كل مصدر من هذه المصادر من خلال الحديث عن الأدوار
التي مر بها تاريخ التشريع الإسلامي.
¯ ضرورة
التزام الفقه الإسلامي، والتمسك بأحكامه:
لقد
أوجب الله تعالى على المسلمين التمسك بأحكام الفقه الإسلامي، وفرض عليهم التزامه
في كل أوجه نشاط حياتهم وعلاقاتهم. وأحكام الفقه الإسلامي كلها تستند إلى نصوص
القرآن الكريم والسُنَّة الشريفة. فإذا استباح المسلمون ترك أحكام الفقه الإسلامي،
فقد استباحوا ترك القرآن والسُنَّة، وعطَّلوا بذلك مجموع الدين الإسلامي، ولم يعد
ينفعهم أن يتسمَّوا بالمسلمين أو يدَّعوا الإيمان، لأن الإيمان في حقيقته هو
التصديق بالله تعالى، و بما أنزل في كتابه، وفي سنَّة نبيِّهِ صلى الله عليه و
سلم.
والإسلام
الحقيقي يعني الطاعة و الامتثال لكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه
عز وجل مع الإذعان والخضوع والرضا.
وأحكام
الفقه الإسلامي ثابتة لا تتغير ولا تتبدل مهما تبدَّل الزمن وتغيَّر، ولا يباح
تركها بحال من الأحوال. فشرع الله صالح لكل زمان ومكان، والأدلة من القرآن
والسنَّة كثيرة وعديدة. أما في الكتاب، فقد قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}
[الأعراف:3]. {فَلَا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. {وَمَا
آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، [الحشر: 7]. {وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ
يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
و
أما في السنة فالأحاديث كثيرة أيضاً منها:
-
ما رواه البخاري و مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه و سلم: " من أطاعني فقد أطاع الله، و من عصاني فقد عصى الله ".
-
ما رواه أبو داود و الترمذي قوله صلى الله عليه و سلم: " عليكم بسُنَّتي
".
وبناءً
على هذه النصوص يُعَدُّ من يختار من الأحكام غير ما اختاره الله ورسوله، قد ضلَّ ضلالاً
بعيداً، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
-1الدور
الأول
التشريع
في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم
الكتاب
و السنة:
من
المعلوم أنَّ أهم مصدرين من مصادر الشريعة الإسلامية هما كتاب الله عز وجل وسنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهما المصدران الأساسيان للتشريع الإسلامي وسائر
أحكام الإسلام. ولكن في الحقيقة هناك مصدر أساسي واحد لا ثاني له للشريعة
الإسلامية ألا وهو القرآن الكريم، ولكن لما أمرنا الله عز وجل أن نتَّخذ من كلام
رسول الله صلى الله عليه وسلم شارحاً ومبيِّناً ومفصِّلاً لكتابه الكريم، كانت
السنة النبوية بأمر القرآن المصدر الثاني للتشريع. لقد أمرنا الله تعالى أن نطيع
الرسول عليه الصلاة و السلام في ما أخبر وأن نعتمد على شرحه في غوامض كتاب الله، فطاعتنا
لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي فرع من طاعة الله عز وجل. قال تعالى:
{مَنْ
يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}. [النساء: 80] {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَاحْذَرُوا} [المائدة: 92] {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا
لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 64]
إذاً
فالشريعة الإسلامية في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، كانت تعتمد اعتماداً فعلياً
على مصدرين فقط هما القرآن والسنة، أما الإجماع والقياس فلم يكن لهما وجود في ذاك
العصر لأن القياس يُلجَأ إليه عند وجود مسألة لا نص فيها، وما دام رسول الله صلى
الله عليه وسلم حياً فالنص مستمر ولا إشكال وحتى لو أنَّ النبي عليه الصلاة
والسلام قاس أو اجتهد فلا بد أن يتحول هذا الاجتهاد إلى نص. وتفصيل ذلك أنه إذا
اجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة فإما أن يقره الله تعالى عليها فتصبح
نصاً حينئذ أو أن يصوب الله تعالى له فيكون نصاً أيضاً.
-1القرآن
أ
- تعريفه:
هو كلام الله تعالى القديم، المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،
المُتَعَبَّد بتلاوته، المبتدأ بـ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين
والمختتم بسورة الناس. والقرآن الكريم هو وحي من الله تعالى للنبي صلى الله تعالى
عليه وسلم باللفظ والمعنى.
ب-
الفرق بينه وبين الحديث النبوي والحديث القدسي:
لكي
نعرف الفرق بين القرآن وبين الحديث القدسي والحديث النبوي، نعطي التعريفين
الآتيين:
-
الحديث النبوي: هو ما أُضيفَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير
أو صفة خَلقيَّة أو خُلُقيَّة.
مثال
القول: قوله عليه الصلاة و السلام: "إنما الأعمال بالنيات…"، جزء من
حديث رواه البخاري ومسلم.
مثال
الفعل: قول عائشة رضي الله عنها في صفة صوم النبي صلى الله عليه وسلم: " كان
يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم ". وكالذي ثبت من تعليمه
لأصحابه كيفية الصلاة ثم قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي " رواه البخاري.
مثال
الإقرار: كأن يقر أمراً عَلِمَه عن أحد الصحابة من قول أو فعل، سواء أكان ذلك في
حضرته صلى الله عليه و سلم، أم في غيبته ثم بلغه، ومن أمثلته: " أكل الضب على
مائدته صلى الله عليه وسلم "، فأقرهم على أكله - وهذا دليل الشافعية على جواز
أكل الضب -ولم ينكر عليهم ذلك إذ يستحيل أن يرى معصية ولا ينكرها أو يسكت عنها.
فائدة:
إذا فعل إنسان طاعة و سكت عنها النبي صلى الله عليه وسلم، دل ذلك على استحبابها
فضلاً عن جوازها، لأنه لا يجوز لأحد أن يختلق طاعة ما ليتعبَّد الله بها، فليس
للعبد أن يتعبَّد له بأمر لم يأمره به جل وعلا، من هنا كان عدم صحة وجواز النذر
إلا فيما كان من جنسه طاعة أو واجب، فمن نذر أن يشرب كوب ماء مثلاً، لا يصح نذره
وبالتالي لا يلزمه الوفاء به.
مثال
الصفة: ما رُوِيَ: من أنه صلى الله عليه وسلم، كان دائم البِشر، سهل الخلق ...
"، رواه البخاري و مسلم.
-
الحديث القدسي: هو ما يضيفه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى: أي أنَّ
النبي صلى الله عليه وسلم يرويه على أنه من كلام الله، فالرسول عليه الصلاة و
السلام راوٍ لكلام الله بلفظ من عنده. فالحديث القدسي معناه وحي من عند الله عز
وجل و لفظه من عند النبي صلى الله عليه وسلم.
مثال
الحديث القدسي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز و جل:
" إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرماً ".
و
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله
تعالى:
"
أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ...
"، أخرجه البخاري و مسلم.
إذاً
فالحديث القدسي هو حديث تلقى الرسول صلى الله عليه وسلم مضمونه من الوحي فبيَّنه
للناس بكلامه ولفظه أي أوحى الله تعالى له بالمعنى والرسول صلى الله تعالى عليه
وسلم صاغ هذا المعنى بعبارته.
الفرق
بين القرآن و الحديث النبوي: هناك فروق عدة أهمها:
-1
أنَّ القرآن الكريم كلام الله أوحى به تبارك وتعالى إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بلفظه ومعناه، وتحدى به العرب الفصحاء والجن والإنس ولو كان بعضهم لبعض
ظهيرا، فعجزوا عن أن يأتوا بمثله، أو بعشر سوَر مثله، أو بسورة من مثله، ولا يزال
التحدي قائماً، فهو معجزة خالدة إلى يوم الدين. أما الحديث لم يقع به التحدي و
الإعجاز. إعجاز السُنَّة لا يضاهي إعجاز القرآن رغم أنَّ السنة تُعتَبر من أفصح
كلام العرب حيث ورد في الحديث الشريف أنه صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم،
إلا أنها تأتي بالمرتبة الثانية بعد القرآن.
-2
القرآن الكريم جميعه منقول بالتواتر، فهو قطعي الثبوت، والأحاديث أكثرها ظنية
الثبوت أما الأحاديث المتواترة فهي قطعية الثبوت.
فائدة:
كون الحديث قدسياً لا يعني أنه متواتر أو صحيح، إذ لا علاقة بين كونه قدسياً وبين
درجته، فقد يكون الحديث القدسي صحيحاً، و قد يكون حسناً، وقد يكون ضعيفاً أو حتى
موضوعاً، ذلك لأن الحكم على الحديث من حيث الصحة أو الضعف إنما يكون على السند
الذي وصل به إلينا.
-3
القرآن من عند الله لفظاً ومعنى، فهو وحي باللفظ والمعنى، أما الحديث فمعناه من
عند الله و لفظه من عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو وحي بالمعنى دون اللفظ.
-4
القرآن نتعبَّد الله بتلاوته، فهو الذي تتعين القراءة به في الصلاة، أما الحديث
فلا تجزىء قراءته في الصلاة.
ج
- نزول القرآن الكريم:
الراجح
أنَّ القرآن له تنزلان:
الأول:
نزوله جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ في السماء السابعة إلى بيت العزة
في السماء الدنيا. يقول الله تعالى في كتابه العزيز مبيناً هذا المعنى:
{شَهْرُ
رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ
الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
وقال
جل وعلا: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ
* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3-4]، أي في ليلة القدر وليست
ليلة النصف من شعبان كما يعتقد كثير من عامة الناس .
وقال
تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1].
الثاني:
نزوله من السماء الدنيا إلى الأرض مفرَّقاً منجماً في ثلاث وعشرين سنة.
يقول
الله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ
وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلا} [الإسراء: 106].
{تَنزِيلُ
الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية: 2].
هذه
الآيات وكثير غيرها، تفيد أنَّ جبريل عليه السلام نزل به على قلب رسول الله صلى
الله عليه و سلم، وأنَّ هذا النزول غير النزول الأول إلى السماء الدنيا فالمراد به
نزوله منجَّماً أي على دفعات، ويدل التعبير بلفظ التنزيل دون الإنزال على أنَّ
المقصود النزول على سبيل التدرج، فالتنزيل لما نزل مفرقاً والإنزال أعم يفيد
النزول دفعة واحدة كما كان حال التوراة و الإنجيل، قال تعالى: {الم * اللَّهُ لا
إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ
قَبْلُ} [ آل عمران: 1- 4].
وقد
نزل القرآن منجَّماً في ثلاث وعشرين سنة منها ثلاث عشرة سنة بمكة على الرأي
الراجح، وعشر بالمدينة، وكان ينزل بحسب الوقائع والأحداث خمس آيات وعشر آيات وأكثر
أو أقل.
¯ الحكمة
من نزوله منجَّماً:
-1
تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتكريمه بإنزال الوحي علي مراراً وتكراراً.
قال تعالى: {كذلك لنثبِّت به فؤادك ورتلناه ترتيلا}، [الفرقان: 32 ].
قال
السخاوي: " في نزوله إلى السماء جملة تكريم بني آدم وتعظيم شأنهم عند
الملائكة وتعريفهم عناية الله بهم، ورحمته لهم، و لهذا المعنى أمر سبعين ألفاً من
الملائكة أن تشيع سورة الأنعام، و زاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل بإملائه
على السفرة الكرام، وإنساخهم إياه، وتلاوتهم له ".
-2
التحدي والإعجاز.
-3
تيسير حفظه وفهمه وتدبر معانيه والوقوف عند أحكامه.
-4
مراعاة حال المخاطَبين بالوحي وعدم مفاجأتهم بما لا عهد لهم به ومسايرة الحوادث
والتدرج في التشريع.
وأوضح
مثال على ذلك، التدرج في تحريم الخمر: فقد نزل قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ
النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا}،
[النحل: 67 ] أشارت الآية إشارة خفية إلى أن الخمر ليس رزقاً أي لا ينتفع به. ثم
نزل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، ثم نزل قوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:
43]، ثم قال تبارك وتعالى مُصَرِّحاً بالنهي والتحريم القاطع في سورة المائدة:
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ
وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
-5
الدلالة القاطعة على أنَّ القرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد، إذ لو كان من كلام
البشر لوقع فيه التفكك و الانفصام و استعصى أن يكون بينه التوافق والإنسجام، يقول
تعالى:
{وَلَوْ
كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:
82 ]. فأحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم -وهي ذروة الفصاحة و البلاغة بعد
القرآن الكريم- لا تنتظم حباتها في كتاب واحد سلس العبارة، دقيق السبك، مترابط
المعاني، رصين الأسلوب ومتناسق الآيات والسوَر.
د-
نزول القرآن على سبعة أحرف:
لقد
كان للعرب لهجات شتى، فكل قبيلة لها من اللحن في كثير من الكلمات ما ليس للآخرين،
إلا أنَّ قريشاً من بين العرب قد تهيَّأت لها عوامل جعلت للغتها الصدارة بين فروع
العربية الأخرى، فكان طبيعياً أن يتنزَّل القرآن بلغة قريش تأليفاً للعرب وتحقيقاً
لإعجاز القرآن.
أخرج
أبو داود من طريق كعب الأنصاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى ابن مسعود
رضي الله عنه: " إنَّ القرآن نزل بلسان قريش، فأقرِىء الناس بلغة قري…".
لقد
كان واضحاً لكبار الصحابة رضوان الله عليهم أنَّ القرآن إنما نزل بلسان قريش قوم
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك حكم جليلة أهمها:
-1
أنَّ قريشاً هم قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جرت سُنَّة الله في رسله أن
يبعثهم بألسنة أقوامهم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا
بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ...} [إبراهيم: 4].
-2
أنه عليه الصلاة والسلام قد أُمِرَ بتبليغهم الرسالة أولاً، قال تعالى: {وَأَنذِرْ
عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]. فلا بد من مخاطبتهم بما يألفون
ويعرفون لِيَستبين لهم أمر دينهم. فأنزل الله القرآن بلغتهم و أساليبهم التي
يفضلونها في مستوى رفيع من البلاغة لا يجارى.
-3
إنَّ لغة قريش هي أفصح اللغات العربية وهي تشمل معظم هذه اللغات لاختلاط قريش
بالقبائل و لاحتوائها الجَيِّد الفصيح من لغاتها.
و
إذا كان العرب تتفاوت لهجاتهم في المعنى الواحد بوجه من وجوه التفاوت، فكان لا بد
للقرآن أن يكون مستجمعاً وشاملاً لهذه اللهجات مما ييسر على العرب القراءة والحفظ
والفهم. ونصوص السنّة قد تواترت بأحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف.
عن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " سمعتُ هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في
حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاستمعتُ لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة
لم يُقرِئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكدتُ أساوره في الصلاة. فتصبَّرتُ
حتى سلَّم فلبَّبته بردائه فقلت من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ، قال:
أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلتُ له كذبتَ، أقرأنيها على غير ما
قرأتَ. فانطلقتُ به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلتُ: إني سمعتُ هذا
يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تُقرِئنيها. فقال: أرسِلهُ. اقرأ يا هشام، فقرا
القراءة التي سمعتُه.
فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلك أُنزِلَت. ثم قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: اقرأ يا عمر. فقرأتُ التي أقرأني فقال: كذلك أُنزِلَت. إنَّ هذا القرآن
أُنزِلَ على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسَّر منه "، رواه البخاري ومسلم وأبو
داود والنسائي والترمذي وأحمد وابن جرير.
قوله:
" فكدتُ اساوِرُهُ في الصلاة ": أي أُواثِبُه وأقاتِلُهُ ، وقال النووي:
أي أُعاجِلُهُ وأُواثِبُهُ.
قوله:
" فلبَّبتُهُ بردائه ": أي جمعتُ عليه ثوبه عند لُبَّتِهِ وجررته به
لئلا يتفلت مني. واللبة: الهُزمة التي فوق الصدر، وفيها تُنحَر الإبل.
قوله:
" كذَبتَ ": أي أخطأتَ، لأن أهل الحجاز يُطلقون الكذب في موضع الخطأ.
وسبب
تخطئة عمر كان بسبب رسوخ قدمه في الإسلام بخلاف هشام فإنه كان قريب العهد بالإسلام
فخشي عمر من ذلك أن لا يكون أتقن القراءة، بخلاف نفسه فإنه أتقن ما سمع، وكان سبب
اختلاف قراءتهما أن عمر حفظ هذه السورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قديماً،
ثم لم يسمع ما أُنزِلَ فيها بخلاف ما حفظه وشاهده ولأن النبي صلى الله عليه و سلم
اقرأ هشاماً على ما نزل أخيراً فنشأ اختلافهما من ذلك. ومبادرة عمر للإنكار محمولة
على أنه لم يكن سمع حديث أُنزِلَ القرآن على سبعة أحرف إلا في هذه الحادثة.
يفيد
هذا الحديث أنَّ النزاع بين الصحابيين الجليلين راجع إلى كيفية تلاوة القرآن، لا
إلى تفسيره وبيان معانيه و هذا يبرهن على أنَّ القرآن يُقرأُ بأكثر من وجه. وهذه
الأوجه التي أُنزِلَ عليها القرآن ليست من لغة واحدة بل هي من عدة لغات عربية كلها
توقيفية أي أوحِيَ بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى
مسلم في صحيحه عن أُبي بن كعب قوله رضي الله عنه: " كنتُ في المسجد فدخل رجل
يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه. ثم دخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا
الصلاة دخلنا جميعاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ققلتُ: إن هذا قرأ قراءة
أنكرتها عليه. ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه. فأمرهما رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقرآ. فحسَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما. فسقط في نفسي من التكذيب ولا
إذ كنتُ في الجاهلية. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضربَ في
صدري ففضتُ عرقاً وكأني أنظر إلى الله عز وجل فرقاً، فقال لي:
يا
أبي أُرسِلَ إليَّ أن اقرأ القرآن على حرف فرددتُ إليه أن هوِّن على أمَّتي فردَّ
إليَّ الثانية اقرأه على حرفين. فرددتُ إليه أن هوِّن على أُمَّتي. فردَّ إليَّ
الثالثة: اقرأه على سبعة أحرف، فلك بكل ردة ردتتها مسألة تسألينها فقلتُ: اللهم
اغفر لأمَّتي. اللهم اغفر لأمَّتي، و أخَّرتُ الثالثة ليوم يرغب إليَّ الخلقُ كلهم
حتى إبراهيم صلى الله عليه و سلم ".
يتبيَّن
من ذلك أن كل حرف من الأحرف السبعة تنزيل من حكيم حميد. وقد يتساءل المرء عن كلام
الله تعالى كيف يُقرأ على سبعة أوجه ..؟ وقد تعتريه الدهشة ويختلجه الشك بإثارة
الشيطان وساوسه في نفسه ليكدر صفو إيمانها، ويوهن من قوة يقينها بالله ورسوله
وكتابه.
و
في هذا الحديث معالجة عملية لمثل هذه الحالة النفسية الدقيقة الحرجة . فالرسول
صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله يباشر بنفسه القيام بهذه المداواة.
فلقد
ضرب في صدر الصحابي الجليل ضربة نبويَّة قطع بها دابر الشك الوافد قبل استقراره
وتمكنه، فأخذ على الشيطان سبيله إلى قلب أبيّ، ثم أتبع ذلك ببيان يُثلِج الصدر
ببرد اليقين، ويفعم القلب بنور الأيمان، أعلا مراتب الأيمان " اعبد الله كأنك
تراه " مما جعل أُبياً يرى نفسه كماثل أمام الحضرة الإلهية، فغشيه شعور عظيم
بالمهابة و الحياء من الله، ويروعه ما كاد ينزلق فيه بعد إذ هداه الله من ضلال أشد
من ضلال الجاهلية، فانتابه إحساس قوي بالخجل والوجل فلاذ بالإذعان لمشيئة الله
وحكمته البالغة التي قضت بإنزال القرآن على سبعة أحرف.
¯ ما
المراد بالأحرف السبعة ؟
اختلف
العلماء في المراد بالأحرف السبعة، وتشعبت أقوالهم، وتعددت، و لكننا سنورد أرجح
الأقوال وهو قول محمد بن الجزري في بيان المراد بحديث أُنزِلَ القرآن على سبعة
أحرف.
قال
ابن الجزري: لا زلتُ أستشكل هذا الحديث وأفكر فيه وأمعن النظر من نيف وثلاثين سنة،
حتى فتح الله عليّ بما يمكن أن يكون صواباً إن شاء الله.
ذلك
أني تتبَّعتُ القراءات صحيحها و شاذها و ضعيفها ومنكرها فإذا هو يرجع اختلافها إلى
سبعة أوجه من الاختلاف لا يخرج عنها وذلك:
أولاً:
الاختلاف في الحركات بلا تغير في المعنى و الصورة:
نحو:
( البخل ) بأربعة أوجه و ( يحسب ) بوجهين.
ثانياً:
الاختلاف في الحركات بتغير المعنى فقط: نحو: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ
كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37]، وقُرِءى بنصب " آدمُ " ورفع " كلمات
": {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ}.
ثالثاً:
الاختلاف في الحروف بتغير المعنى لا الصورة: نحو: ( تبلو ) و ( تتلو ) و (ننجيك
ببدنك ) و ( ينجيك ببدنك ).
رابعاً:
الاختلاف في الحروف بتغير الصورة لا المعنى: نحو: ( بصطة و بسطة ) ونحو ( الصراط و
السراط ).
خامساً:
الاختلاف في الحروف بتغير الصورة و المعنى: نحو: ( فامضوا ، فاسعوا ).
سادساً:
الاختلاف في التقديم والتأخير: نحو: ( فيَقتُلون و يُقتَلون )، قُرءى ( فيُقتَلون
و يَقتُلون ).
سابعاً:
الاختلاف في الزيادة والنقصان: نحو: ( أوصى، ووصى ).
قال
ابن الجزري: فهذه سبعة لا يخرج الاختلاف عنها.
و
هنا لا بد من التوضيح بأن كل كلام الله المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
منسجم يؤكد بعضه بعضاً ، ويفسر بعضه الآخر، لا تصادم بين نصوصه ولا تنافي بين
مدلولاته.
قال
تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82 ]. و هذه الحقيقة
تنطبق على القرآن في قراءاته على حرف أو على السبعة بمجموعها. فإنها جميعاً لا
تخرج في تفاوتها إلى تصادم النصوص أو تنافي المدلولات، بل التوسعة بالأحرف السبعة
لا تُحلُّ حراماً ولا تُحرم حلالاً. قال ابن شهاب الزهري: " بلغني أن تلك
السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الذي يكون واحداً، لا يختلف في حلال ولا حرام
".
وحكى
ابن عطية انعقاد الإجماع على ذلك: " فالإجماع أن التوسعة لم تقع في تحريم
حلال، ولا في تحليل حرام، ولا في تغيير شيء من المعاني المذكورة ".
¯ حكمة
نزول القرآن على سبعة أحرف:
-1
تيسير القراءة والحفظ والتخفيف على العباد والتسهيل عليهم ومراعاة حال العرب في
اختلاف ألسنتهم.
-2
مزيد الإعجاز اللغوي في القرآن.
-3
الإعجاز في المعاني و الأحكام ذلك أن حكماً فقهياً معيناً أو معنى جديداً يُفهم من
قراءة أخرى كقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى
فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}
[البقرة: 222]، وفي قراءة {حتى يطّهرن}، فأفادت القراءة الثانية عدم جواز أن
مجامعة الرجل زوجته إذا طهرت من حيضها حتى تغتسل.
-4
توحيد لغات العرب. فلقد نزل القرآن بلسان قريش أولاً، ثم اُنزلَت الحروف لِتُسَهِّلَ
تلاوته للعرب قاطبة على اختلاف لغاتهم، لأن الحروف قد راعت تفاوت اللغات في
الألفاظ التي يُحرج العرب النطق بها كونها قرشية.
-5
الأحرف السبعة خصيصة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. قال الإمام ابن الجزري مفصلاً
حكم إنزال القرآن على سبعة أحرف: " ومنها إعظام أجور هذه الأمة من حيث إنهم
يفرغون جهدهم ليبلغوا قصدهم في تتبع معاني ذلك واستنباط الحكم و الأحكام من دلالة
كللفظ… ومنها بيان فضل هذه الأمة وشرفها على سائر الأمم، من حيث تلقيهم كتاب ربهم
هذا التلقي وإقبالهم عليه والبحث عنه لفظة لفظة والكشف عنه صيغة صيغة، فلم يهملوا
تحريكاً ولا تسكيناً و لا تفخيماً ولا ترقيقاً … مما لم يهتد إليه فكر أمة من
الأمم.
الأحرف
السبعة مزية للقرآن على الكتب السماوية: قال الطبري في شرح حديث الأحرف السبعة:
" ومعنى ذلك كله ، الخبر منه صلى الله عليه وسلم عما خصه الله تعالى به وأمته
من الفضيلة والكرامة التي لم يُؤتها أحداً في تنزيله. وذلك أن كل كتاب تقدم
كتابَنا نزوله على نبي من أنبياء الله، صلوات الله عليهم، فإنما نزل بلسان واحد،
متى حُول إلى غير اللسان الذي نزل به كان ذلك له ترجمة و تفسيراً لا تلاوة له على
ما أنزله الله … ومنها ظهور سر الله تعالى في توليه حفظ كتابه العزيز وصيانة كلامه
المنزل بأوفى البيان والتمييز .. ".
ونشير
هنا إلى أن الأحرف السبعة لا تعني القراءات السبعة بل تعني سبعة أوجه في الخلاف
وقد وصل إلينا عشرة قراءات متواترة لكتاب الله تعالى. القراءات هي اختلاف ألفاظ
الوحي في كتابة الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتثقيل و غيرهما. وقد عرَّف ابن الجزري
القراءات بقوله: " علم القراءات، علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها حسب
ناقليها ".
ه-
جمع القرآن و ترتيبه:
كلمة
جمع تأتي بمعنيين:
المعنى
الأول: بمعنى حفظه و منه يقال جُمَّاع القرآن أي حُفَّاظه، و هذا المعنى هو الذي
ورد في قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17] ذلك أنه
كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجهد نفسه ويردد وراء جبريل حين كان ينزل
عليه بالوحي خشية أن لا يحفظ ما اُنزِلَ عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية تطميناً
للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتثبيتاً لفؤاده حيث أوضحت الآية الكريمة أن الله
سبحانه وتعالى قد تعهد بتحفيظه إياه وعدم نسيانه وتفهيمه معناه. المعنى الثاني،
جمع القرآن بمعنى كتابته كله في صحيفة واحدة بين دفتي كتاب.
-1
جمع القرآن بمعنى حِفظِه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم مولعاً بالوحي، يترقَّب نزوله بشوق، فما من آية تنزل
إلا و يدعو ثلة من أصحابه، اختارهم لكتابة الوحي، فيأمرهم بكتابة ما نزل. وكان
كلما نزلت آية حُفِظَت في الصدور ووعتها القلوب. وقد اتخذ النبي عليه الصلاة
والسلام كتَّاباً للوحي منهم: الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل
وزيد بن ثابت وأبي بن كعب و خالد بن الوليد وغيرهم رضي الله عنهم. وهكذا كان
القرآن يُكتَب آية فآية ومَقْطَعَاً فمقطعاً. ولم يكن ترتيبه حسب ترتيب النزول بل
كان سيدنا جبريل يقول للمصطفى عليه الصلاة والسلام إنَّ الله يأمرك أن تضع هذه
الآية على رأس كذا آية من سورة كذا، فيأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كُتَّاب
الوحي بوضع هذه الآية في ذلك المكان. وعندما نزلت آخر آية -على الرأي الذي رجَّحه
كثير من علماء الحديث- وهي قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ
إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}
[البقرة: 281]، قال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ضع هذه الآية على رأس
مئتين وواحد وثمانين آية من سورة البقرة بين آيتي الربا والدَّين. وهكذا تكامل
نزول القرآن كله، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بتسع ليالٍ. وكان
صلى الله عليه وسلم يعرض على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده من كتاب الله، وقد
عرضه كله مرتين عليه في نفس السنة التي توفي فيها صلى الله تعالى عليه و سلم.
إذاً
القرآن كان يُكتَب من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة يخطّونه على
جريد النخل وصفائح الحجارة ورقاع الجلد ... وهذا يدل على مدى المشقة التي كانوا
يتحملوها في الكتابة حيث لم تتيسر لهم أدوات الكتابة إلا بهذه الوسائل. ولم تكن
هذه الكتابة في عهد النبي صلى الله عيه وسلم مجتمعة في مصحف عام، ولم يجمع الرسول
صلى الله عليه و سلم القرآن بين دفتي كتاب في حياته لأن إمكان نزول الوحي كان
مستمراً كما أنَّ إمكان نسخ بعض الآيات كان مستمراً. وقُبِضَ النبي عليه الصلاة و
السلام والقرآن محفوظ في الصدور ومكتوب على نحو ما سبق، بالأحرف السبعة التي
أُنزِلَ عليها، وهذا ما يسمى بالجمع الأول (حفظاً وكتابةً).
-2
ترتيب الآيات والسور:
إنَّ
ترتيب الآيات و السور في القرآن الكريم توقيفي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
عن جبريل عليه السلام عن رب العزة سبحانه وتعالى وهذا بإجماع العلماء، فقد كان
جبريل عليه السلام يتنزل بالآيات ويرشد إلى موضعها من السورة أو الآيات التي نزلت
قبل، فيأمر الرسول صلى الله عليه وسلم كتبة الوحي بكتابتها في موضعها. أخرج الحاكم
في المستدرك بسند على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت أنه قال: " كنا عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع" (أي كنا نرتب الآيات و السور
وفق إشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم).
-2الحديث
¯ كتابة
الحديث في عهد النبي صلى الله عليه و سلم :
من
المتفق عليه أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام منع أصحابه من كتابة غير القرآن في
أول عهد النبوة خلال ثلاث سنوات أو تزيد قليلاً، و قد صح عنه عليه الصلاة والسلام
أنه قال لأصحابه: " لا تكتبوا عني غير القرآن ومن كتب عني فليمحه ".
ولكن الأمر اختلف فيما بعد حيث سمح لهم بعد ذلك بالكتابة. لكن تُرى ما الحكمة في
ذلك؟.
السبب
أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خشي في أول الأمر أن يلتبس على الناس أسلوب القرآن
بأسلوب الحديث فيختلط عليهم هذا بذاك فيكتبون حديثاً وهم يظنونه قرآناً أو يكتبون
آية و هم يظنونها حديثاً وهذا احتمال وارد جداً، لأن الصحابة لم يتعرفوا بعد على
القرآن تعرفاً تاماً ولم يتذوقوه تذوقاً يجعلهم يفرِّقون بينه و بين غيره من
أحاديث النبي عليه الصلاة و السلام.
فلما
نزل قسط كبير من القرآن، وتعرفوا إلى أصوله و خصائصه، أذِنَ لهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن يكتبوا الحديث. ولقد صح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنَّ
بعضاً من الصحابة نهى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن يكتب عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم الحديث وقال إنَّ رسول الله بشر وهو ينطق بالغضب والرضى فلا تكتب
إلا القرآن، فذهب وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال له: " أُكتُب،
فوالله لا يخرج منه -وأشار إلى فمه- إلا الحق ". كما ورد أيضاً عن أبي هريرة
رضي الله عنه أنه قال: " لم يكن أحد من الصحابة أكثر مني حديثاً عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من شأن عبد الله ابن عمر فإنه كان يكتب ولم أكن
أكتب ". إذاً قِسطٌ يسير من حياة النبي عليه الصلاة والسلام بعد البعثة،
الحديث لم يكن يُكتَب فيه والقسط الأكبر كان يُكتب على قطع متفرقة من الصحف
والأوراق ونحو ذلك ولم يُدَوَّن - أي لم يُجمع بين دفتي كتاب - لا في حياته ولا
بعد وفاته عليه الصلاة والسلام إلا في ما بعد أواخر عصر التابعين - كما سوف نرى -
على يد أبي بكر ابن حزم رضي الله عنه ومن ثم باقي العلماء من بعده بأمر من عمر بن
عبد العزيز ثم باقي العلماء من بعده كالإمام مالك وأحمد و غيرهم.
¯ فائدة:
الفرق بين الكتابة و التدوين:
الكتابة
هي أن يكتب الإنسان ما يريد كتابته في أوراق متفرقة دون ضمٍ بين دفتَيّ كتاب، وهذا
ما يسمى بالكتابة المطلقة. أما التدوين فهو جمع ما يراد كتابته مرتباً بين غلافين
في كتاب واحد.
من
هنا كان خلط المستشرقين بين الكتابة والتدوين، لجهلهم باللغة العربية - إن حسنَّا
الظن بهم- فقالوا إنَّ الحديث لم يُكتَب إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
وانقراض عصر الصحابة والحقيقة أنَّ الحديث كُتِبَ ولكنه لم يُدَوَّن أي لم يُجمَع
بين دفتي كتاب. ولقد كان عند سيدنا علي رضي الله عنه صحيفة تسمى " الصحيفة
الصادقة " ولكنها ليست صحيفة واحدة فقد كان مكتوب فيها مجموعة أحاديث متفرقة،
وكثيرون آخرون من الصحابة كانوا يكتبون أيضاً.
-2
الدور الثاني
التشريع في عصر كبار
الصحابة
الكتاب
و السنة في الدور الثاني:
توفي
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تكامل القرآن نزولاً ولكنه لم يُجمَع في مصحف
واحد بين دفتي كتاب، بل كان محفوظاً في صدور الحُفَّاظ وصحف كتَّاب الوحي، وكان
عدد الحفاظ في العهد النبوي كثيراً جداً. وكان قد وعى كثير من الصحابة حديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم، بعضهم في الصدور كأبي هريرة، وبعضهم في الكتابة في
السطور لا تدويناً. وتولى أبو بكر رضي الله عنه الخلافة ولا يزال التشريع يعتمد
على مصدرين أساسيين هما القرآن والسنة، وسنتكلم أولاً عن القرآن وما طرأ عليه من
جديد.
أ-القرآن
الكريم في عهد أبي بكر رضي الله عنه
حصل
في أول عهد أبي بكر رضي الله عنه ما دفعه إلى وجوب جمع القرآن كله في مصحف ذلك أنه
واجهته أحداث جسام في ارتداد جمهرة العرب، فجهز الجيوش لحروب المرتدين، وكانت غزوة
أهل اليمامة سنة 12 للهجرة تضم عدداً كبيراً من الصحابة القرَّاء، فاستشهد في هذه
الغزوة سبعون قارئاً (أي حافظاً) من الصحابة، فهال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله
عنه، فدخل على أبي بكر وأشار عليه بجمع القرآن وكتابته بين دفتي كتاب خشية الضياع
بسبب وفاة الحفاظ في المعارك. ولكن أبا بكر نفر من هذه الفكرة وكَبُر عليه أن يفعل
ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظل عمر يراوده حتى شرح الله تعالى صدر
أبي بكر لهذا الأمر، فأرسل إلى زيد بن ثابت لمكانته في القراءة والكتابة والفهم
والعقل، ولأنه كان صاحب العرضة الأخيرة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أي
كان آخر الصحابة الذين قرأوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كاملاً وقال
صلى الله تعالى عليه وسلم: " خذوا عنه القرآن " أو بما معناه، وقصَّ
عليه قول عمر رضي الله عنه. نفر زيد من ذلك كما نفر أبو بكر الذي ظل يراجعه حتى
شرح الله تعالى صدره لذلك. و يروي زيد بن ثابت فيقول: " قال أبو بكر: إنك شاب
عاقل لا نتهمك، وقد كنتَ تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبَّع
القرآن فاجمعه. يقول زيد: " فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل
مما أمرني به من جمع القرآن "، وقال لأبي بكر: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله
رسول الله صلى الله عليه و سلم؟
قال:
هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر
أبي بكر و عمر، فتتبَّعتُ القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، ووجدتُ آخر
سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري. لم أجدها مع غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ
مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى
توفاه الله ، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر ". وكان زيد بن ثابت لا
يكتفي بالحفظ دون الكتابة، وقوله أنه لم يجد آخر سورة التوبة إلا عند أبي خزيمة الأنصاري
لا يعني أنها ليست متواترة، وإنما المراد أنه لم يجدها مكتوبة عند غيره، وكان زيد
يحفظها، وكان كثير من الصحابة يحفظونها كذلك، ولكنَّ زيداً كان يعتمد على الحفظ
والكتابة معاً، فكان لا يكتب الآية حتى يأتيه اثنان من الصحابة حفظا هذه الآية من
فم النبي صلى الله تعالى عليه و سلم، واثنان آخران كتباها بين يدي النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم و لا يكتفي بمن كتب ولكن ليس بين يدي المصطفى صلى الله تعالى عليه
وسلم، و هذا شرط لا بد منه حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه كان أمِّياً
وبقي أمِّياً حتى توفي و لكنه كان يصوِّب ويصحح لكتبة الوحي الذين يكتبون بين يديه
إذا أخطأوا وهذا من معجزاته صلى الله تعالى عليه و سلم. وهنا يظهر لنا شدة حرص زيد
بن ثابت رضي الله عنه ومبالغته في الاحتياط. أخرج ابن أبي داود من طريق هشام بن
عروة عن أبيه أنَّ أبا بكر قال لعمر ولزيد: " اقعدا على باب المسجد فمن
جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه ". وفسر الجمهور أنَّ المقصود
شاهدين عدلين في الكتابة وشاهدين عدلين في الحفظ.
قال
السخاوي: " المراد أنهما يشهدان على أنَّ ذلك المكتوب كُتِبَ بين يدي رسول
الله صلى الله عليه و سلم ".
وقال
أبو شامة: " وكان غرضهم أن لا يُكتَب إلا من عين ما كُتِبَ بين يدي رسول الله
صلى الله عليه وسلم، لا من مجرد الحفظ ... ". والذي يظهر أنَّ أبو خزيمة
الأنصاري شهادته بشهادة رجلين ولذلك أخذ منه زيد بن ثابت. ولعله جاء بعد أبي خزيمة
من عنده هذه الآية مكتوبة بين يدي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولكن زيداً كان
قد اكتفى بأبي خزيمة لأن شهادته بشهادتين كما ذكرنا وذلك لأنه كان لأحد من اليهود
دَيْنٌ على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أدّاه له، فجاءه اليهودي يوماً
وأخذ يوبخ رسول الله عليه الصلاة والسلام ويعَيِّره ويتهمه بأنه أخر سداد دَينه
فأخبره عليه الصلاة والسلام أنه أدّى له الدَّين، ولكن اليهودي أنكر، فقال صلى
الله تعالى عليه وسلم من يشهد لي؟ فقام أبو خزيمة فشهد له. فقال له صلى الله تعالى
عليه و سلم: كيف تشهد لي على شيء لم تره؟ (أي إنك ما رأيتني حين سددت دَين ذلك
اليهودي)، فقال أبو خزيمة: يا رسول الله أصدقك بخبر السماء أفلا أشهد لك على هذا!
فقال
صلى الله تعالى عليه وسلم: شهادة أبي خزيمة بشهادتين. فكان أحد من الصحابة إذا
أراد نكاحاً أو معاملة أتى بأبي خزيمة الذي كان يكفي عن شاهدَين. وقد تم جمع
القرآن كله بين دفتي كتاب خلال سنة واحدة تقريباً أي بعد سنة من وفاة النبي صلى
الله عليه و سلم، فكان أبو بكر رضي الله عنه أول من جمعه بهذه الصفة في مصحف واحد
مرتب الآيات والسور مشتملاً على الأحرف السبعة التي نزل بها، ويرى بعض العلماء
أنَّ تسمية القرآن بالمصحف نشأت منذ ذلك الحين، وهذا الجمع هو المسمى "بالجمع
الثاني". وقد ظفر مصحف أبي بكر بإجماع الأمة عليه وتواتر ما فيه. وبعد وفاة
أبي بكر رضي الله عنه، إنتقلت هذه الصحف أو الأوراق المُجمَّعة إلى بيت سيدنا عمر
طوال فترة خلافته، و لما توفي أصبحت هذه الأوراق عند ابنته حفصة رضي الله عنها.
ســؤال:
لماذا كانت هذه الصحف عند حفصة بعد عمر لا عند عثمان بن عفان؟.
الجواب:
حفصة هي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين، وكانت حافظة للقرآن كله
فضلاً عن كونها تجيد القراءة والكتابة، هذه المميزات جعلتها أهلاً لحفظ الصحف
عندها، وكذلك لأن عمر رضي الله تعالى عنه توفي دون أن يُعَيِّن خليفة، بل جعل
الأمر شورى بين ستة توفي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم و هو عنهم راضٍ، فبايع
المسلمون عثمان، فكيف يوصي بالمصحف إلى عثمان وهو لم يعيِّنه خليفة من بعده؟ لذلك
بقي المصحف عند ابنته حفصة رضي الله عنها.
ب-
جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه
روى
البخاري عن أنس أنَّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح
أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة - ذلك لأنهم
أعاجم يخطئون بقراءة القرآن - فقال لعثمان أدرِك الأمّة قبل أن يختلفوا اختلاف
اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم
نردها إليكِ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله ابن الزبير
وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، و قال عثمان للرهط
القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان
قريش فإنه إنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف
إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة
ومصحف أن يُحرَق.
وقد
شرعت اللجنة الرباعية في تنفيذ قرار عثمان سنة خمس و عشرين أي بعد وفاة رسول الله
صلى الله عليه و سلم بحوالي أربعة عشر سنة. كُتِبَت هذه المصاحف على ما يحتمله
رسمها من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. لقد تعمد الصحابة كتابة هذه المصاحف
بالخط الذي يكون أكثر احتمالاً للأحرف، وقد وُفِّقوا لذلك لعدم وجود النقط والشكل
… وهكذا فإن الأصل في عمل عثمان أن يكون مستجمعاً كافة الأحرف السبعة في مصاحفه
وأن عثمان ومن معه لا يفرطون في شيء أوحى به الله إلى رسوله صلى الله عليه و سلم.
روى
ابن أبي داود أن سويد بن غفلة الجعفي قال: " سمعتُ علي بن أبي طالب يقول : يا
أيها الناس لا تغلو في عثمان، و لا تقولوا له إلا خيراً ( أو قولوا له خيراً ) في
المصاحف و إحراق المصاحف، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا
جميعاً، فقال ما تقولون في هذه القراءة، فقد بلغني أن بعضهم يقول إن قراءتي خير من
قراءتك و هذا يكاد يكون كفراً، قلنا فما ترى؟ قال نرى أن نجمع الناس على مصحف
واحد، فلا تكون فرقة و لا يكون اختلاف، قلنا فنِعم ما رأيت ". واستنسخت
اللجنة سبعة مصاحف، فأرسل عثمان بستة منها إلى الآفاق واحتفظ لنفسه بواحد منها هو
مصحفه الذي يسمى " الإمام "، ولقد تلقَّت الأمَّة ذلك بالطاعة وأجمعت
الصحابة على هذه المصاحف. ولقد جرَّدت المصاحف العثمانية مما ليس من القرآن
كالشروح والتفاسير، فمن الصحابة من كان يكتب في مصحفه ما سمع تفسيره و إيضاحه من
النبي صلى الله عليه وسلم مثال ذلك: قوله تعالى: " ليس عليكم جناح أن تبتغوا
فضلاً من ربكم"، فقد قرأ ابن مسعود وأثبت في مصحفه: " ليس عليكم جناح أن
تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج " فهذه الزيادة للتفسير والإيضاح. وبهذا
قطع عثمان رضي الله عنه دابر الفتنة وحصَّن القرآن من أن يتطرَّق إليه شيء من
الزيادة والتحريف على مر العصور. و جمع عثمان للقرآن هو المسمى "بـ:
"الجمع الثالث". و اتَّبع زيد بن ثابت و الثلاثة القرشيون معه طريقة
خاصة في الكتابة ارتضاها لهم عثمان، وقد سمى العلماء هذه الطريقة بـ: "الرسم
العثماني للمصحف " نسبة إليه، وهو رسم لا بد من كتابة القرآن به لأنه الرسم
الاصطلاحي الذي توارثته الأمة منذ عهد عثمان رضي الله عنه. ولهذا الرسم أحكام
وقواعد حيث كُتِبَ على نحو يتوافق و القراءات العشر.
ولما
أعيدَت صحف حفصة إليها ظلّت عندها حتى توفيت وقد حاول مروان بن الحكم أن يأخذها
منها ليحرقها فرفضت، حتى إذا توفيت أخذ مروان الصحف وأحرقها وقال مدافعاً عن وجهة
نظره: " إنما فعلتُ هذا لأنَّ ما فيها قد كُتِبَ وحُفِظَ بالمصحف الإمام،
فخشيتُ إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب ". وقد وافقه
علماء عصره على هذا وكان فعله صواباً وحكمته عظيمة.
ومن
المعروف أنَّ ابن كثير وهو من علماء القرن الثامن هجري ، قد رأى مصحف الشام أي
المصحف الذي أرسله عثمان رضي الله تعالى عنه إلى الشام وقال في كتابه " فضائل
القرآن: " أمّا المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع
دمشق عند الركن شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله، و قد كان قديماً بمدينة طبرية
ثم نُقِلَ منها إلى دمشق في حدود سنة 518 هـ. وقد رأيتُه كتاباً عزيزاً جليلاً
عظيماً ضخماً بخط حَسَن مبين قوي، بحبر محكم، في رق أظنه من جلود الإبل ".
رسم
القرآن:
مما
لا شك فيه أنَّ الصحف التي كُتِبَت على عهد النبي صلى الله عليه و سلم و المصاحف
العثمانية التي وُزِّعَت على الأمصار، كانت خالية من الشكل والنقط أي من التشكيل
بالفتحة و الضمة والكسرة. و مما لا ريب فيه أيضاً أنَّ رسم المصاحف العثمانية التي
نُسِخَت على هدي المصحف الأول، يقوم على إملاء خاص به في ذلك العصر وفيما بعده أيضاً
وهو يتفق في جملته مع الرسم القرشي في ذلك الوقت، ومن هنا قال عثمان رضي الله عنه
للكاتبين كما ورد في صحيح البخاري: " إذا اختلفتم أنتم و زيد في كلمة من
كلمات القرآن ( أي في كيفية كتابتها أي إملائها) فاكتبوها بلسان قريش فإنَّ القرآن
أُنزِلَ بلسانهم ". إذاً كان للقرآن إملاءً خاصاً من حيث كتابة الهمزة مثلاَ
أو الأحرف اليائية و الواوية و من حيث الزيادة و النقص وما شابه ذلك. أما ظاهرة
كتابته وهجائه الخاص فلم يطرأ عليها تغيير أو تحوير يُذكر. فقد أخذ الناس يعتبرون
الرسم القرآني رسماً معيَّناً خاصاً به ولم يجدوا ما يدعو إلى مدِّ يد التغيير
إليه، بعد أن وصل إليهم بهذا الشكل صورة طبق الأصل للكتابة المعتمَدة الأولى. لقد
رأى العلماء أنَّ الحيطة في حفظ القرآن تدعو إلى وجوب إبقائه على شكله الأول، و
تحريم أو تكريه أي تطوير كتابي فيه تطبيقاً للقاعدة الشرعية الكبرى: " سد
الذرائع ". فنهى مالك عن تغيير هذه الكتابة الخاصة بالقرآن كما حرَّم أحمد بن
حنبل ذلك أيضاً.
تحسين
الرسم العثماني:
كانت
المصاحف العثمانية خالية من النقط و الشكل لأنَّ العرب كانوا يعتمدون على السليقة
العربية السليمة التي لا تحتاج إلى الشكل بالحركات. وظل الناس يقرؤون القرآن في
تلك المصاحف بضعاً و أربعين سنة حتى خلافة عبد الملك، فلمَا تطرَّق إلى اللسان
العربي الفساد بكثرة الاختلاط بالأعاجم وذلك بسبب الفتوحات الإسلامية الواسعة،
أحسَّ أولوا الأمر بضرورة تحسين كتابة المصحف بالشكل والنقط وغيرهما مما يساعد على
القراءة الصحيحة. ويُرجَّح أنَّ أول من وضع ضوابط للعربية و تشكيل القرآن، هو أبو
الأسوَد الدُّؤلي من التابعين، و ذلك بأمر من علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه
وكان قد أمره بذلك زياد والي البصرة و لكنه تباطأ في بادىء الأمر إلى أن سمع
قارئاً يقرأ قوله تعالى: " إنَّ اللهَ بريء من المشركين ورسولَه"
[
التوبة: 3 ]، فقرأها بجر اللام من كلمة " رسولِه " فغير بذلك المعنى كله
و اصبح معنى هذه القراءة الخاطئة أن الله تعالى بريء من كل المشركين ومن النبي صلى
الله تعالى عليه وسلم والعياذ بالله تعالى، بينما المعنى الصحيح للآية هو أن الله
تعالى و كذلك رسوله صلى الله تعالى عليه و سلم كلٌّ بريء من المشركين. أفزع هذا
اللحن ( الخطأ ) أبا الأسوَد فذهب إلى الوالي زياد و قال له: " قد أجبتُكَ
إلى ما سألتَ ". وانتهى في اجتهاده أن جعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف وجعل
علامة الكسرة نقطة أسفله و جعل علامة الضمة نقطة بين أجزاء الحرف وجعل علامة
السكون نقطتين. وأعانه في ذلك عدد من العلماء وتبعه آخرون منهم: يحيى بن يعمر، و
نصر بن عاصم الليثي و غيرهما ... فلم ينفرد أبو الأسوَد الدؤلي وحده في تشكيل
القرآن و لكنه كان أول من بدأ بذلك. وكلما امتد الزمان بالناس، ازدادت عنايتهم
بتيسير الرسم العثماني، فكان الخليل بن أحمد الفراهيدي أول من صنَّف النقط ورسمه
في كتاب و أول من وضع الهمزة والتشديد و الرَّوم و الإشمام. ومن المعلوم إنَّ علم
النحو لم يُقَعَّد و يُدَوَّن إلا خدمة لضبط القرآن، حتى إنَّ معظم علوم العربية
الأخرى إنما قامت لخدمة القرآن أو نبعت من مضمونه. ثم تدرج الناس بعد ذلك فقاموا
بكتابة العناوين في رأس كل سورة و وضع رموز فاصلة عند رؤوس الآي و تقسيم القرآن
إلى أجزاء وأحزاب و أرباع و الإشارة إلى ذلك برسوم خاصة، و ذِكر المكي و المدني من
السوَر. حتى إذا كانت نهاية القرن الهجري الثالث، بلغ الرسم ذروته من الجودة و
الحُسن.
¯ ضوابط
القراءة الصحيحة : من شروط كون القراءة مقبولة و صحيحة:
-1أن
تكون موافقة للرسم العثماني في أحد مصاحفه السبعة.
-2أن
تكون متواترة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم.
-3
أن تكون صحيحة في لغة العرب.
إن
القراءة الصحيحة التي وصلت إلينا عشرة ، و من المعلوم أنه من فروض الكفاية أن يكون
في كل بلدة ( كبيروت مثلاً ) حافظاً لكتاب الله تعالى على القراءات العشر بالسند
المتصل إلى النبي صلى الله تعالى عليه و سلم و مُجازاً بذلك.
¯ عناية
العلماء بالمكي و المدني :
قام
أعلام الهدى من الصحابة و التابعين بضبط منازل القرآن ضبطاً يحدد الزمان و المكان،
فكانوا يؤرخون كل آية بوقت و مكان نزولها. روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه
أنه قال: " والله الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم
أين نزلَت؟ ولا نزلت آية من كتاب الله إلا و أنا أعلم فيم نزلت؟ ولو أعلم أنَّ
أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبتُ إليه ". وقد عني العلماء
بتحقيق المكي والمدني بدقة و عناية فائقة، فتتبعوا القرآن آية آية وسورة سورة ،
لترتيبها وفق نزولها، مراعين في ذلك الزمان والمكان والخطاب حتى اكتمل بذلك علم
سمي " بـ: "علم المكي و المدني ".
¯ الفرق
بين المكي و المدني:
أصح
الأقوال أن:
المكي:
ما نزل قبل الهجرة و إن كان بغير مكة.
المدني:
ما نزل بعد الهجرة و إن كان بغير المدينة، بأن نزلت آية ما في مكة بعد الهجرة
مثلاً عندما فتح النبي صلى الله تعالى عليه و سلم مكة، فتُسمّى مدنية و لا تُسمّى
مكية.
¯ أهمية
معرفة المكي و المدني:
-1
الاستعانة بها في تفسير القرآن: فإنَّ معرفة مواقع النزول تساعد على فهم الآية و
تفسيرها تفسيراً دقيقاً.
مثال
ذلك: من قرأ سورة " الكافرون " و لم يعلم زمن نزولها و هل هي مكية أم
مدنية، فإنه يحار في معناها، و قد يستخرج منها أنَّ المسلمين غير مكلفين بالجهاد
في أي الأحوال و إنما عليهم أن يقولوا للآخرين لكم دينكم و لي دينِ.
فإذا
علم أنَّ هذه السورة إنما نزلت في مكة عندما قال بعض صناديد الشِّرك لرسول الله
صلى الله عليه و سلم: " تعالَ يا محمد نعبد إلهك يوماً و تعبد إلهنا يوماً
" ، إذا علم هذا ، أدرك أنَّ هذه السورة إنما هي علاج لتلك المرحلة ذاتها و
ليست دليلاً على عدم مشروعية الجهاد الذي نزلت فيه آيات كثيرة أخرى في المدينة.
-2
معرفة الناسخ و المنسوخ من الآيات.
سؤال:
من المعلوم أن سورتي المعوذتين نزلتا على رسول الله صلى الله عليه و سلم في
المدينة المنورة بعد أن سحره ذلك اليهودي لبيد بن الأعصم، فلماذا يُكتب عنهما في
المصاحف أنهما مكّيتان؟.
الجواب:
قد تكون هاتين السورتين نزلتنا على النبي صلى الله تعالى عليه و سلم أكثر من مرة.
فقد ورد أن سورة الفاتحة نزلت على قلب النبي صلى الله تعالى عليه و سلم مرات عديدة
تثبيتاً لفؤاده ، فقد تكون هاتين السورتين نزلتا لما سحر لبيد بن الأعصم رسول الله
صلى الله عليه و سلم في المدينة بعد الهجرة، و أوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله
تعالى عليه و سلم مرة أخرى بهاتين السورتين تثبيتاً لفؤاده و تعليماً له و لأمته
من بعده أن قراءتهما تُبطل سحر الساحر و هما رقية من سحر الساحر أو الحاسد.
-2الحديث
في عهد الصحابة رضي الله عنهم
بعد
وفاة النبي عليه الصلاة و السلام، قام الصحابة من بعده بحمل لواء الإسلام و تبليغ
ما علموه منه صلى الله عليه و سلم. و لقد تميَّز الصحابة بخصائص و مميزات أهَّلتهم
لحفظ الحديث في الصدور، و فيما يلي نورد أهم العوامل التي ساعدتهم لحفظ الحديث
الشريف:
¯ عوامل
حفظ الصحابة للحديث:
-1
صفاء أذهانهم و قوة قرائحهم و ذلك أنَّ العرب أمة أمِّية لا تقرأ و لا تكتب، و
الأمّي يعتمد على ذاكرته فتنمو و تقوى لتسعفه حين الحاجة ، كما أنَّ بساطة عيشهم
بعيداً عن تعقيد الحضارة جعلتهم ذوي أذهان نقية، لذلك عُرِفوا بالحفظ النادر و
الذكاء العجيب حيث اشتهروا بحفظ القصائد من المرة الأولى و حفظ الأنساب ...
-2
قوة الدافع الديني لأنهم أيقنوا أن لا سعادة لهم في الدنيا و لا فوز في الآخرة إلا
بهذا الإسلام، فتلقَّفوا الحديث النبوي بغاية الاهتمام و نهاية الحرص.
-3
تحريض النبي صلى الله عليه و سلم على حفظ حديثه، قال زيد بن ثابت: " سمعتُ
رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فبلَّغها،
فرُبَّ حامل فقه غير فقيه و ربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه " أخرجه أبو
داود و الترمذي و ابن ماجه، و في رواية: نضَّر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلَّغه
كما سمعه، فربَّ مبَلِّغ أوعى من سامع "، قال الترمذي حديث حسن صحيح. قال
العلاَّمة القسطلاني: " المعنى أنَّ الله تعالى خصَّه ( أي ناقل حديث النبي
صلى الله تعالى عليه و سلم ) بالبهجة والسرور لأنه سعى في نضارة العلم و تجديد
السنّة، فجازاه النبي صلى الله عليه و سلم في دعائه له بما يناسب حاله من المعاملة
". وبالفعل هذا ما نجده في وجوه المحدثين من نضارة ونور يعلو محياهم و حسن
سمت يضفي عليهم هيبة و وقاراً.
-4
اتباع النبي صلى الله عليه و سلم الوسائل التربوية في إلقاء الحديث على الصحابة و
سلوكه سبيل الحكمة كي يجعلهم أهلاً لحمل الأمانة و تبليغ الرسالة من بعده، فكان من
شمائله في توجيه الكلام:
أ-
أنه لم يكن يسرد الحديث سرداً متتابعاً بل يتأنّى في إلقاء الكلام ليتمكَّن من
الذهن، قالت عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه الترمذي: " ما كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا ولكنه كان يتكلم بكلام بيِّن فصل يحفظه من جلس
إليه ".
ب-
لم يكن يطيل الحديث بل كان كلامه قصداً، قالت عائشة فيما هو متفق عليه: " كان
يحدِّث حديثاً لو عدَّه العادُّ لأحصاه ".
جـ-
أنه كثيراً ما يعيد الحديث لتعيه الصدور، روى البخاري و غيره عن أنس فقال: "
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعيد الكلمة ثلاثاً لِتُعقَل عنه ".
-5
مواظبة الصحابة على حضور مجالس رسول الله صلى الله عليه و سلم التي كان يخصصها
للتعليم و اجتهادهم في التوفيق بين مطالب حياتهم اليومية و بين التفرغ للعلم، فها
هو عمر بن الخطاب يتناوب الحضور مع جار له من الأنصار على تلك المجالس، فقال عمر:
" كان ينزل صاحبي يوماً و أنزل يوماً فإذا نزلتُ جئتُه بخبر ذلك اليوم من
الوحي و غيره و إذا نزل فعل مثل ذلك "، رواه البخاري.
-6
مذاكرة الصحابة فيما بينهم، قال أنس: " كنا نكون عند النبي صلى الله عليه و
سلم فنسمع منه الحديث فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه ".
-7
أسلوب الحديث النبوي، فقد أوتي النبي صلى الله عليه و سلم بلاغة نادرة شغفت بها
قلوب العرب وقوة بيان يندر مثلها في البَشَر ومن هنا سمى القرآن الكريم الحديث
" حكمة ".
-8
كتابة الحديث و هي من أهم وسائل حفظ المعلومات ونقلها للأجيال . ورد في سنن أبي
داود عن عبد الله بن عمرو أنه قال: " كنتُ أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله
صلى الله عليه وسلم أريد حفظه ... ". وقد تناولت الكتابة في عهد النبي صلى
الله عليه وسلم قسماً كبيراً من أهم الأحاديث وأدقها لاشتمالها على أمهات الأمور
وعلى أحكام دقيقة.
قوانين
الرواية في عهد الصحابة :
اعتمد
أئمة المفتين في هذا الدور و جلّ الصحابة قوانين محددة فيما يتعلق برواية الحديث
عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، و أهم هذه القوانين هي التالية:
-1
التقليل من الرواية: خشية أن ينتشر الكذب و الخطأ على رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
روى
الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ عن سيدنا أبي بكر أنه جمع الناس بعد وفاة نبيهم
عليه الصلاة و السلام فقال: " إنكم تحدِّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون
فيها و الناس بعدكم أشد اختلافاً، فلا تحدِّثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم
فقولوا بيننا و بينكم كتاب الله فاستحِلّوا حلاله وحَرِّموا حرامه ".
-2
التَّثبت في الرواية: كان الصحابة يتثبَّتون فيما يُروى لهم ، فلم يكن أبو بكر و
لا عمر يقبلان من الأحاديث إلا ما شهد اثنان أنهما سمعاه من رسول الله صلى الله
عليه و سلم و ذلك للأسباب التالية:
أ-
قوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ
اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105].
ب-
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا...} [الحجرات: 6].
ج-
لما سُئِلَ الزبير بن العوّام لماذا لا تُحَدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كما يحدِّث فلان و فلان؟ قال: " أما إني لم أفارق رسول الله صلى الله عليه
وسلم و لكني سمعته يقول: " من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار
".
د-
ورد في الحديث الصحيح أنَّ رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: " من حدَّث
عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذِبَين ".
إذاً
فقد كان من طبع الصحابة الحرص الشديد و الخوف من الكذب على رسول الله صلى الله
عليه و سلم كيف لا وقد مدحهم النبي صلى الله عليه و سلم فيما يرويه البخاري:
" الله الله في أصحابي لا تسبوهم ولا تؤذوهم فمن آذاهم فقد آذاني و من آذاني
فقد آذى الله، والذي نفسي بيده لو أنَّ أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مدَّ
أحدهم و لا نصيفه ".
روى
ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أنَّ جدةً جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تُوَرَّث فقال:
" ما أجد لكِ في كتاب الله شيئاً وما علِمتُ أنَّ رسول الله صلى الله عليه و
سلم ذكر لكِ شيئاً "، ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال: " سمعتُ رسول
الله صلى الله عليه و سلم يعطيها السدس" فقال: "هل معك أحد "؟ فشهد
محمد بن مسلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه ( أي أعطاها السدس ).
و
عن سعيد أنَّ أبا موسى رضي الله عنه سلَّم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه من وراء
الباب ثلاث مرات فلم يُؤذن له فرجع فأرسل عمر في أثره فقال: لم رجعت؟ قال:"
سمعتُ رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إذا سلَّم أحدكم ثلاثاً فلم يجب فليرجع
"، قال: "لتأتيني على ذلك ببيِّنة أو لأفعلنَّ بك "، فجاءنا أبو
موسى منتقعاً لونه و نحن جلوس فقلنا:" ما شأنك "؟ فأخبرنا و قال: "
فهل سمع أحد منكم "؟ فقلنا: " نعم كلنا سمعه "، فأرسلوا معه رجلاً
منهم حتى أتى عمر فأخبره. و قد قال عمر لغير واحد من الصحابة: " أما إني لم
أتهمك و لكنني أحببتُ أن أتثبَّت ".
-3
نقد الروايات: و ذلك بعرضها على نصوص و قواعد الدين، فإن وجد مخالفاً لشي منها
ردوه و تركوا العمل به. هذا هو الخليفة عمر فيما أخرج مسلم عنه: أفتى عمر بن
الخطاب بأنَّ المبتوتة ( التي طلقها زوجها ثلاثاً ) لها النفقة و لها السكنى و
لمَّا بلغه حديث فاطمة بنت قيس أنَّ زوجها طلقها ثلاثاً فلم يجعل رسول الله صلى
الله عليه و سلم لها سكنى و لا نفقة، قال: "لا نترك كتاب الله و سنّة نبينا
لقول امرأة لعلها حفظت أو نسيَت، قال الله عز و جل:{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ
بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}[الطلاق1].
و
لا بد من الإشارة إلى أنه لم يكن هناك حاجة إلى جرح و تعديل أي البحث و التدقيق عن
عدالة و صدق الراوي لأنَّ الصحابة كلهم عدول و ذلك بنص القرآن، قال تعالى:
{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:
100]. أما المنافقون فكانوا كما قال عنهم العلماء أحقر من أن يحملوا عِلماً أو
يؤخذ عنهم العلم !!!.
¯
فقه الصحابة:
كان
علماء الصحابة إذا سُئلوا في مسألة ما، نظروا في كتاب الله تعالى فإن لم يجدوا
نظروا في سنة النبي صلى الله عليه و سلم، فإن لم يجدوا نصاً لا من الكتاب و لا من
السنة، سألوا باقي الصحابة هل قضى أحد قبلنا في هذا الأمر بقضاء؟ فإن سمعوا أنَّ
أحداً قضى بقضاء و نفذ و وجدوا أنَّ الأمر قريب قضوا. و لقد كان الصحابة يتحفظون
تحفظاً شديداً في الاجتهاد، فكان الواحد منهم إذا اضطر إلى الاجتهاد في حال عدم
وجود نص، جمع مجلس الشورى و طرح القضية التي هو بصددها و استشار الصحابة العلماء و
تجاذب معهم أطراف البحث والنقاش ولم ينفرد في إعطاء حكم، فإن انتهى إلى شيء - سواء
كان أبو بكر أو عمر أو عثمان أو أي ممن جاء بعدهم - كان يقول: " هذا رأيي فإن
كان صواباً فمن الله تعالى و إن كان خطأً فمني و أستغفر الله تعالى ".
ورد
أنَّ رجلاً ممن أرسلهم سيدنا عمر والياً على جهة من الجهات قال للناس: هذا ما قضى
به الله و قضى به عمر، فسمع عمر ذلك و أرسل إليه يقول: " بئس ما قلتَ، بل هذا
ما قضاه عمر، لا تجعلوا الرأي سنّة الله في الناس فتحمِّلوها خطأ الناس ".
و
كان الصحابة يقولون إذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم المُؤيَّد بالوحي ، قال
الله تعالى له: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] فما بالك بمن جاء
بعده ! فإذا استشاروا و أجمعوا على رأي واحد، فذاك هو الإجماع، أما إذا اختلفوا
فكل يقضي بما يرى. و من مظاهر الشورى أنَّ سيدنا أبا بكر رضي الله عنه لمّا جهّز
جيش أسامة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم - و كان هذا أول ما قام به أبو
بكر - قال لأسامة و قد رأى أنَّ عمراً رضي الله عنه قد انخرط بين أفراد الجيش:
" إن رأيتَ أن تعطيني عمر و تبقيه عندي فعلتُ ". انظروا كيف يقول خليفة
المسلمين، -ذاك الشيخ الكبير لأسامة الذي لم يبلغ من العمر التاسعة عشر بعد، هذا
الكلام بأدب متناهي! لماذا ؟ لأنَّ أبا بكر كان يرى أنه قد تعرض له الفتوى و
المشكلات و هو بحاجة إلى أمثال سيدنا عمر رضي الله عنه ليستشيره و ليأخذ رأيه. و
طبعاً أجابه أسامة لذلك و بقي عمر عند أبي بكر الذي لا يتأخر في استشارة من حوله
من الصحابة كعثمان و عليّ و غيرهم رضي الله عنهم أجمعين. و ما أكثر ما كان يقول
عمر: " لولا علي لهلك عمر ". و كذلك علي كان إذا عُرِضَ عليه رأي لم
يبُتّ بهذا الرأي حتى يستشير كبار الصحابة و في مقدمة هؤلاء أبو بكر و عمر.
فلنلاحظ
صورة الأخوَّة الواقعية في حياة الصحابة و آل البيت و محبتهم لبعضهم البعض، لا شك
أنَّ جيلاً ربّاه رسول الله صلى الله عليه و سلم لا بد أن يكون هذا حاله. مستحيل
أن يكون النبي عليه الصلاة و السلام أعظم مُرَبّي أوجده الله تعالى لينجد به
الإنسانية ثم يخفق في تربية أصحابه. فإن تصوّرنا أنه بعد وفاته صلى الله عليه و
سلم كان أصحابه أعداء لآل البيت و العكس لكان ذلك علامة على أنه أخفق في تربية هذا
الجيل و هذا يُعَدّ عيباً شديداً في رسول الله صلى الله عليه و سلم -وحاشاه من
ذلك- الذي لم يستطع أن يربي جيلاً واحداً فهو أعجز من أن يربّي أمّة !!! و الرسول
صلوات الله و سلامه عليه منزّه عن مثل هذا.
سُئِلَ
عليّ لماذا كثُرَت الفتن في عصره و لم تكثر في عصر أبي بكر و عمر فقال رضي الله
عنه: " لمّا كانوا هم الخلفاء كنتُ أنا الرعية فأطعنا و لمّا صرتُ أنا
الخليفة كنتم أنتم الرعية فعصيتم ".
إذاً
كان الصحابة يتواصون بالتدقيق في مسألة الاجتهاد بعد الشروط التي ذكرناها كلها،
كما كانوا يتواصون فيما بينهم بالتريّث و الفهم الشديد وعدم العجلة في الإفتاء،
فها هو عمر لمّا أرسل كتابه لأبي موسى قال له بعد أن أمره أن يتتبع نصوص القرآن و
السنّة فإن لم يجد، قال له: " الفهم، الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في
كتاب الله و سنّة رسول الله صلى الله عليه و سلم "، أي لا تستعجل، تريَّث
وفكِّر وتأمَّل.
ولا
بد من الإشارة إلى أنَّ سيدنا عمر رضي الله عنه هو أول من فصل سلطة القضاء عن
رئاسة الدولة، ففي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر كان كل منهما
رئيس الدولة و القاضي في آن واحد . وفي عصر عمر، عندما اتسعت الفتوحات ولم يعد يجد
الوقت كافياً لأن يجلس مجلس القضاء و مجلس إدارة أمور المسلمين، عندئذ فصل سلطة
القضاء عن سلطة رئاسة الدولة وعيَّن أول قاضٍ أثناء خلافته و هو جريج رضي الله
عنه.
وكان
الصحابة لا يجيبون على سؤال فرض لم يقع بعد، فإذا سألهم سائل عن مسألة ما، كان
أحدهم يجيب: " هل وقعت هذه المشكلة التي تسأل عنها "؟ فإن قال لا ما
وقعت بعد ولكننا نحب أن نعلم إن وقعت هذه المشكلة ماذا نصنع ! كان الصحابي يجيب:
" إذا وقعت فاسألوا عنها أمَّا الآن فقد كفانا الله مهمة البحث في أمر لم يقع
". فهم لا يريدون توسيع نطاق الإجتهاد إلى أكثر من الحد الضروري، وهذه سياسة
كانت متَّبَعة من قِبَل جميع علماء ذاك العصر.
ســؤال:
هل وقع الخلاف في الاجتهاد في أحكام الشريعة الإسلامية ومتى و قع و لماذا ؟
الجواب:
أمَّا في عصر رسول الله صلى الله عليه و سلم فالخلاف لم يقع ولا سبيل أصلاً للخلاف
ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم حي يُمكِن الرجوع إليه في أي أمر.
وبعد
وفاته عليه الصلاة و السلام، بدأ الخلاف الاجتهادي يظهر في بعض المسائل الفرعية
التي لا تتعارض مع أصول الدين للأسباب التالية:
-1
تفاوت الصحابة في رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلٌ حسب وضعه
ومقدار تفرغه وملازمته له . ونتيجة لذلك كان إذا وقعت مشكلة، تسائل الصحابة عن
حكمها، والذي لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر شيئاً ، يفتي
بظاهر القرآن. أما الذي حفظ وروى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قدراً أكبراً
فهو يذكر أنَّ هذا الموضوع قد أوضح النبي عليه الصلاة و السلام حكمه، فهو يختلف في
فتواه عن الأول الذي لم يسمع و القاعدة تقول: من حفظ حجة على من لم يحفظ. من هنا
كان لا بد أن يقع الاختلاف في الفتاوى بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكانت إذا عرضت على أبي بكر أو عمر حادثة جديدة ولم يُسمَع من رسول الله صلى الله
عليه و سلم فيها شيئاً، جمع الصحابة وقال: " أنشدكم الله رجلاً سمع من فم
رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوى في هذه القضية ". وكان من عادة عمر رضي
الله عنه إذا سُئِلَ في موضوع أن يبحث عنه في كتاب الله ثم السنّة فإن لم يكن قد
سمع في المسألة شيئاً نادى في الناس: " من سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم
في هذه المسألة شيئاً " ؟ فإن لم يجبه أحد قال: " هل قضى أبو بكر في هذا
الموضوع من قبلي شيئاً "؟ فإن قال له قائل إنَّ أبا بكر قد سُئِلَ وقضى في
هذا الأمر بكذا، قضى عمر بمثل ما قضى به أبو بكر رضي الله عنهما وإلا اجتهد عمر.
مثال:
دية الأصابع، رجل قُطِعَت إصبعه، الخنصر أو البنصر أو السبابة أو الوسطى، ما هو
القدر الذي ينبغي أن يؤخذ من الجاني كدية لهذا الإنسان؟ فكر عمر بن الخطاب رضي
الله عنه في الموضوع وهو لا يذكر في هذا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فأراد أن يجتهد في الأمر، وأراد أن يجعل دية كل إصبع على حسب فائدة تلك الإصبع،
ولكنه تريَّث و أخذ يسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم، فجاء من أخبره أنَّ
النبي عليه الصلاة والسلام قضى بأنَّ في كل إصبع عشراً من الإبل متساوية يعني في
قطع الأصابع العشرة دية كاملة. فرجع عمر رضي الله عنه وقال: " إن كدنا لنقضي
في هذا برأينا ".
مثال
آخر دية الجنين: سُئِلَ سيدنا عمر رضي الله عنه عن دية الجنين، اعتدى إنسان على
امرأة حامل فأسقطت جنيناً، ما الجزاء؟ وقف عمر يناشد المسلمين أن يكون فيهم رجلاً
سمع عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمراً في الدية. معلوم في القرآن أنَّ عقاب
من اعتدى على إنسان و مات، هو القصاص فإن عفى وليَّه تصبح عقوبته دفع الدية، هذا
هو الحكم العام و الجنين يُعتبَر إنساناً و مات، وعلى هذا يأخذ الجاني الحكم نفسه،
إما القصاص و إما الدية.
و
لكن عمر تريَّث، لعل في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئاً خاصاً. فقام أحد
الصحابة وقال إنَّ جمل ابن مالك جاء يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
كانت له زوجتان فتخاصمتا فضربت إحداهما الأخرى فألقت جنيناً ميتاً، فقضى رسول الله
صلى الله عليه و سلم للجنين بغُرَّة يعني بنصف عشر الدية (خمسة من الإبل) فتهلل
وجه عمر باسماً وقال: " إن كدنا أن نقضي في هذا برأينا ".
ومن
أسباب الاختلاف في الاجتهاد أيضاً:
-2
عدم الاتفاق على صحة نسبة حديث ما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم.
-3
عدم الاتفاق على معنى كلمة أو جملة في كتاب الله تعالى أو حديث المصطفى عليه
الصلاة و السلام و ذلك بسبب ورود لفظ يحتمل معنيين.
-4
اختلاف الفتوى بسبب الرأي: كانت ترد على الصحابة أقضية لا يرون فيها نصاً من كتاب
أو سنّة وإذ ذاك كانوا يلجأون إلى القياس وكانوا يعبِّرون عنه بالرأي.
-5
قياس الفرع على الأصل: البعض يرى إنَّ هذا الفرع يشبه ما نص الله تعالى عليه في
آية كذا.
نعرض
لطائفة من أمثلة الخلاف بين الصحابة في بعض الفتاوي:
-
عُرضت مشكلة على ابن مسعود رضي الله عنه: رجل عقد نكاحه على امرأة و لم ينص في هذا
العقد على مهر و مات قبل الدخول بها، فما الذي تستحقه هذه المرأة ؟ أفتى ابن مسعود
بأنَّ لها كامل مهرها أي صداق مثلها من النساء. بينما سيدنا علي كرَّم الله وجهه
عندما سمع بهذه القضية قال: " أنا أختلف معه في هذه المسألة، هذه المرأة إذا
مات زوجها ليس لها إلا الميراث، تأخذه و ليس لها ما وراء ذلك شيء وعليها العدة و
لا صداق لها ". سبب هذا الخلاف أنَّ هذه المسألة ليس فيها نص واضح صريح من
كتاب الله تعالى، كل ما في الأمر قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ
طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ
فَرِيضَةً} [البقرة: 236].
يقول
سيدنا علي: " أرأيت لو أنَّ زوجها لم يمت و لكن طلق ، ليس لها شيء بنص كلام
الله عز و جل ". فسيدنا علي قاس وفاة الزوج على طلاقه لها. قال ابن مسعود:
" الرجل الذي يطلق يطلق بقصد الاختيار و يترتب على ذلك أشياء كثيرة، لكن مات
الزوج و حبل الزوجية موجود، ولا يسبب الموت انقطاع الزوجية عند جمهور العلماء،
فالموت لا يُقاس على الطلاق لأن الطلاق عمل اختياري والموت أمر قصري ".
مسألة
أخرى: المرأة التي توفي عنها زوجها و هي حامل، ما عدتها ؟
سيدنا
عمر رضي الله عنه قال : عدتها وضع حملها. و قال سيدنا علي و ابن عباس : عدتها
بأبعد الأجلين، أي أيهما كان أبعد وضع حملها أم مضي أربعة أشهر و عشراً تأخذ به .
قال جمهور الفقهاء انَّ عدة المرأة تنتهي بوضع حملها و القول بأبعد الأجلين مرجوح
، و دليل ذلك ما أخرجه البخاري و مسلم عن سبيعة بنت الحارث الأسلمية أنها كانت تحت
سعد بن خولة و هو ممن شهد بدراً فتوفي عنها في حجة الوداع و هي حامل ، فلم تلبث أن
وضعت حملها بعد وفاة زوجها ، فلما طهرت من دم النفاس تجمَّلت للخُطّاب ، فدخل
عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها: " ما لي أراكِ متجمِّلة ، لعلك ترجين
النكاح ؟ والله ما أنتِ بناكح حتى يمر عليكِ أربعة أشهر و عشرا " ! قالت
سبيعة: " فلما قال لي ذلك جمعتُ عليَّ ثيابي حين أمسيتُ ، فأتيتُ رسول الله
صلى الله عليه و سلم فسألته عن ذلك ، فأفتاني بأني قد حللتُ حين وضعتُ حملي و
أمرني بالتزوج إن بدا لي ". و قد رُوِيَ أنَّ ابن عباس رجع إلى حديث سبيعة
لما احتُجَّ به عليه.
أبرز
من كانت إليهم الفتيا في عصر الصحابة:
الخلفاء
الراشدون و سيدنا عبد الله بن مسعود و زيد بن ثابت و عبد الله بن عباس و عبد الله
بن عوف و عبد الله بن عمر و هؤلاء التسعة كانوا في ذلك العصر بمثابة الأئمة
الأربعة في عصرنا.
ســؤال:
لماذا انحصرت الفتيا ببعض الصحابة و لم يفتوا كلهم؟
الجواب:
لأن عامة الصحابة لا وقت و لا قدرة لهم على الاجتهاد ، فمنهم من كان يشتغل
بالزراعة و منهم من كان يشتغل بالتجارة و منهم من كان يشتغل بالجهاد و هكذا و حتى
يصل الإنسان لرتبة يستطيع معها الاجتهاد لا بد له من علم غزير و ذلك يحتاج عادة
إلى وقت و تفرُّغ. فكان عامة الصحابة يأخذون بفتاوى واحد من هؤلاء التسعة غالباً
كما نأخذ نحن اليوم بفتاوى واحد من الأئمة الأربعة.
سؤال:
لماذا لم يمد الله تعالى بحياة النبي صلى الله عليه و سلم ليجيب على هذه الأسئلة
التي حدثت و استجدت في عصر الصحابة؟
الجواب:
لكي يعلِّم الله سبحانه وتعالى هذه الأمة الاجتهاد وكيفية استنباط الأحكام من
النصوص وحتى يخفف عنها لأن في اختلاف الفقهاء سعة.
ســؤال:
الحكم في شرع الله تعالى أليس واحداً؟ فكيف لنا أن نأخذ بقول أكثر من إمام؟
الجواب:
إنَّ الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، فإذا عمِّيَت علينا دلائل حكم شرعي
وتشابهت الأدلة ولم نستطع أن نصل إلى الحكم بيقين، فإنَّ من رحمة الله تعالى
بعباده أنه لا يطالبهم إلا ببذل الجهد في معرفة حكمه تعالى. مثال ذلك: الاجتهاد في
القِبلة في الصلاة، هي حقيقة واحدة ولكن في حال لم تتبيَّن ولم يُتمكن لأربعة
أشخاص من تحديدها جاز لكل واحد منهم أن يصلي إلى جهة ما، حسب اجتهاده الشخصي
وصلاتهم صحيحة بالاتفاق حتى و لو صلى كل واحد منهم إلى جهة مختلفة عن جهة الآخر.
سؤال:
يدَّعي أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام: كان بعض من هؤلاء الصحابة عندهم روح واسعة
لفهم النص و كانوا يتجاوزون النص إلى ما يسميه علماء القانون اليوم بروح النص.
ويقول أحمد أمين إنَّ في مقدمة هؤلاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فعمر كان
عبقرياً وكان لا يقف عند حرفيّة النص بل كان يتجاوزه إلى المصالح وإلى العلل وإلى
روح التشريع الإسلامي. ها هو في أكثر من حالة خالف النص و عمل بالمصلحة، مثال ذلك
كما يدَّعي أحمد أمين:
-1
قال الله تعالى: " إنما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها
والمؤلفة قلوبهم... "، عطَّل عمر سهم المؤلفة قلوبهم لما في ذلك من فهم و
مراعاة لواقع المسلمين و مصلحتهم.
-2
يقول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}
[المائدة: 38]، سرق بعض الناس في عام المجاعة متاعاً فلم يقم عليم عمر الحد.
-3
قضى عمر بأنَّ الرجل الذي قال لزوجته أنت طالق ثلاثاً بكلمة واحدة، تطلق ثلاثاً، و
هذا مخالف لقوله تعالى: " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان
"، ومخالف لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي رواه مسلم عن ابن عباس
رضي الله عنهما: " كان الطلاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، طلاق الثلاث
واحداً، و كان ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر، فقال عمر لقد استعجل
الناس في أمر كانت لهم فيه أناة فمن استعجل أناة الله ألزمناه به. فطلاق الثلاثة
بكلمة واحدة يُعتبر ثلاث طلقات. ويضيف أحمد أمين فيقول، إنَّ عمر في كل ذلك إنما
كان عبقرياً و ذكياً لأنه لم يتمسك بحرفية النص و إنما رأى المصلحة وجرى وراءها و
إن خالفت النص و هذا هو المطلوب كما يزعم أحمد أمين. فهل كان من بين الصحابة من
كان يتجاوز حرفِيَّة النصوص و يأخذ بروح النص كما يقول بعض الناس اليوم، و يأخذ
بالمصالح التي تعتمد عليها النصوص، بمعنى آخر هل كان الصحابة أصحاب نزعة تحررية؟
الجواب:
كلام أحمد أمين المضلل قد يدفعنا بناءً لما تقدم إلى القول بأنَّ الربا حلال و
المتاجرة بالخمر و السِّلم مع اليهود كذلك ! و أما القول أن المصلحة قد تكون في
مخالفة النص من كتاب الله تعالى، فهذا كفر و العياذ بالله تعالى، لأنه من أعلم
بمصلحة الناس من رب الناس، من خالق الناس الذي يعلم سرهم ونجواهم و يعلم ما كان و
ما سيكون و ما لم يكن ولو كان كيف يكون. و الحقيقة أنه ما وُجِدَ قط إنسان أكثر
حيطة في التمسك بالنص و حرفيته من عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقد مر معنا من
خلال الأمثلة التي ذكرناها سابقاً في هذا البحث كيف كان ينادي بالناس هل منكم من
سمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئاً في هذا ؟!!! لكن من الذي يستطيع أن
يطبق النص؟ إنَّ أقدر الناس على تطبيق النص، أفهمهم للنص و أعرفهم و أعلمهم
للقواعد العربية و أصول الدلالات في منطوق النص و مفهومه الموافق و مفهومه المخالف
و دِلالة الخطاب و فحواه. وعمر كان من أعلم الناس بقواعد تفسير النصوص، و تعالوا
ننظر معاً ماذا فعل عمر؟.
بالنسبة
لقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ..} [التوبة: 60]، هناك في
اللغة العربية اسم موصول للفقراء أي للذين يتصفون بالفقر، للمساكين أي للذين
يتصفون بالمسكنة، للعاملين عليها أي للذين يقومون بجباية الزكاة، للمؤلفة قلوبهم
أي للذين تشعرون بالحاجة إلى أن تؤلفوا قلوبهم ... الفقراء، إن زال الفقر عنهم لن
يعودوا أهلاً لأخذ الزكاة، ومناط وجوب إعطاء الزكاة للمؤلفة قلوبهم أن يشعر
المسلمون أنهم بحاجة إلى تأليف قلوب من وفدوا إلى الإسلام من جديد. إذاً مناط
الحكم أن ننظر إلى واقعنا، فإذا كان هذا الواقع عزيز قوي وكان من دخل في الإسلام،
وحده يعزه و يغنيه و يحميه، إذا وجدنا أنَّ الأمر كذلك فإنَّ مناط دفع الزكاة
إليهم ارتفع. أما إن كان الإسلام في ضعف فيكون حكم إعطاء الزكاة للمؤلفة قلوبهم
عندئذ سارياً، وقد كان الإسلام في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عزيزاً لا بل في
أعزِّ أحواله.
بالنسبة
للمسألة الثانية، وهي أنَّ رجلاً سرق في عام المجاعة و كان أجيراً و علم عمر
أنَّهم كانوا يبخسون حقه فقال لهم: " والله لولا أني أعلم أنكم تظلمونه و لا
تعطونه حقه لقطعتُ يده "، و الآن عام مجاعة ، فجمعاً بين النصوص التالية:
قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، و قوله صلى
الله عليه و سلم: " ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم فإنَّ الحاكم لأن
يخطىء في العفو خيراً من أن يخطىء في العقوبة "، و هذا قانون عام في القضاء و
بدلاً من العقوبة يعزِّر القاضي المذنب ويعاقبه و لكن لا يقطع يده. إذاً عمر عمل
بالنص و لكنه علم بالحديث الذي خصص الآية وقضى بموجبه و ليس كما زعم الجاهل بأنه
ترك النص و تبع المصلحة التي رآها مناسبة و في ذلك دليل على أنَّ الحديث يبين و
يشرح كلام الله تعالى الذي قال في كتابه العزيز: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. هذا من جهة و من جهة
أخرى، فإنَّ للسرقة نصاباً حتى تُقطع يد السارق فإن سرق شيئاً قيمته دون النصاب
يُعَزَّر ولا تُقطَع يده. والمبلغ الذي سرقه الرجل ربما ليس بذاك المبلغ الكبير أو
احتمال أن يكون سرقه ليسد ضرورة والضرورات تبيح المحظورات.
ملاحظة:
ينبغي قبل أن نطبق هذه القاعدة أن نعلم ما معنى الضرورة وما الفارق بين الضرورات
والحاجيات و التحسينيات؟.
وأما
المسألة الثالثة، فقوله تعالى: " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان
"، لا علاقة له بالموضوع الذي أفتى به عمر، و إنما هي بيان للطلاق وأنه ينبغي
أن يفرق بين الطلقة والأخرى وإلا كان آثماً، أي من طلق زوجته ثلاثاً في مجلس واحد
كان آثماً. أما من لم يتق الله تعالى وارتكب المحرَّم فقال لزوجته أنت طالق
بالثلاث فهذا لن يجعل الله تعالى له مخرجاً لأن الله تعالى قال: " ومن يتق
الله يجعل له مخرجاً ... "، وهذا لم يتق الله تعالى، وارتكب الحرام و طلق
زوجته ثلاثاً بمجلس واحد ، لم يجعل الله له مخرجاً. فإذاً القرآن يقضي بأن من طلق
زوجته ثلاثاً في مجلس واحد فهو ثلاث. وهناك أحاديث صحيحة كثيرة نصَّت على أنَّ
الرجل إن طلق ثلاثاً في مجلس واحد فهو ثلاث ولكنه طلاق بدعي مكروه، ومن ذلك حديث
رواه الشيخان عن عويمر العجلاني رضي الله عنه وقد اتهم زوجته بالزنا، وجاء إلى
رسول الله صلى الله عليه و سلم، فدله على الملاعنة التي أنزلها الله تعالى في محكم
كتابه. و لكنه لم يكن يعرف أنَّ نتيجة الملاعنة التفريق الأبدي، وعندما علم ذلك
جلس أمام ركبتي رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال: " يا رسول الله كذبتُ
عليها إن أمسكتها هي طالق ثلاثاً ". فإذاً عويمر العجلاني طلق زوجته في مجلس
رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثاً بكلمة واحدة ، و لولا أنَّ هذا كان جارياً
في عصر النبوة لما قال ذلك.
وحديث
فاطمة التي قالت لسيدنا عمر طلقني زوجي البتة فلم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه
و سلم نفقة و لا سكنى ، كلمة البتة كناية عن ثلاث طلقات و في ذلك دليل أنَّ النبي
عليه الصلاة و السلام أفتى أنه طلقها ثلاثاً.
أيضاً
ما رواه الشافعي و الترمذي و النسائي و كثيرون عن ركانة رضي الله عنه أنه طلق زوجته
قائلاً أنت طالق البتة، و جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نادماً فقال له
رسول الله صلى الله عليه و سلم: " آلله ( أي أقسم عليك بالله ) ما أرَدتَ (
بكلمة البتة ) إلا واحدة ؟ فقال ركانة: " والله ما أردتُ بها إلا واحدة
". فأعادها رسول الله صلى الله عليه و سلم له، فلو لم تكن كلمة البتة تعني
ثلاثاً لَما سأل النبي صلى الله عليه و سلم ركانة ماذا أراد من قوله البتة، و لو
لم يكن طلاق الثلاثة في المجلس الواحد يقع لما سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم
ركانة عن قصده بكلمة البتة. أما حديث مسلم الذي يرويه عن طاووس و عن ابن عباس:
" كان طلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم واحدة في عهد رسول
الله صلى الله عليه و سلم و في عهد أبي بكر و في صدر من خلافة عمر ثم قال عمر إنَّ
الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فمن استعجل أناة الله ألزمناه بها "،
قال ابن جرير الطبري في شرح هذا الحديث و أبو وليد الباجي و النووي في شرحه على
صحيح مسلم، معناه أي كان الرجل في صدر الإسلام إذا أراد أن يطلِّق زوجته ثلاث
تطليقات لا يستعمل إلا نفس اللفظة أي لفظه البتة فيقول: " أنت طالق البتة
"، و إذا أراد أن يطلق طلقة واحدة قال : " أنت طالق البتة ".
فالبتة كناية عن طلقة واحدة أو ثلاث حسب النية، و كان الشائع الأغلب في عهد النبي
صلى الله عليه و سلم و في عهد أبي بكر و شطر من عهد عمر أنه يقصد بذلك طلقة واحدة.
هذا هو الغالب والعام لأنه نادر جداً من الصحابة من طلق ثلاث مرات دفعة واحدة لأنَّ
ذلك محرَّم. فكان الرجل إذا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أو أبي بكر و
قال له إني طلقتُ زوجتي البتة، صحيح أنَّ البتة كناية عن طلاق الثلاث و لكن الشائع
الأغلب أنه يقصد بها واحدة، لذلك كان يُسأل عن نيته، فإذا قال واحدة حُكِمَ له
بواحدة. ولمّا كانت خلافة عمر تغيَّر حال الناس و أخذ كثير من الناس يطلق ثلاث
طلقات بكلمة واحدة، و شاع بينهم استعمال لفظ البتة على الثلاث، لذلك حكم عمر على
من قال له إني طلقتُ زوجتي البتة أنه طلقها ثلاثاً إلا أن يُقسِم أنه ما قصد إلا
واحدة ذلك لأننا نحكم على الألفاظ حسب العرف فإذا كان عرف الناس أن يطلِّقوا طلاق
البتة و يقصدون به ثلاثاً وقع ثلاثاً كما أصبح العرف في عصرنا لمن قال لزوجته أنت
عليّ حرام وقع طلاقاً و هذا اللفظ في أصله كناية و لكن لما شاع استعمال الناس له
على أنه طلاق أصبح يُفتى لمن قال هذا اللفظ لزوجته أنه طلقها. و هذا الذي قال به
عمر من أن من طلق زوجته ثلاثاً في مجلس واحد وقعت ثلاث تطليقات و بانت منه بينونة
كبرى و هو ما قاله جمهور علماء الحديث و أجمعت عليه الأمة. إذاً هذا الحديث في
وادٍ و ما استدلَّ عليه و فهمه أحمد أمين في واد آخر!
شبهة
أخرى: عندما انتصر جيش عمر في القادسية بقيادة سعد بن أبي وقاص و فتح المسلمون
العراق، غنم المسلمون غنائم كثيرة و أموال منقولة و غير منقولة. أمَّا الأموال غير
المنقولة فقد اعتُبِرَت أنها سواد العراق و هي مثل غوطة دمشق أراضٍ واسعة شاسعة
كلها مزروعة. سيدنا عمر قسم الأموال المنقولة على الجيش و لكنه لم يقسم السواد و
ذلك بعد أن شاور الصحابة مثل سيدنا معاذ و علي و عثمان و جمهور الصحابة كانوا معه
في ذلك.
يقول
بعض المستشرقين: تعاطى عمر مع روح النص حين فعل ذلك لأنه خلاف الآية القائلة:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}[الأنفال: 41].
الجواب
على هذه الشبهة ما يلي: قال عمر و وافقه على ذلك جمهور الصحابة، لو قسمنا هذه
الأراضي الشاسعة سيمتلكها المسلمون في هذا العصر وتأتي الأجيال الأخرى و ليس لهم
شيء، فرأى أنه من الخير أن تكون هذه الأراضي ملكاً لبيت مال المسلمين حتى تستغني
الأجيال به إلى ما شاء الله. و لكن يا ترى هل تجاوز عمر بذلك النص؟
قال
تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الحشر: 7]
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]. إذاً استناداً
على قول الله تعالى هذا تُعطى هذه الأموال غير المنقولة لله أي للمصالح العامة و
للرسول ( و مِن بعدِه لبني هاشم ) و لذي القربى و اليتامى و المساكين و الفقراء و
الأجيال الآتية من بعدهم، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ
يَقُولُونَ}. لذلك قال عمر إذا وزعتُ هذه الأراضي الآن و امتلك كل واحد منكم قسماً
منها، كيف يمكن أن أنفذ أمر الله في أن أجعل في هذه الأراضي حصصاً للأجيال القادمة
؟!!! أما ما جاء في سورة الأنفال، فالمقصود به الغنائم المنقولة. و الآن بعد هذا
التوضيح أليس هذا تمسُّكاً بالنص من سيدنا عمر؟ و لكن من يفقه؟ و من يعلم كيف
يستخرج الأحكام من النصوص؟ و هذا لا يعني أنَّ الإنسان لا يبحث عن المصلحة و لكن
المصلحة تكون مع النص لأنَّ الله تعالى أعلم أين تكون مصلحة العباد. أمّا ما ليس
فيه نص كالمصالح المرسلة، فها هو عمر الذي خطط لبناء الكوفة و البصرة حيث أرسل
مهندسه و أمر أن تكون الشوارع الأساسية عرض 30 ذراع و الشوارع الفرعية عرض 20
ذراع، والبيوت التي تُبنى على الشوارع الأساسية لا مانع من أن يكون ارتفاعها
عالياً و البيوت التي من ورائها أخفض.
عندما
فُتِحَت العراق و الشام جمع عمر مجلس شوراه و قال لهم رأيتُ التجارة بأيدي الأقباط
و إني آمركم أن تتجروا فقال له بعض الحاضرين يا أمير المؤمنين أمر كُفيناه أي
الأقباط كفونا العمل، كأنه يقول أنَّ الله تعالى جعلهم خدّاماً لنا، فلماذا نتاجر
؟ قال عمر: "لأن قلتم هذا والله ليكوننَّ رجالكم تَبَعاً لرجالهم و ليكوننَّ
نساؤكم تبعاً لنسائهم ". فإذاً كان عمر كغيره من الصحابة الكرام يهتم بمصلحة
المسلمين، و هذه الأمثلة التي ذكرناها من المصالح المرسلة . أما إذا كان هناك نص،
فكان عمر و باقي الصحابة أكثر من يتمسك به لأنهم يعلمون حقاً أن المصلحة مع النص
{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
-3
الدور الثالث
التشريع في عهد صغار
الصحابة و التابعين
يبتدىء
هذا الدور من ولاية معاوية ابن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه، أي في بداية العهد
الأموي سنة 41هجرية إلى أوائل القرن الثاني من الهجرة.
¯ مميزات
و خصائص هذا الدور:
-1
تفرُّق المسلمين سياسياً و اتساع نطاق الخلاف لظهور نزعتين سياسيتين بعد مقتل
عثمان رضي الله تعالى عنه و هما: الخوارج و شيعة علي ( وهي فئة سياسية، أي لها بعض
الآراء السياسية المعينة لا أنها كانت تخالف المسلمين في بعض أمور الدِّين كحال
الشيعة في عصرنا، أما الشيعة كمذهب ديني كما هو في عصرنا لم يكن له وجود في ذلك
العصر و لم يظهر هذا المذهب إلا في القرن الثالث الهجري).
-2
انتشار الصحابة في البلاد بعد أن كانوا محصورين بين مكة و المدينة و ذلك لاتساع
رقعة الإسلام و الاحتياج إلى فتاوى جديدة و بالتالي إلى سماع الأحاديث.
-3
ظهور الكذب في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، و ذلك للأسباب
التالية:
أ
- وجود الزنادقة و أعداء الدين من اليهود ( كعبد الله بن سبأ ) و الروم و المزدكية
وغيرهم الذين كانوا يكيدون للإسلام باطلاً، و هؤلاء لبسوا مسوح الإسلام و كانوا
يُظهرون التَّدين و يجلسون مجلس الرواية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
ليستمعوا الأحاديث ثم يجلسون مجالس أخرى يعلِّمون الناس فيها أحاديث مكذوبة. و قد
تلبَّس كثير من هؤلاء المجرمين بالجرم المشهود فعوقبوا و أنزلت بهم الخلافة
الإسلامية آنذاك أشد العقوبات فكان أحدهم يقول قبل أن يُقتَل لينفِّس عن غيظه: أين
أنتم من الأحاديث التي وضعتُها فيكم أحرِّمُ الحلال و أحِلُّ الحرام.
ب-
انتصار المتعصبين لمذاهبهم كدعاة المبتدعة: يروي عبد الله بن ذريعة يقول: قال لي
شيخ من الخوارج تاب: " إنَّ هذا الحديث دين ، فانظروا عمَّن تأخذون الحديث،
فإنّا كنا إذا رأينا رأياً جعلناه حديثاً ".
و
كذا من فئة الشيعة، ورد أنَّ جابر الجم و هو ممن غالى من التشيع قال أنا عندي
خمسون ألف حديث، يرويها ابتداعاً عن رسول الله صلى الله عليه و سلم.
ج-
العاطفة الإسلامية الفجة التي لا تضبطها قواعد العلم، كالتي نجدها عند جهلة
المتعبدين الذين وضعوا الأحاديث في الفضائل و غيرها. أراد بعض الجهلة أن
يُرَغِّبوا العامة في الجنة و يخوِّفوهم من النار، فأخذوا يضعون ( أي يختلقون )
الأحاديث و هم يقولون إذا وقعوا بيد العلماء: " نحن نكذب لرسول الله صلى الله
عليه و سلم و لا نكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم " !.
د-
رغبة بعض الفسقة من المحدثين في جمع عدد كبير من الناس حولهم في المساجد و تنافسهم
فيما بينهم لجعل حلقة الواحد منهم أكبر من حلقة غيره، و هذه الظاهرة نجدها حتى في
عصرنا اليوم فتجد واحداً ممن ادعى العلم يروي الأحاديث الموضوعة و المكذوبة في
دروسه و عامة الناس لا يعرفون لا بل يظنونه من كبار العلماء ! و كان العلماء
يحذِّرون من مجالسة هؤلاء القصاصين.
¯ فائدة:
من علامات الحديث الموضوع ما يلي:
-1
ذكر أعداد كثيرة ( سبعون ألفاً مع كل ألف ... )
-2
الأجر الكثير على العمل القليل .
-3
قصص عن سيدنا موسى و سيدنا داود عليهما السلام.
-4
الأحاديث المتعلقة بفضائل بعض السُّوَر المذكورة في بعض كتب التفاسير، أما
الأحاديث الواردة في فضل سورة البقرة و آل عِمران و الكهف و يس و تبارك و الإخلاص
و ما شابه فيُحتج بها.
من
هنا كان لا بد من صحوة المسلمين لمجابهة هذا الخطر، فمنعوا رواية الحديث و حصروها
فيمن كانوا أهلاً لذلك. و بدأ تدوين السنّة بأمر من عمر بن عبد العزيز، ففي عام 99
هجرية كان أبو بكر بن حزم أول من دوَّن أحاديث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
وجمعها بين دفتي كتاب و من ثم تبعه الكثيرون كسفيان بن عيينة و غيره. و باشر
العلماء أيضاً بتدوين العلوم الكفيلة بحفظ الرواية كعلم الجرح و التعديل، و وضع
شروط الرواية و شروط الحديث الصحيح و الحسن و الضعيف و المرسل و الموقوف ... و في
ما يلي نورد بعض التعاريف المهمة المتعلقة بعلم مصطلح الحديث:
¯ نبذة
عامة بمصطلح الحديث :
لقد
تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله تعالى عليه و سلم كما نعلم ، في وجوب الأخذ
بهديه في كل شيء من الأمور، و من ذلك قوله صلى الله تعالى عليه و سلم: "
عليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ،
و إياكم و مُحدَثات الأمور فإن كل محدثة بِدعة، و كل بدعة ضلالة .
والنبي
صلى الله تعالى عليه و سلم قد حض على اتباع سنته لما فيها من مضاعفة الأجر:
قال
صلى الله تعالى عليه و سلم: " من أحيى سنة من سنتي قد أميتت بعدي كان له من
الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً "، أخرجه الترمذي. و
عنه صلى الله عليه و سلم قال: " المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر مائة
شهيد "، أخرجه الطبراني في الأوسط و البيهقي في الزهد.
لذلك
عنيت الأمة الإسلامية بالحديث النبوي، و بذلت من أجله أعظم الجهد. فقد نقل لنا
الرواة أقوال الرسول عليه الصلاة و السلام في الشؤون كلها العظيمة و اليسيرة، بل
الجزئيات التي قد يتوهم أنها ليست موضع اهتمام، حتى يدرك من يتتبع كتب السنة أنها
ما تركت شيئاً صدر عنه صلى الله تعالى عليه و سلم إلا روته و نقلته. و لقد علم
الصحابة بقيادة الخلفاء أنهم خرجوا هداة لا جباة، فأقام الكثير من الصحابة
الفاتحين في أصقاع متفرقة ينشرون العلم و يبلِّغون الحديث.
و
نجد هذا الحرص، يسري من الصحابة إلى التابعين فمن بعدهم … من هنا تقرر للناظر
حقيقة لها أهميتها، و هي أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يرجع إليهم الفضل في
بدء علم الرواية للحديث، ذلك لأن الحديث النبوي في حياة المصطفى كان عِلماً يُسمَع
و يُتَلقَّف منه صلى الله تعالى عليه و سلم - كما مر معنا - فلما لحق صلى الله
عليه و سلم بالرفيق الأعلى، حدَّث عنه الصحابة بما وعته صدورهم الحافظة و رووه
للناس بغاية الحرص و العناية، فصار عِلماً يُروى و يُنقَل، و وجد بذلك علم الحديث
رواية حيث وضع الصحابة له قوانين تحقق ضبط الحديث، وتميز المقبول من غير المقبول و
من هنا نشا علم مصطلح الحديث.
تعريف
الحديث : هو " ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه و سلم من قول أو فعل أو تقرير
أو وصف خِلقي أو خُلقي ".
ومعنى
عِلم الحديث كتعبير لغوي إدراك الحديث، و لكنه استُعمِلَ عند العلماء كاصطلاح
يطلقونه بإطلاقين:
أحدهما:
علم الحديث رواية أو رواية الحديث.
والثاني:
علم الحديث دراية أو علم دراية الحديث.
عِلم
الحديث رواية: " هو عِلم يشتمل على أقوال النبي صلى الله عليه و سلم و أفعاله
و تقريراته و صفاته و روايتها و ضبطها و تحرير ألفاظها ". فهو عِلم موضوعه ما
أضيف إلى النبي صلى الله عليه و سلم، و يبحث عن روايتها و ضبطها و دراسة أسانيدها
و معرفة حال كل حديث ،من حيث القوة والضعف. كما يبحث في هذا العلم عن معنى الحديث
و ما يُستنبَط منه من الفوائد. باختصار، فعلم الحديث روايةً يحقق بذلك غاية عظيمة
جداً تقوم على " الصون عن الخلل في نقل الحديث ".
عِلم
الحديث دراية: و يُطلَق عليه " مصطلح الحديث "، و هو: " علم
بقوانين يُعرَف بها أحوال السند و المتن ".
والسند
هو حكاية رجال الحديث الذين رووه واحداً عن واحد إلى رسول الله صلى الله عليه و
سلم. و أحوال السند: هي ما يطرأ عليه من اتصال، أو انقطاع، أو تساهل بعض رجاله في
السماع، أو سوء الحفظ، أو اتهامه بالفسق أو الكذب أو غير ذلك.
وأما
المتن: فهو ما ينتهي إليه السند من الكلام. و أحوال المتن، هي ما يطرأ عليه من
رفع، أو وقف، أو شذوذ أو علة، أو غير ذلك. فعلم المصطلح يضبط رواية الحديث و يحفظ
الحديث النبوي من الخلط فيه أو الافتراء عليه، و لولا هذا العلم لاختلط الحديث
الصحيح بالضعيف و الموضوع و لاختلط كلام رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم
بكلام غيره!. و يُعتَبَر القرن الثالث الهجري عصر التدوين الذهبي للسنَّة، و فيه
أصبح كل نوع من أنواع الحديث علماً خاصاً، فأفرد العلماء كل نوع منها بتأليف خاص.
و لقد توالت سلسلة الجهود العلمية متواترة متضافرة لحمل الحديث النبوي و تبليغه
عِلماً و عملاً، فناً و دراسة و شرحاً، منذ عهد النبي صلى الله عليه و سلم إلى
عصرنا الحاضر، و إنها حقاً لمكرمة عظيمة أكرم الله بها هذه الأمة، بل هي معجزة
تحقق صدق التنزيل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. قال الحافظ أبو علي الجياني: "خص الله تعالى هذه
الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها: الإسناد، و الأنساب، و الإعراب".
¯ أهم
مراتب الحديث من حيث القوة والضعف:
-1
الحديث الصحيح: هو الحديث الذي اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط من
أوله إلى منتهاه، دون شذوذ أو علة.
فالعدالة
والضبط يحققان أداء الحديث كما سُمِعَ من قائله، و اتصال السند على هذا الوصف من
الرواة يمنع اختلال ذلك في أثناء السند، و عدم الشذوذ يحقق و يؤكد ضبط هذا الحديث
الذي نبحثه و أنه لم يدخله وهم، و عدم الإعلال يدل على سلامته من القوادح الخفية،
فكان الحديث بذلك صحيحاً لتوفر النقل الصحيح ، فيُحكَم له بالصحة إجماعاً.
-2الحديث
الحسن: هو الحديث الذي اتصل إسناده بنقل عدل خفَّ ضبطه.فهو كالحديث الصحيح إلا
أنَّه في إسناده من خفَّ ضبطه.
بالمقارنة
بين هذا التعريف، و بين تعريف الحديث الصحيح، نجد أن راوي الحديث الصحيح تام
الضبط، أما راوي الحديث الحسن فهو قد خف ضبطه.
فالمقصود
أنه درجة أدنى من الصحيح، من غير اختلال في ضبطه و ما كان كذلك يحسن الظن بسلامته
فيكون مقبولاً.
-3
الحديث الضعيف: هو الحديث الذي فقد شرطاً من شروط الحديث المقبول من عدالة أو ضبط
أو اتصال أو سلامة من الشذوذ والعلة.
-4الحديث
الموضوع: هو المُختَلَق المصنوع. أي الذي يُنسَب إلى رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم كذباً، و ليس له صلة حقيقة بالنبي صلى الله تعالى عليه و سلم، و هو ليس
بحديث.
-5الحديث
الموقوف: هو ما أُضيف إلى الصحابة رضوان الله تعالى عليهم. سُمِّيَ موقوفاً لأنه
وقف به عند الصحابي، و لم يرفعه إلى النبي صلى الله تعالى عليه و سلم. و بعض
العلماء يطلقون على الموقوف اسم الأثر.
-6الحديث
المقطوع: هو ما أُضيف إلى التابعي.
-7
الحديث المُرسَل: هو ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بأن يقول:
"قال رسول الله صلى الله عليه و سلم" سواء كان التابعي كبيراً أو
صغيراً.
¯ علم
الجرح و التعديل:
الجرح
عند المحدثين هو الحكم على راوي الحديث بالضعف لثبوتب ما يسلب أو يخل بعدالته أو
ضبطه. و التعديل هو عكسه، و هو تزكية الراوي و الحكم عليه بأنه عدل ضابط.
فعلم
الجرح و التعديل هو ميزان رجال الرواية ، به نعرف الراوي الذي يُقبَل حديثه و
نميزه عمن لا يُقبَل حديثه. و من هنا اعتنى به علماء الحديث كل العناية، و بذلوا
فيه أقصى جهد، و تكبدوا المشاق، ثم قاموا في الناس بالتحذير من الكذابين و الضعفاء
المخلطين و لقد انعقد إجماع العلماء على مشروعيته، بل على وجوبه للحاجة الملجئة
إليه.
ولقد
اشتُرِطت شروط لا بد من أن تتوفر في الجارح و المعدل لكي تجعل حكمه منصفاً كاشفاً
عن حال الراوي، كالعلم، و التقوى، و الورع، و الصدق، واليقظة التي تحمله على
التحري و الضبط و أن يكون عالِماً بأسباب الجرح و التعديل و بتصاريف كلام العرب
فلا يضع اللفظ لغير معناه.
ولقد
تعجب علماء الغرب و قالوا نحن لا نتصور أنَّ أي حضارة ينشأ فيها علم كهذا، لأنه
علم يحتاج إلى جهد كبير و إنفاق الأموال و السفر ... و لكن لو علموا كيف كان حب
المسلمين لرسول الله صلى الله عليه و سلم، و كيف كان الواحد منهم يفديه بروحه كما
فعل ذاك الصحابي في معركة أُحُد وهو سيد الأنصار، حيث جعل من نفسه و صدره و وجهه
درعاً لرسول الله صلى الله عليه و سلم، و عندما انتهت المعركة أرسل النبي عليه
الصلاة و السلام يتفقده، جاءه الصحابة فوجدوه ملقياً على الأرض على شفير الموت،
سألوه عن حاله فقال لهم: " كيف رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ قالوا: بخير،
قال:إذاً أنا بخير و الحمد لله ، بلِّغوا عني الأنصار ، لأن متم جميعاً فداءً
للنبي صلى الله عليه و سلم خير لكم من أن يجرح رسول الله صلى الله عليه و سلم بجرح
".
لذلك
شعر علماء المسلمين أنهم بعملهم هذا ( و هو تدوين السنة ) إنما يدافعون عن رسول
الله صلى الله عليه و سلم و عن حديثه، فكان الواحد منهم يشقي نفسه و يفني عمره
بالسهر و التعب و السفر و إنفاق الأموال في سبيل المحافظة على سنّة الحبيب محمد
صلى الله عليه و سلم ، جزاهم الله تعالى عن أمة الإسلام كل خير.
¯ أهم
كتب الرواية في القرنين الثاني و الثالث هجري:
-1
موطأ مالك : و يعود تدوين هذا الكتاب إلى منتصف القرن الثاني هجري ، وقد استغرق
تصنيفه و جمعه و تحريره أربعين عاماً. أما عن تسميته، فقد رُوِيَ عن الإمام مالك
أنه قال : " عرضتُ كتابي هذا على سبعين فقيهاً من فقهاء المدينة، كلهم
وطَّأني عليه فسمَّيته الموطأ، ( وطَّأ أي وافق ).
جمع
في الموطأ 1720 حديثاً مرفوعاً و600 مرسلاً و222 موقوفاً و أقوال التابعين
وفتاويهم.
و
الموطأ له مكانة عالية جداً و أغلب ما فيه صحيح. قال الشافعي: " ما على ظهر
الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك ". ولم يكن كتاب البخاري قد ظهر
بعد.
-2
مُسنَد الإمام أحمد: دوَّنه في أول القرن الثالث هجري و يُعتبَر من أشهر دواوين
السُنة المشهورة وأجمعها للأحاديث، فقد وضع فيه الإمام أحمد قُرابة ثلاثين ألف
حديث، انتقاها من نحو سبعمائة وخمسين ألف حديث. ولقد راعى فيه تسلسل نظام الطبقات
بالنسبة للصحابة الذين أسند إليهم الحديث، حيث قدَّم أولاً أحاديث العشرة
المُبَشَّرين بالجنة وأولهم الخلفاء الأربعة ثم بعدهم أحاديث أهل البيت وأقدم
الصحابة إسلاماً ...
أكثر
أحاديث المسند صحيحة بل وفيه من الأحاديث الصحيحة زيادة على ما في الصحيحين بل
والسنن الأربعة، وفيه الحديث الحسن والضعيف، ويُقال إنَّ فيه بعض الأحاديث
الموضوعة ولكن ما وُجِدَ فيه لا يزيد عن أربعة أحاديث وقد اعتُذِرَ عنها بأن تركها
الإمام أحمد سهواً، و قد عاجلته منيَّته قبل إتمام تنقيح المسند منها، و قيل هي من
زيادة ابنه عبد الله بن أحمد.
-3
صحيح البخاري: و يسمى الجامع الصحيح و يُعتَبَر صحيح البخاري عند أهل السُنة و
جمهور الفقهاء والأصوليين أصح كتب السنة والأحاديث على الإطلاق، بل هو عندهم أصح
كتاب بعد القرآن الكريم.
ويُعتبَر
صحيح البخاري أول كتاب دُوِّنَ في بداية النصف الثاني من القرن الثالث هجري، وقد
بذل الإمام البخاري في تصنيف كتابه " الجامع الصحيح " جهداً كبيراً
ووقتاً طويلاً بلغ ستة عشر عاماً حتى جمعه.
وقد
اختار أحاديثه من ستمائة ألف حديث، واقتصر على إخراج الصحيح منها ولم يستوعب كل
الصحيح بل اختار منه ما وافق شرطه، وقد ترك من الصحيح أكثر مما أثبته لئلا يطول
الكتاب. جمع الإمام البخاري في كتابه هذا نبذة من أحاديث الأحكام والفضائل
والأخبار والأمور الماضية و المستقبلية بالإضافة إلى الآداب والرقائق والدعوات
والمغازي والسِّيَر لذلك سمي كتابه بالجامع الصحيح . وما كان من الأحاديث غير
المسندة مما لم يتصل سنده من المعلقات، مما حُذِفَ من أول سنده راوِ أو أكثر فهذا
خارج عن نمط الكتاب ومنهجه وموضوعه و مقاصده ، وإنما أورده البخاري للإستشهاد فقط
في تراجم أبواب الكتاب ولا يوجد شيء منها في صلب الكتاب. و مما ينبغي أن يُعلَم
أنَّ ما أورده البخاري منها بصيغة الجزم مثل " قال " و " ذكر
" وروى " فهذا يفيد الصحة إلى من علَّق عنه، وأما ما علَّقه عن شيوخه
بصيغة الجزم فليس من المعلَّق و إنما هو من المتصل و قد يعلِّق البخاري الحديث في
بعض المواضع من الجامع الصحيح و هو بسند متصل في مكان آخر في نفس الصحيح و قد يكون
الحديث معلقاً عنده في الصحيح و هو صحيح متصل عند مسلم أو عند غيره من أصحاب كتب
السنة المشهورة. أما إذا كان المعلق بصيغة لا تدل على الجزم و يقال لها صيغة
التمريض مثل " قيل "و " يُروى " و"يُذكر"، فهذا لا
يستفاد منه الصحة ولا عدمها بل يحتمل.
حاديث
الجامع الصحيح على ما حققه ابن حجر بلغت 2602 حديثاً غير مكرراً، و إنَّ جملة ما
فيه من الأحاديث المكررة سوى المعلقات والمتابعات 7398 حديثاً و جملة ما فيه من
المعلقات 341 وجمع ما فيه بالمكرر 9082.
أجمع
شروحه:
-1
فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي .
-2
عمدة القاري بشرح البخاري للعيني الحنفي.
-4
صحيح مسلم : يسمى الجامع الصحيح و يُعتبَر ثاني كتب الصحاح. استغرق جمعه 12 عاماً،
وقد انتقاه من ثلاثمائة ألف حديث. جملة ما في صحيح مسلم دون المكرر أربعة آلاف
حديث وهو بالمكرر يزيد على صحيح البخاري لكثرة طُرُقه. لم يستوعب البخاري ومسلم في
صحيحيهما كل الأحاديث الصحيحة ولا التزما إخراج كل الصحيح وإنما أخرجا من الصحيح
ما هو على شرطهما. فقد رُويَ عن البخاري أنه قال: " ما وضعتُ في كتابي الجامع
إلا ما صح و تركتُ من الصحاح مخافة الطول ". وقال مسلم: " ليس كل شيء
عندي صحيح وضعتُه هنا وإنما وضعتُ ما أجمعوا عليه ". إذاً فإنَّ كثيراً من
الأحاديث الصحيحة توجد عند غيرهما من الكتب المعتمَدة ، ممن التزم أصحابها إخراج
الصحيح فيها كمستدرك الحاكم وصحيح ابن حِبَّان و صحيح ابن خزيمة. والصحيح أن يُقال
إنه لم يفُت الأمهات الست - الصحيحين و السنن الأربعة ( سنن أبي داود وسنن الترمذي
و سنن ابن ماجه و سنن النَّسائي ) - إلا اليسير من الأحاديث الصحيحة و توجد هذه
الزوائد من الأحاديث الصحيحة في مسند أبي يعلى و البزَّار و بقية السنن الأخرى.
-5
سنن أبي داود: اعتنى أبو داود بأحاديث الأحكام خاصة و انتقى صحيحه من خمسمائة ألف
حديث واشتمل على أربعة آلاف حديث من أحاديث الأحكام خاصة، لذلك فهو مرجع للفقهاء
في أحاديث الأحكام. وهذا الكتاب هو أول السنن الأربعة و أقدمها منزلة بعد
الصحيحين. قال أبو داود: " قد ذكرتُ فيه الصحيح وما يقاربه وما كان فيه وهن
شديد بيَّنتُه و ليس في كتابي هذا الذي صنَّفتُه عن رجل متروك الحديث شيء ".
و لكن مع هذا فهو لا ينص على صحة الحديث ولا ضعفه، فيسكت عنه. وما سكت عنه في
منهجه صالح للإحتجاج به و لكن العلماء تتبعوا أحاديث السنن و دققوا فيها وحكموا
عليها.
-6
جامع الترمذي: ويسمى سنن الترمذي، ويُعتبَر في المرتبة الثانية بعد سنن أبي داود.
التزم فيه الترمذي بأن لا يُخَرِّج إلا حديثاً عَمِلَ به فقيه أو احتج به مجتهد.
ولم يلتزم الترمذي بإخراج الصحيح فقط و لكنه أخرج الصحيح ونصَّ على صحته و أخرج
الحسن و بيَّنه و نوَّه به وأكثر من ذِكره وهو الذي شهره، وأخرج الحسن الصحيح.
يُعتبَر كتاب الترمذي من مظان الحديث الحسن. وأخرج أيضاً الضعيف ونصَّ على ضعفه
وأبان علته وأخرج بعض الأحاديث المنكرة في باب الفضائل و نبَّه عليها غالباً.
تميَّز كتابه بالاستدلالات الفقهية واستنباط الأحكام من الأحاديث وبيَّن من أخذ
بها أو عمِلَ بها من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين من فقهاء الأمصار. وقد
تضمَّن كتابه أيضاً كتاباً آخر سماه " العلل "، كشف فيه علل بعض
الأحاديث و بذلك يكون جامع الترمذي قد تضمَّن فوائد كثيرة.
-7
سنن النَّسائي: صنَّف النسائي "سننه الكبرى" التي تُعتبَر أقل الكتب - بعد
الصحيحين - حديثاً ضعيفاً ورَجُلاً مجروحاً ، ثم استخلص منه " السنن الصغرى
" و تسمى " المجتبى " و هذا الكتاب هو أقل السنن حديثاً ضعيفاً و
عدد أحاديثه 5761 حديثاً.
-8
سنن ابن ماجه: يُعتبَر هذا الكتاب أدنى الكتب الستة في الرتبة. رتب ابن ماجه
الأحاديث فيه على أبواب الفقه شأنها شأن السنن الأخرى. جمع فيه 4341 حديثاً منها
3002 حديثاً أخرجها أصحاب الكتب الخمسة و 1339 حديثاً زائداً عن الكتب الخمسة،
منها 428 حديثاً صحيحالإسناد و613 حديثاً ضعيفاً والباقي 99 حديثاً ما بين واهٍ أو
منكر أو موضوع.
خلاصة:
إنَّ أصحاب السنن الأربعة لم يلتزموا إخراج الصحيح فقط كما فعل صاحبا الصحيحين
البخاري ومسلم، بل أخرجوا الصحيح والحسن والضعيف، وتتفاوت كتبهم في المنزلة بحسب
تفاوتهم في العلم والمعرفة، ولقد كان منهجهم في التأليف هو ترتيب الأحاديث على
أبواب الفقه والاقتصار على أحاديث الأحكام. أما أصحاب الجوامع فقد تناولوا مع
أحاديث الأحكام أحاديث العلم والوحي والتفسير والمغازي والسَّيَر والقصص والفتن و
أشراط الساعة و غير ذلك من المواضيع العامة الجامعة لكثير من الأبواب.
و
نخلص إلى القول أن كل ما في صحيح البخاري و مسلم صحيح و أغلب ما في السنن الأربعة
صحيح.
¯ فوائد:
-
إذا قيل رواه الشيخان أو مُتَّفق عليه أو أخرجه صاحبا الصحيحين ، فمعناه أنه رواه
البخاري و مسلم فيصحيحيهما، وقد يرمز له بعض المحدِّثين ب" ق " أي متفق
عليه.
-
إذا قيل رواه الجماعة، يُقصَد به أصحاب الكتب السبعة: الصحيحان و السنن الأربعة و
مسند أحمد.
-
إذا قيل رواه الستة، فهم البخاري ومسلم وأبو داود ة الترمذي و النسائي و ابن ماجه
ما عدا مسند الإمام أحمد.
-
إذا قيل رواه أصحاب السنن أو الأربعة فيعني أصحاب السنن عدا البخاري و مسلم.
-
إذا قيل رواه الخمسة فهم أصحاب السنن الأربعة وأحمد فقط.
-
إذا قيل رواه الثلاثة فهم أصحاب السنن ماعدا ابن ماجه.
ملاحظة:
للبخاري كتب أخرى غير الجامع الصحيح مثل الأدب المفرد وغيره ولم يلتزم البخاري
بهذه الكتب الصحة كما التزمها في الجامع الصحيح.
-4الدور
الرابع
من
تاريخ التشريع الإسلامي
ويمتد
من أوائل القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع وهو دور تدوين السنة و الفقه وظهور
كبار الأئمة الذين اعترف لهم الجمهور بالزعامة و سيأتي فيما يلي ترجمة كل واحد
منهم:
-1
ترجمة الإمام الأكبر أبي حنيفة النعمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه
بشارة
النبي صلى الله عليه و سلم به : قال النبي صلى الله عليه وسلم مبشراً بأبي حنيفة:
" لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به رجل من فارس ". وفي لفظ لمسلم:
" لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به رجل من أبناء فارس حتى يتناوله ".
نزل
ثابت والد الإمام الكوفة وكان من وجوه بلاد فارس، وعمل بالتجارة و كان ماهراً فيها
و حافظ على نفس المستوى الاجتماعي الذي عاشته الأسرة من قبل، في رخاء و بحبوحة.
التقى ثابت الإمام عليّ كرَّم الله وجهه الذي دعا له بالبركة فيه وفي ذريته.
والإمام
أبو حنيفة هو النعمان بن ثابت بن زوطي، ولِدَ سنة 80 من الهجرة بالكوفة. بدأ أبو
حنيفة و منذ نعومة أظافره يذهب مع أبيه إلى متجره حيث كان يلازمه ويتعلم منه أصول
وأسس التعامل مع البائعين والمشترين، وتابع خطى أبيه و عاش في رخاء ويُسر وكان
بزّازاً أي تاجر أقمشة وثياب وكان له شريك في متجره يساعده.
حرصه
على الكسب الحلال: كان يقول: " أفضل المال الكسب من الحلال وأطيب ما يأكله
المرء من عمل يده ".
جاءته
امرأة بثوب من الحرير تبيعه له فقال كم ثمنه، قالت مئة، فقال هو خير من مئة، فقالت
مئتين، فقال هو خير من ذلك، حتى وصلت إلى أربع مئة فقال هو خير من ذلك، قالت أتهزأ
بي؟ فجاء برجل فاشتراه بخمسمائة.
وذات
يوم أعطى شريكه متاعاً وأعلمه أنَّ في ثوب منه عيب وأوجب عليه أن يبين العيب عند
بيعه. باع شريكه المتاع ونسي أن يبين ولم يعلم من الذي اشتراه، فلما علم أبو حنيفة
تصدَّق بثمن المتاع كله.
وكان
أبو حنيفة يجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة فيشتري بها حوائج الأشياخ و المحدثين
و أقواتهم وكسوتهم و جميع لوازمهم ثم يدفع باقي الدنانير من الأرباح إليهم ويقول:
أنفقوا في حوائجكم ولا تحمدوا إلا الله فإني ما أعطيتكم من مالي شيئاً ولكن من فضل
الله عليّ فيكم.
كان
الخليفة أبو منصور يرفع من شأن أبي حنيفة و يكرمه ويرسل له العطايا و الأموال و
لكن أبا حنيفة كان لا يقبل عطاءً. و لقد عاتبه المنصور على ذلك قائلاً: لم لا تقبل
صلتي؟. فقال أبو حنيفة: ما وصلني أمير المؤمنين من ماله بشيء فرددته ولو وصلني
بذلك لقبِلتُه إنما وصلني من بيت مال المسلمين ولا حق لي به.
وقع
يوماً بين الخليفة المنصور وزوجته شقاق وخلاف بسبب ميله عنها، فطلبت منه العدل
فقال لها من ترضين في الحكومة بيني وبينك؟ قالت أبا حنيفة، فرضي هو به فجاءه فقال
له: يا أبا حنيفة زوجتي تخاصمني فانصفني منها، فقال له أبو حنيفة: لِيتكلَّم أمير
المؤمنين. فقال المنصور: كم يحلُّ للرجال أن يتزوج من النساء؟ قال: أربع. قال
المنصور لزوجته: أسمعتِ. فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين إنما أحلَّ الله هذا
لأهل العدل فمن لم يعدل أو خاف أن لا يعدل فواحدة لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]، فينبغي لنا أن نتأدَّب مع الله و نتَّعظ
بمواعظه . فسكت المنصور وطال سكوته، فقام أبو حنيفة وخرج فلما بلغ منزله أرسلت
إليه زوجة المنصور خادماً ومعه مال وثياب، فردها وقال: أقرئها السلام وقل لها إنما
ناضلتُ عن ديني وقمتُ بذلك المقام لله ولم أرد بذلك تقرباً إلى أحد ولا التمستُ به
دنيا.
حرصه
على مظهره: كان حريصاً على أن يكون مظهره حسناً تماماً لذا كان كثير العناية بثيابه.
رأى
مرة على بعض جلسائه ثياباً رثة فأمره أن ينتظر حتى تفرَّق المجلس وبقي وحده فقال
له: ارفع المصلى وخذ ما تحته، فرفع الرجل المصلى وكان تحته ألف درهم، وقال له خذ
هذه الدراهم وغيِّر بها حالك، فقال له الرجل إني موسر وأنا في نعمة و لستُ أحتاج
إليه، فقال له أبو حنيفة: أما بلغك الحديث: " إنَّ الله يحب أن يرى أثر نعمته
على عبده " ؟.
طلبه
للعلم: لزم أبو حنيفة عالِم عصره حمّاد بن أبي سليمان وتخرَّج عليه في الفقه و
استمر معه إلى أن مات. بدأ بالتعلم عنه وهو ابن 22 سنة و لازمه 18 سنة من غير
انقطاع و لا نزاع. يقول أبو حنيفة: " بعد أن صحبتُ حمّاداً عشر سنين نازعتني
نفسي لطلب الرياسة، فأردتُ أن أعتزله و أجلس في حلقة لنفسي. فخرجتُ يوماً بالعشيّ
وعزمي أن أفعل، فلمّا دخلتُ المسجد رأيتُه ولم تطب نفسي أن أعتزله فجئتُ فجلستُ
معه، فجاء في تلك الليلة نعي قرابة له قد مات بالبصرة، وترك مالاً و ليس له وارث
غيره، فأمرني أن أجلس مكانه. فما هو إلا أن خرج حتى وردت عليَّ مسائل لم أسمعها
منه، فكنتُ أجيب وأكتب جوابي. ثم قَدِمَ، فعرضتُ عليه المسائل وكانت نحواً من ستين
مسألة، فوافقني بأربعين وخالفني في عشرين، فآليتُ على نفسي ألا أفارقه حتى يموت و
هكذا كان ".
وكان
أبو حنيفة شديد الأدب مع شيوخه حتى أنه كان لا يتخلى باتِّجاه بيت شيخه حمَّاد كان
إذا نام يحرص أن لا تتوجه قدماه باتجاه بيت شيخه حمَّاد. و قيل إن أبا حنيفة لم
يكثر من الشيوخ مخافة أن تكثر حقوقهم عليه فلا يستطيع أداءها، فتأملوا في أدبه
الرائع !.
ولعه
بالفقه الفَرَضي: أولع أبو حنيفة بالفقه الفرضي بخلاف معظم علماء عصره الذين كانوا
يقولون نحن مضطرون أن نُعَلِّم حكم الله في أمر حصل أمّا إذا لم يقع لا نحمِّل
أنفسنا هذه المؤونة. ومعظم شيوخ أبي حنيفة كانوا على هذا المنوال وإن وُجِدَ فيهم
من استجاز لنفسه أن يتوسع قليلاً فإلى حد محدود جداً. وأبو حنيفة كان على النقيض
إذ كان يفرض الوقائع و إن لم تقع و كان يتأمل في حكمها و يعطي كلاً منها فتوى. هذا
الأمر أعطى فقهه غزارة و غنى و مدعاة لأن يتبع الناس الفقه الأوسع والأكثر استجابة
لواقع الحال، فما لم يقع اليوم سيقع غداً لاسيما عندما يكون هذا الإمام عالماً
بعلم الإجتماع و خبيراً بالمشكلات التي ستنجم، مثال ذلك: لقي أبو حنيفة قتادة رضي
الله عنه وهو عالِم من أجلِّ علماء الحديث فسأله ما تقول في رجل غاب عن أهله أمداً
طويلاً ولم يُعرَف مصيره، فتزوجت امرأته من زوج آخر وبعد حين جاء زوجها، ما تقول
في هذا؟ قال قتادة: أوقعت هذه المسألة؟ قال لا، فقال له و قد ظهر الغضب على وجهه:
فلماذا تسألني عنها ؟ قال له هذا الكلام المهم: " إننا نستعد للبلاء قبل
نزوله فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه ".
فتنته
مع أبي هبيرة: كان أبو هبيرة والياً بالكوفة في زمان بني أميّة، فظهرت الفتن
بالعراق، فجمع فقهاءها ببابه وفيهم ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود بن أبي هند،
فولّى كل واحد منهم صدراً من عمله، وأرسل إلى أبي حنيفة فأراد أن يجعل الخاتم في
يده ولا يُنفذ كتاب إلا من تحت يده ولا يخرج من بيت المال شيء إلا من تحت يد أبي
حنيفة. وكان المقصود حمل أبي حنيفة على الولاء له قسراً وقهراً أو إغراءً بالإكثار
من المسؤوليات والمهمات، فامتنع أبو حنيفة وقال لو أرادني أن أعد له أبواب ماجد
واسط لما فعلتُ!
سُجِنَ
أبو حنيفة وضُرِبَ ضرباً مبرحاً مؤلماً أياماً متتالية حتى سقط فاقد الوعي.
منهج
أبي حنيفة العلمي:
كان
يقول: آخذ ما في كتاب الله وبما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم و ربما
اشترط زيادة عن الصحة الشهرة فيما تقتضيه الشهرة في الأحكام والمسائل، فإن لم أجد
آخذ بقول الصحابة، آخذ بقول من شئتُ منهم و أدع قول من شئتُ منهم عندما يختلفون
ولكني ألزم نفسي بالأخذ من الصحابة وإذا لم أجد وآل الأمر إلى إبراهيم النخعي وإلى
التابعين كالأوزاعي، فإني أجتهد كما اجتهدوا ولا ألزم نفسي باتِّباع رأي واحد منهم
ما دام الأمر اجتهادياً. و كان يأخذ بحديث الآحاد و يعمل بها ما أمكن.
مثال:
قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وحديث
النبي عليه الصلاة و السلام يقول: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب
"، متفق عليه، فحكم أنَّ أصل قراءة القرآن في الصلاة ركن، أمّا تقسيم القراءة
للقرآن الكريم إلى الفاتحة وبعض ما تيسر من القرآن فواجب و بذلك عمل بالقرآن و
السنة معاً.
وكذلك
الطمأنينة في الركوع ليست فرضاً عند أبي حنيفة لإطلاق قوله تعالى: {اركعوا}، أمّا
الطمأنينة فثابتة بخبر الآحاد لذلك هي عنده واجبة.
ومن
منهجه أنه يقدِّم السنّة القولية على الفعلية لجواز أن يكون الفعل خصوصية للنبي
صلى الله عليه وسلم.
ويقدِّم
السنّة المتواترة على خبر الآحاد عند التعارض و عدم إمكان الجمع بينهما، كالجمع في
السفر حيث قال أنه جمع صوري وهكذا كان يفعل عبد الله بن عمر. أبو حنيفة لا يجيز
للمسافر أن يجمع بين الصلوات ولكن القصر عنده واجب.
ويقدِّم
السنّة ولو حديثاً مرسلاً أو ضعيفاً على القياس، لذلك قال بنقض الوضوء من الدم
السائل معتمداً على حديث مرسل، و كذلك نقض وضوء و بطلان الصلاة بالقهقهة أيضاً
بحديث مرسل.
ومن
منهجه أيضاً الاستحسان: والاستحسان لغةً هو وجود الشيء حسناً و معناه طلب الأحسن
للإتباع الذي هو مأمورٌ به كما قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17-18]. و هو عند
الفقهاء نوعان:
-1
العمل بالاجتهاد
و غالب الرأي في تقدير ما جعله الشرع مدلولاً إلى آرائنا نحو قوله تعالى:
{مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236]، أوجب ذلك
بحسب اليسار والعسرة و شرط أن يكون بالمعروف، فعرفنا أنَّ المراد ما يُعرَف
استحسانه بغالب الرأي ولا خلاف في هذا النوع.
-2
هو الدليل الذي يكون معارضاً للقياس الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام قبل إمعان
التأمّل فيه، و بعد إمعان التأمل في حكم الحادثة وأشباهها من الأصول يظهر أنَّ
الذي عارضه فوقه في القوة، فإنّ العمل به هو الواجب، فسمّوه بذلك إستحساناً
للتمييز بين هذا النوع من الدليل و بين الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام. مثاله: لو
قال لامرأته: إذا حضتِ فأنت طالق، فقالت: قد حضتُ، فكذَّبها الزوج، فإنها لا
تُصَدَّق في القياس باعتبار الظاهر وهو أنَّ الحيض شرط للطلاق كدخولها الدار
وكلامها زيداً. وفي الاستحسان تُطَلَّق لأن الحيض شيء في باطنها لا يقف عليه
غيرها، فلا بدمن قبول قولها فيه.
العرف
والعادة: هو ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول.
وإنما يكون العرف دليلاً حيث لا دليل شرعي من كتاب وسنة. قال ابن مسعود: ما رآه
المسلمون حسناً فهو عند الله حسن.
وألَّف
ابن عابدين رسالة " العرف " تضمنت مسألة تضمين الخياط و الكواء ( و
مثالهما إذا أحرقا القماش أو أضاعاه).
وأبو
حنيفة هو أساس من جمع بين مذهبي أهل الحجاز أهل الحديث و أهل العراق أهل الرأي.
كان أبو حنيفة من علماء الرأي و لكنه ذهب إلى الحجاز و أقام في مكة ست سنوات يأخذ
العلم من علماء الحجاز أمثال عبد الله بن عمر ...
دخل
يوماً أبو حنيفة على المنصور فقال له أحد الجالسين: هذا عالِم الدنيا اليوم.
فقال
له المنصور: يا نعمان من أين أخذتَ علمك؟ قال: من أصحاب عبد الله ابن عمر عن عبد
الله ابن عمر( أهل الحديث ) ومن أصحاب عبد الله ابن عباس عن عبد الله ابن عباس و
من أصحاب عبد الله ابن مسعود عن عبد الله ابن مسعود ( أهل الرأي ).
إذاَ
لأول مرة خرق أبو حنيفة الحدود الفاصلة بين المذهبين. عندما ذهب إلى أهل الحجاز
تعلم منهم الحديث و تعلموا منه كيفية استخراج الأحكام فاستفاد وأفاد . وانعكس هذا
الأمر على تلامذته مثل أبو يوسف و محمد بن الحسن الشيباني وغيرهم ...
وكان
لإخلاصه في طلب العلم يرجع عن رأيه إذا اطلع على حديث أو فتوى صحابي.
تأديبه
لتلميذه أبي يوسف: لمّا مرض أبو يوسف قال أبو حنيفة: لئن مات هذا الغلام لم يخلفه
أحد على وجه الأرض. فلمّا عوفي أُعجِبَ بنفسه وعقد له مجلساً في الفقه فانصرفت
وجوه الناس إليه، فلمّا بلغ ذلك أبا حنيفة قال لبعض من عنده: اذهب إلى مجلس يعقوب
( يعني أبو يوسف) و قل له: ما تقول في قصّار دفع إليه رجل ثوباً ليقصِّره بدرهمين
ثم طلب ثوبه فأنكره القصّار ثم عاد له وطلبه فدفعه له مقصوراً، له أجرة ؟ فإن قال
نعم قل له أخطأت و إن قال لا قل أخطأت. فسار إليه الرجل فسأله فقال نعم له أجرة
فقال له أخطأت، فنظر ساعة فقال لا، فقال أخطأت، فقام من ساعته لأبي حنيفة فلما رآه
قال: ما جاء بك إلا مسألة القصّار. قال: أجل. قال: سبحان الله من قعد يفتي الناس و
عقد لنفسه مجلساً يتكلم في دين الله تعالى و هذا قدره لا يحسن أن يجيب في مسألة من
الإجارات، فقال: علِّمني، قال: إن كان قصَّره بعد ما غصبه فلا أجرة له لأنه قصَّره
لنفسه، فإن قصَّره قبل غصبه فله الأجرة لأنه قصَّره لصاحبه.
فعاد
أبو يوسف و لم يترك بعدها مجلس أبي حنيفة قط.
موقفه
من آل بيت النبي صلى الله تعالى عليه و سلم:
موقفه
من آل بيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في عصره كموقف الأئمة الأربعة وموقفنا
جميعاً وهو حب آل البيت والانتصار لهم كما قال الإمام الشافعي عندما اتُّهِمَ بالتشيع:
إن كان رَفضُنا حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافض.
ومن
المعلوم أنَّ أبا حنيفة كان متشيِّعاً إن صح التعبير لآل البيت ( أي كان يحبهم و
يقف معهم إذا تعارضوا مع الخليفة في عصره )، لكنه كان دائماً يعلن أنَّ أبا بكر
أفضل من عمر وعمر أفضل من عثمان ويرى أنَّ كلاً من عثمان وعلي بمستوى واحد. ومعنى
ذلك أنَّ حبه لآل البيت كان حباً شعورياً تفرَّع عن حبه للمصطفى صلى الله عليه و
سلم ولم يكن حباً مذهبياً ينحاز عن أهل السنّة و الجماعة. وذكر أبو حنيفة أنه
التقى بالإمام محمد الباقر وهو من أئمة الإمامية و هو والد جعفر الصادق، فسأله أبو
حنيفة: ما تقول أصلحك الله في أبي بكر وعمر؟ فأثنى محمد الباقر عليهما خيراً وقال
يرحمهما الله تعالى وأخذ يفيض بالحديث عن آثارهما فقال له بعضاً من أهل العراق
يقولون إنك تتبرأ منهما، قال معاذ الله، كذبوا ورب الكعبة! أتعلم من هو عمر لا
أباً لك؟ إنه ذاك الذي زوجه عليّ من ابنته أم كلثوم، وهل تدري من هي أم كلثوم لا
أباً لك؟ إنَّ جدها رسول الله وإن جدتها السيدة خديجة سيدة نساء الجنة وإنَّ أمها
فاطمة الزهراء وإنَّ أباها عليّ فلو لم يكن عمر أهلاً لها لما أعطاه عليّ ابنته!.
وقد
اشتُهِرَت كلمة لأبي حنيفة جاء فيها: " ما قاتل عليّ أحداً إلا وعليّ أولى
بالحق منه أي في عصره بعد أبي بكر وعمر ". لم يكن حبه لآل البيت يدفعه إلى
الانتقاص من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل على العكس، لأن أصحاب النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم كلهم يحبون ويوقرون آل بيته صلى الله تعالى عليه وسلم
وآل البيت كلهم يحبون ويُجِلّون ويوقرون كل صحابة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
هذا الخط يجسِّد الصراط العريض الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في
أحاديث بلغت في مجموعها مبلغ التواتر المعنوي مثاله: " عليكم بالجماعة "،
" عليكم بالسواد الأعظم ومن شذَّ شذَّ في النار"، " إنَّ الشيطان
مع الواحد وهو من الاثنين أبعد "، " سألتُ ربي أن لا تجتمع أمتي على
ضلالة "، " من أراد أن يلزم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة " ...
وكان
أبو حنيفة على علاقة طيبة مع المنصور و لكن لما قتل أبو جعفر المنصور محمد بن عبد
الله بن حسن الملقَّب بالنفس الزكية من الطالبيين بدأ أبو حنيفة يغير موقفه من
الخليفة وأخذ ينتقد مواقفه وأخطاءه عندما تطرح عليه الأسئلة وكان ذلك يغيظ الخليفة
كثيراً. انتفض أهل الموصل على المنصور وكان المنصور قد اشترط عليهم أنهم إن
انتفضوا حلَّت دماؤهم، فجمع المنصور العلماء والفقهاء والقضاة وكان بينهم أبا
حنيفة و قال لهم: أليس صح أنَّ رسول الله قال المؤمنون عند شروطهم يلتزمون بها
وأهل الموصل قد اشترطوا ألا يخرجوا عليّ وها هم قد خرجوا وانتفضوا ولقد حلَّت
دماؤهم فماذا ترون؟ قال أحد الحاضرين: يا أمير المؤمنين، يدك مبسوطة عليهم وقولك
مقبول فيهم فإن عفوتَ فأنت أهل العفو وإن عاقبتَ فبما يستحقون. التفت المنصور إلى
أبي حنيفة يسأله و يستنطقه ليوقع به فقال أبو حنيفة: إنهم شرطوا لك ما لا يملكونه
وشرطتَ عليهم ما ليس لك لأنَّ دم المسلم لا يحِلُّ إلا بإحدى ثلاث فإن أخذتهم
أخذتَ بما لا يحلُّ وشرط الله أحق أن يوفى به. عندئذ أمر المنصور الجميع أن
ينصرفوا ما عدا أبي حنيفة و قال له: إنَّ الحق ما قلتَ، انصرِف إلى بلادك.
ويُروى
أنه كان لأبي حنيفة جار رافضي كان عنده بغلان سمى واحداً أبا بكر و الآخر عمر، و
في أحد الأيام رفسته بغلة فوقع ميتاً، فقال أبو حنيفة: انظروا البغلة التي رفسته
هي التي سماها عمر، و هكذا كان!.
سبب
انتشار مذهب أبي حنيفة و اتِّباع الناس له بخلاف مذهب معاصريه أمثال الأوزاعي
وعطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي وهم شيوخ أبي حنيفة وذلك لعدة عوامل نذكر منها
ما يلي:
-1
أخذ أبو حنيفة عن أربعة آلاف شيخ من التابعين و أفتى في زمن التابعين.
-2
قيَّض الله تعالى لأبي حنيفة تلاميذ كانوا في الوقت نفسه فطاحل من العلماء وقد
دوَّنوا آراءه و فتاويه و اجتهاداته بخلاف باقي الأئمة في عصره. فأبو يوسف دوَّن
فقه أبي حنيفة في الكتب و كذا فعل محمد بن الحسن الذي دوَّن كل فقهه والاجتهادات
الأخرى حتى التي تراجع عنها، وهناك كتب تُسمّى كتب " ظاهر الرواية "
كلها للإمام محمد. وقام كلٌّ من أبي يوسف ومحمد بجمع الأحاديث التي يرويها الإمام
في فتاويه كمستندات لفقهه مثل كتاب الآثار و كتب أخرى وأحاديث كثيرة موزَّعة في
هذه المدونات. ولقد كانت طريقة أبي حنيفة بالتعليم مبنيةً على السؤال و الإقناع
برأي ثم قوله ولكني أرى غير هذا و يعلم أصحابه الفتوى وطريقة التفكير.
وأبو
حنيفة هو أول من من رتب مسائل الفقه حسب أبوابها من طهارة وصلاة ... دوَّنها
الإمام أبو يوسف -في غالب الأحيان- في سجلات حتى بلغت مسائله المدونة خمسمائة ألف
مسالة. انتقل تلامذته الفحول البالغون 730 شيخاً إلى بلادهم خاصة بلاد الأفغان
وبخارى و الهند ... فشرَّق فقه الإمام أبي حنيفة وغرَّب وشمأل وجنَّب حتى ليعد علي
بن سلطان القاري المتوفى سنة 1014 هجري ثلثي المسلمين في العالم على مذهب الإمام
أبي حنيفة.
-3
إنَّ الله تعالى شاء أن يكون أبو يوسف قاضياً وأن يتولى القضاء لثلاث من الخلفاء
المهدي و الهادي وهارون الرشيد و سُمّيَ بعد ذلك قاضي القضاة وكان وهو حنفي يقضي
بمذهب أبي حنيفة وكذلك كان أغلب القضاة الذين كان ينصِّبهم والمدونات التي كانت
تُدَوَّن في دار الخلافة كانت تدوَّن على مذهب أبي حنيفة، كل هذا وغيره جعل فقه
الإمام أبي حنيفة ينتشر أكثر من فقه من سبقه أمثال الأوزاعي وجعفر الصادق وغيرهم
….
أهم
مؤلفاته: تميَّز عصر أبي حنيفة بوجود الفرق المبتدعة المختلفة مثل: الشيعة
والمعتزلة والمرجئة والقدرية والجهمية أو المعطلة ... هذه الفِرَق كلها كانت أشبه
ما تكون بالحاشية على الجسم الكبير كحاشية في أطراف جسم المجتمع الإسلامي، فكانت
هذه الفرق مع قلة أتباعها يبثّون الشُّبَه و تسمَّت كل فرقة بِاسمٍ، فقام علماء المسلمين
يردون على هؤلاء المبتدعة. وكان لا بد من أن يسمّوا أنفسهم بِاسم حتى يتبين قول
هؤلاء المبتدعة من قول عامة المسلمين، فسمّوا عامة المسلمين أهل السُنَّة والجماعة
وهي ما كان عليه صلى الله تعالى عليه وسلم والصحابة والتابعين وهم السواد الأعظم
من الأمَّة. وبظهور الأئمة الأربعة، اشرأبَّت أعناق الناس إليهم يأخذون من فقههم
وينهلون من علومهم وكانت لهم عبقرية نادرة في الاستنباط مما دعا الناس إلى الإقبال
عليهم والأخذ منهم، فجمع هؤلاء الأئمة الناس على منهج أهل السنّة و الجماعة فيما
يتعلق بالعقيدة وحذَّروا الناس من البدع ودافعوا عن الإسلام دفاعاً قوياً. وألَّف
أبو حنيفة كتاب " الفقه الأكبر " بيَّن فيه عقيدة المسلمين ورد فيه على
المبتدعة.
ونُقِلَ
أنَّ له مسنداً و لكن المحقق أنَّ هذا المسند من جمع أبي يوسف عن أبي حنيفة سماه “
الآثار ".
¯ أقوال
معاصريه فيه:
-
الفضيل بن عياض قال فيه: كان أبو حنيفة رجلاً فقيهاً معروفاً بالفقه، واسع المال
معروفاً بالأفضال على كل من يطوف به، صبوراً على تعلُّم العلم بالليل والنهار،
حَسَنَ الليل، يقوم الليل (و هذا شيء معروف عنه)، كثير الصمت، قليل الكلام حتى يرد
مسألة في حلال أو حرام.
-
عبد الله بن المبارك العالِم الكبير والتابعي الجليل يقول : كان أبو حنيفة مخ علم
أو مخ العِلم أي كنت تأخذ منه لباب العلم .
-
مالك بن أنس قال عنه: لو جاء إلى أساطينكم فقايسكم على أنها خشب لظننتم إنها خشب.
-
الإمام زُفَر قال: جالستُ أبا حنيفة أكثر من عشرين سنة فلم أر أحداً أنصح للناس
منه و لا أشفق عليهم منه، كان بذل نفسه لله تعالى، أمّا عامة النهار فهو مشتغل في
العلم و في المسائل وتعليمها وفيما يُسأل من النوازل وجواباتها و إذا قام من
المجلس عاد مريضاً ( أي زار ) أو شيَّع جنازة أو واسى فقيراً أو وصل أخاً أو سعى
في حاجة، فإذا كان الليل خلى للعبادة و الصلاة و قراءة القرآن، فكان هذا سبيله حتى
توفي رضي الله تعالى عنه.
-
أجمع علماء عصره على أنه لم يجتمع لأحد غيره في ذلك العصر ذكاء و قوة بادرة و علم
و قوة استنتاج.
-
كان أبو حنيفة في زيارة شيخه الأعمش يوماً (والأعمش من كبار المحدثين )، فجاء إلى
الأعمش رجل يسأله عن مسألة في العلم فقال لأبي حنيفة: أجبه. فأجابه، فقال له: و من
أين لك هذا ؟ قال: من حديث حدثتَنيه هو كذا و كذا . فقال الأعمش: حسبك ما
حدَّثتُكَ به في سنة تحدِّث به في ساعة، أنتم الأطباء و نحن الصيادلة.
سؤال:
لماذا نتبع أبا حنيفة و لا نتبع رسول الله صلى الله عليه و سلم؟
الجواب:
بعد أن أوضحنا الأدوار الثلاثة و بدأنا الكلام عن الدور الرابع لم يبقَ لهذا
السؤال أي معنى فأبو حنيفة لم يخترع شيئاً بل اتِّباعُنا له هو عين اتِّباع لرسول
الله صلى الله عليه وسلم لأن الذي فعله أبو حنيفة هو أن شرح لنا آيات كتاب الله عز
وجل وأحاديث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم واستخرج منها الأحكام وبوَّبها على
أبواب الفقه. فمن المعلوم أن للقرآن الكريم تفاسير عديدة، كل تفسير عُنِيَ بناحية
من النواحي، فتفسير يُعنى بالعقيدة كتفسير الرازي وتفسير يعنى بالمأثور كتفسير ابن
كثير وتفسير يعنى باللغة كتفسير الآلوسي وابن عاشور و غيرهم ، كذلك هؤلاء الأئمة
الأربعة، كل ما فعلوه أنهم عمدوا إلى الكتاب والسُّنة و أقوال الصحابة فجمعوها و
استنبطوا منها الأحكام و بوَّبوها بأبوابها: باب الطهارة باب الصلاة…إلخ ودوَّنوها
لنا، فإذا أخذنا عنهم نكون حقيقة قد أخذنا عن الله عز و جل و عن رسوله صلى الله
تعالى عليه وسلم، ذلك لأن عامة الناس لا يفقهون آيات كتاب الله تعالى و لا أحاديث
النبي عليه الصلاة والسلام ولا يعلمون الناسخ والمنسوخ والعام والخاص وما إلى
ذلك...
سؤال:
إنَّ أبا حنيفة بشر غير معصوم يصيب و يخطىء فكيف نتبعه؟
الجواب:
كونه بشر لا ينقص من مكانته ولا يمنع من جوازه، لا بل ضرورة اتباعه أو أحد الأئمة
الأربعة لكل من لم يبلغ درجة الاجتهاد ثم من الذي يستطيع أصلاً أن يكشف خطأ الإمام
في الاجتهاد خاصة إذا كان من العوام؟ وإن كان مجتهداً وصل إلى درجة الإجتهاد
المطلق فهذا المجتهد نفسه غير معصوم أيضاً، فمن نتبع إذاً !!!؟ إنَّ الله تعالى
أمرنا باتباع العلماء و المجتهدين المخلصين في قوله تعالى: {واسألوا أهل الذِّكر
إن كنتم لا تعلمون}، {وأطيعوا الله و أطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، وأهل الذكر
هم أمثال أبي حنيفة ومالك ... ومن المعلوم أنه ليس من الضرورة أن يكون قول الإمام
هو القول المفتى به في المذهب، فالإمام لم يكن لوحده يمثِّل مذهبه، هناك فقهاء
كثيرون محققون ينتسبون للمذهب نفسه يصوِّبون الإمام إن أخطأ. والذي يريد أن يحقق
في مسألة مس المرأة الأجنبية عند الحنفية والشافعية ليُرَجِّح قول أحدهما، إن كان
هذا الإنسان وصل بدرجة اجتهاده إلى مرتبة هؤلاء الأئمة فلا بأس وعلى كل الأحوال هو
بعد بحثه سيخرج بقولٍ ما، وقوله أيضاً سيكون اجتهادياً وهو غير معصوم فماذا فعل
إذاً؟ وإذا أراد أحد العلماء في درس عام مثلاً أن يرجِّح قولاً على قول فإنما يكون
الهدف من ورائه أن يقول الناس إنَّ فلاناً عالِماً جليلاً بلغ من العِلم درجة
يستطيع أن يحكم فيها على الأئمة و لن يفيد الناس شيئاً إلا حملهم من تقليد أبي
حنيفة أو الشافعي وغيرهما من الذين اتفقت الأمّة على وجوب تقليد واحد منهم، إلى
تقليده هو في هذه القضية، فبماذا يكون قد نفع المسلمين ؟!!!. يقول المثل: من جهل
شيئاً عاداه. و بالفعل فالرجل الذي يسمع بإنسان عالِم و يسمع آراءه و اجتهاداته
لكن ما جالسه وما سمع منه حججه، لن يستطيع أن يحكم عليه. عندما لمع اسم أبي حنيفة
و انتشر صيته في العراق و قبل أن يراه علماء الحجاز أو علماء الشام ربما كان هنالك
كثير من علماء الحجاز من يضيق ذرعاً باجتهاداته وربما نعتوه بأنه مبتدع ولكن بعد
أن رأوه و جاء هو إلى الحجاز وجالسوه وسمعوا منه وسمعوا حججه اختلف الأمر تماماً!
مثال ذلك: يقول عبد الله بن المبارك إنَّ الإمام الأوزاعي سأله من هو هذا المبتدع
الذي ظهر في العراق (ويقصد أبا حنيفة )، فقال ابن المبارك: لم أجب، ثم أخذتُ أعرض
له مسائل عويصة في الفقه و أحدثه عن فتاوى يمكن أن تكون جواباً، فقال لي: و الله
إنَّ هذه الأجوبة لأجوبة سديدة، من هو صاحبها ؟ قلتُ له: فقيه في العراق. قال: من
هو ؟ قلتُ: هو أبو حنيفة. قال: إنَّ هذا الإنسان نبيل و ذو علم غزير فالزمه. ثم
إنَّ الأوزاعي التقى بعد ذلك بأبي حنيفة و تناقشا في كثير من المسائل العلمية
فتحولت نظرة الأوزاعي و أخذ يوصي الناس بمجالس أبي حنيفة والاستكثار من علمه
وفضله.
كثيرون
اليوم هم الذين ينتقصون من مكانة أبي حنيفة وينتقدون فتاويه واجتهاداته وهذا سهل
لأنهم يزنون تلك الإجتهادات بميزانهم هم، فتبين من خلال ميزانهم هذا أنَّ أبا
حنيفة جاهل مع العلم أنهم لن يكونوا أعلم من الأوزاعي أو عبد الله بن المبارك.
ومما يُذكر أيضاً أنَّ الشافعي عندما رحل إلى بغداد، التقى بمحمد بن الحسن ليتتلمذ
على يده ولو وسعه أن يتتلمذ على أبي حنيفة لفعل و لكنه لم يستطع بسبب وفاة أبي
حنيفة في العام الذي وُلِدَ فيه الشافعي وكان يقول: أخذتُ من محمد وقر بعير من
علم. و كثيرة هي المسائل التي أخذ فيها الشافعي براي محمد و كثيرة هي المسائل التي
اخذ فيها محمد برأي الشافعي وتراجع عن رأيه.
هناك
من يتهم أبا حنيفة بأنه لم يكن يحفظ إلا بضعة عشر حديثاً ولم تكن له بضاعة في
رواية الأحاديث.
إذا
رجعتَ إلى ترجمة الإمام لوجدتَ الإجماع على أنَّ هذا كذب، فقد صح عنه أنه:
-
تفرَّد برواية و تخريج أكثر من مئتي حديث فضلاً عن الأحاديث التي اشترك مع
المحدثين الآخرين في روايتها.
-
لو أردتَ أن تجمع الأحاديث من مصنفات محمد بن الحسن وأبي يوسف و غيرهما من مرويّات
أبي حنيفة فلسوف تجد الشيء الكثير.
-
لو وقفتَ على مناقشة بسيطة في مسألة من مسائل الفقه بينه وبين أحد الأئمة لرأيته
يروي عدداً كبيراً من الأحاديث.
مروياته
في باب الصلاة تزيد عن مئة حديث.
ورعه
و تقواه و عبادته لله تعالى: قال ابن المبارك: قلتُ لسفيان الثوري: ما أبعد أبا
حنيفة عن الغيبة، ما سمعتُه يغتاب عدواً له. قال: والله هو أعقل من أن يسلِّط على
حسناته ما يذهب بها.
كان
أبو حنيفة يختم القرآن في كل يوم ثم حين اشتغل بالأصول والاستنباط و اجتمع حوله
الأصحاب أخذ يختمه في ثلاث في الوتر.
صلى
أبو حنيفة ثلاثين سنة صلاة الفجر بوضوء العتمة وحج خمساً وخمسين حجة.
قال
مِسْعَر بن كِدَام: رأيتُ الإمام يصلي الغداة ثم يجلس للعلم إلى أن يصلي الظهر ثم
يجلس إلى العصر ثم إلى قريب المغرب ثم إلى العشاء، فقلتُ في نفسي متى يتفرغ
للعبادة ؟ فلما هدأ الناس خرج إلى المسجد وكان بيته بجوار المسجد الذي يؤم فيه
حسبة لله تعالى. فانتصب للصلاة إلى الفجر ثم دخل فلبس ثيابه. و كانت له ثياب خاصة
يلبسها لقيام الليل وخرج إلى صلاة الصبح ففعل كما فعل، ثم تعاهدته على هذه الحالة
فما رأيته مفطراً ولا بالليل نائماً. وكان يغفو قبل الظهر إغفاءة خفيفة، وقرأ ليلة
حتى وصل إلى قوله تعالى: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ
السَّمُومِ} [الطور: 27] فما زال يرددها حتى أذَّن الفجر. وردد قوله تعالى: {بَلِ
السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46]، ليلة كاملة
في الصلاة. و قالت أم ولده: ما توسَّد فراشاً بليل منذ عرفتُه و إنما كان نومه بين
الظهر و العصر في الصيف وأول الليل بمسجده في الشتاء.
عرض
القضاء عليه ووفاته: عرض عليه الخليفة القضاء مراراً وضُرِبَ عليه وقال إني لا
أصلُح، قال الخليفة بل أنت تكذب أنت تصلُح، فقال: أرأيت، أنت تقول عني كذاب، فإني
لا أصلح للقضاء. و كان أبو حنيفة ينقد قضاء القضاة بشدة ويبين أخطاءهم، فاتخذ
المنصور هذا الموقف ذريعة للتخلص منه فعرض عليه من جديد تولي منصب القضاء فأبى
ورفض فحبسه و جرى بينهما حوار قال فيه: اتقِ الله ولا ترع أمانتك إلا من يخاف الله
والله ما أنا بمأمون الرضى فكيف أكون مأمون الغضب، لك حاشية يحتاجون إلى من
يُكرمهم لك فلا أصلح لذلك. ثم حبسه وضربه على مشهد من العامة ثم أُخرِجَ من السجن
و مُنِعَ من الفتوى والجلوس إلى الناس حتى توفي. وقبِلَ أبو حنيفة أن يعمل كأحد
العمال في بناء سور بغداد تفادياً للنقمة، ولمّا أحسَّ بالموت سجد فخرجت نفسه وهو
ساجد عام 150 هجري و كان يردد المنصور بعد وفاة الإمام: من يعذرني من أبي حنيفة
حياً وميتاً.
-2ترجمة
الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه
بشارة
النبي صلى الله عليه و سلم به :عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه و سلم: " يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون
أحداً أعلم من عالم المدينة "، أخرجه الترمذي وهو حديث حسن صحيح. قال
العلماء: وعالم المدينة هو مالك بن أنس وهو الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم.
ميلاده
ونسبه و نشأته و طلبه للعلم: ولد مالك بن أنس عام 93 هجري و توفي عام 179 للهجرة.
ولد في المدينة المنورة من أسرة أصلها من اليمن و كانت أسرته هذه أسرة علم، والده
أنس كان عالماً و اسم جده مالك أبو عامر الأصبحي و كان مُحَدِّثاَ وراوياً سمع
الحديث من أبي بكر وعمر وعثمان وكثير من الصحابة رضي الله عنهم. ولقد روى مالك
الحديث عن أبيه وجده. ويروى أنه ذات ليلة وقد اجتمع أفراد أسرة مالك على عادتهم
متحلقين حول الأب يسرد عليهم بعض وقائع أيامه وأحداثه، سأل الوالد أبناءه سؤالاً
في الدين فأجابوه جميعاً إجابات سليمة صحيحة عدا مالك الذي عجز وتلجلج و كان في
العاشرة من عمره قد حفظ القرآن الكريم وشيئاً من حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلا أنَّ عقله في مثل سنه لم يكن ليسمح له بالفهم والعلم ن فعجز عن الجواب
فعنَّفه أبوه أنس ووبخه ونهره لانشغاله باللعب عن طلب العلم. وانفجر مالك بالبكاء
و هو يأوي إلى صدر أمه، فضمَّته إليها وعانقته ولاطفته وخففت عنه ما به من حزن و ألم
و في اليوم التالي شدَّت على رأسه عمامة جديدة وضمَّخته بأطيب العطر وأشارت عليه
بإتيان مسجد الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم والجلوس إلى حلقات العلم
المنتشرة هناك ودعت له بالخير وبالتفقه والفهم والحفظ . ومنذ ذلك اليوم لازمته
عادة الاستحمام والتطيب كلما أتى مجلس العلم سواء كان متعلماً أو معلماً فيكون في
أحسن سمت وأكمل مظهر وأرقى صورة، و دخل مالك بوابة العلم الكبرى ولم يغادرها حتى
توفاه الله تعالى. و كان يجد نفسه بحاجة إلى مزيد علم، فقد كان يهمه أحياناً أمر
علمي أو مسألة فبعد أن تنفضّ الحلقات ويأوي الشيوخ إلى دورهم فلا يجد مالك صبراً
إلى الغد كي يسأل و يفهم لذا راح يسعى إلى الشيوخ في بيوتهم و مساكنهم وقد ينتظر
أحدهم في الطريق الساعات الطوال ما يجد فيها ظل شجرة تقيه حرارة الشمس حتى إذا ما
رآه يدخل داره ينتظر لحظات ثم يقرع الباب وكان في بعض الأحيان يحمل معه تمراً
يهديه لجارية الفقيه لتمكِّنه من الدخول على العالم.
وتعلق
بالعلم تعلقاَ جاداَ فلزم عبد الرحمن بن هرمز و هو عالم من أجلِّ علماء المدينة
سبع سنوات لم يتخلَّف فيها إلى غيره وكان يأخذ عنه المسائل الإجتهادية وقضايا
الفقه وكان بن هرمز مشهوراَ بقوة عارضته ودلائل الحق ويقول الإمام مالك عن نفسه
أنه اتخذ لنفسه ما يشبه الطرّاحة الصغيرة، كان يأخذها معه فيجلس على صخرة أمام دار
ابن هرمز و لم يكن يطرق بابه خوفاَ من أن يزعجه منتظراَ خروج الإمام يعني ابن هرمز
إلى الصلاة، فإذا خرج اتبعه وذهب معه إلى المسجد.
ثم
بدأ يأخذ عن نافع مولى ( أي خادم ) عبد الله ابن عمر وكان من أحفظ علماء الحديث،
كان حافظاَ وكان فقيهاَ، أخذ الفقه والحديث عن ابن عمر.
ثم
أخذ مالك أيضاَ عن الزهري وكان يلازمه كما لازم ابن هرمز وكان يسير معه من بيته
إلى المسجد. يقول الإمام مالك عن نفسه: كنت أخرج من وقت الظهيرة وليس للأشياء ظل
أتيمم درساَ عند الزهري.
أخذ
مالك الحديث عن الزهري مع قلة من إخوانه ويقال إن الزهري حدَّثه في يوم من الأيام
نيفاَ وأربعين حديثاَ له ولبعض زملائه، فلما عادوا في اليوم التالي قال الزهري
أستحضرتم كتاباَ لتسجلوا ما أُملي عليكم خيفة أن تنسوها؟
فقال
قائل منهم ينبؤك عنها هذا الشاب الأشقر ( أي الإمام مالك )، فسأله الزهري فتلى
عليه منها أربعين حديثاَ مع أسانيدها فقال الزهري: والله ظننتُ أنَّ أحداً يأتيها
غيري (أي لا يحفظها).
وكان
الإمام مالك إذا جلس لتلقي الحديث يسجل الحديث وهو جالس ولما سُئِلَ هل أخذتَ من
عمرو بن دينار قال لم آخذ وذلك لأني ذهبتُ إلى مجلسه فرأيته يُحَدِّث والناس حوله
واقفين يكتبون عنه فلم أحب أن أكتب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم
لأنه كان يرى في هذا منقصة لحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم.
و
تلقى الإمام مالك الفقه عن شيخه الكبير ربيعه الذي كان يُلَقَّب " بربيعة
الرأي " مع أنه كان من علماء أهل المدينة.
تفوقه
العلمي وجلوسه للفتيا : تفوَّقت مكانة مالك العلمية على كل أرباب الحلقات في
المسجد النبوي وعرف له الجميع هذه المكانة سواء كانوا من شيوخه السابقين أو من
العلماء الذين عاصروه. جلس الإمام مالك للفتيا وكان عمره 25 سنة تقريباَ على أصحّ
الروايات ويقول عن نفسه: لم أجلس للفتيا حتى أمرني بالفتيا قرابة سبعين عالماَ،
وأصبح رأيه في أية قضية تُعرض أو فتواه فيها مقدَّماً على غيره مما جعل أصحاب
الفتيا يتوقفون حتى قيل من غير حرج: لا يُفتى ومالك في المدينة! ...
ومما
اشتهر به مالك أنه كان يقول لجاريته إذا جاء الناس إلى بابه ليسمعوا العلم أن
تسألهم: هل جئتم لسماع الحديث أم ابتغاء المسائل؟ فإن قالوا جئنا للمسائل خرج
إليهم وسمع منهم و أفتاهم وإن قالوا جئنا لنسمع الحديث قالت الجارية تريثوا قليلاَ
فتُدخلهم إلى الدار ويدخل مالك فيغتسل ويلبس أحسن ثيابه وتحديداَ البياض من الثياب
ويتطيَّب ثم يدخل عليهم ليروي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يبكي إذا
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عاش
مالك في المدينة المنورة ولم يبارحها (بخلاف كثير من العلماء) إلى أي جهة أخرى
ليأخذ العلم من العلماء إذ إن المدينة هي دار هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وكان
العلماء هم الذين يرحلون إليها من جميع أنحاء العالم إما للحج أو الزيارة أو
مجالسة علماء المدينة. فكان أطيب الطِّيب عند مالك ما يفوح وينتشر من قبر المصطفى
صلوات الله وسلامه عليه وأرقّ النسيم ما يهبُّ حاملاً ذكريات الماضي وذكريات الوحي
والنبوة والجهاد والبطولة. وبالرغم من أنه لم يغادر المدينة إلا أنه اطلع على
الظروف والبيئات المختلفة بسبب احتكاكه بالعلماء من جميع أنحاء العالم الذين كانوا
إذا قدِموا المدينة زاروه وإن لم يزوروه قدِمَ هو إليهم، يلقاهم و يتناقش معهم،
لذلك اتسعت آفاقه الفكرية ومداركه الاجتهادية و أقام للمصلحة التي هي محور الشريعة
الإسلامية ميزاناَ دقيقاَ كما ستجد.
واختار
دار الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود سكناً له وكأنه يريد أن يشعر على الدوام
بنبضات عصر النبوة تخفق مع خفقات قلبه وتتردد مع أنفاسه ويعيش يومه كله في عبق
كريم وهذا التواصل الوجداني بين مالك وبين حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم جعله
في عقله وحسه يتَّخذ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أساساً ومحوراً لعلمه
وفقهه.
كان
مالك في صدر حياته فقيراَ وكان والده صانعاَ، وتفرَّغ مالك للعلم فأورثه ذلك شيئاَ
من الفقر و لم تكن يومها تنفق الدولة على طلبة العلم (ثم لما كان ذلك ارتاح
العلماء وازدهر العلم كثيراً)، لكنه بعد ذلك استغنى إذ كان له أخ يعمل بالتجارة
فكان مالك إذا تجمع له مال يعطيه لأخيه ليتاجر له به ثم فتح الله عليه واستغنى
فكان كثير العطاء لطلبة العلم. وكان يحب أن يظهر أثر نعمة الله عز وجل عليه في
ملبسه وفي مطعمه ومسكنه وصار متجملاَ في مظهره وكان الذين يغشون داره من الضيوف
يجدون في أطرافها المخدات للإتكاء والجلوس ويجدون كل أسباب الراحة والنظافة
والمظهر الأنيق في داره ولم يكن هذا عن حب للمال بل كان ينفق معظم ماله في طرق
الخير تماماَ كأبي حنيفة والشافعي رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
ويروى
عنه في الأثر المشهور أنه قال: " ما أحب لامرىء أنعم الله عليه أن يُري أثر
نعمته عليه و خاصة أهل العلم ".
ويروي
الشافعي أنه في إحدى زياراته لبيت الإمام مالك رأى على الباب هدايا من خيل و بغال
أعجبته فقال لمالك بعد أن دخل عليه: ما أحسن هذه الأفراس والبغال. فرد عليه مالك
يقول: هي لك فخذها جميعاً. قال الشافعي: ألا تبقي لك منها دابة تركبها؟ فقال مالك:
إني لأستحي من الله تعالى أن أطأ تربة فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم بحافر
دابة !. إلى هذا الحد من الحساسية المفرطة في الحب والتقديس بلغ العشق في قلب مالك
للمدينة التي تضم أطهر الأجساد وأعظم خلق الله وأكرم الناس عليه أفضل الصلاة و
أزكى السلام.
ورعه
وتخوّفه من الفتوى: إشتُهِرَ عن الإمام مالك كثرة ترداده لكلمة " لا أدري
" وما كان عليه شيء أسهل من هذه الكلمة و لم يكن يشعر أن في هذا منقصة له بل
كان إذا سُئِلَ عن مسألة قال للسائل أنظرني حتى أفكر، وربما يأتيه في الغد فيجيبه
وربما يقول له أيضاَ أنظرني. و يُروى أنَّ رجلاَ جاءه من أقصى المغرب فسأله عن
موضوع وقال: جئتك من مسيرة ستة أشهر من المغرب و حُمِّلتُ هذا السؤال، فقال له
مالك: قل لمن أرسلك إنه لا يدري. قال فمن الذي يعلم؟ قال: الذي علَّمه الله ولم
يجبه و لكن قال له إن شئتَ عد غداَ ريثما أفكر بها وأقرأ ما يمكن أن يتصل بها، حتى
إذا جاء الغد جاءه الرجل فقال له مالك: فكرت بها ملياَ ولا أدري ما الجواب! و لقد
عوتب مالك في ذلك فبكى وقال: إني أخاف أن يكون لي في المسائل يوم وأي يوم. وقال
لهؤلاء المنتقدين: من أحبَّ أن يجيب عن مسألة فليعرض على نفسه الجنة والنار و ليتصور
موقفه من الله غداً. فلننظر جميعاَ إلى هذا الرجل الذي هان عليه أن يظهر جهله وهو
العالِم الذي يوثق بعلمه أين نحن اليوم من موقفه هذا حيث الواحد منا إذا ما سُئِلَ
اعتصر دماغه وذهنه وقد يصل به الأمر إلى أن يلفق جواباَ خوفاَ من أن يقول عنه
الناس إنه جاهل!!! وهذا الأمر وللأسف الشديد كثيراَ ما يحدث مع علمائنا اليوم
الذين يسارعون بالفتوى، الأمر الذي يوضح لنا الفرق بين هذا العصر وذلك العصر ولعل
هذه المقارنة توضح لنا أيضاَ الفرق بين قرب أولئك الأئمة من رحمة الله تعالى
وبعدنا نحن عنها، أضف إلى ذلك كله سمو أهدافهم و مقاصدهم حيث كان همُّهم الأكبر هو
مرضاة الله سبحانه وتعالى نسأل الله عز وجل العفو والعافية وأن يرزقنا الإخلاص وأن
نحيا محياهم وأن نُحشر معهم إن شاء الله تعالى.
وجاء
في ترتيب المدارك للقاضي عياض: " قال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تغيَّر لونه وانحنى حتى يصعب ذلك على جلسائه،
فقيل له يوماً في ذلك، فقال: لو رأيتم لما أنكرتم عليّ ما ترون، كنت آتي محمد بن
المنكدر وكان سيد القرّاء (أي سيد العلماء) لا نكاد نسأله عن حديث إلا بكى حتى
نرحمه. ولقد كنتُ آتي جعفر بن محمد (أي جعفر الصادق) وكان كثير المزاح والتبسم،
فإذا ذُكِرَ عنده النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اخضرَّ واصفرَّ وكنتُ كلما أجد
في قلبي قسوة آتي محمد بن المنكدر فأنظر إليه نظرة فأتَّعِظ بنفسي أياماً.
الأجواء
التي كانت سائدة في عصره وعلاقته بالخلفاء: عاش مالك في الخلافة الأموية و
العباسية في عصر تسوده الفتن وكان موقفه كموقف الحسن البصري وسعيد بن المسيب الذين
كانا قبله و هو موقف استنكار الفتن والدعوة إلى الابتعاد عنها وكان إذا سُئِلَ عن
تلك الفتن نصح بالإبتعاد عنها وبعدم الولوج فيها. وقد صح أن الحسن البصري كان ينهى
عن الدعاء على أمثال الحجاج وغيره وكان ينهى عن مد اللسان في قول السوء في حقهم
على الرغم من أنه لو شققنا صدر الحسن البصري لرأيناه يستنكر الكثير من أعمالهم.
وقد سمع مرة الحسن البصري رجلاَ يسب الحجاج فقال له: لا تفعل يرحمك الله إنكم من
أنفسكم أوتيتم، إننا نخاف إن عُزِلَ الحجاج أو مات أن تليكم القردة والخنازير.
وروى البصري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله المشهور: " عمّالكم عملكم
وكما تكونوا يُوَلّى عليكم "، عمالكم أي رؤساؤكم هم أعمالكم أي انعكاس
لأعمالكم.
وكان
الإمام مالك ممن يغشى مجالس الخلفاء و لم يكن يبتعد عنها وذلك للنصح والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر والوصية بالخير فما كان يوفر جهداً ليوصي الخليفة أو
ينصحه عندما تسنح الفرصة وقد عوتب في ذلك فقال: لولا أني أتيتهم ما رأيتُ للنبي
صلى الله عليه وسلم في هذه المدينة سنَّة معمول بها، فكان إذا أتاهم نصحهم لكي يحيوا
سنة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وخاصة في المدينة المنورة وكانوا يستجيبون
لنصيحته.
ولكنه
كان إلى جانب ذلك يحترم نفسه في مجالس الخليفة و الولاة وكان يفرض سلطانه عليهم.
وكان إلى جانب كونه مهاباَ كان يحافظ على عزة نفسه في هذه المجالس على خلاف عادته
في المساجد حيث كان إذا دخل المسجد يقف في آخر الصف ولا يأبى أن يتقدم وإن أصرّوا
على تقديمه ويجلس حيث ينتهي به المجلس وكان كثير التواضع ولكن إذا غشي مجلس
الخلفاء أو الولاة فرض عزته على المجلس كله.
جاء
المهدي مرة إلى المدينة واجتمع إليه الناس والعلماء وذهب مالك ليزوره فلما وصل وجد
المجلس مزدحماَ والتفت الناس ينظرون أين سيجلس مالك يا ترى وما سيكون موقفه. فقال
الإمام مالك للمهدي: يا أمير المؤمنين أين يجلس شيخك مالك؟ فتضامَّ المهدي وصغَّر
من جلسته و قال: ههنا يا أبا عبد الله إلى جانبي، فوسع له ودخل مالك وتعالى ودينه أن
يُهان في شخصه، الإمام مالك كان سمته سمة علم وإسلام وسمة المحافظة على الشرع لذا
ينبغي لهذه السمة أن تكون هي المهيمنة وأن تكون هي العزيزة في كل مكان، فالله
تبارك وتعالى بالقدر الذي نهانا عن الكِبر أمرنا أن نعتز بالإسلام وبالقدر الذي
أمرنا بالتواضع نهانا في الوقت نفسه عن الذل وجاء في دعاء النبي صلى الله عليه
وسلم: اللهم إني أعوذ بك من الذل إلا إليك. وأي إنسان صاحب ذوق دقيق يستطيع أن
يفرِّق بين التواضع والذل المرفوض.
ولما
زار الرشيد المدينة وأراد لقاء مالك و كان قد سمع عن علمه الكثير، طلب أن يأتيه
حيث نزل فقال مالك لرسول الخليفة: قل له إنَّ طالب العلم يُسعى إليه والعلم لا
يسعى إلى أحد! فجاءه الخليفة زائراً معتذراً.
ولقد
روى الإمام مالك ذات مرة حديث " ليس على مستكره يمين " وشرحه لتلامذته
في المسجد وراح يبيِّن للناس أنَّ من طلَّق امرأته مُكرَهاً لا يقع منه طلاق …
ولقد كان لهذا الحديث أثر كبير وحافز قوي لثورة أحد أحفاد الحسين بن علي وهو النفس
الزكية على السلطة العباسية وكان الخليفة وقتها المنصور. كان محمد يرى بأن أبا
جعفر قد أخذ البيعة لنفسه غصباً وإكراهاً فليس له في رقاب الناس يمين ولا عهد،
وكان محمد يستند إلى فتوى مالك في أنه ليس على مستكره يمين. أحسَّ والي المدينة
بخطورة الموقف فأرسل إلى مالك أن يكفَّ عن الكلام في هذا الحديث و أن يكتمه على
الناس. أبى مالك أن يكتم الحديث أو أن يتراجع عن فتواه فضُرِبَ أسواطاً على مرأى
الناس وجُذِبَ جذباً غليظاً من يديه وجُرَّ منها حتى انخلع أحد كتفيه وحُمِلَ إلى
داره وهو بين الحياة والموت وألزموه الإقامة في الدار إقامة جبرية في عزلة وحبس.
فزع الناس في المدينة والتجأوا إلى الله تعالى يشكون الظلم والظالمين واشتد سخطهم
على الوالي وعلى الخليفة وغضب العلماء والفقهاء في كل الأمصار والأقطار. ورأى
المنصور أنه لا بد من تصرُّف يمتص غضب الناس يزيح التهمة عن نفسه فأمر والي
المدينة بإطلاق مالك ثم جاء المنصور بنفسه إلى الحجاز في موسم الحج والتقى بالإمام
مالك واعتذر إليه وقال: أنا ما أمرتُ بالذي كان ولا علمته وإنه لا يزال أهل
الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم. وأمر بإحضار الوالي مهاناً وبضربه وحبسِهِ إلا
أنَّ مالكاً عفى عنه.
عِلم
الإمام مالك و أقوال بعض العلماء فيه: أجمع المؤرخون والمترجمون أن الإمام مالك
بلغ الذروة في معرفة السنَّة و الحديث والفقه وقلما نال عالم مثلما نال مالك من
المدح وأقرَّ له علماء الرأي في العراق وعلماء الحديث في الحجاز بأنه إمام في كلٍ
منهما (أي الحديث والفقه). قال عنه سفيان بن عُيَينَة وكان معاصراَ له: كان لا
يبلغ من الحديث إلا صحيحاَ ولا يحدِّث إلا عن ثقة للناس وما أدري المدينة إلا
ستخرب بعد موت مالك.
قال
عنه الشافعي: إذا جاءك الأثر عن مالك فشُدَّ به ( أي تمسَّك به ) وهو صحيح. ويقول
إذا ذُكِرَ العلماء فمالك هو النجم فيهم .
أهم
مؤلفاته: الموطأ:
طلب
المنصور من مالك أن يضع كتاباً يتضمَّن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأقضية الصحابة وفتاوي ليكون قانوناً تطبِّقه الدولة في كل أقطارها وديارها. تردد
مالك ثم ألحَّ عليه المنصور فقبِلَ. و راح مالك يعمل عملاً متقناً جداً خلال سنين
عدة راح خلالها طائفة من العلماء يعملون ويحاولون أن ينافسوا مالكاً طمعاً في كسب
رضا الخليفة. و كان أصحاب مالك يأتونه و يقولون له بأنَّ تأخره في الإنجاز قد أتاح
للآخرين أن يسبقوه فقال مالك: "لا يرتفع إلا ما أُريد به وجه الله
تعالى"، ولقد كتب كثير من معاصريه كتباً كالموطأ وقُدِّمَت إلى الخليفة،
وكلما سئل مالك أن يستعجل كتابه فقد سبقه الناس كان يقول: " ما كان لله يبقى
"، حقيقة هكذا كان. و ظلَّ الإمام مالك عاكفاً على عمله الضخم سنوات توفي
خلالها المنصور حتى كان تمام العمل في زمن هارون الرشيد الذي تقبَّله بقَبول حسن و
تقدير عظيم وأراد أن يعلِّق الموطأ في الكعبة و لكن مالكاً أبى ذلك. و يُعتَبَر
اليوم كتاب الموطأ من أهم كتب السنَّة و يكاد لا تخلو منه مكتبة إسلامية، أما تلك
الكتب التي كتبها منافسوه فلم يبقَ لها أثر وكما يقول العلماء لولا هذه الحادثة مع
الإمام مالك لما علمنا أصلاً أنه ألِّفَت هكذا كتب، فتأمل يرحمنا الله و إياك و
لنتَّعِظ من هذا و لنتيقن إن كل عمل لا يُبتَغى به وجه الله تعالى لا يبقى، {كُلُّ
شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، قيل في تفسير هذه الآية، كل شيء هالك
إلا ما ابتغي به وجه الله تعالى.
منهجه
العلمي: الإمام مالك شأنه كشأن الإمام أبي حنيفة لم يدوِّن منهجاً و لكن هذه
القواعد أُخذَت و جُمِّعَت من خلال عباراته في كتبه و في مقدمة ذلك الموطأ فمن
خلال كلامه نجد أنه يأخذ بالحديث المُرسَل و هو الحديث الذي رواه التابعي رأساً عن
رسول الله صلى الله عليه و سلم إن كان هذا التابعي ثقة.
أصوله
الاجتهادية:
أولاً:
إذا وجد في القرآن نصاً بعبارة صريحة قاطعة واضحة على مبدأ أو حكم ثم وجد حديثاً
مروياً عن طريق الآحاد يعارض هذا الخبر فإنَّ مالك يأخذ بصريح القرآن و يدع
الآحاد.
قال
مالك وهو يفسر قوله تعالى: " قل لا أجد في ما أوحي إليَّ محرَّماً على طاعم
يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير أو أُهِلَّ لغير الله به ...
" إلى آخر الآية، هذا نص صريح و واضح بعدم تحريم غير ما ذُكِر. و في المقابل
رُوِيَ في خبر الآحاد الصحيح: عن رسول الله صلى الله عليه و سلم يرويه أبو داود أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من
الطيور. فرجَّح مالك النص على الآحاد فيجوز عنده أكل كل ذي ناب من السباع و ذي
مخلب من الطيور و إن كان جمهور الفقهاء على الحرمة.
ملاحظة:
الإمام مالك كغيره من العلماء يأخذ بالحديث الآحاد إن كان صحيحاً وهو عنده حجة و
لكن إذا تعارض مع نص من كتاب الله تعالى أو مع حديث متواتر ولم يُمكن الجمع
بينهما، قدَّم النص من كتاب الله عز وجل أو الحديث المتواتر ولم يجعل حديث الآحاد
يخصص النص القرآني أو الحديث المتواتر كما فعل غيره من الفقهاء كالشافعي مثلاً.
ثانياً:
مالك يعيش في المدينة وبصمات رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحة في هذه البلاد
فعادات أهل المدينة وما يتفق عليه علماء أهل المدينة في عصره والعصر الذي قبله
كلها من مخلفات النبوة لأن العهد ما بَعُدَ بينه وبين رسول الله صلى الله عليه
وسلم، بناءً على ذلك إذا وجد حديث آحاد مروياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالسند ووجد عمل أهل المدينة على خلاف ذلك الحديث يرجِّح مالك عمل أهل المدينة على
ذلك الحديث، لا لأنه يرفض الحديث و لكن لأنه يعتقد أن ما أجمع عليه علماء المدينة
ما أخذوه من عند أنفسهم وإنما هي وراثة ورثوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الإمام مالك في رسالة للَّيث بن سعد: " إنَّ أهل المدينة هم من الذين
قال الله تعالى عنهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100]، وأوضح الله
تعالى أنَّ هؤلاء السابقون من المهاجرين والأنصار الذين استقر بهم المقام في
المدينة المنورة ينبغي أن يُتَّبعوا وأن نهتدي بهديهم ".
مثال
ذلك، الحديث الصحيح الأتي: " المتبايعان بالخيار ما لم يتفرَّقا ".
الشافعي عنده التفرق هو تفرق الأبدان وعند الحنفية هو تفرق موضوع الكلام ولكن مالك
يقول عمل أهل المدينة على خلاف هذا، فعلماء المدينة السبعة وعامة الناس يقولون إن
العقد إذا تمَّ بالإيجاب والقَبول كان العقد لازماً.
مثال
آخر، الحديث المشهور: " البيِّنة على المُدَّعي و اليمين على من أنكر".
قال مالك نأخذ بهذا الحديث و لكن يخَصِّصه ويُفَسَّره عمل أهل المدينة وهو أنَّ
هذا الحديث يُطَبَّق بشرط أن ينظر القاضي فيجد أنَّ بين المدَّعي والمُدَّعى عليه
علاقة ما إمّا جوار أو قرابة أو شركة ... فإن لم يجد القاضي مثل هذه الصلة فله أن
لا يسمع الدعوى وذلك لكي لا يتلاعب السفهاء بالوجهاء فيأخذوا منهم أموالهم خشية
تشويه سمعتهم، مثال ذلك أن يدَّعي سفيه على أحد الوجهاء دعوى باطلة ، فلو أخذ بها
القاضي لاضطر ذلك الوجيه إلى الذهاب إلى القاضي وعندها قد يدفع الوجيه شيئاً من
المال للسفيه الذي ادعى عليه تلك الدعوى الباطلة وذلك لكي لا تُشوَّه سمعته
بالامتثال بين يدي القاضي .
ثالثاً:
إذا ثبت قانون شرعي وقاعدة شرعية عامة مثل: " ولا تزر وازرة وِزر أخرى
"، يقول الإمام مالك: إذا وجدنا بين هذه القاعدة الضخمة الكبيرة وبين جزئيات
الأدلة تناقضًا، نأخذ بالقاعدة ونترك هذه الجزئيات.
مثال
ذلك: الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: " إنَّ الميِّت لَيُعَذَّب ببكاء
أهله عليه ". قال مالك هذا يتناقض مع القاعدة التي مرَّت معنا سابقاَ (و لا
تزر وازرة وزر أخرى)، و بناءً على ذلك فلا ذنب للميت إن بكى أهله عليه فلم يأخذ
بالحديث. ولكن الشافعي مثلاَ وهو تلميذ مالك أخذ بالحديث و قال إنَّ عذاب الميت في
قبره هنا هو عذاب نفسي وليس عقاباَ من الله عز وجل وإنما هو عقاب خاص يأتي نتيجة
لتصرفات أهله، فهو يتألم من فعل أولاده و يتمنى لهم الصلاح لأن الله تعالى يُطلعه
على أفعالهم التي قد لا تخلو من معاصي وأمور مختلفة تكون سبباً لغضب الله تعالى
عليهم.
مثال
آخر: الإمام مالك وحده يفتي بعدم نجاسة لعاب الكلب و كذا رشحه ولكن الحديث الصحيح
يقول: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبعاً إحداهن بالتراب
". قال مالك من المتفق عليه أنه يجوز استعمال الكلب في الصيد و الكلب إذا
اصطاد لا بد أن يمسك الطريدة بفمه ويصيبه من لعابه لذلك أخذ بالقاعدة العامة التي
تفيد جواز صيد الكلب، ثم قال عن هذا الحديث انه مضطرب وهذا دليل ضعف فقد ورد
الحديث بعدة روايات (أولهن-أخراهن- إحداهن بالتراب) .
رابعاً:
الأخذ بالاستحسان وهو عبارة عن جزئية صغيرة اقتضتها مصلحة دينية ثابتة في كتاب
الله وإن عارضت هذه الجزئية مبدأ كلياً و يؤخَذ به استثناءً.
مثال
ذلك قاعدة أن الأخ الميت إذا مات و ترك أخاً شقيقاً أي لأب وأم هذا يُسمَّى عصبة و
يأخذ كل ما تبقى من المال مثلا إذا كان الميت ليس له إلا أخ يأخذ كل الأموال وإذا
مات و ليس له إلا أخ أو أخ شقيق، الأم تأخذ السدس والأخ أو الأخوة الأشقاء يأخذون
الباقي. إن مات رجلٌ وترك زوجاً وأمّاً وإخوة لأم و أخاً شقيقاً، الزوج يأخذ النصف
والأم تأخذ السدس والأخوة لأم يأخذون من الثلث لم يبقى للأخ الشقيق شيء إن طبَّقنا
هذه القاعدة.
هنا
الإمام مالك وغيره عادوا فوجدوا أنَّ الأمر قد رُفِعَ إلى سيدنا عمر رضي الله عنه
فحَكَمَ أنه ليس للأخوة الأشقاء شيء فقال الأخوة الأشقاء هب أننا إخوة لأم فقط ألا
يكون لنا؟ قال: نعم، ثم جعل الإخوة للأم والأخ الشقيق يشتركون معاً في الباقي.
القاعدة على خلاف ذلك و لكن هذه الجزئية هي لمصلحة الشريعة لأن الشريعة تقتضي هذا
الاستثناء.
فائدة:
الحقيقة أنه ليس بين الأئمة خلاف في الأصول الشرعية فإنهم متفقون على حوالي سبعين
بالمئة منها وإنما هناك خلاف في العناوين يتعلق بالفروع الجزئية ويُشَكِّلُ حوالي
ثلاثين بالمئة فقط وذلك رحمة بالأمة وتوسيعاً عليها، فالحمد لله أولاً وآخِراً
الذي وفقهم أن يجتمعوا على ما اجتمعوا عليه فإن اجتماعهم هذا خير للأمَّة والحمد
لله الذي ألهمهم أن يختلفوا فيما اختلفوا فيه فإن اختلافهم أيضاً رحمة للأمة.
خامساً:
مبدأ سد الذرائع: وهذا المبدأ مأخوذ من قوله تعالى: " ولا تسبوا الذين يدعون
من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم "، الأئمة كلهم يأخذون بهذا المبدأ
ولكنهم يختلفون بالمقدار الذي ينبغي أن يأخذوا به، مثال ذلك سب المؤمن لدين كافر
أو لمن يتخذه إلهاً بزعمه أصلُهُ مباح ولكن إذا كان هذا العمل المباح ينتج عنه عمل
محرَّم فيسب الكافر الله تعالى عندها يصبح هذا العمل المباح في أصله محرماً لا
لذاته ولكن لما قد ينتج عنه وهذا ما يُسمَّى بمبدأ سد الذرائع.
و
مثال ذلك أيضاً، إطالة السهر مباح أيضاً ولكن إن كان هذا سيمنعك عن أن تستيقظ
لصلاة الصبح تحوَّل المباح إلى محرَّم وهذا باتفاق الأئمة.
مثال
آخر، بيع السلاح في أصله مباح ولكن إذا علمت أنَّ هذا يأخذ منك سلاحاً ليؤذي به
الآخرين أو كان وقت الفتنة فلا يجوز.
سادساً:
المصالح المُرسَلة: رائدها في الشريعة الإمام مالك.
جاءت
الشريعة لتحقيق خمسة أنواع من المصالح وهي على هذا الترتيب: الدين، الحياة، العقل،
النسل أو العرض والمال. كل الأئمة الأربعة أخذوا بها.
المصالح
المرسلة هي أن يرى العالِم الفقيه أمامه مصلحة حديثة العهد طارئة، لم تكن موجودة
من قبل تقتضي حكماً شرعياً ولكن هذا الفقيه لا يجد عليه (أي على الحكم الشرعي)
دليلاً من القرآن أو السُنَّة ولا يجد دليلاً على حكم يشبهه للقياس لا سلباً ولا
إيجاباً، فما العمل؟ يقول مالك: أنا أعود بهذه المسألة في الحكم إلى جنس هذه
المصلحة التي يحققها الحكم، ننظر هل هي واحدة من هذه المصالح الخمس التي جاءت
الشريعة بحمايتها ورعايتها؟ فإن كانت واحدة من هذه المصالح وكان الأخذ بها لا
يُفَوِّت مصلحة أهمّ منها يقول مالك أنا أجتهد على وفق هذه المصلحة. و هذا باب
عظيم في الاجتهاد و سنورد في ما يلي بعض الأمثلة والنماذج لتوضيح الصورة:
-1
منع عمر بن عبد العزيز الناس أن يشتروا أراضٍ في مِنى وأن يبنوا عليها بيوتاً لهم
لأن ذلك سيضيق على الحجّاج مع أنه لا يوجد نص في ذلك و لكن من باب المصالح المرسلة
أصدر عمر بن عبد العزيز أمره هذا (وهو ما يسميه الحنفية مقاصد الشريعة).
-2
قال الإمام مالك لو أنَّ صبياناً يلعبون ويتشاجرون و يمزِّق أحدهم ثوب الآخر أو
يتلف متاعاً (يكسر زجاج منزل أو سيارة مثلاً) فالوالد (أي أبو الولد الذي سبب
الضرر) يضمن (أي يدفع تعويضاً عن الضرر الحاصل) وإن لم يكن الولد بالغاً. و لكن
هنا الشهود كلهم أولاد والقاعدة أنَّ الشهادة لا تصحُّ إلا من بالغ كبير. ماذا
نفعل إذا تركنا القضية هكذا؟ طبعاً ستقع مفاسد كثيرة. المصلحة المرسلة هنا التي
تتوخاها الشريعة هي أن نقبل شهادة الصبيان بعضهم على بعض في أمور إجرائية من هذا
القبيل.
-3
تدوين قواعد اللغة العربية و المجامع الفقهية والمؤتمرات كلها أشياء حسنة تخدم
مصلحة الدين ...
سابعاً:
العُرف: إنَّ العرف في الشرع له اعتبار فيما لم يرد فيه نص أو كان الأمر غامضاً، و
الأئمة كلهم متفقون على ذلك. يقسم مالك العرف إلى قسمين: عرف قولي عرف فعلي أو
سلوكي (فقط في العقود).
مثال
على العرف القولي: كلمة اللحم، فلو أنَّ رجلاً أقسم أن لا يأكل لحماً، ننظر ماذا
تعني كلمة اللحم في عرفهم أحياناً تُطلَق ويُقصَد بها لحم الضأن (الخروف) و في بعض
الأعراف تُطلق ويُقصَد بها لحم البقر و في بعض الأعراف يُقصد بها لحم السمك. فإذاً
يقع القسم على ما هو معروف عندهم إلا إن قصد كل اللحم ساعتئذ تكون النية مقدَّمة
على دلالة العرف.
مثال
آخر على العرف القولي: لو نذر فلان أن يتصدَّق بكل ما في جيبه من دراهم وكانت
الدراهم في عرفهم تُطلَق على عملة البلاد فلا يجب عليه أن ينفق من العملات الأخرى
إن وُجِدَت في جيبه إلا إن نوى غير ذلك.
أما
العرف السلوكي فهو مثلاً أن يعقد فلان على فلانة دون أن يتفقا على موعد لدفع المهر
و كان العرف أن يُدفَع قبل الدخول ساعتئذ يكون هذا هو الحكم.
ولو
اشترى أحدهم سيارة مثلاً و لم يشترط أن تكون مكيَّفة و البائع لم يشترط ذلك فاختلف
المشتري والبائع، ننظر إن كان العرف أن تكون غير مكيفة كما في بلادنا فالحق مع
البائع أما إن كان العرف أن تكون مكيفة كما في بلاد الخليج فيكون الحق مع المشتري.
قاعدة:
المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
يقول
الإمام مالك إن النصوص القرآنية و نصوص السنَّة إنما تُفَسَّر على ضوء العرف
القولي في عصر النبي صلى الله عليه و سلم، و هكذا فالعرف القولي مفتاحٌ هام وخطير
جداً لِفَهم النصوص. و نضرب على ذلك مثلاً ما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: إن زكاة الفطر هي صاع من غالب قوت البلد. كلمة صاع عبارة عن مكيال
معيَّن هذا المكيال يتغير من بلد إلى بلد ومن عصر إلى عصر، فالصّاع في العراق كان
غير الصاع في مصر غير الصاع في المدينة ... فإذاً نحن نفسر ذلك بما كان معروفاً
عندما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا الحديث في المدينة.
مثال
آخر كلمة النبيذ كانت تعني أو يُقصَدُ منها شراب مُكَوَّن من الماء والتمر ولا
يُقصد بها النبيذ المسكر المعروف في عصرنا وقد شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم
النبيذ وهذا كان سبب الإشكال الذي وقع فيه الكثير من المستشرقين عندما قرأوا كتب
التاريخ فوجدوا أن هارون الرشيد كان يشرب النبيذ و ظنوه من السكارى.
قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ من أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة
المصوِّرون "، وفي حديث آخر " كُلِّفَ أن ينفخ فيه الروح وما هو بنافخ
"، هنا نفسر المصوِّر حسب العرف الدارج في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وبهذا لا يشمل الحديث الصور الفوتوغرافية والمرايا و انعكاس الضوء فيكون حُكم هذه
الأشياء الجواز علماً أن الإنسان له أن يبتعد عن هذه الأمور من باب الورع و لكن
هذا لا ينفي جوازها وعدم حرمتها فالورع أمر والجائز أمر آخر. وبالطبع فالشيء
المصوَّر له حكم آخر إن كان صوراً لفتيات عاريات لا خلاف في أنه حرام قطعاً.
أما
الدليل الشرعي للأخذ بالعرف أن الله تعالى أمرنا بكثير من الآيات أن نحتكم إلى
العرف بقوله تعالى: " وأمُر بالعرف و اعرض عن الجاهلين "، أي اجعل العرف
أساساً.
قالت
هند زوجة أبي سفيان يوم فتح مكة وكانت تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن
لا تسرق ولا تزني، قالت له: لقد كنت آخذ من مال أبي سفيان الهنة تلو الهنة (أي
الشيء القليل دون علمه)، ماذا أصنع؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
المستقبل: " خذي ما يكفيك وأولادك بالمعروف".
مثال
آخر: قال الله تعالى: " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين "، قال
الإمام مالك إن كانت المرأة من الأغنياء أو كانت شريفة (العادة عندهم أن النساء
الأغنياء لا يرضعن) ساعتئذ لا يجب عليها الإرضاع و لكن هو حق لها، أما إن كانت غير
ذلك فهو واجب عليها، لأن ذلك لم يأتِ بصيغة الأمر الجازم كقوله تعالى: {وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233].
قاعدة:
إن النص يُهَمِنُ على العُرف ولا يهيمن العرف على النص.
ونأخذ
بالعرف فقط في الأمور التي علَّقها النص على العرف، أما ما ورد فيه نص فلا يغيِّره
العرف حتى لو ترك أهل بلد ما جميعاً العمل بحكم شرعي، يبقى الحكم الشرعي كما هو.
فلا نقول إنَّ العرف السائد اليوم هو عدم ارتداء الحجاب مثلاً خلافاً للعرف قديماً
وأن الزمن قد تغير، فلو كان الأمر هكذا ما كان للشريعة الإسلامية معنى إذا كنا
دائماً نحتكم إلى العرف فقط دون النص.
أسباب
انتشار مذهب الإمام مالك: شاع مذهب الإمام مالك في المغرب كثيراً مع أن مالكاً لم
يترك المدينة و ذلك لأن المدينة كانت تستقطب أناساً وعلماء كثر أيام الحج و في غير
أيام الحج . ومن الأسباب التي ساهمت على انتشار مذهب الإمام مالك دون سواه كمذهب
الأوزاعي أو سفيان الثوري، تقييض الله سبحانه وتعالى لمالك تلاميذ كثر من مختلف
الأصقاع فمن مصر كان الليث بن سعد ومن المغرب ومن العراق ومن الشام ومن اليمن،
كلهم تتلمذوا على الإمام مالك وهم الذين قاموا بنشر مذهبه حتى وصلنا بالتواتر بحيث
يستطيع الإنسان أن يجزم أنه عندما يقرأ الموطأ أو المدونة برواية سحنون أو غيره من
تلامذة مالك يستطيع أن يجزم أنه يتبع إماماً راسخاً في العلم يبرأ ذمته عند الله
باتباعه والحمد لله. وهكذا انتشر مذهبه في المغرب و في مصر و في صعيد مصر وفي
اليمن و في أنحاء مختلفة متفرقة حتى أنَّ فرنسا حين استعمرت أقسام كثيرة من المغرب
مدة طويلة، اطَّلع علماء القانون الفرنسيون على الفقه الإسلامي لاسيما مذهب الإمام
مالك فأُعجِبوا به أيّما إعجاب، لذلك نرى أن القانون الفرنسي اليوم يعتمد اعتماداً
كبيراً على فقه مالك. و بواسطة هذه النافذة انتشر الفقه الإسلامي في فرنسا واطَّلع
عليه كثير من المستشرقين في أوروبا الذين بدأوا يتحركون لِصَدِّ ومحاربة هذا الغزو
الإسلامي و ذلك بزرع الشكوك و الشبهات ليُبعدوا الناس عن الإسلام، فادعوا قائلين:
هؤلاء العرب أصحاب الأدمغة القانونية مثل مالك وأبو حنيفة جاؤوا إلى الأعراف
القَبَلية عند العرب فدوَّنوها و جمعوها و نظَّموها وفكروا بطريقة يخلدون هذه
الأحكام بها ووجدوا أنَّ الطريقة هي أن يبتدعوا لها إطاراً دينياً فاخترعوا لها
الأدلة من الأحاديث والنصوص القرآنية لكي يرسخوا بهذه الأدلة الأعراف العربية
والقبلية التي كانت سائدة منذ العصر الجاهلي !!!. أيُعقل هذا الكلام؟ الإمام مالك
الذي رحل إليه الناس وقال لا أدري والذي كان لا يُحَدِّث حتى يغتسل ويلبس البياض
من الثياب ويبكي عندما يذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي لم يطأ
المدينة بحافر دابة قط أدباً مع النبي صلى الله عليه وسلم، أيُعقل بعد كل هذا أن
يُقال عنه ما قيل؟. فهذا شاخت، وهو أحد المستشرقين أعداء الإسلام يقول إنَّ مالكاً
اخترع الحديث! فكل واحد يقيس الناس على نفسه: الدجّالون أمثال كريمر و شاخت و
غيرهم يجلسون في ما بينهم فيختلقون الأكاذيب ثم يظهرونها على أنها حقائق ويظنون أن
غيرهم يفعل الشيء نفسه.
يقول
الدكتور أمين المصري رحمه الله وهو أحد علماء الشام إنه عندما ذهب إلى أوروبا لنيل
شهادة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية -هكذا حظنا أن ندرس الشريعة الإسلامية في
أوروبا؟!-
فكَّر
في موضوع لأطروحته، فوجد كتاب شاخت عن الفقه الإسلامي من أهم الكتب في أوروبا
(وكتاب شاخت هذا يعتمد ويؤكد هذه النظرية الباطلة التي أشرنا إليها عن اختراع مالك
للحديث)، فقرر أن تكون أطروحته دراسة هذا الكتاب. فجاءت دراسته موضحة بما لا مزيد
عليه اللبس الحاصل كاشفة أكاذيبهم دافعة لكل أباطيلهم وافتراءاتهم بحيث يتبين
القارىء المنصف حقدَ أولئك المستشرقين وتعنتهم الذي أخرجهم عن المنهج العلمي في
البحث ودفعهم لاختلاق الأكاذيب.
وهذا
ما دفع إدارة الجامعة إلى رفض أطروحته وألزمته بالتحول عن هذا الموضوع، فلما أبى
لم يستطع أن يحصل على شهادة الأستاذية واضطر أن يأخذ شهادة في علم النفس و علم
التربية و أن يترك دراسة الشريعة الإسلامية في الغرب.
وفاته
: توفي الإمام مالك في أوائل عام 179 هـ عن 87 سنة في الأرض التي لم يفارقها قط
إلا للحج حباً وشوقاً للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد بقي مفتياً للمدينة مدة ستين
سنة. وكان من أبلغ الناس حزناً عليه وأشدهم بكاءً تلميذه النجيب ووارث الإمامة من
بعده محمد بن إدريس الشافعي . ولقد دُفِنَ مالك رضي الله عنه في البقيع .
وكان
الإمام مالك قد ترك حضور الجنازات في آخر حياته وكان يأتي أصحابها فيعزيهم ثم ترك
ذلك كله و لم يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة أيضاً، فعوتِبَ في ذلك فقال: ليس
كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره. وعُلِمَ بعد ذلك أنه كان قد اُصيبَ بسلس البول و
كان يخشى أن يُنَجَّسَ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال وهو يودِّع
الدنيا: لولا أني في آخر يوم من الدنيا وأوله من الآخرة ما أخبرتكم، سلس بولي،
فكرهت أن آتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير طهارة إستخفافاً برسول
الله صلى الله عليه و سلم و كرهت أن أذكر علَّتي فأشكو ربي!!!.
من
أقواله:
-
كلما كان رجل صادق لا يكذب في حديثه (أي مطلق حديث) إلا مُتِّعَ بعقله ولم يصبه مع
الهرم آفة و لا خرف.
-
من لم يكن فيه خير لنفسه لم يكن فيه خير لغيره.
إنتهينا
من الحديث عن الإمام مالك وفقهه والسبب الذي جعل مذهبه ينتشر ويترسخ في كثير من
أنحاء العالم الغربي والإسلامي وعرفنا كيف أنَّ اجتهاد الإمام مالك زاد في التقريب
بين مذهبي أهل الحديث في الحجاز وأهل الرأي في العراق. وعرفنا لماذا نَمَت مدرسة
الحديث في الحجاز و لماذا نمت مدرسة الحديث في العراق. تكلمنا أيضاً عن دور الإمام
أبي حنيفة والإمام مالك في نسج شجون الصلة بين هذين المذهبين في الشكل الذي ذكرناه
و انتهينا إليه. والآن ننتقل إلى الكلام عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
-3ترجمة
الإمام الشافعي رضي الله عنه
بشارة
النبي صلى الله عليه و سلم به: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن علي و ابن
عباس: "اللهم اهدِ قريشاً فإنَّ العالِم منهم يسع طباق الأرض في آخرين"،
رواه أحمد و الترمذي وقال حسن.
وقال
صلى الله عليه وسلم: "لا تسبّوا قريشاً فإنَّ عالِمها يملأ الأرض علماً
"، قال ابن حجر الهيثمي حديث حسن له طرق عديدة.
اسمه
ونسبه وتاريخ ميلاده: هو محمد بن إدريس الشافعي، وُلِدَ بالاتفاق عام 150 هجرية أي
في العام الذي توفي فيه أبو حنيفة وقد غالى البعض فقال في اليوم نفسه الذي مات فيه
أبو حنيفة. والصحيح الذي ذهب إليه الجمهور أنه ولِدَ في غزة في فلسطين، والده قرشي
ويلتقي نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف جده صلى الله عليه وسلم.
أما أمه فمن قبيلة أخرى، من قبيلة الأسد وهي قبيلة عربية أصيلة و لكنها ليست
قرشية. ولِدَ الشافعي في أسرة فقيرة جداً، وبعد ولادته بعامين توفي أبوه فقررت أمه
العودة بابنها محمد إلى مكة لأنه قرشي حتى لا يضيع نسبه ولأن له سهم من ذوي
القربى.
ولكن
هذا المال الذي كانت تأخذه من سهم ذوي القربى كان قليلاً وقليلاً جداً، فعانت هي
ووليدها محمد حرماناً وفقراً. ولكن الأم كانت قوية الشخصية راسخة الإيمان، على
جانب من العلم والحفظ، فأرادت لولدها أن يتعلم و يحفظ فدفعت به إلى مكان في مكة
يقرىء الصبيان. ولكن الأم لم تجد أجر المعلم، فكان الشيخ المقرىء يهمل ويقصِّر في
تعليم الصبي المتعطِّش إلى العلم والمعرفة ولكن كان المعلم إذا علَّم صبياً شيئاً،
تلقَّف الشافعي ذلك الكلام ثم إذا قام المعلم من مكانه ليقضي شأنه أخذ محمد مكانه
وراح يعلم الصبيان تلك الأشياء. و رآه المعلم يفعل ذلك، فارتاحت نفسه و نظر إلى
أنَّ الشافعي يكفيه من أمر الصبيان أكثر من الأجرة التي يطمع بها منه فترك طلب
الأجرة واستمرت هذه الحال مع الشافعي حتى حفظ القرآن وهو دون العاشرة من عمره
ومنهم من قال و هو ابن سبع سنين.
عُرِفَ
الشافعي بشجو صوته في القراءة. قال بن نصر: كنا إذا أردنا أن نبكي قال بعضنا لبعض:
قوموا إلى هذا الفتى المطلبي يقرأ القرآن، فإذا أتيناه ( يصلي في الحرم ) استفتح
القرآن حتى يتساقط الناس ويكثر عجيجهم بالبكاء من حُسن صوته فإذا رأى ذلك أمسك من
القراءة.
تحصيله
وطلبه للعلم: كانت أمه قد وجَّهته لأتقان القراءة والتلاوة والتفسير على شيوخ
المسجد الحرام ولم يكد يبلغ الثالثة عشرة من عمره حتى أتقن ذلك إتقاناً جيداً
ملفتاً للنظر. ثم اتجه الشافعي إلى علم الحديث فلزم حلقة سفيان بن عيينة ومسلم بن
خالد الزنجي في المسجد الحرام. وكان الورق غالي الثمن باهظ التكاليف والشافعي وأمه
في قلة وفقر فكيف يفعل في التدوين؟ يُروى أنه كان يلتقط العظام العريضة فيكتب
عليها أو يذهب إلى الديوان فيجمع الأوراق المهملة التي يلقى بها فيستوهبها ويكتب
على ظهرها. هذه المعاناة وفقته إلى أن يعتمد على الحفظ فتكوَّنت لديه حافظة قوية
ساعدته مستقبلاً على حفظ كل ما يسمع وما يُلقى إليه من علم ومعرفة.
وبذكائه
وملاحظته أدرك الشافعي أنَّ لغة قريش قد دخلتها ألفاظ غريبة ولم يعد لسانها هو
اللسان العربي السليم في فصاحته وبيانه، وعلِمَ أنه لا يستطيع أن يجيد علوم القرآن
والحديث واستخراج الأحكام من النصوص إلا إذا أتقن اللغة العربية الصحيحة. وكان
يحضر في المسجد الحرام دروس إمام مصر الليث بن سعد حين يأتي حاجاً أو معتمراً وكان
يوصي مستمعيه أن يتقنوا اللغة وأسرارها وأن يتعلموا خاصة كلام هُذَيل وهم قبيلة في
البادية وأن يحفظوا أشعارهم لأن هذيل أفصح العرب. انطلق الشافعي إلى مضارب هذه
القبيلة فأقام في ظهرانيهم و لازمهم عشرة أعوام عكف خلالها على دراسة اللغة
وآدابها وحفظ الشعر (حفظ أكثر من عشرة آلاف بيت) كما تعلَّم الرماية والفروسية
وبرع فيهما. وروى الشافعي عن نفسه فقال: كانت همَّتي في شيئين، في الرمي والعلم
فصرتُ في الرمي بحيث أصيب عشرة من عشرة ". وسكتَ عن موضوع العلم تواضعاً
عِلماً أنه في العلم أكثر من ذلك. عاد إلى مكة وهو يحمل ثروة هائلة من شعر وأدب
العرب حتى قال الأصمعي - راوية العرب المشهور - " صحَّحتُ أشعار الهُذَليين
على فتى من قريش يُقال له محمد ابن إدريس ". وأصبح الشافعي حجة عصره في
اللغة. وعاد إلى مكة ليتعلَّم عند علمائها من أتباع عبد الله بن عباس وجعفر
الصادق.
وكان
الإمام سفيان بن عيينة إذا جاءه شيء من التفسير أو الفتيا التفت إلى الشافعي فقال:
سلوا هذا الغلام.
وكان
الشافعي يوماً يحضر مجلس ابن عيينة فحدَّث ابن عيينة بحديث أنَّ رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان معتكفاً، فأتته صفية، فلما ذهبت ترجع مشى النبي صلى الله عليه
وسلم معها فأبصره رجل من الأنصار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
إنها صفية، إنَّ الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ". فقال ابن عيينة: ما
فقه هذا الحديث يا أبا عبد الله ؟ فقال الشافعي: لو كان القوم اتهموا رسول الله
صلى الله عليه وسلم لكانوا بتهمتهم إيّاه كفاراً و لكنَّ رسول الله صلى الله عليه
وسلم أدَّب مَن بعده فقال إذا كنتم هكذا فافعلوا هكذا حتى لا يُظَنَّ بكم، لا أنَّ
النبي صلى الله عليه وسلم - وهو أمين الله في وحيه - يُتَّهم. فقال ابن عيينة:
جزاك الله خيراً يا أبا عبد الله ما يجيئنا منك إلا ما نحبه. ولا عجب في ذلك فقد
كان يعمل و يهتدي وفق توجيهات أمّه البارّة التي كانت عالمة، حافظة وفقيهة. فقد
استُدعِيَت مرة للشهادة أمام قاضي مكة و معها امرأة أخرى وأراد القاضي أن يفرِّق
بينها وبين المرأة الأخرى في الشهادة ليسمع كلاّ منهما على حدة، فاعترضت وطلبت إلى
القاضي أن تكون شهادتها وشهادة المرأة الأخرى بحضور كليهما واستدلَّت على ذلك
بقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}
[البقرة: 282].
وأجازه
شيخ الحرم الإمام مسلم بن خالد الزنجي وكان أول من أجازه فقال له وهو غلام: أنت يا
أبا عبد الله والله لقد آن لك أن تفتي. ولكن الشافعي مع هذا رفض أن يفتي وكيف يفعل
ذلك وهو يعتبر أنَّ سلّم العلم ما زال طويلاً، وكيف يفعل ذلك والإمام مالك في
المدينة وقد سمع من حديثه عندما جاء حاجّاً إلى بيت الله الحرام ؟!!!.
وأدرك
الشافعي ما عند مالك من علم واسع وأحب لقاءه ولكنه تهيَّبَ أن يرحل إليه قبل أن
يأخذ من علومه شيئاً، فأقبل على الموطأ فحفظه غيباً ولم يكن يملك ثمنه فاستعاره
وحفظه. وخشيَ أن لا يستقبله الإمام مالك لحداثة سنِّه فلقد اشتُهِرَ عن مالك أنه
رغم سماحته و طيب خُلُقه كان صارماً في العمل ولا يبيح وقته للناس ولا يستقبل من
يطرق بابه خلال راحته في داره. ولكن الشافعي الشاب المتوقد المتوهج المتعطش إلى
غَرف العلم لا يشبع نهمه الجلوس في حلقات درس مالك في المسجد ولكنه يريد أن
يتفرَّد بلقائه. فتوسطت له أمّه عند والي مكة، فأرسل معه رسالة إلى والي المدينة.
فلما وصلت الرسالة إلى والي المدينة وقرأها قال: يا فتى إنَّ مشيي من جوف مكة إلى
جوف المدينة حافياً راحلاً أهوَن عليّ من المشي إلى باب مالك، فلستُ أرى الذل حتى
أقف على بابه !.
فقال
الشافعي: أصلح الله الأمير، إن رأى الأمير يوجه إليه ليحضر. فقال الأمير: هيهات،
ليت أني لو ركبت ُ أنا ومن معي وأصابنا من تراب العتيق (حي يسكنه مالك) نلنا بعض
حاجتنا. وواعده على الذهاب إلى مالك في وقت العصر. ويروي الشافعي فيقول: وركبنا
جميعاً، فوالله لكان كما قال، لقد أصابنا من تراب العتيق فتقدم رجل منا فقرع الباب
فخرجت إلينا جارية سوداء فقال لها الأمير: قولي لمولاكِ أني بالباب. فدخلت ثم خرجت
فقالت: إنَّ مولاي يقرئكَ السلام و يقول إن كان لديك مسألة فارفقها في رقعة يخرج
إليك الجواب و إن كان للحديث فقد عرفتَ يوم المجلس فانصرِف. فقال لها الأمير: قولي
له إنَّ معي كتاب والي مكة إليه في حاجة.
فدخلت
وخرجت وإذا بمالك قد خرج وعليه المهابة والوقار وهو شيخ طويل مسنون اللحية، فرفع
الوالي الكتاب إلى الإمام مالك فطفق يقرأه فلما بلغ إلى هذا: " إنَّ هذا رجل
يهمني أمره وحاله فتحدثه ...وتفعل ... وتصنع ... ". فرمى مالك الكتاب من يده
ثم قال: سبحان الله أوَ صار علم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخّذ بالرسائل ؟!!!
قال الشافعي: فرأيتُ الوالي قد تهيَّب أن يكلِّمه فتقدمتُ وقلت: " أصلحك الله
... إني رجل مطلبيّ من بني المطَّلِب وحدَّثتُه عن حالتي و قضيتي فلما سمع كلامي
نظر إليَ و كان لمالك فراسة فقال: ما اسمك ؟ قلت: محمد، فقال: " يا محمد إنه
سيكون لك شأن وأي شأن، إنَّ الله تعالى قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه
بالمعصية. إذا جاء الغد تجيء مصطحباً معك ما تقرأ به ". وطلب منه أن يأتي بمن
يقرأ له الموطأ لصغر سنه ولكن الشافعي جاءه في اليوم الثاني ومعه الموطأ وبدأ يقرأ
عن ظهر غيب والكتاب في يده. وكلما قرأ قليلاً تهيَّب مالكاً وأراد أن يقطع ولكن
أعجب مالك حُسن قراءته وإعرابه فقال: زد يا فتى، حتى قرأ عليه الموطأ في أيام
يسيرة. قال مالك عنه: ما يأتيني قرشي أفهممن هذا الغلام، وقال: إن يك يفلح فهذا
الغلام.
ولازم
الشافعي مالكاً تسعة أعوام ولم ينقطع عنه إلا لزيارة أمّه أو لرحلة علمية و كان قد
ذهب في بعض الرحلات إلى العراق وحصل ثروة من علم أبي حنيفة. وتلقى الشافعي علومه
من مالك ومن باقي علماء المدينة. وكانت المدينة أجلّ بلد حافظ على الطابع الإسلامي
الأصيل، و أكثر الصحابة كانوا فيها، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من
حنين ترك فيها نحو اثني عشر ألف صحابي، لبث فيها نحو عشرة آلاف، ثم ماتوا فيها و
تفرَّق في سائر الأقطار نحو ألفين. وما كان يوثَق بعلم العالم في جميع أقطار
الخلافة الإسلامية إلا أن يؤم المدينة، يختلف إلى علمائها و يروي عن حفاظها.
وفي
إحدى رحلات الشافعي العلمية غاب عن المدينة زهاء عامين وكان دائم السؤال عن شيخه
مالك، ويوم عاد دخل الحرم النبوي و تهيَّأ للجلوس في حلقة مالك وما هي إلا لحظات
حتى وصل مالك وفاح ريح الطيب في أرجاء المسجد وجلس مالك على كرسي أُعِدَّ له وأخذ
يلقي المسائل على التلاميذ المتحلقين حوله ومن بينهم وفي زحمتهم الشافعي الذي لا
يكاد يراه مالك. سكت الحاضرون ولم يجيبوا على مسائل مالك فتضايق الشافعي ثم أوحى
بالجواب إلى الذي بجواره وكذلك بجواب آخر وآخر، مالك يلقي المسألة وجار الشافعي
يجيب، ثم سأله مالك متعجباً: من أين لك هذا العلم ؟ فقال إنَّ بجانبي شاباً يقول
لي الجواب وإذا هو الشافعي فتلقاه مالك بالترحاب والحفاوة والسرور وقال له: أتمم
أنت هذا الباب وهذه إجازة من مالك للشافعي بالفتيا . فلما كان عام 179 توفي مالك و
بكاه الشافعي بكاءً حاراً. وكان الشافعي يعاني من الفقر ولا يبالي في سبيل إقباله
على العلم و الدراسة فلما توفي مالك شعر بفراغ فالتفت يبحث عن عمل وكان قد وصل إلى
قمة الشباب، فبحث له بعض القرشيّن عن عمل في اليمن بواسطة والي اليمن، فأُعطِيَ
عملاً جيداً في نجران دون مستوى المحافظ بشيء قليل.
إتهامه
بخيانة الخلافة العباسية : في اليمن تنامت ثروة الإمام الشافعي العلمية بالتعرف
على فقه إمام مصر الليث بن سعد الذي كان تلامذته منتشرين هناك. ولكن والي مدينة
نجران تحفَّظ عليه فوشى إلى هارون الرشيد بشأنه و شأن عدد من الناس معه كان
مجموعهم عشرة و كانت الخلافة العباسية آنذاك تحسب حساباً للشيعة لاسيما العلويين -
أي أسرة و ذرية سيدنا علي رضي الله عنه - ذلك لأن الخلافة العباسية قامت على سواعد
الشيعة أي المتشيعين والمناصرين لعلي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، إلا أنَّ
العباسيين تنكروا لهم بعد قيام الخلافة. لذا كانت الخلافة العباسية دائماً تخشى من
ثورة العلويين عليهم. وكان والي نجران قد اتَّهم الشافعي بأنه يحرِّض العلويين على
الثورة. وسيق إلى هارون الرشيد مكبَّلاً بتهمة خيانة الدولة وكانت عقوبة هذه
الخيانة القتل. دخل الشافعي ثابت الفؤاد على الخليفة ينتظر الحكم عليه وهو يردد:
" الله يا لطيف ... أسألك اللطف فيما جرت به المقادير ". قال الشافعي
للخليفة: السلام عليك يا أمير المؤمنين و بركاته (دون أن يلفظ و رحمة الله). فردَّ
عليه الرشيد: وعليك السلام ورحمة الله و بركاته، ثم أضاف فقال: بدأت بسنَّة لم
تؤمر بإقامتها ، ورددنا عليك فريضة قامت بذاتها ومن العجب أن تتكلم في مجلسي بغير
أمري أو إذني. فقال الشافعي: إنَّ الله تعالى قال: " وعد الله الذين آمنوا
منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم
دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا "، وهو الذي إذا وعد
وفَّى، فقد مكَّنك في أرضه و أمَّنني بعد خوفي ... حيث رددت عليَّ السلام بقولك
وعليك رحمة الله، فقد شملتني رحمة الله بفضلك. فقال الرشيد: وما عذرك بعد أن ظهر
أنَّ صاحبك - يعني الثائر العَلَوي - طغى علينا وبغى واتَّبعه الأرذلون وكنتَ أنت
الرئيس عليهم؟ فقال الشافعي: أما و قد استنطقتني يا أمير المؤمنين فسأتكلم بالعدل
والإنصاف ولكن الكلام مع ثقل الحديد صعب، فإن جُدتَ عليّ بفكه أفصحتُ عن نفسي وإن
كانت الأخرى فيدك العليا ويدي السفلى والله غني حميد. فأمَر الرشيد بفك الحديد عنه
وأجلسه، فقال الشافعي: حاشا الله أن أكون ذلك الرجل، ولكن قال تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}،
[الحجرات: 6] لقد أفِك المبَلِّغ فيما بلَّغك. وإنَّ لي حرمة الإسلام وذمة النسب و
كفى بهما وسيلة وما أنا بطالبيّ ولا عَلَوي و إنما أُدخِلتُ في القوم بغياً عليّ.
أنا محمد بن إدريس، وأنا طالب علم. فقال الرشيد: أنت محمد بن إدريس؟ قال: نعم ، ثم
التفت إلى محمد بن الحسن الشيباني وسأله: يا محمد ما يقول هذا؟ أهو كما يقول؟ قال
محمد بن الحسن: إنَّ له من العلم شأناً كبيراً وليس الذي زعم عليه من شأنه (معلوم
أنه بين العلماء المخلصين نسب أقوى من الرحم). وكأنَّ الله تعالى وضع هذه المحنة
التي انزلق فيها الشافعي من أجل أن يعيده عز وجل من عمل الدنيا إلى عمل الآخرة
وهذا واضح جداً و عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم
و لكن هذه الحقيقة لا تظهر إلا آخراً عندما يكون الإنسان في طور المفاخرة وأمّا في
طور الحكم الإلهي فيكون كالغائص في جوف البحر لا يعلم إلا من وثق بعلم الله سلفاً.
لذا
ينبغي للمسلم أن يراجع نفسه كل فترة من الزمن و يحاول أن يتذكر ما هي الأشياء التي
حصلت معه في الماضي وظنها حينذاك شراً وإذا بها مع مَرّ السنين الخير كله، ذلك
يفيد الإنسان بزيادة ثقته بالله تعالى فإنَّ أكثر المعاصي والإحباطات إنما هي
ناتجة عن عدم الثقة بالله وعدم المشاهدة له دائماً عز وجل (ثقة عين اليقين).
موقف
الشافعي من الإمامة و الخلافة: كان الشافعي على عقيدة جمهور أهل السُنة و الجماعة
و كان يستدل على أنَّ أولى الناس بالخلافة هو أبو بكر رضي الله عنه بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم، أنَّ امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله في أمر
فقال لها ارجعي فيما بعد، فقالت: فإن لم أجدك؟ فأمرَها النبي عليه الصلاة والسلام
أن تأتي أبا بكر، أي إن ذهبت وعادت وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد توفي فعليها
أن تأتي إلى أبي بكر.
إقامته
في العراق: وبقي الشافعي في العراق فتعرَّف على محمد بن الحسن ووطَّد صلته به وعاد
وتفرغ للعلم وترك الدنيا والعمل فيها.
يقول
الشافعي: " أخذتُ من محمد بن الحسن وقر بعير (أي حمل بعير) من سماعه عن أبي
حنيفة، أي لو جمعتُ العلم الذي أخذته منه في كتب فإن هذه الكتب تبلغ حمل بعير وكل
ما فيها ليس فيه شيء من عندي ،كله أخذته سماعاً من محمد بن الحسن ". انظروا
إلى تواضع الشافعي الذي ما حال بينه و بين هذه الكلمة المكانة العالية التي
تبوَّأها قد تقدَّم ربما على محمد بن الحسن وهو المجتهد المطلق ما قال في نفسه
ماذا سيقول عني الناس لو سمعوا أني تلميذ محمد بن الحسن. و هذا من باب ذكر فضل أهل
الفضل. وقد ملأ الشافعي كتابه " الرسالة " مناقشات طريفة جداً بينه و
بين محمد بن الحسن الشيباني مُلئت علماً. وكان محمد بن الحسن يقدره تقديراً عظيماً
ولا يؤثر على مجلسه مع الإمام الشافعي أي مجلس. وقد حصل أن اتفق يوماً أنَّ الإمام
الشافعي كان ذات مرة متجهاً إلى بيت محمد ابن الحسن ليتدارس معه العلم وليأخذ منه
ولكن محمد بن الحسن كان متجهاً إلى الموعد الذي كان قد ارتبط به مع الخليفة، فآثر
مجلس الشافعي وتخلَّف عن مجلس الخليفة.
لبث
الشافعي في العراق زهاء عامين عاد بعدها إلى مكة وأخذ يدرس في الحرم المكي، وهذه
فترة ازدهار علمه، منذ هذا العهد بدأ الشافعي يصب كل تفكيره ويعمل كل فهمه في
تدوين الفقه وأصوله أي بدأ في تدوين موازين الاجتهاد وأصول استنباط الأحكام من
نصوص القرآن والسنَّة حتى تجتمع العقول المختلفة على هذه الموازين. فالقرآن والسنة
كلٌ منهما ملىء بالأحكام و لكن كيف نفهمهما، ما هي قواعد الفهم، ما هي قواعد
الدلالة العربية التي على أساسها نستنبط الأحكام من القرآن ومن السنة؟ هذا ما بدأ
يشغل بال الشافعي فوضع وخطط لهذا العلم و هو علم جديد لم يكن موجوداً من قبل هو
"علم أصول الفقه ".
بقي
الشافعي في مكة تسع سنوات يجمع هذه القواعد ويدونها و ينسجها وقبل ذهابه إلى مكة
كان قد زار مسجد الإمام الأعظم أبي حنيفة وهناك صلى الفجر على مذهب الإمام (أي أبو
حنيفة) مخالفاً مذهبه في الحركات والقنوت وما إلى ذلك، ولما سُئِلَ عن ذلك قال:
إني فعلته أدباً مع الإمام أبي حنيفة أن أخالفه في حضرته. انظروا إلى أدب علمائنا
بعضهم مع بعض.
تأليفه
لكتابه " الرسالة " وأهميته: أصبح من عادة الشافعي أن يجلس في الحرم عند
بئر زمزم حيث كان يجلس الصحابي الجليل شيخ المفسرين عبد الله بن عباس رضي الله
عنهما.
وبدأ
يؤلف في مكة كتابه " الرسالة "، وكان صيته العلمي في هذا الوقت يطبق
الآفاق في مختلف أنحاء البلاد و مقاطعات الدولة الإسلامية الشاسعة، فيأتيه طلاب
العلم والمعرفة من أقصى الأماكن وكان من هؤلاء أحمد بن حنبل الذي كان تلميذاً
للإمام ابن عيينة إمام الحديث في عصره في المسجد الحرام. وابن عيينة كان يروي جلّ
أحاديثه عن الزهري وهو أعلى الأسانيد، فكان الناس يغشون مجلسه. و لكن الإمام أحمد
لما علم بمجلس الشافعي وسمع منه ترك مجلس ابن عيينة وأصبح يغشى مجلس الشافعي فلما
سئل عن ذلك قال: إنك إن فاتك الحديث بعلوّ تجده بنزول ولا يضرك ذلك أما إن فاتك
عقل هذا الفتى -يقصد الشافعي- فإني أخاف أن لا تجده إلى يوم القيامة، ما رأيتُ
أحداً أفقه بكتاب الله تعالى من هذا الفتى القرشي. و كان أحمد يقول: كان الفقه
مقفلاً على أهله حتى فتحه الله للإمام الشافعي. قال الحسن بن محمد الزعفراني: كنا
نحضر مجلس بشر المريسي المعتزلي القدري المُناظر البارع وكنا لا نقدر على مناظرته
فسألنا أحمد بن حنبل فدلَّنا على الشافعي، فسألناه شيئاً من كتبه فأعطانا كتاب
اليمين مع الشاهد فدرسته في ليلتين ثم غدوتً على بشر المريسي وتخطَّيتُ إليه فلما
رآني قال: ما جاء بك يا صاحب الحديث؟ قال الحسن الزعفراني: ذرني من هذا، ما هو
الدليل على إبطال اليمين مع الشاهد؟ فناظرته فقطعته فقال: ليس هذا من كيسكم ، هذا
من كلام رجل رأيتُه بمكة معه نصف عقل أهل الدنيا. وكان بشر المريسي لما رأى
الشافعي المفتي في مكة يحدِّث قال لأصحابه المعتزلة : إني لا أخاف عليكم من أحد و
لكني أخاف عليكم من هذا الفتى فإنَّ معه نصف عقل أهل الدنيا.
والذي
يدعو إلى الإعجاب أن يكون الشافعي كتب هذه الرسالة في أصول الفقه وهو شاب و كان قد
طلبها منه إمام المحدِّثين في بغداد لكي يستفيد منها هو وغيره من كبار العلماء في
كيفية فهم النصوص. ولما كتب الشافعي الرسالة ووصلت إلى إمام المحدثين في بغداد،
جعل يتعجب ويقول: لو كانت أقل لنفهم.
وقال
الإمام المزني: قرأتُ الرسالة خمسماية مرة، ما من مرة إلا واستفدتُ منها فائدة
جديدة . وفي رواية عنه قال: أنا أنظر في الرسالة من خمسين سنة، ما أعلم أني نظرتُ
فيها مرة إلا واستفدتُ شيئاً لم أكن عرفته.
كتاب
" الرسالة " هو مقدمة ضخمة لكتابه " الأم " مثل مقدمة ابن
خلدون لكتابه " تاريخ الأمم والملوك "، ومقدمة ابن خلدون ليست كتاباً
مستقلاُ وإنما هي مقدمة لموسوعة تاريخية ولأهمية هذه المقدمة طُبِعَت طبعاً
مستقلاً واُفرِدَت باسم مستقل وأصبحت مقدمة ابن خلدون اسم مستقل تماماً وكذلك كتاب
" الرسالة " فهو في أصله عبارة عن مقدمة كبيرة وواسعة جداً لكتاب "
الأم " وهو عبارة عن سبعة أجزاء، إلا أنَّ " الرسالة " فيما بعد
أُفرِدَت بالطباعة وأصبحت عبارة عن كتاب مستقل لأنه يحوي علماً مستقلاً، وقد
تضمَّن ما يلي:
أولاً:
بيان أنَّ أي علم شرعي لا بد أن يدور على فلك نص مأخوذ من الكتاب أو السُنَّة. ثم
أكَّد أهمية وحجية حديث الآحاد (وحديث الآحاد هو الحديث الذي يرويه صحابي واحد أو
اثنين أو ثلاثة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) وقد ذكرنا طرفاً من ذلك من
قبل، واستدلَّ على حجية الآحاد بأدلة كثيرة منها:
-
أنَّ الله تعالى حينما أنزل في القرآن الكريم تحويل القِبلة من المسجد الأقصى إلى
مكة المكرمة، جاء صحابي وأخبر الصحابة الذين كانوا يصلّون في مسجد ذي القِبلتين
فاستداروا وهم في الصلاة، فإذاً أخذوا بخبر الواحد!.
-
حينما أنزل الله تعالى آية تحريم الخمر، أخبر صحابي باقي الصحابة بذلك، فانتهوا
وألقوا خمورهم.
-
إنَّ النبي صلى الله عليه و سلم بعث معاذ رضي الله عنه إلى اليمن ليبلِّغ عنه ولقد
أخذ عنه أهل اليمن.
إنَّ
الله عز وجل قد أمرنا أن نأخذ بقول الشاهدين وهما من الآحاد.
وهذا
الأمر أي حجية حديث الآحاد لم يخالف فيه أحد من الأئمة الأربعة وإنما اختلفوا في
نسخ الآحاد للقرآن أي هل ينسخ حديث الآحاد حكم آية من كتاب الله تعالى وهل يخصص
هذه الآية أم لا؟.
وكان
قد ظهر في عصر الشافعي من يدَّعي أنه يأخذ بالقرآن الكريم وحده ويدع العمل بالحديث
الآحاد وهم من الزنادقة، فردَّ عليهم الشافعي رداً مفحماً وسمّيَ بذلك " نصير
السُنَّة النبوية ".
ثم
عقد الشافعي باباً سمّاه " الدلالات " أي كيف تدل النصوص على معانيها
سواء كان المفهوم الموافق أو المفهوم المخالف و كيف نستخرج قواعد القياس على نص في
كتاب الله تعالى.
وأوضح
البيان، أي كيف يمكن أن يكون القرآن بعضه بياناً لبعض وأنّ النص قد يكون عامّاً
وقد يكون خاصاً وقد يكون مطلقاً وقد يكون مقيَّداً. والنص المطلق يمكن أن يأتي نص
آخر في المعنى ذاته فيقيِّده و يفسِّره.
وأوضح
أيضاً فيما إذا كان يمكن للسُنَّة أن تخصص القرآن العام أو أن تقيِّده وهل يصح
العكس.
باختصار
كتاب " الرسالة " هو عبارة عن مفاتيح لكيفية فهم الأحكام من النصوص. وقد
كان المجتمع آنذاك يفتقر إلى هذا العلم ولم يكتب فيه أحد قبلاً ، صحيح أنَّ الإمام
أبو حنيفة والإمام مالك كل منهما بنى فقهه على أصول ومبادىء و لكن هذه المبادىء لم
تسجَّل ولم يُصرَّح بها كلها بل إنَّ تلامذتهما هم الذين استنبطوا الأصول من فروع
المسائل. والذي أعان الشافعي على هذا العلم علم استنباط الأحكام من النصوص فضلاً
عن كونه عالماً بالفقه والحديث وبلوغه درجة قصوى من الذكاء، هو أنه عاش في البادية
عشر سنوات حيث أخذ الطبيعة العربية والسليقة العربية من ينبوعها، فكان يعلم كيف
يفهم الرجل العربي الجملة وكيف يأخذ المعنى إثر المعنى من الجملة الواحدة، ومما
جعل من الشافعي حجةً في اللغة.
عودة
الشافعي إلى العراق: عاد الشافعي إلى العراق وأقبل العلماء جميعاً من شتى المذاهب
على كتاب " الرسالة " و أُعجِبوا به أيما إعجاب وكان الشافعي يشرح
ويناقش هذه القواعد. وكان الشافعي يضرب في طول البلاد وعرضها في سبيل أن ينقل علم
الحجاز إلى العراق و بالعكس و يجمع الكل تحت مظلة هذه القواعد، فلقد تنبَّه إلى
ثغرات علماء العراق وهي أنهم كلما فقدوا النص استنجدوا بالرأي واستحسنوا ومالوا
إلى ما تطمئنُّ إليه نفوسهم ولكن على أي أساس؟ وعلى أي قاعدة ؟ وما هو المقياس
الذي يوضح الرأي المتفق مع شرع الله تعالى و حكمه و الرأي المتنكر عن شرع الله
تعالى وحكمه؟ لا يوجد ! إذاً هذه هي الثغرة التي يعاني منها أهل العراق. أما أهل
الحجاز فلاحظ أنهم يأخذون بالنص دون أن يتوغلوا في فهم طرق دلالته وقوانين هذه
الدلالة. إذا رأوا نصاً في كتاب الله تعالى أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم
تصوَّروا ضرورة تطبيق هذا النص دون التأمل في كيفيته وأسلوبه، وهذه هي ثغرتهم،
فكان كتاب الرسالة سداً لثغرة أهل الحديث فتقبله المسلمون في جميع أنحاء البلاد
وأقبلوا عليه. ويقول الشافعي في هذا الموضوع: صحيح أننا لا نخرج عن دائرة النص
ولكن هناك فرق بين من لا يغوص في أعماق النص ولا يتعمق به وبين من يبحث ويتفكر
ويتعلم ويتعمق ويستنبط معان عديدة فيجد أنَّ مسافة النص 10 أمتار من حيث المعنى.
وضرب على ذلك أمثلة عديدة فقال:
-
إنَّ الله عز وجل خاطب عباده في كتابه بألفاظ عامة وأراد منها الخاص وخاطب عباده
بألفاظ خاصة وأراد منها العموم، مثال على ذلك: قوله عز و جل: " الذين قال لهم
الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم " إنما أُريدَ بالناس الأولى رجل واحد
هو أبو سفيان، فيكون هنا اللفظ عام يُراد منه الخاص.
مثال
على الخاص الذي يُراد منه العام: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا
طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]، فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده
ولكن المقصود به عموم الناس.
من
هنا كثُرَ إعجاب الإمام أحمد بالشافعي فعن صالح بن أحمد بن حنبل قال: جاء الشافعي
يوماً إلى أبي يعوده -وكان عليلاً- فوثب أبي إليه، فقبَّل ما بين عينيه، ثم أجلسه
في مكانه وجلس بين يديه. قال فجعل يسائله ساعة، فلما وثب الشافعي ليركب قام أبي
فأخذ بركابه ومشى معه، فبلغ يحيى بن معين هذا الخبر فوجه إلى أبي: يا أبا عبد
الله، يا سبحان الله! آضطرك الأمر إلى أن تمشي إلى جانب بغلة الشافعي ؟ فقال له
أبي: و أنت يا أبا زكريا لو مشيتَ من الجانب الآخر لانتفعتَ به. قال: ثم قال أبي:
من أراد الفقه فليشم ذنب هذه البغلة. وقال الفضيل بن زياد: قال أحمد بن حنبل: هذا
الذي ترون كله أو عامته من الشافعي، ما بتُّ مدة أربعين سنة إلا و أدعو الله
للشافعي. قلتُ وهذا من شيَم أهل الفضل يعرفون الفضل لأصحابه.
وكان
الشافعي بالمقابل يحب و يجلّ الإمام أحمد كثيراً وكان يجلس بين يديه يتعلم منه
الحديث ويقول له إذا صح عندك الحديث فأخبرني عنه. وكان الإمام أحمد يحدِّث ابنته
كثيراً عن الشافعي وعن تقواه و علمه و في يوم نزل الشافعي ضيفاً عند أحمد و لعل
ذلك كان في رحلة الشافعي الأخيرة له إلى بغداد ، فأعطاه غرفة لينام فيها. وكان
الإمام أحمد كثير التعبد و كثير التنسك فأخذت ابنته تراقب الشافعي كيف تكون عبادته
ومتى سيستيقظ من الليل وأيهما أكثر تعبداً والدها أم الشافعي. فلاحظت أنَّ غرفة
الشافعي بقيت مظلمة إلى قُبَيل أذان الفجر بينما الإمام أحمد كان يقوم أكثر الليل.
وفي الصباح قالت لأبيها: أهذا هو الشافعي الذي حدثتني عنه؟ فلم يجبها الإمام أحمد
ودخل على الشافعي فقال له: كيف كانت ليلتك يا أبا عبد الله ؟ فقال له: لقد فكرتُ
الليلة في بضع آيات من كتاب الله تعالى و روايةٍ في حديث النبي صلى الله عليه وسلم
، فاستخرجتُ منها أحكاماً كثيرة - و في رواية فوق الستين حكماً - فقال الإمام أحمد
لابنته: لضجعة واحدة من الإمام الشافعي خير من صلاة أبيكِ الليل كله!.
هذا
يصور لنا كيف كان أدب و تعظيم أئمة المسلمين بعضهم لبعض ونظر كل واحد منهم إلى
الآخر على أنه إمام و حجة. أما اليوم فللأسف كثير ممن يدَّعون حب إمام من الأئمة
يسفِّهون أو ينتقدون إماماً آخر. وقد أنبأنا النبي صلى الله عليه و سلم عن هذا
الداء الخطير وأنه من أشراط الساعة أن يلعن آخر هذه الأمة أولها.
أسفاره
وزيارته مصر: لقد طاف الشافعي في آفاق العالم الإسلامي، ولم يترك بقعة إلا زارها
من الحجاز حتى أقصى الشرق والشمال ولكنه لم يأتِ مصر بعد. ومصر مهد عريق في
الحضارة والعلم وهي في الوقت عينه مجتمع علماء فحول وفضلاً عن ذلك هي مدرسة إمامه
وشيخه الليث بن سعد. وبينما إمامنا العظيم في تطلعه هذا إذ جاءته دعوة كريمة
لزيارة مصر فوافقت هوى قلبه ونفسه وكانت الدعوة من أحد تلامذته ومُحبّيه، الفقيه
العالم، والتاجر الواسع الثراء " ابن عبد الحكم ". فشد الشافعي رحاله
على الفور وكان وداع الناس والعلماء خاصة له في بغداد مؤثراً جداً. كانوا يبكون
ويحاولون إقناعه بالبقاء خصوصاً الإمام أحمد.
وامتدت
إقامة الشافعي في مصر خمس سنوات حيث استُقبِلَ استقبالاً حافلاً من مختلف الطبقات
إذ سبقه صيته إلى هناك وحاول الكثيرون أن يستفيدوا من ضيافتهم له فعرضوا عليه
الإقامة عندهم من الوالي حتى أقل الناس شأناً و لكن الشافعي آثر التشبه برسول الله
صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة المنورة فنزل عند أقارب أمه.
وكان
أول ما فعله الشافعي أن قام بزيارة قبر الإمام الليث بن سعد ووقف عند القبر خاشعاً
يردد و يقول: لله درُّكَ يا إمام ... لقد حزتَ أربع خصال لم يكملن لعالِم: العلم
والعمل والزهد و الكرم.
لقاؤه
السيدة نفيسة وأخذه عنها العلم : كانت السيدة نفيسة رضي الله عنها حفيدة الحسن بن
علي والحسين بن علي رضي الله عنهم موئل علم ودين و تقوى، تقيم في مصر، وكان
الشافعي يعرف مقدارها ومكانتها. فاستأذن في زيارتها فأذنت له ورحبت به وأعجبها
عقله وورعه وسمع منها ما لم يكن قد وصل إليه من حديث رسول الله صلى الله عليه و
سلم.
تدريسه
و تأليفه لكتابه " الأم " : كان الشافعي جامعة علم في شتى الفنون، فكان
يجلس في جامع تاج الجوامع في مصر بعد صلاة الفجر ويبدأ بالقرآن وعلومه فيأتيه
علماء التفسير وعلوم القرآن الفطاحل ليتعلموا منه، فإذا انتهى تحوَّل إلى الحديث
فيأتيه علماء الحديث ليتعلموا منه وإذا فرغ انتقل إلى علوم اللغة وآدابها فيأتيه
علماؤها يدرسون عنه و هكذا .
وفي
مصر أعاد الشافعي النظر في " الرسالة " فجدد تأليفها - و" الرسالة
" التي بين أيدي الناس اليوم هي "الرسالة" المؤلفة في مصر - كما
أعاد النظر في كتابه " الحجة " فألَّف بدله كتاب " الأم " وهو
مجموع لكتب كثيرة جديدة ألَّفها الشافعي في مصر وهذا الكتاب هو المعروف والمشهور
في أيامنا. وتراجع الشافعي عن بعض مسائله الفرعية في العراق وأفتى بغيرها من هنا
إذا قيل اليوم في المذهب الشافعي القديم فإنما يراد به أقواله في العراق المجموعة
في كتابه " الحجة " وإذا قيل مذهب الشافعي الجديد فيراد به أقواله في
مصر المجموعة في كتابه " الأم ". وابتكر الشافعي كتباً - كما يقول الإمام
النووي - لم يسبق إليها، منها: أصول الفقه وكتاب " القسامة " وكتاب
" الجزية " وكتاب " أهل البغي " وغيرها.
فائدة
: الفتوى اليوم هي على المذهب الجديد إلا في بعض المسائل التي لا تتجاوز العشرين
مسألة حيث يُفتى فيها بالقول القديم.
أدب
الشافعي مع مخالفي مذهبه وعدم تعصبه: الشافعي رضي الله عنه إن وجد نفسه يخالف في
بعض آرائه الإمام مالك، لم يكن يعرِّض لذلك ولم يكن يناقشه ولم يكن يتحدث حتى لا
يضع نفسه من أستاذه موضع المناقِش أو الرّاد على رأيه ولكن في الوقت نفسه يخالف
بأدب. إلى أن بلغه أنَّ في المغرب أناساً وصل بهم التقديس الأعمى للإمام مالك.
فصاغ الشافعي هنا في هذا الوقت المتأخر من حياته " خلاف مالك " أي
" خلافياتي مع مالك " وقال إنَّ الإمام مالك بَشَر يصيب ويخطِأ وهو أي
الشافعي بشر يصيب ويخطأ وبدأ يناقش مسائل يرى خلافاً فيها مع مالك. وفي كثير من
الأحيان ذهب كثير من الأئمة العظام ضحية عصبية تلامذتهم وهذا في التاريخ كثير. قد
يكون الإمام عظيماً لكن له تلامذة يتعصبون ويتشنَّجون.
من
هنا كان الشافعي ينادي مراراً وتكراراً: إذا صح الحديث فهو مذهبي يعني إن صح حديثٌ
لم أكن قد سمعتُ به و أفتيتُ بخلافه ووصل إليكم و فقهتم المعنى فإنَّ هذا هو
مذهبي. إذاً هذا القول ليس موجهاً إلى عامة الناس وإنما هو موَّجه إلى فقهاء مذهبه
وتلامذته وأصحابه. يعني مثلاً قد يأتي من يعترض وبالفعل فقد أتى في هذا الزمن كثير
من اعترض على الشافعي، يقول مثلاً إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح:
" من لحم جزور فليتوضأ "، والشافعي يقول إذا صح الحديث فهو مذهبي. نقول
ليس مطلق حديث وقع عليه إنسان يستطيع أن يطبق عليه مقولة الشافعي إذ ينبغي أولاً
أن يكون من أهل النظر والاجتهاد، ثانياً أن يرى هل اطَّلع على هذا الحديث الشافعي
أو أصحابه أو فقهاء المذهب من بعد وكيف فسروه؟ ولقد رد الشافعية على هذا الحديث
فقالوا هذه واقعة حال والواقعة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع
بعض أصحابه وقد أكلوا لحم جزور وخرجت رائحة كريهة من أحد الحاضرين ثم حان وقت
الصلاة و من البديهي أنَّ الذي سيذهب للوضوء سيُعلَم حاله، فرسول الله صلى الله
عليه وسلم الأديب الرفيع الذوق قال رفعاً للحرج عن هذا الصحابي: من أكل لحم جزور
فليتوضأ. هذه واقعة حال و وقائع الأحوال لا تصلح للاستدلال. ثم لو صح أنَّ لحم
الجزور ينقض الوضوء، فمن المعلوم أنَّ أهل مكة والمدينة لا يأكلون في ذلك الوقت من
اللحوم إلا لحم الإبل ولو صح أنه ينقض الوضوء لعُلِمَ ذلك وشاع ولكن لم يُنقَل إلا
عن هذا الصحابي وفي هذه الحالة.
وكان
الشافعي يدعو إلى عدم التعصب في أمر من الأمور لأن الشيطان دائماً يتربص بالمسلمين
على الأطراف التي تشكل الإفراط أو التفريط فكلما ابتعد الإنسان عن القصد في الطريق
تخطَّفه الشيطان وإنه لا يستطيع أن يتخطَّفه إلا إذا خرج عن الجادة الوسطى كما قال
تعالى: " إنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرَّق بكم عن
سبيله ".
علم
أصول الفقه و تعريفه: علم أصول الفقه إجمالاً هو الميزان العربي الذي تُزان به
فهوم الفقهاء بنصوص الكتاب والسُنَّة. و هذا العلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
-
قسم يسمى: " الدلالات ".
-
قسم يسمى: " البيان ".
-
قسم يسمى: " صفات المجتهد و كيفية الإجتهاد".
فقسم
الدلالات عبارة عن كيف يفهم العربي الكلام العربي، مثلاً نقول الأمر (افعل، اقرأ،
اكتب) يدل على الوجوب والنهي يدل على طلب الترك الجازم ويدل على الحرمة. اللفظ يدل
بمعناه الإيجابي دلالة منطوق و يدل بمعناه السلبي دلالة مفهوم مخالف. هذه كلها
دلالات والكلمة تتفاوت حسب قوة الدلالات على المعنى عبر سلم من الدرجات. فأقوى
دلالة على المعنى إسمها " النص "، في الدرجة الثانية يأتي ما يسمى
" بالظاهر "، وفي الدرجة الثالثة " المُجمَل "، وفي الرابعة
" المتشابَه ". النص كيف يُفهَم و الظاهر كيف يؤوَّل ... هذا خلاصة قسم
الدلالات.
القسم
الثاني وهو قسم " البيان " أي كيف يأتي نص في القرآن الكريم بياناً لنص
آخر، وكيف يأتي نص من القرآن بياناً لحديث من السنَّة، وكيف يأتي حديث من السنة
بياناً لنص من القرآن أي شرحاً له. كثيراً ما يأتي نص من القرآن عاماً محتملاً
فيأتي نص آخر واضح وضع النقاط فيه على الحروف فيفسر هذا النص الذي يسمى الخاص على
العام عن طريق ما يسمى بالتخصيص أو التقييد أو التأويل أو النسخ، وهذا خلاصة القسم
الثاني.
أما
القسم الثالث وهو " الاجتهاد ": ما الاجتهاد؟ وبأي الأحكام نجتهد؟
القاعدة تقول أنه لا اجتهاد في معرض النص وإذا لم يكن هناك نص و لكن هناك إجماع
أيضاً لا اجتهاد. وإذا كان الإجتهاد وارداً فما هي شروطه يا ترى ؟ وما هي شروط
المجتهد أي ما هي الشروط التي ينبغي أن تتوفر فيه من علم ودراية وذوق وفقه وما إلى
ذلك حتى يستطيع أن يجتهد؟ كل هذه الأسئلة تكمن إجابتها في هذا القسم.
هل
هناك خلاف في أصول الفقه بين العلماء ؟ الحقيقة أنَّ هناك خلاف بين الأئمة في بعض
الفروع أما في أصول الفقه فالخلاف قليل جداً جداً. الإمام الشافعي عندما دوَّن هذا
العلم وافقه العلماء الذين كانوا في عصره، فكل من المالكية والحنابلة والشافعية
طبَّقوا هذه القواعد التي دوَّنها الشافعي، لذلك لا يوجد عندنا كتب أصول فقه
للمالكية والحنابلة، فقط الحنفية هم الذين خالفوا الشافعي في مسائل في أصول الفقه.
لذلك عندما ندرس أي كتاب في أصول الفقه نجد أنَّ هذه الأصول تأخذ أحد طرفين طريقة
الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وتسمى طريقة المتكلمين وطريقة الحنفية.
ملاحظة:
هنا قد يرد إشكال ألا وهو إن كان الإمام الشافعي هو الذي وضع قواعد أصول الفقه
بمعنى أنَّ الفقه الذي تفرَّع من هذه الأصول يمكن أن نعتبره فقهاً وضعه الشافعي
وبالتالي لا تثبت البيِّنة على أنَّ الفقه هو حكم الله عز و جل و شرعه المنزَل،
هذا من جهة ومن جهة أخرى هناك إشكال آخر أثاره بعض المستشرقين يقول فيه: من أين
جاء الإمام الشافعي بقواعد أصول الفقه ؟ لعله ابتدعها من عنده!.
الجواب:
إنَّ هنالك فرقاً دقيقاً ولكن هاماً جداً بين قولنا إنَّ الإمام الشافعي وضع علم
أصول الفقه وبين قولنا إنه دوَّن علم أصول الفقه. الشافعي لم يخترع ولا قاعدة
واحدة من قواعد علم أصول الفقه إطلاقاً وإنما بحكم أنَّ الشافعي حجة وإماماً في
اللغة عكف على أساليب العرب و كيفية فهمهم للكلام والمعاني التي تُستَخلَص من
العبارات فاستخرج من قواعد العرب و اصطلاحات اللغة العربية في الفهم والنطق استخرج
من ذلك قواعد دوَّنها و لفت إليها أنظار الفقهاء والمحدِّثين. ولكي نقرب الصورة
أكثر نضرب المثال التالي: إنَّ أول من دوّن علم اللغة العربية هو أبو الأسود
الدؤلي، فهل لأحد أن يقول إذاً أن أبو الأسود الدؤلي اخترع اللغة العربية؟!!! فأبو
الأسوَد الدؤلي إذا كان وضع قواعدها فهذا لا يعني أنه اخترعها. نحن جميعاً نعلم
أنَّ اللغة العربية كانت موجودة من قَبل أبي الأسوَد بكثير وأنَّ الناس كانوا
يرفعون الفاعل و ينصبون المفعول به و يجرّون المضاف إليه وما إلى ذلك قبل الدؤلي
بقرون ولكن الذي حصل أنَّ أبا الأسوَد عمد بعبقريته الفذة إلى النطق العربي
وتتبَّعه فوجد أنَّ العرب دائماً ترفع الفاعل وما إلى ذلك، فقعَّد له قوانين
وقواعد حتى يستطيع من لا يجيد العربية بالسليقة أن ينطق النطق السليم. والكلام
نفسه يًطَبَّق على الشافعي وعلم أصول الفقه، فالشافعي مثلاً وجد أنَّ العرب إذا
سمعوا جملة ما، تدرك لها معناها الإيجابي وتأخذ بالاعتبار معناها السلبي. مثال على
ذلك، عندما تسمع العرب حديث " مطل الغني ظلم " (أي إذا كان المدين
مليئاً غنياً وماطل في دفع الدَّين المترتب عليه فهو ظالم) العرب قبل الفقهاء
فهموا من هذا الكلام أنَّ مطل الفقير ليس بظلم وهذا ما سماه الشافعي "
المفهوم المخالِف ". إذاً هو لم يخترع هذا وإنما تتبع لغة العرب وقعَّدها.
منهج
الشافعي العلمي: أخذ الشافعي بالمصالح المرسلة والاستصلاح و لكن لم يسمها بهذا
الاسم وأدخلها ضمن القياس وشرحه شرحاً موسعاً. وكذلك كان الشافعي يأخذ بالعرف مثل
مالك ولكن كل لدرجة ما.
يروى
إنه في أحد الأيام ، في مجلس مالك ، كان فيه الشافعي، جاء رجل يستفتي مالكاً، يقول
أنه ابتاع طائراً من رجل أقسم البائع بالله تعالى وفي رواية بالطلاق أنَّ طائره
هذا لا يفتأ عن التغريد. فلما أخذه الشاري وجده يغرد حيناً و يسكت حيناً، فسأل
مالكاً فقال له: لك حق خيار العيب (أي أنه لك الحق في رده بسبب عيب فيه) وقد حنث
في يمينه أو على الرواية الأخرى وقع الطلاق. وكان الشافعي جالساً في ذلك المجلس
ولكنه لم يتكلم أدباً مع شيخه مالك. فلما ذهب الرجل لحق به وسأله: طائرك يغرد في
اليوم أكثر أو يسكت أكثر؟ قال الرجل: بل التغريد أكثر، فقال له الشافعي: إذاً
البيع صحيح و ليس لك خيار العيب ولم يحنث وفي تلك الرواية لم يقع الطلاق. فجاء
الرجل إلى مالك ، فلما ناقشه الشافعي قال له: يا سيدي، الألفاظ التي ننطق بها إنما
نضعها في ميزان العرف الشرعي إن وُجِد (مثل الطلاق و العتق ... )، لكن إن فُقِدَ
العرف الشرعي عندئذ نشرحه بالعرف اللغوي الدارج بين الناس فإن فُقِدَ العرف اللغوي
الدارج بين الناس نعود إلى اللغة العربية في جذورها وأمهاتها. ونحن نعود في هذا
إلى كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد روينا عن المصطفى عليه الصلاة والسلام
أنَّ امرأة جاءت تستشيره في رجلين قد خطباها فأيهما تتزوج، فقال لها النبي صلى
الله عليه وسلم: أما فلان فلا يضع العصا عن عاتقه و أما فلان فصعلوك (أي لا يليق
بك من حيث المستوى الإجتماعي وغيره). قال الشافعي: فقوله صلى الله عليه وسلم لا
يضع العصا عن عاتقه كناية عن كثرة السفر وقد علمت أنه يصلي فيضع العصا عن عاتقه و
يأكل ويضعها عن عاتقه وينام ويغتسل وفي كل ذلك يضع العصا عن عاتقه ورسول الله صلى
الله عليه وسلم صادق فيما يقول، إذاً هذه الكلمة سارت مسار العرف الدارج وهنا (أي
في مسألة الطائر) عرف في السوق لو قال البائع هذا الطائر لا يفتأ عن التغريد يعني
أنَّ أكثر أوقاته التغريد.
وكان
الشافعي يتمسك بالأحاديث الصحيحة ويعرِض عن الأخبار الواهية والموضوعة
واعتنى
بذلك عناية فائقة. وقال الشافعي ذاكراً فضل الله تعالى عليه: ما كذبت قط وما حلفت
قط بالله تعالى صادقاً ولا كاذباً. قال أبو زُرعة: ما عند الشافعي حديث فيه غلط.
وقد
وضع الشافعي في فن مصطلح الحديث مصطلحات كثيرة، لم يُسبَق إليها مثل: الاتصال
والشاذ والثقة والفرق بين حدَّثنا وأخبرنا
من
عباداته ونوافله: كان يقسم ليله إلى ثلاثة أجزاء: ثلث ينام و ثلث يكتب وثلث يصلي.
وكان يختم القرآن في كل شهر ثلاثين مرة وفي رمضان ستين ختمة. ومن نوافل الشافعي
كثرة صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم وكان يحضُّ على ذلك أصحابه وتلاميذه ومن
يحضره. وكان أسخى الناس على الدينار والدرهم والطعام لا يدخل على مكة حتى يتصدَّق
بما معه.
مرضه
ووفاته: كان الشافعي من الأئمة العاملين فرابط فترة في مصر في الثغور وهي المواضع
التي يُخشى هجوم العدو منها على بلد مسلم. وفي آخر حياته ظهرت عليه علة البواسير و
كان يظن أنَّ هذه العلة إنما نشأت بسبب استعماله اللُّبان - وكان يستعمله للحفظ -
وبسبب هذه العلة ما انقطع عنه النزيف وربما ركب فسال الدم من عقبيه. وكان لا يبرح
الطست تحته وفيه لبدة محشوة، وما لقي أحد من السقم ما لقي.
والعجيب
في الأمر بل يكاد يكون معجزاً أن تكون هذه حال الشافعي و يترك في مدة أربعة سنوات
كلها سقم من اجتهاده الجديد ما يملأ آلاف الورق مع مواصلة الدروس والأبحاث
والمناظرات والمطالعات في الليل والنهار، وكأنَّ هذا الدأب والنشاط في العلم هو
دواؤه الوحيد الشافي !. وألحَّ على الشافعي المرض وأذابه السقم ووقف الموت ببابه
ينتظر انتهاء الأجل. وفي هذه الحال، عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة، دخل
عليه تلميذه المزني فقال: كيف أصبحت؟ قال: أصبحتُ من الدنيا راحلاً وللإخوان
مفارقاً و لكأس المنيَّة شارباً وعلى الله جلَّ ذكره وارداً ولا والله ما أدري
روحي تصير إلى الجنة فأهنِّئها أو إلى النار فأعزِّيها ! ثم بكى وأنشأ يقول:
ولما قسى قلبي و ضاقت
مذاهـبــي جعلتُ الرَّجــا مني لعفوك سلَّـمـا
تعاظـني ذنـبـي
فـلمـا قـرنـتـه بعفوك ربي كــان عفوك أعظمــا
وما زلتَ ذا عفوٍ عن
الذنب لم تــزل تجود وتعـفـو مِـنَّـةً وتكرُّمـــا
ودُفِنَ
الشافعي رحمة الله تعالى عليه في القاهرة في أول شعبان، يوم الجمعة سنة 204 هجري.
مات وكان له ولدان ذكران وبنت وكان قد تزوج من امرأة واحدة.
من
وصاياه و أقواله:
-
ما تُقُرِّب إلى الله عز وجل بعد أداء الفرائض بأفضل من طلب العلم.
-
طلب العلم أفضل من صلاة النافلة.
-
من ضُحِكَ منه في مسألة لم ينسها أبداً.
-
من حضر مجلس العلم بلا محبرة و ورق كان كمن حضر الطاحون بغير قمح.
-
ما ناظرتُ أحداً قط إلا أحببتُ أن يوفَّق أو يسدد أو يُعان ويكون له رعاية من الله
تعالى و حفظ، وما ناظرتُ أحداً إلا و لم أُبالِ بيَّنَ الله تعالى الحق على لساني
أو لسانه.
نحن
كلما رأينا سيرة إمام قلنا والله هذا أحق بالاتِّباع وكلما سمعنا دليله قلنا والله
هذا لهو الدليل المقنع! نعم كلهم أحق بالاتِّباع وكلهم عندهم أدلَّتهم المُقنِعة
فلذلك ورحمة من الله تعالى بنا جاز لنا أن نتبع من شئنا منهم و الحمد لله رب
العالمين.
-4
ترجمة الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه
الإمام
أحمد بن حنبل رجل النصف الأول من القرن الثالث، فليس من أحد في عصره بلغ من الشهرة
والثقة والاعتقاد ما بلغه، ذلك أنه كان رحمه الله إماماً في الورع، إماماً في
الزهد، إماماً في التفقه، إماماً في طريقته الفقهية، إمام أئمة الحديث في عصره
وإماماً في الثبات والصبر.
مولده
و نسبه: ولد الإمام أحمد بالاتفاق في عام 164 هجري في بغداد و توفي عام 241 فكان
عمره عندما مات الشافعي أربعين عاماً، وكان الشافعي يكبره بأربعة عشر عام. وهو
عربي الأصل من قبيلة شيبان لم تخالط العجمة نسبه قط ويلتقي نسبه مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم عند نزار بن معد. توفي والده وهو صغير وتولت أمه تربيته و كانت
رعاية والدته له أشبه ما تكون برعاية والدة الشافعي. وكانت والدته فقيرة وكانت
شابة حسناء جميلة فتقدم لخطبتها والزواج منها عدد كبير من الراغبين لكنها رفضت
وامتنعت وفضلت أن تعيش لولدها ونذرت نفسها له، وهذا الأمر أنشأ في نفس أحمد بِراً
بأمه ... ولم يتزوج حتى ماتت لكي لا يدخل على الدار سيدة أخرى تنازع أمه السيادة
وكان قد بلغ الثلاثين.
طلبه
للعلم : كسائر أترابه تعلم القرآن في صغره وتلاه تلاوة جيدة وحفظه عن ظهر قلب.
وعندما تجاوز الخامسة عشرة من عمره، بدأ يطلب العلم، وأول من طلب العلم عليه هو الإمام
أبو يوسف القاضي. والإمام أبو يوسف كما هو معلوم من أئمة الرأي مع كونه محدِّثاً
ولكن في البداية وبعد مرور فترة لأحمد مع أبي يوسف وجد الإمام أحمد أنه يرتاح لطلب
الحديث أكثر. فتحول إلى مجالس الحديث وأعجبه هذا النهج واتفق مع صلاحه وورعه
وتقواه وأخذ يجول ويرحل في سبيل الحديث حتى ذهب إلى الشامات والسواحل والمغرب
والجزائر ومكة والمدينة و الحجاز واليمن والعراق وفارس و خرسان والجبال والأطراف
والثغور وهذا فقط في مرحلته الأولى من حياته. ولقد التقى الشافعي في أول رحلة من
رحلاته الحجازية في الحرم، و أُعجِبَ به وكنا قد ذكرنا أن الإمام أحمد بقي أربعين
سنة ما بات ليلة إلا ويدعو فيها للشافعي. و كان يقول عندما يروي حديث رسول الله
صلى الله عليه و سلم : إنَّ الله يبعث على رأس كل أمَّة من يجدد لهذه الأمة أمر
دينها. وكان يقول: لقد أرسل الله تعالى سيدنا عمر بن عبد العزيز يجدد لهذه الأمة
دينها على رأس المئة الثانية وآمل أن يكون الشافعي على رأس المئة الثالثة. وقد حيل
بين أحمد و مالك بن أنس فلم يوفَّق للقائه وكان يقول: لقد حُرِمتُ لقاء مالك
فعوَّضني الله عز وجل عنه سفيان بن عيينة. (لاحظوا مدى تعظيم الأئمة لبعضهم البعض
، بينما الجماعات في عصرنا لا همَّ لهم إلا تسفيه العلماء ومنهم من يتعصب لمذهبه
فيسفه باقي الأئمة حتى يرفع من شأن إمامه) والشافعي كان يكثر من زيارة الإمام
أحمد، فلما سئل عن ذلك أنشد قائلاً:
قالوا يزورك أحمد و
تــــزوره قلتُ الفضائل لا تبارح منزلـه
إن زارني فبفضله أو
زرته فلفضـله فالفضل فـي الحالـيـن لــه
قصته
و يحيى بن معين مع عبد الرزاق:
إرتحل
يوماً الإمام أحمد من العراق هو يحيى بن معين قاصداً المحدث الكبير عبد الرزاق في
اليمن لطلب الحديث منه. فلما وصلا مكة وأخذا يطوفان حول البيت، فإذا بهما يريان
الإمام عبد الرزاق فقال يحيى بن معين لأحمد تعال نسأله أن يحدثنا بدلاً من أن نلحق
به إلى اليمن فقال الإمام أحمد: " خرجتُ من بغداد وأنا قاصد أن أرحل إلى دار
عبد الرزاق بن الهمام اليمني صاحب المصنف في اليمن من أجل مزيد من المثوبة والأجر
فلن أفسد هذه النية ". حاول عبد الرزاق أن يصل أحمد ببعض المال وهو في ديار
الغربة فرفض وصمم أن يكسب عيشه و عمل نساخاً.
وكان
أشد ما أتعب الإمام أحمد وأرهقه من العلماء هو عبد الله بن المبارك الذي ظل أحمد
يسعى وراءه هنا وهناك ليلقاه ولكن من غير جدوى. وكان ابن المبارك فقيهاً محدِّثاً
واسع العلم وواسع الغنى وكان من أزهد الناس. وتعلَّم أحمد من ابن المبارك حقيقة
الزهد وكان يُطعِم الفالوذج و يأكل الخبز وإذا اشتهى طعاماً طيباً لم يأكله إلا مع
ضيف ويقول: بلغنا أنَّ طعام الضيف لا حساب عليه. وقيل له قلَّ مالُك فقلِّل من صلة
الناس فقال: إن كان المال قلّ فإنَّ العمر قد نفد. وأصبح يعتبره أحمد أستاذه في
الحديث والسلوك. وحاول أن يصله مثل عبد الرزاق ولكن أبى أحمد و قال: أنا ألزمك
لفقهك وعلمك لا لمالك.
وتلقى
الحديث عن هُشيم بن بشير واستفاد منه أكثر ما استفاد من غيره وتعلم منه الهمة
العالية في الحديث. وتلقى الفقه وأصوله عن الشافعي.
حجه
بيت الله الحرام : حج الإمام أحمد خمس مرات إلى بيت الله، حج منها ثلاث مرات
ماشياً راجلاً وذلك لأنه كان قليل المال ولكن ما منعه ذلك عن الحج.
ورعه
وتقواه وتعففه: من عظيم ما عُرِفَ به الإمام أحمد هو تعففه وله في ذلك قصص رائعة،
فقد كان يسترزق بأدنى عمل وكان يرفض أن يأخذ من صديق ولا شيخ ولا حاكم قرضاً أو
هبة أو إرثاً لأحد يؤثره به. وقد يقبل هدية ولكنه يعجل في إعطاء من أهداه هدية
مثلها أو خيراً منها، رافعاً بذلك شأن العلم و العلماء. ولقد أجمعت الأمَّة على
صلاحه وكان مضرب مَثَلٍ في الصلاح والتقوى حتى أنَّ بعض العلماء قال: لو أنَّ
أحداً قال إنَّ الإمام أحمد هو من أهل الجنة لم يحنث ولم يتألى على الله تعالى،
ودليلهم على ذلك إجماع أهل العراق والشام وغيرهم على هذا الأمر و الإجماع حجة.
تنبيه:
إجماع الأمة على هذا الأمر إنما كان بعد مماته.
منهجه
العلمي ومميزات فقهه: إشتُهِرَ الإمام أنه محدِّث أكثر من أن يشتهر أنه فقيه مع
أنه كان إماماً في كليهما. ومن شدة ورعه ما كان يأخذ من القياس إلا الواضح وعند
الضرورة فقط وذلك لأنه كان محدِّث عصره وقد جُمِعَ له من الأحاديث ما لم يجتمع
لغيره، فقد كتب مسنده من أصل سبعمائة وخمسين حديث، و كان لا يكتب إلا القرآن
والحديث من هنا عُرِفَ فقه الإمام أحمد بأنه الفقه بالمأثور، فكان لا يفتي في
مسألة إلا إن وجد لها من أفتى بها من قبل صحابياً كان أو تابعياً أو إماماً. وإذا
وجد للصحابة قولين أو أكثر، اختار واحداً من هذه الأقوال وقد لا يترجَّح عنده قول
صحابي على الآخر فيكون للإمام أحمد في هذه المسألة قولين.
وهكذا
فقد تميز فقهه أنه في العبادات لا يخرج عن الأثر قيد شعرة، فليس من المعقول عنده
أن يعبد أحد ربه بالقياس أو بالرأي و كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" صلوا كما رأيتموني أصلي "، ويقول في الحج: " خذوا عني مناسككم
". كان الإمام أحمد شديد الورع فيما يتعلق بالعبادات التي يعتبرها حق لله على
عباده وهذا الحق لا يجوز مطلقاً أن يتساهل أو يتهاون فيه.
أما
في المعاملات فيتميز فقهه بالسهولة والمرونة و الصلاح لكل بيئة وعصر، فقد تمسَّك
أحمد بنصوص الشرع التي غلب عليها التيسير لا التعسير. مثال ذلك: " الأصل في
العقود عنده الإباحة ما لم يعارضها نص "، بينما عند بعض الأئمة الأصل في
العقود الحظر ما لم يرد على إباحتها نص.
وكان
شديد الورع في الفتاوى وكان ينهى تلامذته أن يكتبوا عنه الأحاديث فإذا رأى أحداً
يكتب عنه الفتاوى، نهاه وقال له: " لعلي أطلع فيما بعد على ما لم أطلع عليه
من المعلوم فأغير فتواي فأين أجدك لأخبرك؟.
و
لما علم الله تعالى صدق نيته وقصده قيَّض له تلامذة من بعده يكتبون فتاويه وقد
كتبوا عنه أكثر من ستين ألف مسألة. ولقد أخذ بمبدأ الإستصحاب كما أخذ بالأحاديث
المرسلة.
رفضه
للفتوى في أول حياته: مع انتشار علمه في الآفاق، لم يفتِ وقد أصرَّ الناس عليه
بالفتوى فلم يفتِ إلا بعد أن بلغ الأربعين من عمره وذلك لأسباب:
-1
تقليد النبي صلى الله عليه وسلم وهو في هذا كعبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
-2
كان يعتبر الفقه أو مجلس الفتيا مجلس الوراثة النبوية.
-3
كيف يفتي والشافعي شيخه وإمامه وهو لا يزال على قيد الحياة.
شدة
حرصه وأسلوبه في التدريس: ومع أنه أوتي حافظة لم يؤتها أحد في عصره إلا نادراً،
كان يحمل كتبه أي كتب الحديث ويأتي بها إلى المجلس ويوصي تلامذته أن لا يحدِّثوا
إلا من كتاب. وكان إذا جلس في الدرس يسود مجلسه الوقار والسكينة كأنما على رؤوسهم
الطير، وكانت هذه السكينة تظلل مجالسه كلها إلى جانب تواضعه العظيم. وأي مجلس جلس
فيه الإمام أحمد سواء كان معلماً أو متعلماً ساده السكينة والوقار، كان هذا الطبع
منه يهيمن على الشيوخ الذين كان يأخذ عنهم، وذلك بسبب احترامه وتقديره والشخصية
العظيمة التي كان يتمتع بها . يُروى عن أستاذه يزيد بن هارون أنه مُدِحَ بمناسبة
ما فتنحنح أحمد ، فوضع يزيد يده على جبينه وقال: ألا أخبرتموني أنَّ أحمداً هنا.
وكان
كثير التواضع هيِّناً طرياً و لكن كان الواحد إذا نظر إليه تذكر الله تعالى. لقد
ألبسه الله عز وجل ملابس هيبته فقام مستعزاً بعزة الله تعالى. وكان بعيداً جداً عن
الخوض في الفلسفة وذلك أنَّ الفلسفة في عصره كانت في بدايتها، ثم طبق العلماء
قاعدة: خذ الحكمة ولا تبالي من أي وعاء خرجت. وكان الإمام أحمد يعيش بعيداً عن
أمور الفلسفة وشغل نفسه بالأحاديث وآثار الصحابة، حتى أنَّ من ترجم له قال: إنَّ
الإمام أحمد من طبقة الصحابة معنوياً وإن جاء متأخراً إلا أنه في طبعه و سلوكه
وعقيدته و حياته العامة أشبه ما يكون بالصحابة. وقال بعض العلماء لو كان الإمام
أحمد في عصر بني إسائيل لاحتمل أن يكون نبياً!. سُئِلَ الشافعي عمن يصلح للقضاء
فأشار إلى أحمد الذي قال: " أنا أجلس في مجلسك لكي يزيد فيّ العلم زهداً في
الدنيا وأنت تطلبني للقضاء !!!؟ ". ولقد كان عاملاً بأحاديث رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو الذي يروي: كل معروف صدقة ومن المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق.
فطبَّق
هذا الحديث على نفسه، فكان لا يلقى الناس إلا مبتسماً ويقدمهم عليه إذا مشوا في
الطريق أو دخلوا مكاناً أو اصطفوا لصلاة الجماعة. وكان إذا قرأ القرآن أو صلى ودخل
عليه أحد سكت على الفور وإذا خرج من عنده عاد لصلاته وقراءته وذلك خشية الرياء.
وكان مستجاب الدعوة.
ومن
الجدير بالذكر أنَّ الشافعي قبل وفاته كان قد أرسل برسالة مع الربيع إلى الإمام
أحمد قبل وفاته جاء فيها: لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام في الرؤيا
و قال لي أبلغ أحمد بن حنبل عني السلام وقل له إنه مدعو إلى محنة وفتنة سيدعى فيها
إلى القول بخلق القرآن وسيثبت على الحق وإنَّ الله تعالى سيرفع له علماً بذلك إلى
قيام الساعة. وأعطى الإمام أحمد قميصه الذي يلي جسده للربيع على هذه البشرى فقال
له الشافعي: لن أطالبك بالقميص (رحمة به ولعلمه أن الربيع لا يؤثر على بركة قميص
الإمام أحمد أحداً) ولكن بله بالماء ثم أعطني الماء حتى أتبرَّك به.
محنته
العظيمة: عاش الإمام أحمد في عصر المأمون ثم المعتصم ثم الواثق ثم المتوكل. في هذه
العصور، كانت صولة المعتزلة و جولتهم في أعلى ذروتها لاسيما في عصر المأمون. وكان
المأمون تلميذاً لأبي هذيل العلام من رؤساء المعتزلة، فافتُتِنَ بالفلسفة
اليونانية. واستغل هذه الصلة أحمد ابن أبي ذؤاد المعتزلي المتعصب وراح يكلم
المأمون ويتودد إليه حتى عيَّنه وزيراً خاصاً له ومستشاراً. الإمام أحمد كما سبق
وذكرنا، كان بعيداً عن الفلسفة وعن الإعتزال وفي هذه الأثناء قال المعتزلة بخلق
القرآن أي أنَّ القرآن حادث مخلوق وليس كلام الله الأزلي القديم وتبنى المأمون هذا
القول. وفي عام 218 هـ أرسل كتاباً إلى نائبه في بغداد وهو إسحاق ابن إبراهيم يوضح
فيه هذا القول مدعوماً بالحجة العلمية المفصلة على زعمهم. والواضح أنَّ هذا لم يكن
من كلام المأمون ولكن من كلام وزيره خاصة والمعتزلة عامة. وأمر المأمون إسحق أن
يجمع كل العلماء ويقنعهم بأنَّ القرآن مخلوق وأمره أن يقطع رزق و جراية كل من لم
يقتنع بهذا. امتثل إسحاق بادىء ذي بدء لهذا الأمر فجمع كل العلماء من أهل السنَّة
وهددهم بقطع أرزاقهم ومنع الجراية عنهم إن هم لم يقتنعوا، وأرسل إلى المأمون
بأجوبة هؤلاء التي تتضمن رفض هذا القول. فأرسل المأمون ثانية أمراً بقطع أرزاق من
لم يقتنع وإرساله إليه مقيداً بالأغلال تحت تهديد القتل. وكان الإمام أحمد من بين الثلة
التي رفضت أن تقتنع ولم تتراجع، فقُيِّدوا جميعاً بالأغلال وذُهِبَ بهم إلى طرطوس.
وفي الطريق تراجع البعض خوفاً ومات البعض الآخر ولم يبق إلا أحمد الذي جاءه خادم
المأمون وقال له: إنَّ المأمون أقسم على قتلك إن لم تجبه. ولكن أحمد رفض التراجع
عن الحق و بينما هو في الطريق لا يفصله عن المأمون إلا ساعات من السَّير، إذ جثى
على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء ودعا بهذه الكلمات: سيدي غرَّ حِلمُكَ هذا
الفاجر حتى تجرَّأ على أوليائك بالضرب والقتل، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير
مخلوق فألقنا مؤنته. توفي المأمون قبل أن يصل أحمد إلى طرطوس فأُعيد الإمام أحمد
وأودع السجن ريثما تستقر الأمور. وجاء بعد ذلك المعتصم ولكن المأمون كان قبيل موته
قد أوصى أخاه أن يُقَرِّبَ ابن أبي ذؤاد المعتزلي منه. لذلك لما استقر الأمر
للمعتصم استدعى الإمام أحمد و هو مثقل بالحديد وكان عنده ثلة من المعتزلة على
رأسهم ابن أبي ذؤاد الذي كان يضمر كيداً شديداً لأحمد، وسأله: ما تقول في خلق
القرآن؟ قال: أقول إنه كلام الله. قال: أقديم أم حادث؟ قال: ما تقول في علم الله ؟
فسكت أبو ذؤاد. قال أحمد: القرآن من علم الله و من قال إنَّ علم الله حادث فقد
كفر! وطلب المعتصم أن يناقشوه وكاد أن يقتنع بقول أحمد ولكن قال له المعتزلة و ابن
أبي ذؤاد إنه لضال مبتدع. عرض المعتصم على الإمام أحمد أن يرجع عما يقول مغرياً
إياه بالمال والعطايا ولكن الإمام أحمد قال له: أرني شيئاً من كتاب الله أعتمد
عليه (أي أعطني دليلاً على ما تزعم من كتاب الله تعالى). وحذَّر المعتزلة المعتصم
إن هو أطلق سراحه أن يُقال إنَّ هذا الرجل تغلب على خليفتين اثنين فسيق أحمد إلى
الضرب والتعذيب. وكان يُضرَب ضرباً مبرحاً حتى يغشى عليه ثم يأتون به في اليوم
المقبل. وبرغم ذلك أقبل أحمد على الناس في السجن يعلِّمهم ويهديهم.
أمر
ابن أبي ذؤاد بنقله إلى سجن خاص حيث ضاعفوا له القيود والأغلال وأقاموا عليه
سجانين غلاظ شداد، وكم سالت دماؤه الزكية وكم أهين وهو رغم هذا كله يرفض أن يذعن
لغير قول الحق ولو كلفه ذلك حياته. وبعد مرور عامين ونصف على هذه المعاناة وهذه
المحنة، أوشكت الثورة أن تشتعل في بغداد نقمة على الخليفة المعتصم وابن أبي ذؤاد،
فقد وقف الفقهاء على باب المعتصم يصرخون: أيُضرَب سيدنا ! أيضرب سيدنا ! أيضرب
سيدنا ! فلم يجد المعتصم بداً من إطلاق سراحه وأعيد إلى بيته يعالج جراحه. ولما
سُئِلَ عن المعتصم دعا له بالرحمة وأن يعفو الله تعالى عنه وقال إنه يستحي أن يأتي
يوم القيامة وله حق على أحد !. ثم تولى الواثق الحكم وحاول ابن أبي ذؤاد إقناعه
بموضوع خلق القرآن ولكن خشي الفتنة. أما المتوكل فكان من أهل السنَّة وحاول أن
يكرم الإمام أحمد وأن يصله ولكنه رفض شاكراً ولقد ندم المعتصم على ما وقع منه وكان
يرسل كل يوم من يطمئن على حاله ، بينما ابتلي ابن أبي ذؤاد بالفالج الذي أقعده
أربع سنوات و استرد منه المتوكل كل أمواله التي تُعَدّ بالملايين. وكان الإمام
أحمد يصلي من الليل قبل ضربه 300 ركعة و بعد مرضه الشديد صار يصلي 150 ركعة.
موقفه
من الحكم والدولة:
كان بإمكان الإمام أحمد أن يفتي الناس بكفر الخليفة أثناء حكم المأمون أو المعتصم
وكيف يفعل ذلك وهو يراقب الله تعالى في كل لحظة، فكان يقول أنه لا يجوز الخروج على
إمام المسلمين براً كان أو فاجراً ما دام مسلماً وهذا هو قول الجمهور و باقي
الأئمة.
مُسند
الإمام أحمد:
بدأ بجمع مسنده منذ أن كان عمره ستة عشر سنة، فسجل الأحاديث بأسانيدها، في أوراق
منثورة وظل على هذه الحال إلى أن قارب الوفاة. ولما شعر بدنو أجله بدأ يجمعها
ويحذف منها ... وأملى هذه الأحاديث كلها على أولاده وأهل بيته وأنبأهم بالعمل الذي
قام به ولعله أوصى ابنه عبد الله أن ينهض بجمع هذه الأحاديث وتنسيقها من بعده
فجمعها عبد الله بطريق السند و هذا الأسلوب يعتبر صعباً جداً وهو أن يرتب الأحاديث
حسب درجة رواتها من الصحابة فيبدأ بالأحاديث المروية عن أبي بكر ثم عن عمر ثم
هكذا. وكانت طريقة الإمام أحمد في انتقاء الأحاديث أنها إن كانت تتعلق بأحكام أو
عقيدة كان لا بد من اشتراط الصحة فيها، أما إن كانت تتعلق بفضائل الأعمال و لها ما
يؤيدها من الكتاب أو السنة الصحيحة فلا بأس أن تكون ضعيفة. وإن كان الحديث يعارضه
نص آخر أقوى منه لا يمكن الجمع بينهما، حذف الأضعف.
مثلاً
نجد اسم عبد الله بن لهيعة في المسند مع أنَّ الحفاظ ضعفوه لا لأنه اتُّهِمَ
بالكذب ولكن الرجل كان عنده كتب ومخطوطات كثيرة كان يروي عنها ثم تلفت، فلما تلفت
أخذ يرويها من الذاكرة وكثيراً ما كان يخطىء ورواة الحديث كانوا متشددين ومدققين
ومحتاطين جداً في هذا الأمر. جزم ابن تيمية وابن القيم أنه ليس في المسند حديث
موضوع، وقال البعض فيه أربعة أحاديث موضوعة ولكنها ليست من أحمد. والأحاديث
الضعيفة التي في المسند لا تتعلق بالأحكام وهي ليست شديدة الضعف. ولقد طاف أحمد بن
حنبل الدنيا مرتين حتى جمع مسنده.
¯
من أقواله: - إذا أردتَ أن يدوم
لك الله كما تحب فكن كما يحب.
قصة
ثوب أحمد بن حنبل:
وقعت حريق في بيت صالح بن أحمد بن حنبل و كان قد تزوج بامرأة ثرية، ملما علم بأمر
الحريق راح يبكي لا على شيء ولكن على ثوب أبيه الذي كان يتبرك به، ولما دخل إلى
بيته، وجد الثوب على السرير وقد أكلت النار ما حوله وبقي سالماً.
والحمد لله رب
العالمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق