وانت تقرأ هذا الموضوع استمع لتلاوة الشيخ علي جابر يعتبر من افضل القراء في العالم الاسلامي رحمه الله
ملخص كتاب "خلاصة تاريخ التشريع الاسلامي "للشيخ عبد الوهاب خلاف
اخترت هذا الكتاب لما حمله من علم غزير في موضوع خطير ، في صفحات قليلة ، وموضوعه يضيئ جوانب هامة ، ويعطي القارئ فكرة واضحة عن تاريخ التشريع الاسلامي .
- مر التشريع الاسلامي بأطوار ثلاثة في عهود متقاربة ، فقد نشأ وتكون ثم نما ونضج .
- المراد من التشريع :
- التشريع في الاصطلاح الشرعي والقانوني : هو سن القوانين التي تُعرف منها الاحكام لأعمال المكلفين وما يحدث لهم من الأقضية والحوادث ، فإن كان مصدر هذا التشريع هو الله سبحانه بواسطة رسله وكتبه فهو التشريع الالهي وإذا كان مصدره الناس سواء أكانوا أفرادا أو جماعات فهو االتشريع الوضعي .
-
- والقوانين الاسلامية نوعان :
- قوانين سنها الله سبحانه بآيات قرآنية ، وألهمها رسوله وأقره عليها وهذا تشريع إلهي محض .
- وقوانين سنها مجتهدوا المسلمين من الصحابة وتابعيهم والأئمة المجتهدين استنباطا من نصوص التشريع الالهي وروحها ومعقولها وما ارشدت اليه من مصادر ، وهذه تعتبر تشريعا الهيا باعتبار مرجعها ومصدرها ، وتعتبر تشريعا وضعيا باعتبار جهود المجتهدين في استمدادها واستنباطها .
- ومرادنا بالتشريع الاسلامي سن هذه القوانين بنوعيها .
- وقسمنا العهود التشريعية الاسلامية أربعة أقسام :
- الاول : عهد الرسول وهو عهد الانشاء والتكوين ، ومدته 22 سنة من بعثته سنة 610 م الي وفاته سنة 632 م .
- الثاني : عهد الصحابة ، وهو التفسير والتكميل ، ومدته 90 سنة بالتقريب من وفاة الرسول سنة 11هجرية الي أواخر القرن الهجري الاول .
- الثالث : عهد التدوين والأئمة المجتهدين ، وعهد النمو والنضج التشريعي ومدته 250 من سنة 100 الي سنة 350 هجرية .
- الرابع : عهد التقليد ، وهو عهد الجمود والوقوف ، وقد ابتدأ من أواسط القرن الهجري الرابع ولا يعلم نهايته الا الله .
- عهد الرسول :
- هذا العهد كانت سنواته قليلة لأنها لم تزد عن 22 سنة وبضعة أشهر ولكن كانت آثاره جليلة لأنه خلف نصوص الاحكام في القرآن والسنة ، وخلف عدة أصول تشريعية كلية ، وأرشد الي عدة مصادر ودلائل يتعرف بها حكم ما لا نص علي حكمه وبهذا خلف أسس التشريع الكامل .
- وقد كان هذا العهد فترتين متمايزتين :
- الفترة الاولي : مدة وجود الرسول بمكة وهي 12 سنة وبضعة اشهر من بعثته الي هجرته .
- في هذه الفترة كان المسلمون افرادا قلائل مستضعفين ، لم تتكون منهم امة ولم تكن لهم شئون دولة .
- وكان هم الرسول فيها موجها الي بث الدعوة الي توحيد الله وتحويل وجوه الناس عن الاوثان والاصنام ، واتقاء اذي الذين وقفوا في سبيل دعوته وأمعنوا في كيده وكيد من آمن به ، فلم يوجد في هذه الفترة مجال ولا داع الي التشريع العملي وسن القوانين المدنية والتجارية ونحوها ، ولهذا لم توجد في السور المكية بالقرآن مثل : يونس والرعد والفرقان ، ويس والحديد ، آية من آيات الاحكام العملية ، وأكثر آياتها خاص بالعقيدة والخلق والعبر من سير الماضين .
- الفترة الثانية :
- مدة وجود الرسول بالمدينة ، وهي عشر سنوات بالتقريب من تاريخ هجرته الي تاريخ وفاته ، وفي هذه الفترة عز الاسلام وكثر عدد المسلمين وتكونت منهم أمة وصارت لهم شئون دولة ، وذللت العقبات في سبيل الدعوة ودعت الحاجة الي التشريع وسن القوانين لتنظيم علاقة افراد الامة الناشئة بعضهم ببعض ، وتنظيم علاقاتهم بغيرهم في حالتي السلم والحرب ، شرعت في المدينة أحكام الزواج والطلاق والارث والمداينة والحدود وغيرها .
- والسور المدنية مثل : البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والانفال والتوبة والنور والاحزاب هي التى اشتملت علي آيات الاحكام مع ما اشتملت عليه من آيات العقائد والاخلاق والقصص.
- من تولي السلطة التشريعية في هذا العهد ؟
- كانت السلطة التشريعية في هذا العهد لرسول الله وحده ، وما كان لأحد غيره من المسلمين أن يستقل بتشريع حكم في واقعة لنفسه أو لغيره .لأنه مع وجود الرسول بينهم وتيسر رجوعهم اليه فيما يعرض لهم لم يسوغ واحد منهم لنفسه ان يفتي باجتهاده في حادثة ، او يقضي باجتهاده في خصومة .
- بل كانوا يرجعون الي الرسول وهو يفتيهم ويفصل في خصوماتهم ويجيب عن أسئلتهم تارة بآية قرآنية يوحي اليه بها ربه ، وتارة باجتهاده الذي يعتمد فيه علي الهام الله له ، او علي ما يهديه عقله وبحثه وتقديره ، وكل ما صدر عنه من هذه الاحكام هو تشريع للمسلمين وقانون واجب عليهم ان يتبعوه سواء أكانت من وحي الله أم من اجتهاده نفسه .
- وقد ورد أن بعض الصحابة اجتهد في عهد الرسول وقضي باجتهاده في بعض الخصومات أو استنبط باجتهاده حكما في بعض الوقائع مثل :
- علي بن ابي طالب الذي بعثه الرسول الي اليمن قاضيا وقال له :إن الله سيهديك قلبك ويثبت لسانك ، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتي تسمع من الآخر كما سمعت من الاول فإنه أحري أن يتبين لك القضاء .
- وهناك عدة أمثلة لصحابة آخرين.
ولكن هذ الجزيئات وأمثالها لا تدل علي أن أحدا غير رسول الله كانت له سلطة التشريع في عهد الرسول ، لأن هذه الجزيئيات منها ما صدر في حالات تعذر فيها الرجوع الي الرسول لبعد المسافة أو لخوف فوات الفرصة ، ومنها ما كان القضا او الافتاء فيه تطبيقا ، لا تشريعا ، وكل ما صدر فيها من أي صحابي عن اجتهاده في اي قضاء او اية واقعة لم يكن تشريعا للمسلمين وقانونا ملزما لهم إلا بإقرار الرسول ، فالرسول في حياته كانت في يده وحده السلطة التشريعية ، ولهذا لم يوجد في عهد الرسول رأيان في واقعة ، ولم يعرف أحد من الصحابة في عهده بالفتيا والاجتهاد
مصادر التشريع في هذا العهد :
كان للتشريع في عهد الرسول مصدران : الوحي الالهي ، واجتهاد الرسول نفسه .
فإذا طرأ ما يقتضي تشريعا أوحي الله الي رسوله بآية أو آيات فيها حكم ما أريد معرفة حكمه ، وبلغ الرسول المسلمين وكان قانونا واجبا اتباعه .
واذا طرأ ما يقتضي تشريعا ، ولم يوح الله الي الرسول بآيات تبين الحكم ، اجتهد الرسول في تعرف الحكم ، وما اداه اليه اجتهاده قضي به أو أفتي أو أجاب عن السؤال.وكان ما صدر عن اجتهاده قانونا واجبا اتباعه مع قانون الوحي الالهي .
وكل ما شرع من الاحكام في عهد الرسول كان مصدره الوحي الالهي او الاجتهاد النبوي ، كان صدوره بناء علي طروء حاجة تشريعية اقتضته ، وكانت وظيفة الرسول بالنسبة لما شرع بالمصدر الاول تبليغه وتبيينه تنفيذا لقول الله سبحانه :" يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، ولقوله عز شأنه : " ونزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم "
وكان ما صدر عن المصدر الثاني وهو الاجتهاد النبوي تارة تعبيرا عن الهام إلهي ، أي أن الرسول إذا أخذ في الاجتهاد ألهمه الله حكم ما أراد معرفة حكمه ، وتارة استنباطا واستمدادا للحكم بما تهدي اليه المصلحة وروح التشريع والاحكام الاجتهادية التي يلهم بها الله رسوله هي أحكام إلهية ليس للرسول فيها الا التعبير عنها بقوله أو فعله .
والاحكام الاجتهادية التي لم يلهم الله بها الرسول بل صدرت عن بحثه ونظره هي أحكام نبوية بمعانيها وعباراتها ن وهذه لا يقره الله عليها الا اذا كانت صوابا ، وأما اذا لم يوفق الرسول فيها الي الصواب فإن الله يرده الي الصواب ، ومثال ذلك :
حادث إذن الرسول لمن اعتذروا وتخلفوا عن غزوة تبوك . فإن الله سبحانه بين الله سبحانه بين الصواب بقوله : " عفا الله عنك لم أذنت لهم حتي يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين "
- فمن هذا يستنتج ان التشريع في عهد الرسول كان الهيا كله . لان مصدره إما وحي الله في القرآن ، وإما اجتهاد الرسول الذي هو تعبير عن الهام الله ، واما اجتهاد الرسول ببحثه ونظره ، ولكنه ملحوظ برعاية الله له ، فإن جاء صوابا أقره الله عليه ، وإن جاء غير صواب رد الله رسوله الي الصواب فيه .
- الخطة التشريعية في هذا العهد :
- المراد من الخطة التشريعية الطريق التي يتبعها رجال التشريع في الرجوع الي مصادر التشريع .والمبادئ العامة التي يراعونها فيه ، ولما كان هذا العهد هو عهد التكوين ، ووضع الاسس التشريعية كانت الخطة التشريعية فيه ، هي الخطة الاساسية للتشريع الاسلامي .
- فأما الطريق التي اتبعها الرسول في الرجوع الي مصادر التشريع فهي أنه كان إذا طرأت حاجة الي تشريع ينتظر وحي الله بآية أ و آيات فيها حكمه ، فإن لم يوح اليه علم أن الله وكل التشريع في هذه الواقعة الي اجتهاده فاجتهد مهتديا في اجتهاده بالقانون الالهي وروح التشريع وتقديره المصلحة ومشورة اصحابه .
- أما المبادئ العامة التي بني عليها التشريع الاسلامي في عهد التكوين فأظهرها اربعة :
- الاول : التدرج في التشريع ، وهذا التدرج كان في زمن التشريع ، والحكمة في التدرج الزمني انه ييسر معرفة القانون بالتدريج مادة فمادة وييسر فهم احكامه علي اكمل وجه بالوقوف علي الحادثة والظروف التي اقتضت تشريعها .
- فلم يكلف المسلمون في اول عهدهم بالاسلام بما يشق عليهم فعله او ما يشق عليهم تركه ، بل سلك بهم سبيل التدرج وأخذوا بالرفق حتي تكون استعدادهم واستاهلوا للتكليف .
- ففي اول امرهم لم تفرض عليهم الصلاة الخمس في اليوم والليلة بل طلبت منهم صلاة مطلقة بالغداة والعشي، ولم تفرض عليهم الزكاة والصيام الا بعد الهجرة بسنة ، وكان التكليف قبل ذلك بما استطاعوا من صدقة وصوم
- والحكمة في هذا التدرج انه العلا ج لاصلاح النفوس الجامحة ، والوسيلة لتقبل التكاليف وامتثالها من غير ضجر ولا عنت ، وهو من الحكمة في الدعوة .
- والثاني : التقليل من التقنين ، وهذا يتجلي في أن الاحكام التي شرعها الله ورسوله لم تشرع الا علي قدر الحاجات التي دعت اليها والاقضية والحوادث التي اقتضتها ولم تشرع منها احكام لحل المسائل فرضية او للفصل في خصومات محتمله .
- والحكمة في هذا التشريع انما هو دفع حاجات الناس وتحقيق مصالحهم ، فينبغي ان يقتصر في كل عصر علي تشريع ما اقتضته حاجاته حتي لا يجد اللاحقون من تشريع السابقين عقبات تحول دون تشريع ما يدفع حاجاتهم ويحقق مصالحهم .
- ومن المبادئ المقررة في الشريعة الاسلامية ان الاصل قي الاشياء الاباحة ، فكل حيوان او جماد او عقد او تصرف لم يشرع له حكم باي دليل شرعي فحكمه الاباحة ، وعلي هذا لا حرج من تقليل التقنين ، لان كل ما لا قانون فيه فهو علي الاباحة الاصلية .
والثالث : التيسير والتخفيف ، وهذا أجلي ظاهرة في التشريع الاسلامي ، ففي كثير من الاحكام تصريح بأن الحكمة في تشريعها التيسير والتخفيف ، قال تعالي "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " وقال عز شأنه "يريد الله ان يخفف عنكم ، وخلق الانسان ضعيفا " وقال " ما جعل الله عليكم في الدين من حرج "
وورد في صحيح السنة ان الرسول ما خير بين امرين الا اختار ايسرهما ما لم يكن اثما " .
وفي كل الحالات الخاصة التي يكون فيها حكم العزيمة شاقا ، شرعت الرخصة ، فابيحت المحظورات عند الضرورات ، وابيح ترك الفرض والواجب اذا كان في اداء احدهما حرج . واعتبر الاكراه والمرض والسفر والخطأ والنسيان والجهل من الاعذار التي تقتضي التخفيف .
والرابع : مسايرة التشريع مصالح الناس : وبرهان هذا ان الشارع علل كثيرا من احكامه بمصالح الناس ، ودل بشواهد عدة علي ان المقصود من تشريع الاحكام تحقيق مصالح الناس ، وقرر ان الاحكام تدور مع عللها وجودا وعدما ، ولهذا شرع الله بعض الاحكام ثم ابطالها ونسخها لما اقتضت المصلحة تعديلها ، فقد فرض الاتجاه في الصلاة الي بيت المقدس ، ثم نسخه وفرض الاتجاه في الصلاة الي الكعبة ، ونهي عن زيارة القبور ثم اباحها ، فهذا النسخ والتبديل والتعديل في وقت التشريع برهان علي ان التشريع الاسلامي ساير مصالح الناس .
ولهذه المسايرة نفسها راعي الشارع عرف الناس وقت التشريع ما دام لا يهدم اصلا من اصول الدين ، فراعي الكفاءة في الزوج ، وراعي العصبية في الارث والولاية ، لان من مصالح الناس ان تراعي عاداتهم وما جري به عرفهم ما دام لا يعارض أصلا دينيا ولا يجلب ضررا .
- ما خلفه هذا العهد من آثار تشريعية :
- المصدر التشريعي الاول وهو الوحي الالهي صدرت عنه آيات الاحكام في القرآن والمصدر التشريعي الثاني وهو اجتهاد الرسول صدرت عنه أحاديث الاحكام . ومجموعة نصوص هذه الآيات والاحاديث هي ما خلفه هذا العهد من آثار تشريعية ، وهي القانوت الاساسي للمسلمين ، وهي أساس التشريع ومرجع كل مجتهد اسلامي في اي عصر من العصور .
- فإذا وقعت واقعة ودل علي حكمها نص قاطع من نصوص هذه المجموعة فلا مجال فيها لاجتهاد اي مجتهد في اي عصر من العصور .
- وإذا لم يدل علي حكمها نص قاطع من نصوصها كانت مجالا للاجتهاد ، ولكن علي ان يسير المجتهد في اجتهاده علي ضوء هذه المجموعة بان يقيس علي ما ورد فيها ، او يهتدي بروحها ومعقولها ومبادئها العامة ، وليس له ان يخالف باجتهاده نصا من نصوصها ، او يخرج عن مبدأ من مبادئها ..
- مقدار النصوص في هذه المجموعة :
- مواد هذه المجموعة من النصوص ليست كثيرة ، فعدد آيات الاحكام المتعلقة بالعبادات وما يلحق بها من الجهاد نحو 140 آية ، وعدد الآيات المتعلقة بالمعاملات والاحوال الشخصية والجنايات والقضاء والشهادة نحو 200 آية ، وعدد أحاديث الاحكام في انواعها المختلفة نحو 4500 حديث ، كما ذكره ابن القيم في "إعلام الموقعين " وأكثرها تبيين لما أجمل من أحكام القرآن او تقرير وتوكيد . وباقيها تشريع سكت عنها القرآن .
- وآيات الاحكام في القرآن مفرقة في جملة سور ، وليست الآيات الخاصة بفرع قانوني واحد مجموعة في سورة واحدة ، فآيات االعقوبات وهي نحو عشر آيات مفرقة في سورة البقرة والمائدة والنور . وآيات المجموعة المدنية وهي نحو سبعين آية مفرقة ايضا في جملة سور ، وهكذا سائر آيات الاحكام .
- وأما أحاديث الاحكام فقد جمعها رواة الاحاديث حسب ابواب الفقه ، فأحاديث البيع مجموعة في باب البيع ، وأحاديث الرهن والشركة والحدود وغيرها كذلك .
- وأما أحاديث الاحكام فقد جمعها رواة الاحاديث حسب أبواب الفقه ، فأحاديث البيع مجموعة في باب البيع ، وأحاديث الرهن والشركة والحدود وغيرها كذلك
- ومن اليسير ان تجمع في كل فرع قانوني آيات الاحكام الخاصة به ، وأمهات احاديث الخاصة به ، وبعض آثار الصحابة والتابعين التي فيها تفسير لنص من هذه النصوص ، وتكون هذه المجموعة هي الاحكام الاساسية التي وردت في القرآن والسنة خاصة بهذا الفرع من القوانين .
- اسلوب النصوص في هذه المجموعة :
- لم تلتزم آيات الاحكام وأحاديث الاحكام أسلوبا واحدا في بيان ما شرع بها بل تنوعت أساليبها وتعددت صيغها في التعبير عن الاحكام ن فالنصوص التي دلت علي التحريم تارة عبرت بالنهي عما حرم ، وتارة دلت علي تحريمه بالوعيد من فعله ، وتارة صرحت بأنه لا يحل أو حرم ، والنصوص التي دلت علي الايجاب تارة عبرت بالامر بما وجب ، وتارة دلت علي ايجابه بالوعيد علي تركه ، وتارة صرحت بأنه وجب او فرض او كتب ، والسبب في تنوع هذه الاساليب ان النصوص كما قدمنا شرعت في أوقات مختلفة حسب الحوادث والمناسبات ، ولكل مناسبة اسلوب يناسبها ، فقد تقتضي المناسبة الدلالة علي تحريم الشيئ بالوعيد علي فعله ، وقد تقتضي التصريح بتحريمه ، فالمناسبة التي اقتضت تشريع الحكم الخاص اقتضت اسلوبا خاصا في بيانه .
- وسبب آخر لتنوع هذه الاساليب ان القرآنن لم يقصد منه بيان ما تضمنه من عقائد وأخلاق وتشريع فحسب ، وإنما قصد منه مع هذا إعجاز الناس عن يأتوا بمثله ليكون برهانا علي صدق الرسول ، ومن وجوه الاعجاز تنوع اساليب البيان .
- وكما تنوعت أساليب النصوص من ناحية صيغها وعباراتها ، تنوعت من ناحية أخري وهي ان بعض النصوص تتبع بيان الحكم ببيان علته وحكمة تشريعه ، وبعضها تقرر الحكم مجردا عن بيان علته .والحكمة في هذا ان الشارع ببيانه علة التشريع وحكمته في بعض الاحكام يلفت العقول الي ان الاحكام التشريعية ليست تعبدية وإنما هي معللة بمصالح الناس ، ويفتح باب الاجتهاد في تشريع كل ما يحقق مصلحة او يدفع مفسدة .
- أنواع الاحكام التي اشتملت عليها هذه النصوص :
- الاحكام علي وجه عام تنقسم ثلاثة اقسام :
- القسم الاول : احكام اعتقادية تتعلق بالايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر
- القسم الثاني : أحكام خلقية تتعلق بالفضائل التي يجب علي الانسان ان يتحلي بها ، والرذائل التي يجب علي الانسان أن يتخلي عنها .
- القسم الثالث : أحكام عملية تتعلق بالمكلفين من عبادات ، ومعاملات ، وجنايات ، وخصومات ، وعقود وتصرفات .
- فأما النوع الاول فهو أساس الدين ، واما النوع الثاني : فهو مكمل هذا الاساس ومتممه ، وقد افاض القرآن وأسهبت السنة في بيانهما وإقامة براهينهما .
- وقد ابتدأ امر الاسلام بهما ، فكان المسلمون في مكة لا يخاطبون الا بعقائد وأخلاق لأن تكوين العقيدة وتقويم الخلق هما الاساس الذي يبني عليهما كل تشريع وتقنين .
- وأما النوع الثالث : وهو الاحكام العملية ، فهذا هو الفقه وهو المراد من الاحكام عند الاطلاق . ومن تتبع فقه القرآن والسنة وجد ان كل فرع من فروع القوانين له في القرآن مواد تخصه وتبين أحكامه .
- ففي العبادات بأنواعها نحو 140 آية
- وفي الاحوال الشخصية من زواج وطلاق وإرث ووصية وحجر وغيرهما نحو سبعين آية
- وفي المجموعة المدنية
- من بيع وإجارة ورهن وشركة وتجارة ومداينة نحو سبعين آية
- وفي المجموعة الجنائية من عقوبات وتحقيق جنايات نحو ثلاثين آية
- وفي القضاء والشهادة وما يتعلق بها نحو عشرين آية
- وفي كل باب من هذه الابواب كثير من الاحاديث ، بعضها يبين حكما أجمله القرآن . وبعضها يشرح حكما سكت عنه، وقد كملت عنه هذه الاحكام الجزئية ، بعدة أصول تشريعية كلية ، وبهذا خلف عهد الرسول تشريعا كاملا وافيا بحاجة المسلمين في كل بيئة . .
واليك القسم الثاني ويليه القسم الثالث بإذن الله تعالي :
2 – عهد الصحابة :
هذا العهد ابتدأ بوفاة الرسول في سنة 11 هجرية وانتهي في اواخر القرن الهجري الاول ، واطلقنا عليه عهد الصحابة لأن السلطة التشريعية فيه تولاها رؤوس أصحاب الرسول ومنهم من عاش الي العقد العاشر الهجري مثل انس بن مالك الذي توفي سنة 93 هـ
وهذا العهد هو عهد التفسير التشريعي وفتح أبواب الاستنباط فيما لا نص فيه من الوقائع .فإن رؤوس الصحابة صدرت عنهم آراء كثيرة في تفسير نصوص الاحكام في القرآن والسنة تعد مرجعا تشريعيا لتفسيرها وتبيينها وصدرت عنهم فتاوي كثيرة باحكام في وقائع لا نص فيها تعتب اساسا للاجتهاد والاستنباط
- من تولوا سلطة التشريع في هذا العهد ؟
العهد التشريعي الاول هو عهد الرسول ، خلف للمسلمين قانونا مكونا من نصوص الاحكام في القرآن والسنة ومواد هذا القانون الاساسي ليس كل واحد من المسلمين أهلا لأن يرجع اليها بنفسه ويفهم ما تدل عليه من الاحكام ، لأن فيهم العامة الذين لا يتوصلون الي فهم النصوص الا بواسطة من يفهمهم اياها .
ومن جهة ثانية : مواد هذا القانون لم تكن نشرت بين المسلمين نشرا عاما يجعلها في متناول كل واحد منهم لأن نصوص القرآن كانت في أول هذا العهد مدونة في صحف خاصة محفوظة في بيت الرسول وبيوت بعض أصحابه ، والسنة لم تكن مدونة اصلا .
ومن جهة ثالثة : مواد القانون شرعت أحكاما لحوادث وأقضية وقعت حين تشريعها . ولم تشرع أحكاما لحوادث فرضية يحتمل وقوعها . وقد طرأت للمسلمين حاجات وحوادث وأقضية لم تطرأ في عهد الرسول ولا يوجد فيما خلفه من النصوص ما يدل علي حكمها .
لهذه الاسباي الثلاثة ، رأي العلماء من الصحابةوالرؤوس فيهم ان عليهم واجبا تشريعيا لا بد أن يقوموا به ، وهذا الواجب هو ان يبينوا للمسلمين ما يحتاج الي التبيين والتفسير من نصوص الاحكام في القرآن والسنة ، وأن ينشروا بين المسلمين ما حفظوا من آيات القرآن وأحاديث الرسول ، وان يفتوا الناس فيما يطرأ لهم من الوقائع والاقضية التي لا نص فيها .
هؤلاء العلماء من الصحابة قاموا بهذا الواجب التشريعي من بيان النصوص ونشرها ، والافتاء فيما لا نص فيه ، هم رجال السلطة التشريعية في هذا العهد ، وهم الذين خلفوا الرسول في رجوع المسلمين اليهم ، ولم يكتسبوا هذا الحق التشريعي من تعيين الخليفة او انتخاب الامة ، وانما كسبوه بمميزاتهم الشخصية التي امتازوا بها. فقد طالت صحبتهم للرسول وحفظوا عنه القرآن والسنة . وشاهدوا اسباب نزول الآيات وورود السنن ن وكثيرا منهم كانوا مستشاري الرسول في اجتهاده .
فلهذه المزايا كانوا اهلا لأن يبينوا النصوص ويجتهدوا فيما لا نص فيه ، وأهلا لأن يرجع المسلمون اليهم ويثقوا بما يصدر عنهم من بيان او افتاء .ومن اشهر هؤلاء المفتين من الصحابة :
بالمدينة الخلفاء الاربعة الراشدون ، وزيد بن ثابت ، وأبي بن كعب ، وعبد الله بن عمر ، وعائشة .
وبمكة : عبد الله بن عباس
وبالكوفة :علي بن ابي طالب وعبد الله بن مسعود .
وبالبصرة : أنس بن مالك وأبو موسي الاشعري
وبالشام :معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت.
وبمصر : عبد الله بن عمرو بن العاص وعدد من عرفوا من الصحابة بالافتاء ، وحفظت عنهم :مائة ونيف وثلاثون ما بين رجل وامرأة ن ولكن أشهرهم من ذكرنا .
وقد كان هؤلاء المفتون في اول العهد أكثريتهم العظمي بالمدينة ، وبعد ان امتدت الفتوح الاسلامية تفرقوا بالامصار . ولهذا كان التشريع في اول العهد باجتهاد الجماعة ، ثم صار باجتهاد الافراد.
مصادر التشريع في هذا العهد :
كانت مصادر التشريع في هذا العهد ثلاثة :
القرآن ، والسنة ، واجتهاد الصحابة .
فكانت اذا عرضت حادثة أو وقعت خصومة نظر أهل الفتيا من الصحابة في كتاب الله ، فإن وجدوا فيه نصا يدل على حكمها أمضوه ، وإن لم يجدوا في كتاب الله نصا وعلموا من السنة ما يدل علي حكمها أمضوه ، وإن لم يجدوا ما يدل علي حكمها في القرآن أو السنة اجتهدوا في معرفة حكمها واستنبطوه بالقياس علي ما ورد فيه النص او بما تقتضيه روح التشريع ومصالح الناس .
واتفقت كلمة المفتين من الصحابة علي الرجوع الي هذه المصادر التشريعية الثلاثة وعلي ترتيب الرجوع اليها كما ذكرنا .
ما طرأ علي مصادر التشريع :
وقد طرأ في هذا العهد علي المصدر الاول : وهو آيات الاحكام في القرآن طارئ له أثر تشريعي خالد . وهو تدوين هذه الآيات ضمن تدوين القرآن ونشرها علي المسلمين كافة بطريق قانوني رسمي بحيث صار ميسورا لكافة المسلمين أينما كانوا حفظها والعلم بنصوصها من غير اختلاف في مفرد او جملة .
- وأما المصدر التشريعي الثاني : وهو نصوص الاحكام في السنة فلم يدون في هذا العهد ، كما ان السنة لم تدون فيه ، وانقضي القرن الاول دون تدوين السنة .
مما اضطر علماء المسلمين الي بذل جهود في بحث رواة الاحاديث ودرجات الثقة بهم ، وانقسمت الاحاديث باعتبار رواتها الي احاديث قطعية الورود وأحاديث ظنية الورود ، والظنية الي صحيح وحسن وضعيف ، ووضع فن في رواية الحديث ، والفت عدة مؤلفات .
- وأما المصدر التشريعي الثالث: وهو اجتهاد بعض المفتين من الصحابة فلم يدونه أيضا من آثار هذا العهد شئ، وكان تقديرهم لفتاويهم أنها آراء فردية إن تكن صوابا فمن الله ، وإن تكن خطأ فمن أنفسهم ، وما كان واحد منهم يلزم الآخر أو يلزم اي مسلم بفتواه ، وكثيرا ما خالف عمر أبا بكر ، وكثير ما تحاج زيد بن ثابت وعبد الله بن عباس ، والوقائع التي اختلف الصحابة في أحكامها كثيرة ، وأدلتهم تدل علي مبلغ حريتهم في البحث وتحريهم جلب المصالح ودرء المفاسد .
- وكانوا في اول عهدهم أى في خلافة ابي بكر وأول خلافة عمر ، يتولون سلطتهم التشريعية فيما لا نص فيه في جمعية تشريعية مكونة من رؤوسهم ، وما يصدر عنهم من الاحكام يعتبر حكم جماعتهم .
وبهذا الاجتماع كان الاختلاف في الآراء نادرا ، لأن كل واحد من رؤوس التشريع المجتمعين يبدي للآخرين ما عنده من وجوه النظر وما يستند إليه من أدلة ووجهتهم الحق والصواب . وأكثر الأحكام التي يقال قيها إنها أجمع عليها الصحابة شرعت في هذه الفترة من هذا العهد .
- أما بعد أن فتح الله للمسلمين كثيرا من البلاد وتفرق رؤوس الصحابة في مختلف الامصار ، وصار غير ميسور للخليفة بالمدينة أن يجمع هؤلاء الرؤوس ، من الكوفة والبصرة والشام ومصر وغيرها كلما عرضت واقعة ليس فيها نص من القرآن أو السنة ، فقد أخذ رجال التشريع من الصحابة يتولون سلطتهم التشريعية أفرادا أو جماعات ، وكان بكل مصر من أمصار المسلمين واحد أو أكثر تصدر عنهم الفتوي فيما لا نص فيه والتبيين والتفسير للنصوص .
ومن النتائج الحتمية لهذا أن يقع اختلاف بينهم في أحكام كثيرة من الوقائع لعدة أسباب :
أولها : أن نصوص الأحكام في القرآن والسنة ليست قطعية الدلالة علي المراد منها ، بل هي ظنية الدلالة ، وكما تحتمل أن تدل علي معني تحتمل أن تدل علي معني آخر ، بسب أن في النص لفظا مشتركا لغة بين معنيين أو أكثر . أو أن فيه لفظا عاما يحتمل التخصيص . او لفظا مطلقا يحتمل التقييد . فكل مشرع يفهم منه حسب ما ترجح عنده من القرائن ووجهات النظر .والجزئيات التي اختلفوا فيها بناء علي اختلافهم في فهم النص كثيرة جدا .
وثانيها : أن السنة لم تكن مدونة ولم تجتمع الكلمة علي مجموعة منها وتنشر بين المسلمين لتكون مرجعا لهم علي السواء ، بل كانت تتناقل بالرواية والحفظ ، وربما علم منها المفتي في مصر ما لم يعلمه المفتي في دمشق . وكثيرا ما كان يرجع بعض المفتين منهم عن فتواه إذا علم من الآخر سنة لم يكن يعلمها .
وثالثها : أن البيئات التي يعيشون فيها مختلفة والمصالح والحاجات التي يشرعون لها متفاوتة ، فعبد الله بن عمر بالمدينة لا يطرأ له ما يطرأ لمعاوية بن ابي سفيان في الشام ،ولا ما يطرأ لعب الله بن مسعود بالكوفة . فبناء علي اختلاف البيئات اختلفت الانظار في تقدير المصالح والبواعث علي تشريع الاحكام .
فلهذه الاسباب الثلاثة وجدت فتاوي مختلفة للصحابة في الواقعة الواحدة ، ولكل واحد منهم دليل علي ما أفتي به .
وقد كانت خطتهم في المبادئ التشريعية العامة التي راعوها في تشريعهم هي الخطة الاسلامية وهي الاقتصار علي تشريع ما تدعو اليه الحاجة فقط ، وعدم سبق الحوادث بالتشريع ، ومسايرة المصالح ، ورعاية التيسير والتخفيف .
ما خلفه هذا العهد من الآثار التشريعية :
الاثار التشريعية التي خلفها هذا العهد ثلاثة :
الاول : شرح قانوني لنصوص الأحكام في القران والسنة ، فإن مجتهدي الصحابة لما بحثوا في هذه النصوص لتطبيقها علي الوقائع تكونت لهم آراء في فهمها وما يراد منها ، وكانوا في تقدير آرائهم يستندون الي ملكتهم اللسانية ، وملكتهم التشريعية ، وما وقفوا عليه من حكم التشريع وأسباب نزول القرآن ، وورود السنة . فمن مجموعة هذه الآراء تكون شرح قانوني لنصوص الاحكام يعد أوثق مرجع لتفسيرها وبيان اجمالها ووجوه تطبيقها ويتجلي هذا في كتب تفسير القرآن بالمأثور كتفسير محمد بن جرير الطبري .
والثاني : عدة فتاوي اجتهادية صدرت من الصحابة في وقائع لا نص علي حكمها .
وبهذا الاستنباط شرعوا أحكاما كثيرة في وقائع عديده في مختلف البلدان .وقد عني بعض رجال الحديث في اول العهد بتدوين السنة ، بأن يدونوا فتاوي الصحابة في مختلف ابواب احكام السنة ، وسيتبين في العهد التشريعي الثالث ان الاحتجاج بهذه الفتاوي كان موضع اختلاف الائمة ، فمنهم من لا يخرج عنها ومنهم من يخالفها .
- وهذه نبذة في التعريف بأشخاص بعض رؤوس التشريع من الصحابة وهم :
زيد بن ثابت من رؤوس التشريع بالمدينة ، وعبد الله بن عباس رأس التشريع بمكة توفي بالطائف سنة 68 هـ ، وعبد الله بن مسعود رأس التشريع بالعراق ، قدم المدينة آخر عمره وتوفي بها سنة 32 هـ ، وعبد الله بن عمرو بن العاص رأس التشريع بمصر ، توفي بمصر سنة 77 هـ.
يليه الجزء الثالث وفيه فترة الائمة المجتهدين رضوان الله عليهم .
3 - عهد التدوين والائمة المجتهدين :
هذا العهد ابتدأ في أول القرن الثاني الهجري وانتهي في أواسط القرن الرابع الهجري فهو بالتقريب 250 سنة .
وسمي عهد التدوين والائمة المجتهدين لأن حركة الكتابة والتدوين نشطت فيه ، فدونت السنة ، وفتاوي المفتين من الصحابة والتابعين وتابعيهم وموسوعات في تفسير القرآن وفقه الائمة المجتهدين ، ورسائل في علم اصول الفقه ، ولأن مواهب عدد كبير من رجال الاجتهاد والتشريع ظهرت فيه وسرت فيهم روح تشريعية كان لها اثر خالد في التقنين واستنباط الاحكام لما وقع وما يحتمل وقوعه .
وهذا هو العهد الذهبي للتشريع الاسلامي فقد نما فيه ونضج ، وأثمر ثروة تشريعية أغنت الدولة الاسلامية بالقوانين والاحكام علي سعة ارجائها واختلاف شؤونها وتعدد مصالحها .
- والاسباب التي أدت الي نمو الفقه الاسلامي ونشاط حركة الاجتهاد في هذا العهد كثيرة ولكن أهمها ما يأتي :
أولا : أن الدولة الاسلامية في هذا العهد اتسعت رقعتها ، وتباعدت اطرافها وشملت برعايتها كثيرا من الشعوب المختلفة والاجناس والعادات والمعاملات والمصالح لأن حدود الدولة الاسلامية امتدت شرقا الي الصين وغربا الي بلاد الاندلس .وهذه البلدان لا بد لها من قوانين يرجع اليها قضاتها وولاتها ، وفتاوي يرجع اليها أفرادها ولا مصدر لهذا التقنين والافتاء الا مصادر الشريعة .لهذا بذل العلماء جهودهم في الرجوع الي هذه المصادر ، واستمدوا من نصوص الشريعة وروحها ، وما أقامه الشارع من دلائلها ، أحكام ما طرأ للدولة ، من مصالح وحاجات ، بل زاد نشاطهم فشرعوا احكاما لحوادث فرضية ، وبهذا النشاط لم يضق التشريع الاسلامي بحاجة ولم يقصر عن مصلحة . والنشاط السياسي سيبث روح النشاط في كل شؤون الدولة .
وثانيا : إن الذين تصدوا للتقنين والافتاء في ذلك العهد وجدوا طرق التشريع ممهدة ، وصعابة ميسرة ، لأنهم وجدوا المصادر التشريعية في متناولهم ووجدوا كثيرا من الوقائع والمشاكل قد عالجها سلفهم من قبلهم . فالقرآن مدون ومنشور بين خاصة المسلمين وعامتهم ، والسنة مدون أكثرها من بدء القرن الثاني الهجري .
وكذلك فتاوي الصحابة والتابعين ، فاليسر الذي وجده مجتهدوا ذلك العهد في رجوعهم الي القرآن والسنة .والنور الذى لمحوه من فتاوي سلفهم من الصحابة وتابعيهم ، ومن آثارهم في تفسير النصوص كانا من عوامل نشاطهم ، ووفرة إنتاجهم والخلف يستثمر عقله وعقل سلفه .
وثالثا : إن المسلمين في ذلك العهد كانوا شديدي الحرص علي أن تكون جميع أعمالهم من عبادات ومعاملات وعقود وتصرفات علي وفق أحكام الشريعة الاسلامية , فلهذا كانوا في كلياتهم وجزئياتهم يرجعون الي أولي العلم والفقه يستفتونهم عن الحكم الشرعي .ومن هذا اتصلت جهودهم ونما انتاجهم .
رابعا : إن ذلك العهد نشأت فيه أعلام لهم مواهبهم واستعدادتهم ، وساعدتهم البيئة التي عاشوا فيها علي استثمار هذه المواهب والاستعدادات . فتكونت الملكة التشريعية لكثير من أفذاذهم أمثال أبي حنيفة وأصحابه ، ومالك وأصحابه والشافعي وأصحابه ، وأحمد وأصحابه وغيرهم من معاصريهم من الائمة المجتهدين واقتدوا بهذه الملكات علي تنمية الفقه الاسلامي وسد الحاجة التشريعية للدولة .
من تولي سلطة التشريع في هذا العهد :
في أواخر القرن الاول لازم الصحابة الذين تصدوا للافتاء والتشريع في مختلف الامصار جماعة من التابعين أخذوا عنهم القرآن ، ورووا عنهم السنة ، وحفظوا فتاويهم ، وفهموا منهم أسرار التشريع ، وطرق الاستمداد للاحكام ، وهؤلاء التابعون منهم من كان يستفتي ويفتي في حياة الصحابة أنفسهم مثل سعيد بن المسيب بالمدينة وعلقمة بن قيس ، وسعيد بن جبير بالكوفة ، حتي أنه روي أن عبد الله بن عباس كان اذا حج أهل الكوفة واستفتوه قال لهم : اليس فيكم سعيد بن جبير .
- وقد لازم هؤلاء التابعين في حياتهم جماعة من تابعي التابعين تلقوا عنهم ما تلقوه عن الصحابة ، من القرآن والسنة ، وأخذوا عنهم ما علموه من الفقه وأسرر التشريع . ولازم تابعي التابعين ، جماعة من طبقة الائمة الاربعة المجتهدين ، ومعاصريهم من رجال التشريع .
- فلما انقرض رجال التشريع من الصحابة خلفهم في تولي سلطة التشريع تلاميذهم من التابعين ، وخلف هؤلاء تلاميذهم من تابعي التابعين ، وخلف هؤلاء تلاميذهم من الائمة الاربعة المجتهدين وأقرانهم .
- فكان رجال التشريع في كل مصر من أمصار المسلمين طبقات ، وكل طبقة يعد رجالها تلاميذ لسلفهم وأساتذة لخلفهم ، ومن لازموا المشرعين في حياتهم ، وأخذوا عنهم علمهم وفقههم تصدوا لإفتاء الناس من بعدهم ، والقيام بما كان يقوم به أساتذتهم ، وبهذا اتصلت حركة التشريع في الامصار .
- ففي المدينة : أشهر أساتذة التشريع من الصحابة عمر بن الخطاب ، وعلي بن ابي طالب ، وعبد الله بن عمر ، وزيد بن ثابت .وأشهر تلاميذ هؤلاء : سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ، وسائر فقهاء المدينة السبعة .
وأشهر تلاميذ هؤلاء : محمد بن شهاب الزهري ، ويحيي بن سعيد
وأشهر من خلف هؤلاء : مالك بن أنس وأقرانه .
- وفي مكة : أشهر أساتذة التشريع من الصحابة عبد الله بن عباس
وأشهر تلاميذه :عكرمة ومجاهد وعطاء .
وأشهر تلاميذهم : سفيان بن عيينة ومفتي الحجاز مسلم بن خالد .
وأشهر من خلف هؤلاء : الشافعي في حياته الاولي .
- وفي الكوفة : أشهر أساتذة التشريع من الصحابة عبد الله بن مسعود .
وأشهر تلاميذه : علقمة بن قيس والقاضي شريح .
وأشهر تلاميذهما : إبراهيم النخعي
وأشهر تلاميذه حماد بن ابي سليمان أستاذ أبي حنيفة وأصحابه .
- وفي مصر: أشهر أساتذة التشريع من الصحابة : عبد الله بن عمرو بن العاص . وأشهر تلاميذه : الليث بن سعد وأقرانه من بني عبد الحكم .
وأشهر من خلف هؤلاء : الشافعي في حياته الاخيرة .
- ولم يكتسب رجال التشريع من كل طبقة من هذه الطبقات سلطة التشريع من تعيين الخليفة او انتخاب الامة ، وانما وثق المسلمون بهم كما وثقوا بأساتذتهم من الصحابة واطمأنوا الي عدالتهم وضبطهم وعلمهم وفقههم فرجعوا اليهم يسألهم الولاة والقضاة في الاقضية والخصومات ، ويستفتيهم الافراد في وقائعهم . وما يطرأ لهم من حاجات ، وكانت كل طبقة يرث سلفها العلم والثقة واطمئنان المسلمين الي بيانهم النصوص وفتاويهم فيما لا نص فيه .
- وكان أكثر رجال التشريع في هذا العهد يقومون بتدريس العلوم الشرعية ورواية الحديث ، ومنهم من ولي القضاء مثل شريح والشعبي وأبي يوسف . ومنهم من كان يتجر كأبي حنيفة . فلم يكن الافتاء وظيفة ينقطع لها المفتي . وانما كان واجبا يتصدي للقيام به من آنس في نفسه القدرة علي أدائه مع اشتغاله بوظيفته او تجارته او دراسته .
- مصادر التشريع في هذا العهد :
كانت مصادر التشريع في هذا العهد أربعة : القرآن والسنة والاجماع والاجتهاد بالقياس او بأي طريق من طرق الاستنباط .
فكان المفتي اذا وجد نصا في القرآن او السنة يدل علي حكم ما استفتي فيه وقف عند النص ولا يتعدى حكمه ، واذا لم يجد في الواقعة نصا ووجد سلفه من المجتهدين أجمعوا في هذه الواقعة علي حكم ، وقف عنده وأفتي به واذا لم يجد نصا علي حكم الواقعة ولا اجماعا علي حكم فيها اجتهد واستنبط الحكم بالطرق التي ارشد اليها الشارع للاستنباط .
- ما طرأ علي مصادر التشريع :
وقد طرأ علي المصدر التشريعي الاول وهو القرآن في هذا العهد طارئان لهما أثرهما في حفظه وضبطه وصونه من أي تحريف .
الاول : عناية طائفة من المسلمين بحفظه جميعه ، وتصديهم لتلقي الحفاظ عنهم ، وأشهر هؤلاء القراء السبعة الذين اشتهروا بالحفظ والضبط والاتقان . وما انقرضوا في القرن الثاني الهجري الا وقد خلفهم في الحفظ والضبط تلاميذهم . وخلف هؤلاء تلاميذهم واتصل سند الحفاظ الذين تنافسوا في الضبط وساعدوا علي ازدياد حفظة القرآن والتنافس في حفظه ان تلاوته عبادة وانه يتلي كل صلاة .
والطارئ الثاني : ادخال الاصلاح في رسم كتابته وشكل حروفه ، وذلك ان المصحف الذي دون في عهد عثمان بن عفان ومنه نسخت عدة مصاحف ووزعت في الامصار كان مكتوبا بالخط الكوفي بلا نقط ولا شكل ، وكان الاعتماد في قراءته علي التلقي من الحفظه .
- وهذا الاصلاح والتهذيب في رسمه وشكله وتمييز كل حرف بما يعين علي النطق به صحيحا تمت للمصدر التشريعي الاول وسائل التكميل والضبط والتيسير .
- وأما المصدر التشريعي الثاني وهو السنة فقد طرأ عليه ايضا في اول هذا العهد طارئ له اثر تشريعي عظيم ، وذلك ان الخليفة عمر بن عبد العزيز كتب في عهد خلافته الي والي المدينة ابي بكر محمد بن عمر بن حزم "انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه فاني خفت دروس العلم وذهاب العلماء " وكلف ايضا بهذا التدوين محمد بن شهاب الزهري . فقام كل منهما بتدوين ما استطاع تدوينه من السنة ، وبهذا بدأ تدوين نصوص المصدر التشريعي الثاني بعد ان لبثت في القرن الهجري الاول كله يرجع اليها في صدور رواتها وحفاظها فقط .
- وتتابع علي هذا التدوين كثير من العلماء . ففي سنة 140 هـ دون الامام مالك بن أنس كتابه "الموطأ" في صحيح الحديث بناء علي طلب الخليفة المنصور . وفي القرن الثاني الهجري دون أصحاب المسانيد في السنة مسانيدهم . والمسند هو ما تجمع فيه الاحاديث حسب رواتها فيجمع ما رواه عمر علي حدة ، وما رواه أبو بكر علي حدة ، بصرف النظر عن موضوع الحديث ، وأقدم ما وصل الينا منها مسند الامام احمد .
- وفي القرن الثالث الهجري دونت كتب صحاح الستة وهي : صحيح البخاري ، ومسلم ، وابي داود ، والنسائي والترمذي ، وابن ماجه . واذا قيل في الحديث رواه الستة ، او متفق عليه ، فالمراد انه رواه هؤلاء جميعهم ، ودون كثير غير هؤلاء عدة مجاميع في السنة .
- ولكن هذا التدوين الذي حفظ السنة من الضياع لم يؤد الي جمع المسلمين علي مجموعة واحدة من السنة تكون مرجعا لخاصتهم وعامتهم علي السواء كما جمعت كلمتهم علي مجموعة واحدة من نصوص القرآن ، ولهذا بقيت السنة بعد تدوينها فيها مجال للاختلاف ، واليها منفذ للوضع والافتراء ، وقد فكر الخليفة المنصور العباسي في ان يكون مجموعة من السنة وينشرها بين المسلمين ويجمع كلمتهم عليها والرجوع اليها ، فأمر مالك بن انس ان يكتب من السنن كتابا يتجنب فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر ، فكتب الامام مالك كتابه "الموطأ" ، وأراد المنصور أن ينفذ فكرته ويحمل الناس علي الرجوع اليه وحده ، فقال له مالك : لا سبيل الي ذلك يا أمير المؤمنين لأن الصحابة افترقوا بعد الرسول كل يتبع ما صح عنده , وكلهم علي هدى وكلهم يريد الله ، فعدل المنصور عما اراد .
- أسباب اختلاف الائمة المجتهدين وتكوين المذاهب :
يرجع اختلاف الخطة التشريعية للأئمة المجتهدين الي اختلافهم في امور ثلاثة : الاول : في تقدير بعض المصادر التشريعية .
والثاني : في النزعة التشريعية .
والثالث : في بعض المبادئ اللغوية التي تطبق في فهم النصوص .
- فأما اختلافهم في تقدير بعض مصادر التشريع فقد ظهر فيما يأتي :
أولا : في طريق الوثوق بالسنة والميزان الذي ترجح به رواية علي رواية ، وذلك ان الوثوق بالسنة مبني علي الوثوق برواتها وكيفية روايتها . وقد اختلف الائمة في طريق هذا الوثوق .
- فمجتهدو العراق : ابو حنيفة وأصحابه يحتجون بالسنة المتواترة والمشهورة ويرجحون ما يرويه الثقات من الفقهاء ولهذا قال ابو يوسف ، وعليك بما عليه الجماعة من الحديث وما يعرفه الفقهاء .
- ومجتهدو المدينة : مالك وأصحابه يرجحون ما عليه أهل المدينة بدون اختلاف ويتركون ما خالفه من اخبار الآحاد .
- وباقي الائمة : يحتجون بما رواه العدول الثقات من الفقهاء وغير الفقهاء وافق عمل أهل المدينة أو خالفه .
- وترتب علي هذا ان مجتهدى العراق جعلوا المشهور في حكم المتواتر وخصصوا به العام في القرآن وقيدوا به المطلق فيه ، وغيرهم لم يجعلوا له هذه القوة .
-وترتب أيضا ان الحديث المرسل وهو ما رواه الصحابي بقوله أمر رسول الله بكذا ، او نهي عن كذا ، او قضي بكذا ، من غير ان يصرح بأنه سمع ذلك بنفسه او شافهه او شاهده ، يحتج به بعض رجال التشريع ولا يحتج به بعضهم . فهذا الاختلاف في طريق الوثوق بالسنة ادي الي ان بعضهم احتج بسنة لم يحتج بها الآخر ، وبعضهم رجح بسنة هي مرجوحة عند الآخر وعن هذا نشأ اختلاف الأحكام .
وثانيا : في فتاوي الصحابة وتقديرها : فإن الائمة اختلفوا في الفتاوي الاجتهادية التي صدرت عن افراد الصحابة .
- فابو حنيفة ومن تابعه خطته بالنسبة اليها ان يأخذ بأية فتوى منها ولا يتقيد بواحدة معينة ولا يخرج
عنها جميعا .
- والشافعي ومن تابعه خطته بالنسبة اليها انها فتاوي اجتهادية فردية صادرة من غير معصومين فله ان يأخذ بأية فتوى منها ، وله ان يفتي بخلافها كلها ,وعن هذا نشأ ايضا اختلاف في الاحكام .
ثالثا : في القياس : فإن بعض المجتهدين من الشيعة والظاهرية انكروا القياس ونفوا أن يكون مصدرا للتشريع ولهذا سموا : نفاة القياس . وجمهور الائمة احتجوا بالقياس وعدوه المصدر التشريعي بعد القرآن والسنة والاجماع ولكنهم مع اتفاقهم علي انه حجة اختلفوا فيما يصلح ان يكون علة للحكم ويبني عليه القياس . ونشأ عن هذا ايضا اختلاف في الاحكام .
وأما اختلافهم : في النزعة التشريعية ، فقد ظهر في انقسامهم الي فريق :
- أهل الحديث ومنهم أكثر مجتهدي الحجاز .
- وفريق أهل الرأي : ومنهم أكثر مجتهدي العراق .
- وليس معني هذا الانقسام ان فقهاء اهل العراق لا يصدرون في تشريعهم عن الحديث ، وان فقهاء الحجاز لا يصدرون في تشريعهم عن الاجتهاد بالرأي ، لأنهم جميعا متفقون علي ان الحديث حجة شرعية ملزمة ، وان الاجتهاد بالرأي أي بالقياس حجة شرعية فيما لا نص فيه .
- وإنما معني هذا الانقسام وسبب هذه التسمية ان فقهاء العراق أمعنوا النظر في مقاصد ا لشارع وفي الاسس التي بني عليها التشريع ، فاقتنعوا بأن الاحكام الشرعية معقول معناها ومقصود بها تحقيق مصالح الناس . وبأنها تعتمد علي مبادئ واحدة وترمي الي غاية واحدة ، وهي لهذا لا بد ان تكون متسقة ولا تعارض ولا تباين بين نصوصها وأحكامها . وعلي هذا الاساس يفهمون النصوص ويرجحون نصا علي نص ، ويستنبطون فيما لا نص فيه ولو أدي استنباطهم علي هذا الاساس الي صرف نص عن ظاهره .أو ترجيح نص علي آخر أقوى منه رواية حسب الظاهر
وهم من أجل هذا لا يتحرجون من السعة في الاجتهاد بالرأي ، ويجعلون له مجالا في أكثر بحوثهم التشريعية .
- أما فقهاء الحجاز فقد عنوا بحفظ الاحاديث وفتاوي الصحابة ، واتجهوا في تشريعهم الي فهم هذه الآثار حسبما تدل عليه عبارتها ، وتطبيقها علي ما يحدث من الحوادث غير باحثين فى علل الاحكام ومبادئها ، فإذا وجدوا ما فهموه من النص لا يتفق مع ما يقتضيه العقل لم يبالوا بهذا وقالوا هو النص . وكانوا من اجل هذ يتحرجون من الاجتهاد بالرأي ولا يلجأون اليه الا عند الضرورة القصوي .
مثلا : ورد في الحديث ان في كل اربعين شاة شاة . وان صدقة الفطر صاع من تمر او شعير ، وان من رد الشاة المصراة بعد احتلاب لبنها رد معها صاعا من تمر .
فقهاء العراق : يفهمون من هذه النصوص علي ضوء معناها المعقول ومقصد الشارع من تشريعها . وهو ان المالك أربعين شاة يجب عليه ان ينفع الفقراء بواحدة أو ما يعادلها ، وأن المتصدق بصدقة الفطر يجب عليه أن ينفعهم بصاع من تمر أو ما يعادلها . واللبن المحتلب يضمن بمثله أو قيمته وليس خصوص الشاة او الصاع مقصودا للشارع . فمن تزكي بقيمة الشاة او تصدق بقيمة الصاع أو ضمن لبن المصراة بقيمته أجزأه لأن المقصود نفع الفقراء وتعويض المال المتلف .
- أما فقهاء الحجاز : فيفهمون هذه النصوص حسبما تدل عليه عبارتها الظاهرة ولا يبحثون في علة التشريع ولا يتجهون الي التأويل بناء علي مراعاة العلل المعقولة . وعلي هذا يوجبون الشاة بخصوصها ، والصاع بخصوصه ، ولا يجزئ في مذهبهم القيمة .
وأهم الاسباب التي أدت الي اختلاف هاتين النزعتين هي :
1 – ان الاحاديث وفتاوي الصحابة لم تكن كثيرة في العراق كثرتها في الحجاز . فالحجازيون وجدوا عندهم ثروة من الآثار اعتمدوا عليها في تشريعهم وركنوا اليها . وأما فقهاء العراق فلم تكن لديهم هذه الثروة فاعتمدوا علي عقولهم ، واجتهدوا في تفهم معقول النص وعلة التشريع لتتسع معاني النصوص لما لم تتسع له الفاظها ، وأسوتهم في هذا أستاذهم عبد الله بن مسعود .
2 – إن العراق كانت فيها الفتن التي أدت الي افتراء الاحاديث وتحريفها لأنها كانت مهد الشيعة ومقر الخوارج ، وقد شاهد فقهاء العراق من الجرأة علي وضع الاحاديث والتحريف فيها ما لم يشاهده فقهاء الحجاز ، فلهذا تشددوا في قبول الرواية والتزموا أن يكون الحديث مشهورا بين أهل الفقه وإذا وجدوا حديثا يفهم منه ما لا يتفق وحكمة الشارع أولوه أو تركوه .
3 – إن بيئة العراق غير بيئة الحجاز ، والاقضية والحوادث في البلدين مختلفة لأن دولة الفرس خلفت في العراق أنواعا من المعاملات والعادات والنظم لا يعهد مثلها في بلاد الحجاز فكان مجال الاجتهاد في العراق ذا سعة ، وأفق البحث ممتدا ، ولهذا تكونت في فقهاء العر اق ملكة البحث والتفكير وبدت لهم وجوه عديدة من الرأي والنظر في التشريع . وأما فقهاء الحجاز فقلما حدث لهم ما يحدث لسلفهم من التابعين والصحابة لأن البيئة واحدة وقلما حدث لهم ما لم يحفظوا في حكمه حديثا أو فتوي صحابي .
فلما لم يجدوا للاجتهاد المجال الذي وجده العراقيون اعتادوا فهم النصوص من علي ظواهرها ولم تدعهم الحاجة الي البحث في عللها او التعمق في مقاصدها .
وأما اختلافهم في بعض المبادئ الاصولية اللغوية فقد نشأ من اختلاف وجهات النظر في استقراء الاساليب العربية .
يليه بإذن الله تعالي عهدالتقليد وهو آخر الكتاب .
4
اخترت هذا الكتاب لما حمله من علم غزير في موضوع خطير ، في صفحات قليلة ، وموضوعه يضيئ جوانب هامة ، ويعطي القارئ فكرة واضحة عن تاريخ التشريع الاسلامي .
- مر التشريع الاسلامي بأطوار ثلاثة في عهود متقاربة ، فقد نشأ وتكون ثم نما ونضج .
- المراد من التشريع :
- التشريع في الاصطلاح الشرعي والقانوني : هو سن القوانين التي تُعرف منها الاحكام لأعمال المكلفين وما يحدث لهم من الأقضية والحوادث ، فإن كان مصدر هذا التشريع هو الله سبحانه بواسطة رسله وكتبه فهو التشريع الالهي وإذا كان مصدره الناس سواء أكانوا أفرادا أو جماعات فهو االتشريع الوضعي .
-
- والقوانين الاسلامية نوعان :
- قوانين سنها الله سبحانه بآيات قرآنية ، وألهمها رسوله وأقره عليها وهذا تشريع إلهي محض .
- وقوانين سنها مجتهدوا المسلمين من الصحابة وتابعيهم والأئمة المجتهدين استنباطا من نصوص التشريع الالهي وروحها ومعقولها وما ارشدت اليه من مصادر ، وهذه تعتبر تشريعا الهيا باعتبار مرجعها ومصدرها ، وتعتبر تشريعا وضعيا باعتبار جهود المجتهدين في استمدادها واستنباطها .
- ومرادنا بالتشريع الاسلامي سن هذه القوانين بنوعيها .
- وقسمنا العهود التشريعية الاسلامية أربعة أقسام :
- الاول : عهد الرسول وهو عهد الانشاء والتكوين ، ومدته 22 سنة من بعثته سنة 610 م الي وفاته سنة 632 م .
- الثاني : عهد الصحابة ، وهو التفسير والتكميل ، ومدته 90 سنة بالتقريب من وفاة الرسول سنة 11هجرية الي أواخر القرن الهجري الاول .
- الثالث : عهد التدوين والأئمة المجتهدين ، وعهد النمو والنضج التشريعي ومدته 250 من سنة 100 الي سنة 350 هجرية .
- الرابع : عهد التقليد ، وهو عهد الجمود والوقوف ، وقد ابتدأ من أواسط القرن الهجري الرابع ولا يعلم نهايته الا الله .
- عهد الرسول :
- هذا العهد كانت سنواته قليلة لأنها لم تزد عن 22 سنة وبضعة أشهر ولكن كانت آثاره جليلة لأنه خلف نصوص الاحكام في القرآن والسنة ، وخلف عدة أصول تشريعية كلية ، وأرشد الي عدة مصادر ودلائل يتعرف بها حكم ما لا نص علي حكمه وبهذا خلف أسس التشريع الكامل .
- وقد كان هذا العهد فترتين متمايزتين :
- الفترة الاولي : مدة وجود الرسول بمكة وهي 12 سنة وبضعة اشهر من بعثته الي هجرته .
- في هذه الفترة كان المسلمون افرادا قلائل مستضعفين ، لم تتكون منهم امة ولم تكن لهم شئون دولة .
- وكان هم الرسول فيها موجها الي بث الدعوة الي توحيد الله وتحويل وجوه الناس عن الاوثان والاصنام ، واتقاء اذي الذين وقفوا في سبيل دعوته وأمعنوا في كيده وكيد من آمن به ، فلم يوجد في هذه الفترة مجال ولا داع الي التشريع العملي وسن القوانين المدنية والتجارية ونحوها ، ولهذا لم توجد في السور المكية بالقرآن مثل : يونس والرعد والفرقان ، ويس والحديد ، آية من آيات الاحكام العملية ، وأكثر آياتها خاص بالعقيدة والخلق والعبر من سير الماضين .
- الفترة الثانية :
- مدة وجود الرسول بالمدينة ، وهي عشر سنوات بالتقريب من تاريخ هجرته الي تاريخ وفاته ، وفي هذه الفترة عز الاسلام وكثر عدد المسلمين وتكونت منهم أمة وصارت لهم شئون دولة ، وذللت العقبات في سبيل الدعوة ودعت الحاجة الي التشريع وسن القوانين لتنظيم علاقة افراد الامة الناشئة بعضهم ببعض ، وتنظيم علاقاتهم بغيرهم في حالتي السلم والحرب ، شرعت في المدينة أحكام الزواج والطلاق والارث والمداينة والحدود وغيرها .
- والسور المدنية مثل : البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والانفال والتوبة والنور والاحزاب هي التى اشتملت علي آيات الاحكام مع ما اشتملت عليه من آيات العقائد والاخلاق والقصص.
- من تولي السلطة التشريعية في هذا العهد ؟
- كانت السلطة التشريعية في هذا العهد لرسول الله وحده ، وما كان لأحد غيره من المسلمين أن يستقل بتشريع حكم في واقعة لنفسه أو لغيره .لأنه مع وجود الرسول بينهم وتيسر رجوعهم اليه فيما يعرض لهم لم يسوغ واحد منهم لنفسه ان يفتي باجتهاده في حادثة ، او يقضي باجتهاده في خصومة .
- بل كانوا يرجعون الي الرسول وهو يفتيهم ويفصل في خصوماتهم ويجيب عن أسئلتهم تارة بآية قرآنية يوحي اليه بها ربه ، وتارة باجتهاده الذي يعتمد فيه علي الهام الله له ، او علي ما يهديه عقله وبحثه وتقديره ، وكل ما صدر عنه من هذه الاحكام هو تشريع للمسلمين وقانون واجب عليهم ان يتبعوه سواء أكانت من وحي الله أم من اجتهاده نفسه .
- وقد ورد أن بعض الصحابة اجتهد في عهد الرسول وقضي باجتهاده في بعض الخصومات أو استنبط باجتهاده حكما في بعض الوقائع مثل :
- علي بن ابي طالب الذي بعثه الرسول الي اليمن قاضيا وقال له :إن الله سيهديك قلبك ويثبت لسانك ، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتي تسمع من الآخر كما سمعت من الاول فإنه أحري أن يتبين لك القضاء .
- وهناك عدة أمثلة لصحابة آخرين.
ولكن هذ الجزيئات وأمثالها لا تدل علي أن أحدا غير رسول الله كانت له سلطة التشريع في عهد الرسول ، لأن هذه الجزيئيات منها ما صدر في حالات تعذر فيها الرجوع الي الرسول لبعد المسافة أو لخوف فوات الفرصة ، ومنها ما كان القضا او الافتاء فيه تطبيقا ، لا تشريعا ، وكل ما صدر فيها من أي صحابي عن اجتهاده في اي قضاء او اية واقعة لم يكن تشريعا للمسلمين وقانونا ملزما لهم إلا بإقرار الرسول ، فالرسول في حياته كانت في يده وحده السلطة التشريعية ، ولهذا لم يوجد في عهد الرسول رأيان في واقعة ، ولم يعرف أحد من الصحابة في عهده بالفتيا والاجتهاد
مصادر التشريع في هذا العهد :
كان للتشريع في عهد الرسول مصدران : الوحي الالهي ، واجتهاد الرسول نفسه .
فإذا طرأ ما يقتضي تشريعا أوحي الله الي رسوله بآية أو آيات فيها حكم ما أريد معرفة حكمه ، وبلغ الرسول المسلمين وكان قانونا واجبا اتباعه .
واذا طرأ ما يقتضي تشريعا ، ولم يوح الله الي الرسول بآيات تبين الحكم ، اجتهد الرسول في تعرف الحكم ، وما اداه اليه اجتهاده قضي به أو أفتي أو أجاب عن السؤال.وكان ما صدر عن اجتهاده قانونا واجبا اتباعه مع قانون الوحي الالهي .
وكل ما شرع من الاحكام في عهد الرسول كان مصدره الوحي الالهي او الاجتهاد النبوي ، كان صدوره بناء علي طروء حاجة تشريعية اقتضته ، وكانت وظيفة الرسول بالنسبة لما شرع بالمصدر الاول تبليغه وتبيينه تنفيذا لقول الله سبحانه :" يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، ولقوله عز شأنه : " ونزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم "
وكان ما صدر عن المصدر الثاني وهو الاجتهاد النبوي تارة تعبيرا عن الهام إلهي ، أي أن الرسول إذا أخذ في الاجتهاد ألهمه الله حكم ما أراد معرفة حكمه ، وتارة استنباطا واستمدادا للحكم بما تهدي اليه المصلحة وروح التشريع والاحكام الاجتهادية التي يلهم بها الله رسوله هي أحكام إلهية ليس للرسول فيها الا التعبير عنها بقوله أو فعله .
والاحكام الاجتهادية التي لم يلهم الله بها الرسول بل صدرت عن بحثه ونظره هي أحكام نبوية بمعانيها وعباراتها ن وهذه لا يقره الله عليها الا اذا كانت صوابا ، وأما اذا لم يوفق الرسول فيها الي الصواب فإن الله يرده الي الصواب ، ومثال ذلك :
حادث إذن الرسول لمن اعتذروا وتخلفوا عن غزوة تبوك . فإن الله سبحانه بين الله سبحانه بين الصواب بقوله : " عفا الله عنك لم أذنت لهم حتي يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين "
- فمن هذا يستنتج ان التشريع في عهد الرسول كان الهيا كله . لان مصدره إما وحي الله في القرآن ، وإما اجتهاد الرسول الذي هو تعبير عن الهام الله ، واما اجتهاد الرسول ببحثه ونظره ، ولكنه ملحوظ برعاية الله له ، فإن جاء صوابا أقره الله عليه ، وإن جاء غير صواب رد الله رسوله الي الصواب فيه .
- الخطة التشريعية في هذا العهد :
- المراد من الخطة التشريعية الطريق التي يتبعها رجال التشريع في الرجوع الي مصادر التشريع .والمبادئ العامة التي يراعونها فيه ، ولما كان هذا العهد هو عهد التكوين ، ووضع الاسس التشريعية كانت الخطة التشريعية فيه ، هي الخطة الاساسية للتشريع الاسلامي .
- فأما الطريق التي اتبعها الرسول في الرجوع الي مصادر التشريع فهي أنه كان إذا طرأت حاجة الي تشريع ينتظر وحي الله بآية أ و آيات فيها حكمه ، فإن لم يوح اليه علم أن الله وكل التشريع في هذه الواقعة الي اجتهاده فاجتهد مهتديا في اجتهاده بالقانون الالهي وروح التشريع وتقديره المصلحة ومشورة اصحابه .
- أما المبادئ العامة التي بني عليها التشريع الاسلامي في عهد التكوين فأظهرها اربعة :
- الاول : التدرج في التشريع ، وهذا التدرج كان في زمن التشريع ، والحكمة في التدرج الزمني انه ييسر معرفة القانون بالتدريج مادة فمادة وييسر فهم احكامه علي اكمل وجه بالوقوف علي الحادثة والظروف التي اقتضت تشريعها .
- فلم يكلف المسلمون في اول عهدهم بالاسلام بما يشق عليهم فعله او ما يشق عليهم تركه ، بل سلك بهم سبيل التدرج وأخذوا بالرفق حتي تكون استعدادهم واستاهلوا للتكليف .
- ففي اول امرهم لم تفرض عليهم الصلاة الخمس في اليوم والليلة بل طلبت منهم صلاة مطلقة بالغداة والعشي، ولم تفرض عليهم الزكاة والصيام الا بعد الهجرة بسنة ، وكان التكليف قبل ذلك بما استطاعوا من صدقة وصوم
- والحكمة في هذا التدرج انه العلا ج لاصلاح النفوس الجامحة ، والوسيلة لتقبل التكاليف وامتثالها من غير ضجر ولا عنت ، وهو من الحكمة في الدعوة .
- والثاني : التقليل من التقنين ، وهذا يتجلي في أن الاحكام التي شرعها الله ورسوله لم تشرع الا علي قدر الحاجات التي دعت اليها والاقضية والحوادث التي اقتضتها ولم تشرع منها احكام لحل المسائل فرضية او للفصل في خصومات محتمله .
- والحكمة في هذا التشريع انما هو دفع حاجات الناس وتحقيق مصالحهم ، فينبغي ان يقتصر في كل عصر علي تشريع ما اقتضته حاجاته حتي لا يجد اللاحقون من تشريع السابقين عقبات تحول دون تشريع ما يدفع حاجاتهم ويحقق مصالحهم .
- ومن المبادئ المقررة في الشريعة الاسلامية ان الاصل قي الاشياء الاباحة ، فكل حيوان او جماد او عقد او تصرف لم يشرع له حكم باي دليل شرعي فحكمه الاباحة ، وعلي هذا لا حرج من تقليل التقنين ، لان كل ما لا قانون فيه فهو علي الاباحة الاصلية .
والثالث : التيسير والتخفيف ، وهذا أجلي ظاهرة في التشريع الاسلامي ، ففي كثير من الاحكام تصريح بأن الحكمة في تشريعها التيسير والتخفيف ، قال تعالي "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " وقال عز شأنه "يريد الله ان يخفف عنكم ، وخلق الانسان ضعيفا " وقال " ما جعل الله عليكم في الدين من حرج "
وورد في صحيح السنة ان الرسول ما خير بين امرين الا اختار ايسرهما ما لم يكن اثما " .
وفي كل الحالات الخاصة التي يكون فيها حكم العزيمة شاقا ، شرعت الرخصة ، فابيحت المحظورات عند الضرورات ، وابيح ترك الفرض والواجب اذا كان في اداء احدهما حرج . واعتبر الاكراه والمرض والسفر والخطأ والنسيان والجهل من الاعذار التي تقتضي التخفيف .
والرابع : مسايرة التشريع مصالح الناس : وبرهان هذا ان الشارع علل كثيرا من احكامه بمصالح الناس ، ودل بشواهد عدة علي ان المقصود من تشريع الاحكام تحقيق مصالح الناس ، وقرر ان الاحكام تدور مع عللها وجودا وعدما ، ولهذا شرع الله بعض الاحكام ثم ابطالها ونسخها لما اقتضت المصلحة تعديلها ، فقد فرض الاتجاه في الصلاة الي بيت المقدس ، ثم نسخه وفرض الاتجاه في الصلاة الي الكعبة ، ونهي عن زيارة القبور ثم اباحها ، فهذا النسخ والتبديل والتعديل في وقت التشريع برهان علي ان التشريع الاسلامي ساير مصالح الناس .
ولهذه المسايرة نفسها راعي الشارع عرف الناس وقت التشريع ما دام لا يهدم اصلا من اصول الدين ، فراعي الكفاءة في الزوج ، وراعي العصبية في الارث والولاية ، لان من مصالح الناس ان تراعي عاداتهم وما جري به عرفهم ما دام لا يعارض أصلا دينيا ولا يجلب ضررا .
- ما خلفه هذا العهد من آثار تشريعية :
- المصدر التشريعي الاول وهو الوحي الالهي صدرت عنه آيات الاحكام في القرآن والمصدر التشريعي الثاني وهو اجتهاد الرسول صدرت عنه أحاديث الاحكام . ومجموعة نصوص هذه الآيات والاحاديث هي ما خلفه هذا العهد من آثار تشريعية ، وهي القانوت الاساسي للمسلمين ، وهي أساس التشريع ومرجع كل مجتهد اسلامي في اي عصر من العصور .
- فإذا وقعت واقعة ودل علي حكمها نص قاطع من نصوص هذه المجموعة فلا مجال فيها لاجتهاد اي مجتهد في اي عصر من العصور .
- وإذا لم يدل علي حكمها نص قاطع من نصوصها كانت مجالا للاجتهاد ، ولكن علي ان يسير المجتهد في اجتهاده علي ضوء هذه المجموعة بان يقيس علي ما ورد فيها ، او يهتدي بروحها ومعقولها ومبادئها العامة ، وليس له ان يخالف باجتهاده نصا من نصوصها ، او يخرج عن مبدأ من مبادئها ..
- مقدار النصوص في هذه المجموعة :
- مواد هذه المجموعة من النصوص ليست كثيرة ، فعدد آيات الاحكام المتعلقة بالعبادات وما يلحق بها من الجهاد نحو 140 آية ، وعدد الآيات المتعلقة بالمعاملات والاحوال الشخصية والجنايات والقضاء والشهادة نحو 200 آية ، وعدد أحاديث الاحكام في انواعها المختلفة نحو 4500 حديث ، كما ذكره ابن القيم في "إعلام الموقعين " وأكثرها تبيين لما أجمل من أحكام القرآن او تقرير وتوكيد . وباقيها تشريع سكت عنها القرآن .
- وآيات الاحكام في القرآن مفرقة في جملة سور ، وليست الآيات الخاصة بفرع قانوني واحد مجموعة في سورة واحدة ، فآيات االعقوبات وهي نحو عشر آيات مفرقة في سورة البقرة والمائدة والنور . وآيات المجموعة المدنية وهي نحو سبعين آية مفرقة ايضا في جملة سور ، وهكذا سائر آيات الاحكام .
- وأما أحاديث الاحكام فقد جمعها رواة الاحاديث حسب ابواب الفقه ، فأحاديث البيع مجموعة في باب البيع ، وأحاديث الرهن والشركة والحدود وغيرها كذلك .
- وأما أحاديث الاحكام فقد جمعها رواة الاحاديث حسب أبواب الفقه ، فأحاديث البيع مجموعة في باب البيع ، وأحاديث الرهن والشركة والحدود وغيرها كذلك
- ومن اليسير ان تجمع في كل فرع قانوني آيات الاحكام الخاصة به ، وأمهات احاديث الخاصة به ، وبعض آثار الصحابة والتابعين التي فيها تفسير لنص من هذه النصوص ، وتكون هذه المجموعة هي الاحكام الاساسية التي وردت في القرآن والسنة خاصة بهذا الفرع من القوانين .
- اسلوب النصوص في هذه المجموعة :
- لم تلتزم آيات الاحكام وأحاديث الاحكام أسلوبا واحدا في بيان ما شرع بها بل تنوعت أساليبها وتعددت صيغها في التعبير عن الاحكام ن فالنصوص التي دلت علي التحريم تارة عبرت بالنهي عما حرم ، وتارة دلت علي تحريمه بالوعيد من فعله ، وتارة صرحت بأنه لا يحل أو حرم ، والنصوص التي دلت علي الايجاب تارة عبرت بالامر بما وجب ، وتارة دلت علي ايجابه بالوعيد علي تركه ، وتارة صرحت بأنه وجب او فرض او كتب ، والسبب في تنوع هذه الاساليب ان النصوص كما قدمنا شرعت في أوقات مختلفة حسب الحوادث والمناسبات ، ولكل مناسبة اسلوب يناسبها ، فقد تقتضي المناسبة الدلالة علي تحريم الشيئ بالوعيد علي فعله ، وقد تقتضي التصريح بتحريمه ، فالمناسبة التي اقتضت تشريع الحكم الخاص اقتضت اسلوبا خاصا في بيانه .
- وسبب آخر لتنوع هذه الاساليب ان القرآنن لم يقصد منه بيان ما تضمنه من عقائد وأخلاق وتشريع فحسب ، وإنما قصد منه مع هذا إعجاز الناس عن يأتوا بمثله ليكون برهانا علي صدق الرسول ، ومن وجوه الاعجاز تنوع اساليب البيان .
- وكما تنوعت أساليب النصوص من ناحية صيغها وعباراتها ، تنوعت من ناحية أخري وهي ان بعض النصوص تتبع بيان الحكم ببيان علته وحكمة تشريعه ، وبعضها تقرر الحكم مجردا عن بيان علته .والحكمة في هذا ان الشارع ببيانه علة التشريع وحكمته في بعض الاحكام يلفت العقول الي ان الاحكام التشريعية ليست تعبدية وإنما هي معللة بمصالح الناس ، ويفتح باب الاجتهاد في تشريع كل ما يحقق مصلحة او يدفع مفسدة .
- أنواع الاحكام التي اشتملت عليها هذه النصوص :
- الاحكام علي وجه عام تنقسم ثلاثة اقسام :
- القسم الاول : احكام اعتقادية تتعلق بالايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر
- القسم الثاني : أحكام خلقية تتعلق بالفضائل التي يجب علي الانسان ان يتحلي بها ، والرذائل التي يجب علي الانسان أن يتخلي عنها .
- القسم الثالث : أحكام عملية تتعلق بالمكلفين من عبادات ، ومعاملات ، وجنايات ، وخصومات ، وعقود وتصرفات .
- فأما النوع الاول فهو أساس الدين ، واما النوع الثاني : فهو مكمل هذا الاساس ومتممه ، وقد افاض القرآن وأسهبت السنة في بيانهما وإقامة براهينهما .
- وقد ابتدأ امر الاسلام بهما ، فكان المسلمون في مكة لا يخاطبون الا بعقائد وأخلاق لأن تكوين العقيدة وتقويم الخلق هما الاساس الذي يبني عليهما كل تشريع وتقنين .
- وأما النوع الثالث : وهو الاحكام العملية ، فهذا هو الفقه وهو المراد من الاحكام عند الاطلاق . ومن تتبع فقه القرآن والسنة وجد ان كل فرع من فروع القوانين له في القرآن مواد تخصه وتبين أحكامه .
- ففي العبادات بأنواعها نحو 140 آية
- وفي الاحوال الشخصية من زواج وطلاق وإرث ووصية وحجر وغيرهما نحو سبعين آية
- وفي المجموعة المدنية
- من بيع وإجارة ورهن وشركة وتجارة ومداينة نحو سبعين آية
- وفي المجموعة الجنائية من عقوبات وتحقيق جنايات نحو ثلاثين آية
- وفي القضاء والشهادة وما يتعلق بها نحو عشرين آية
- وفي كل باب من هذه الابواب كثير من الاحاديث ، بعضها يبين حكما أجمله القرآن . وبعضها يشرح حكما سكت عنه، وقد كملت عنه هذه الاحكام الجزئية ، بعدة أصول تشريعية كلية ، وبهذا خلف عهد الرسول تشريعا كاملا وافيا بحاجة المسلمين في كل بيئة . .
واليك القسم الثاني ويليه القسم الثالث بإذن الله تعالي :
2 – عهد الصحابة :
هذا العهد ابتدأ بوفاة الرسول في سنة 11 هجرية وانتهي في اواخر القرن الهجري الاول ، واطلقنا عليه عهد الصحابة لأن السلطة التشريعية فيه تولاها رؤوس أصحاب الرسول ومنهم من عاش الي العقد العاشر الهجري مثل انس بن مالك الذي توفي سنة 93 هـ
وهذا العهد هو عهد التفسير التشريعي وفتح أبواب الاستنباط فيما لا نص فيه من الوقائع .فإن رؤوس الصحابة صدرت عنهم آراء كثيرة في تفسير نصوص الاحكام في القرآن والسنة تعد مرجعا تشريعيا لتفسيرها وتبيينها وصدرت عنهم فتاوي كثيرة باحكام في وقائع لا نص فيها تعتب اساسا للاجتهاد والاستنباط
- من تولوا سلطة التشريع في هذا العهد ؟
العهد التشريعي الاول هو عهد الرسول ، خلف للمسلمين قانونا مكونا من نصوص الاحكام في القرآن والسنة ومواد هذا القانون الاساسي ليس كل واحد من المسلمين أهلا لأن يرجع اليها بنفسه ويفهم ما تدل عليه من الاحكام ، لأن فيهم العامة الذين لا يتوصلون الي فهم النصوص الا بواسطة من يفهمهم اياها .
ومن جهة ثانية : مواد هذا القانون لم تكن نشرت بين المسلمين نشرا عاما يجعلها في متناول كل واحد منهم لأن نصوص القرآن كانت في أول هذا العهد مدونة في صحف خاصة محفوظة في بيت الرسول وبيوت بعض أصحابه ، والسنة لم تكن مدونة اصلا .
ومن جهة ثالثة : مواد القانون شرعت أحكاما لحوادث وأقضية وقعت حين تشريعها . ولم تشرع أحكاما لحوادث فرضية يحتمل وقوعها . وقد طرأت للمسلمين حاجات وحوادث وأقضية لم تطرأ في عهد الرسول ولا يوجد فيما خلفه من النصوص ما يدل علي حكمها .
لهذه الاسباي الثلاثة ، رأي العلماء من الصحابةوالرؤوس فيهم ان عليهم واجبا تشريعيا لا بد أن يقوموا به ، وهذا الواجب هو ان يبينوا للمسلمين ما يحتاج الي التبيين والتفسير من نصوص الاحكام في القرآن والسنة ، وأن ينشروا بين المسلمين ما حفظوا من آيات القرآن وأحاديث الرسول ، وان يفتوا الناس فيما يطرأ لهم من الوقائع والاقضية التي لا نص فيها .
هؤلاء العلماء من الصحابة قاموا بهذا الواجب التشريعي من بيان النصوص ونشرها ، والافتاء فيما لا نص فيه ، هم رجال السلطة التشريعية في هذا العهد ، وهم الذين خلفوا الرسول في رجوع المسلمين اليهم ، ولم يكتسبوا هذا الحق التشريعي من تعيين الخليفة او انتخاب الامة ، وانما كسبوه بمميزاتهم الشخصية التي امتازوا بها. فقد طالت صحبتهم للرسول وحفظوا عنه القرآن والسنة . وشاهدوا اسباب نزول الآيات وورود السنن ن وكثيرا منهم كانوا مستشاري الرسول في اجتهاده .
فلهذه المزايا كانوا اهلا لأن يبينوا النصوص ويجتهدوا فيما لا نص فيه ، وأهلا لأن يرجع المسلمون اليهم ويثقوا بما يصدر عنهم من بيان او افتاء .ومن اشهر هؤلاء المفتين من الصحابة :
بالمدينة الخلفاء الاربعة الراشدون ، وزيد بن ثابت ، وأبي بن كعب ، وعبد الله بن عمر ، وعائشة .
وبمكة : عبد الله بن عباس
وبالكوفة :علي بن ابي طالب وعبد الله بن مسعود .
وبالبصرة : أنس بن مالك وأبو موسي الاشعري
وبالشام :معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت.
وبمصر : عبد الله بن عمرو بن العاص وعدد من عرفوا من الصحابة بالافتاء ، وحفظت عنهم :مائة ونيف وثلاثون ما بين رجل وامرأة ن ولكن أشهرهم من ذكرنا .
وقد كان هؤلاء المفتون في اول العهد أكثريتهم العظمي بالمدينة ، وبعد ان امتدت الفتوح الاسلامية تفرقوا بالامصار . ولهذا كان التشريع في اول العهد باجتهاد الجماعة ، ثم صار باجتهاد الافراد.
مصادر التشريع في هذا العهد :
كانت مصادر التشريع في هذا العهد ثلاثة :
القرآن ، والسنة ، واجتهاد الصحابة .
فكانت اذا عرضت حادثة أو وقعت خصومة نظر أهل الفتيا من الصحابة في كتاب الله ، فإن وجدوا فيه نصا يدل على حكمها أمضوه ، وإن لم يجدوا في كتاب الله نصا وعلموا من السنة ما يدل علي حكمها أمضوه ، وإن لم يجدوا ما يدل علي حكمها في القرآن أو السنة اجتهدوا في معرفة حكمها واستنبطوه بالقياس علي ما ورد فيه النص او بما تقتضيه روح التشريع ومصالح الناس .
واتفقت كلمة المفتين من الصحابة علي الرجوع الي هذه المصادر التشريعية الثلاثة وعلي ترتيب الرجوع اليها كما ذكرنا .
ما طرأ علي مصادر التشريع :
وقد طرأ في هذا العهد علي المصدر الاول : وهو آيات الاحكام في القرآن طارئ له أثر تشريعي خالد . وهو تدوين هذه الآيات ضمن تدوين القرآن ونشرها علي المسلمين كافة بطريق قانوني رسمي بحيث صار ميسورا لكافة المسلمين أينما كانوا حفظها والعلم بنصوصها من غير اختلاف في مفرد او جملة .
- وأما المصدر التشريعي الثاني : وهو نصوص الاحكام في السنة فلم يدون في هذا العهد ، كما ان السنة لم تدون فيه ، وانقضي القرن الاول دون تدوين السنة .
مما اضطر علماء المسلمين الي بذل جهود في بحث رواة الاحاديث ودرجات الثقة بهم ، وانقسمت الاحاديث باعتبار رواتها الي احاديث قطعية الورود وأحاديث ظنية الورود ، والظنية الي صحيح وحسن وضعيف ، ووضع فن في رواية الحديث ، والفت عدة مؤلفات .
- وأما المصدر التشريعي الثالث: وهو اجتهاد بعض المفتين من الصحابة فلم يدونه أيضا من آثار هذا العهد شئ، وكان تقديرهم لفتاويهم أنها آراء فردية إن تكن صوابا فمن الله ، وإن تكن خطأ فمن أنفسهم ، وما كان واحد منهم يلزم الآخر أو يلزم اي مسلم بفتواه ، وكثيرا ما خالف عمر أبا بكر ، وكثير ما تحاج زيد بن ثابت وعبد الله بن عباس ، والوقائع التي اختلف الصحابة في أحكامها كثيرة ، وأدلتهم تدل علي مبلغ حريتهم في البحث وتحريهم جلب المصالح ودرء المفاسد .
- وكانوا في اول عهدهم أى في خلافة ابي بكر وأول خلافة عمر ، يتولون سلطتهم التشريعية فيما لا نص فيه في جمعية تشريعية مكونة من رؤوسهم ، وما يصدر عنهم من الاحكام يعتبر حكم جماعتهم .
وبهذا الاجتماع كان الاختلاف في الآراء نادرا ، لأن كل واحد من رؤوس التشريع المجتمعين يبدي للآخرين ما عنده من وجوه النظر وما يستند إليه من أدلة ووجهتهم الحق والصواب . وأكثر الأحكام التي يقال قيها إنها أجمع عليها الصحابة شرعت في هذه الفترة من هذا العهد .
- أما بعد أن فتح الله للمسلمين كثيرا من البلاد وتفرق رؤوس الصحابة في مختلف الامصار ، وصار غير ميسور للخليفة بالمدينة أن يجمع هؤلاء الرؤوس ، من الكوفة والبصرة والشام ومصر وغيرها كلما عرضت واقعة ليس فيها نص من القرآن أو السنة ، فقد أخذ رجال التشريع من الصحابة يتولون سلطتهم التشريعية أفرادا أو جماعات ، وكان بكل مصر من أمصار المسلمين واحد أو أكثر تصدر عنهم الفتوي فيما لا نص فيه والتبيين والتفسير للنصوص .
ومن النتائج الحتمية لهذا أن يقع اختلاف بينهم في أحكام كثيرة من الوقائع لعدة أسباب :
أولها : أن نصوص الأحكام في القرآن والسنة ليست قطعية الدلالة علي المراد منها ، بل هي ظنية الدلالة ، وكما تحتمل أن تدل علي معني تحتمل أن تدل علي معني آخر ، بسب أن في النص لفظا مشتركا لغة بين معنيين أو أكثر . أو أن فيه لفظا عاما يحتمل التخصيص . او لفظا مطلقا يحتمل التقييد . فكل مشرع يفهم منه حسب ما ترجح عنده من القرائن ووجهات النظر .والجزئيات التي اختلفوا فيها بناء علي اختلافهم في فهم النص كثيرة جدا .
وثانيها : أن السنة لم تكن مدونة ولم تجتمع الكلمة علي مجموعة منها وتنشر بين المسلمين لتكون مرجعا لهم علي السواء ، بل كانت تتناقل بالرواية والحفظ ، وربما علم منها المفتي في مصر ما لم يعلمه المفتي في دمشق . وكثيرا ما كان يرجع بعض المفتين منهم عن فتواه إذا علم من الآخر سنة لم يكن يعلمها .
وثالثها : أن البيئات التي يعيشون فيها مختلفة والمصالح والحاجات التي يشرعون لها متفاوتة ، فعبد الله بن عمر بالمدينة لا يطرأ له ما يطرأ لمعاوية بن ابي سفيان في الشام ،ولا ما يطرأ لعب الله بن مسعود بالكوفة . فبناء علي اختلاف البيئات اختلفت الانظار في تقدير المصالح والبواعث علي تشريع الاحكام .
فلهذه الاسباب الثلاثة وجدت فتاوي مختلفة للصحابة في الواقعة الواحدة ، ولكل واحد منهم دليل علي ما أفتي به .
وقد كانت خطتهم في المبادئ التشريعية العامة التي راعوها في تشريعهم هي الخطة الاسلامية وهي الاقتصار علي تشريع ما تدعو اليه الحاجة فقط ، وعدم سبق الحوادث بالتشريع ، ومسايرة المصالح ، ورعاية التيسير والتخفيف .
ما خلفه هذا العهد من الآثار التشريعية :
الاثار التشريعية التي خلفها هذا العهد ثلاثة :
الاول : شرح قانوني لنصوص الأحكام في القران والسنة ، فإن مجتهدي الصحابة لما بحثوا في هذه النصوص لتطبيقها علي الوقائع تكونت لهم آراء في فهمها وما يراد منها ، وكانوا في تقدير آرائهم يستندون الي ملكتهم اللسانية ، وملكتهم التشريعية ، وما وقفوا عليه من حكم التشريع وأسباب نزول القرآن ، وورود السنة . فمن مجموعة هذه الآراء تكون شرح قانوني لنصوص الاحكام يعد أوثق مرجع لتفسيرها وبيان اجمالها ووجوه تطبيقها ويتجلي هذا في كتب تفسير القرآن بالمأثور كتفسير محمد بن جرير الطبري .
والثاني : عدة فتاوي اجتهادية صدرت من الصحابة في وقائع لا نص علي حكمها .
وبهذا الاستنباط شرعوا أحكاما كثيرة في وقائع عديده في مختلف البلدان .وقد عني بعض رجال الحديث في اول العهد بتدوين السنة ، بأن يدونوا فتاوي الصحابة في مختلف ابواب احكام السنة ، وسيتبين في العهد التشريعي الثالث ان الاحتجاج بهذه الفتاوي كان موضع اختلاف الائمة ، فمنهم من لا يخرج عنها ومنهم من يخالفها .
- وهذه نبذة في التعريف بأشخاص بعض رؤوس التشريع من الصحابة وهم :
زيد بن ثابت من رؤوس التشريع بالمدينة ، وعبد الله بن عباس رأس التشريع بمكة توفي بالطائف سنة 68 هـ ، وعبد الله بن مسعود رأس التشريع بالعراق ، قدم المدينة آخر عمره وتوفي بها سنة 32 هـ ، وعبد الله بن عمرو بن العاص رأس التشريع بمصر ، توفي بمصر سنة 77 هـ.
يليه الجزء الثالث وفيه فترة الائمة المجتهدين رضوان الله عليهم .
3 - عهد التدوين والائمة المجتهدين :
هذا العهد ابتدأ في أول القرن الثاني الهجري وانتهي في أواسط القرن الرابع الهجري فهو بالتقريب 250 سنة .
وسمي عهد التدوين والائمة المجتهدين لأن حركة الكتابة والتدوين نشطت فيه ، فدونت السنة ، وفتاوي المفتين من الصحابة والتابعين وتابعيهم وموسوعات في تفسير القرآن وفقه الائمة المجتهدين ، ورسائل في علم اصول الفقه ، ولأن مواهب عدد كبير من رجال الاجتهاد والتشريع ظهرت فيه وسرت فيهم روح تشريعية كان لها اثر خالد في التقنين واستنباط الاحكام لما وقع وما يحتمل وقوعه .
وهذا هو العهد الذهبي للتشريع الاسلامي فقد نما فيه ونضج ، وأثمر ثروة تشريعية أغنت الدولة الاسلامية بالقوانين والاحكام علي سعة ارجائها واختلاف شؤونها وتعدد مصالحها .
- والاسباب التي أدت الي نمو الفقه الاسلامي ونشاط حركة الاجتهاد في هذا العهد كثيرة ولكن أهمها ما يأتي :
أولا : أن الدولة الاسلامية في هذا العهد اتسعت رقعتها ، وتباعدت اطرافها وشملت برعايتها كثيرا من الشعوب المختلفة والاجناس والعادات والمعاملات والمصالح لأن حدود الدولة الاسلامية امتدت شرقا الي الصين وغربا الي بلاد الاندلس .وهذه البلدان لا بد لها من قوانين يرجع اليها قضاتها وولاتها ، وفتاوي يرجع اليها أفرادها ولا مصدر لهذا التقنين والافتاء الا مصادر الشريعة .لهذا بذل العلماء جهودهم في الرجوع الي هذه المصادر ، واستمدوا من نصوص الشريعة وروحها ، وما أقامه الشارع من دلائلها ، أحكام ما طرأ للدولة ، من مصالح وحاجات ، بل زاد نشاطهم فشرعوا احكاما لحوادث فرضية ، وبهذا النشاط لم يضق التشريع الاسلامي بحاجة ولم يقصر عن مصلحة . والنشاط السياسي سيبث روح النشاط في كل شؤون الدولة .
وثانيا : إن الذين تصدوا للتقنين والافتاء في ذلك العهد وجدوا طرق التشريع ممهدة ، وصعابة ميسرة ، لأنهم وجدوا المصادر التشريعية في متناولهم ووجدوا كثيرا من الوقائع والمشاكل قد عالجها سلفهم من قبلهم . فالقرآن مدون ومنشور بين خاصة المسلمين وعامتهم ، والسنة مدون أكثرها من بدء القرن الثاني الهجري .
وكذلك فتاوي الصحابة والتابعين ، فاليسر الذي وجده مجتهدوا ذلك العهد في رجوعهم الي القرآن والسنة .والنور الذى لمحوه من فتاوي سلفهم من الصحابة وتابعيهم ، ومن آثارهم في تفسير النصوص كانا من عوامل نشاطهم ، ووفرة إنتاجهم والخلف يستثمر عقله وعقل سلفه .
وثالثا : إن المسلمين في ذلك العهد كانوا شديدي الحرص علي أن تكون جميع أعمالهم من عبادات ومعاملات وعقود وتصرفات علي وفق أحكام الشريعة الاسلامية , فلهذا كانوا في كلياتهم وجزئياتهم يرجعون الي أولي العلم والفقه يستفتونهم عن الحكم الشرعي .ومن هذا اتصلت جهودهم ونما انتاجهم .
رابعا : إن ذلك العهد نشأت فيه أعلام لهم مواهبهم واستعدادتهم ، وساعدتهم البيئة التي عاشوا فيها علي استثمار هذه المواهب والاستعدادات . فتكونت الملكة التشريعية لكثير من أفذاذهم أمثال أبي حنيفة وأصحابه ، ومالك وأصحابه والشافعي وأصحابه ، وأحمد وأصحابه وغيرهم من معاصريهم من الائمة المجتهدين واقتدوا بهذه الملكات علي تنمية الفقه الاسلامي وسد الحاجة التشريعية للدولة .
من تولي سلطة التشريع في هذا العهد :
في أواخر القرن الاول لازم الصحابة الذين تصدوا للافتاء والتشريع في مختلف الامصار جماعة من التابعين أخذوا عنهم القرآن ، ورووا عنهم السنة ، وحفظوا فتاويهم ، وفهموا منهم أسرار التشريع ، وطرق الاستمداد للاحكام ، وهؤلاء التابعون منهم من كان يستفتي ويفتي في حياة الصحابة أنفسهم مثل سعيد بن المسيب بالمدينة وعلقمة بن قيس ، وسعيد بن جبير بالكوفة ، حتي أنه روي أن عبد الله بن عباس كان اذا حج أهل الكوفة واستفتوه قال لهم : اليس فيكم سعيد بن جبير .
- وقد لازم هؤلاء التابعين في حياتهم جماعة من تابعي التابعين تلقوا عنهم ما تلقوه عن الصحابة ، من القرآن والسنة ، وأخذوا عنهم ما علموه من الفقه وأسرر التشريع . ولازم تابعي التابعين ، جماعة من طبقة الائمة الاربعة المجتهدين ، ومعاصريهم من رجال التشريع .
- فلما انقرض رجال التشريع من الصحابة خلفهم في تولي سلطة التشريع تلاميذهم من التابعين ، وخلف هؤلاء تلاميذهم من تابعي التابعين ، وخلف هؤلاء تلاميذهم من الائمة الاربعة المجتهدين وأقرانهم .
- فكان رجال التشريع في كل مصر من أمصار المسلمين طبقات ، وكل طبقة يعد رجالها تلاميذ لسلفهم وأساتذة لخلفهم ، ومن لازموا المشرعين في حياتهم ، وأخذوا عنهم علمهم وفقههم تصدوا لإفتاء الناس من بعدهم ، والقيام بما كان يقوم به أساتذتهم ، وبهذا اتصلت حركة التشريع في الامصار .
- ففي المدينة : أشهر أساتذة التشريع من الصحابة عمر بن الخطاب ، وعلي بن ابي طالب ، وعبد الله بن عمر ، وزيد بن ثابت .وأشهر تلاميذ هؤلاء : سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ، وسائر فقهاء المدينة السبعة .
وأشهر تلاميذ هؤلاء : محمد بن شهاب الزهري ، ويحيي بن سعيد
وأشهر من خلف هؤلاء : مالك بن أنس وأقرانه .
- وفي مكة : أشهر أساتذة التشريع من الصحابة عبد الله بن عباس
وأشهر تلاميذه :عكرمة ومجاهد وعطاء .
وأشهر تلاميذهم : سفيان بن عيينة ومفتي الحجاز مسلم بن خالد .
وأشهر من خلف هؤلاء : الشافعي في حياته الاولي .
- وفي الكوفة : أشهر أساتذة التشريع من الصحابة عبد الله بن مسعود .
وأشهر تلاميذه : علقمة بن قيس والقاضي شريح .
وأشهر تلاميذهما : إبراهيم النخعي
وأشهر تلاميذه حماد بن ابي سليمان أستاذ أبي حنيفة وأصحابه .
- وفي مصر: أشهر أساتذة التشريع من الصحابة : عبد الله بن عمرو بن العاص . وأشهر تلاميذه : الليث بن سعد وأقرانه من بني عبد الحكم .
وأشهر من خلف هؤلاء : الشافعي في حياته الاخيرة .
- ولم يكتسب رجال التشريع من كل طبقة من هذه الطبقات سلطة التشريع من تعيين الخليفة او انتخاب الامة ، وانما وثق المسلمون بهم كما وثقوا بأساتذتهم من الصحابة واطمأنوا الي عدالتهم وضبطهم وعلمهم وفقههم فرجعوا اليهم يسألهم الولاة والقضاة في الاقضية والخصومات ، ويستفتيهم الافراد في وقائعهم . وما يطرأ لهم من حاجات ، وكانت كل طبقة يرث سلفها العلم والثقة واطمئنان المسلمين الي بيانهم النصوص وفتاويهم فيما لا نص فيه .
- وكان أكثر رجال التشريع في هذا العهد يقومون بتدريس العلوم الشرعية ورواية الحديث ، ومنهم من ولي القضاء مثل شريح والشعبي وأبي يوسف . ومنهم من كان يتجر كأبي حنيفة . فلم يكن الافتاء وظيفة ينقطع لها المفتي . وانما كان واجبا يتصدي للقيام به من آنس في نفسه القدرة علي أدائه مع اشتغاله بوظيفته او تجارته او دراسته .
- مصادر التشريع في هذا العهد :
كانت مصادر التشريع في هذا العهد أربعة : القرآن والسنة والاجماع والاجتهاد بالقياس او بأي طريق من طرق الاستنباط .
فكان المفتي اذا وجد نصا في القرآن او السنة يدل علي حكم ما استفتي فيه وقف عند النص ولا يتعدى حكمه ، واذا لم يجد في الواقعة نصا ووجد سلفه من المجتهدين أجمعوا في هذه الواقعة علي حكم ، وقف عنده وأفتي به واذا لم يجد نصا علي حكم الواقعة ولا اجماعا علي حكم فيها اجتهد واستنبط الحكم بالطرق التي ارشد اليها الشارع للاستنباط .
- ما طرأ علي مصادر التشريع :
وقد طرأ علي المصدر التشريعي الاول وهو القرآن في هذا العهد طارئان لهما أثرهما في حفظه وضبطه وصونه من أي تحريف .
الاول : عناية طائفة من المسلمين بحفظه جميعه ، وتصديهم لتلقي الحفاظ عنهم ، وأشهر هؤلاء القراء السبعة الذين اشتهروا بالحفظ والضبط والاتقان . وما انقرضوا في القرن الثاني الهجري الا وقد خلفهم في الحفظ والضبط تلاميذهم . وخلف هؤلاء تلاميذهم واتصل سند الحفاظ الذين تنافسوا في الضبط وساعدوا علي ازدياد حفظة القرآن والتنافس في حفظه ان تلاوته عبادة وانه يتلي كل صلاة .
والطارئ الثاني : ادخال الاصلاح في رسم كتابته وشكل حروفه ، وذلك ان المصحف الذي دون في عهد عثمان بن عفان ومنه نسخت عدة مصاحف ووزعت في الامصار كان مكتوبا بالخط الكوفي بلا نقط ولا شكل ، وكان الاعتماد في قراءته علي التلقي من الحفظه .
- وهذا الاصلاح والتهذيب في رسمه وشكله وتمييز كل حرف بما يعين علي النطق به صحيحا تمت للمصدر التشريعي الاول وسائل التكميل والضبط والتيسير .
- وأما المصدر التشريعي الثاني وهو السنة فقد طرأ عليه ايضا في اول هذا العهد طارئ له اثر تشريعي عظيم ، وذلك ان الخليفة عمر بن عبد العزيز كتب في عهد خلافته الي والي المدينة ابي بكر محمد بن عمر بن حزم "انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه فاني خفت دروس العلم وذهاب العلماء " وكلف ايضا بهذا التدوين محمد بن شهاب الزهري . فقام كل منهما بتدوين ما استطاع تدوينه من السنة ، وبهذا بدأ تدوين نصوص المصدر التشريعي الثاني بعد ان لبثت في القرن الهجري الاول كله يرجع اليها في صدور رواتها وحفاظها فقط .
- وتتابع علي هذا التدوين كثير من العلماء . ففي سنة 140 هـ دون الامام مالك بن أنس كتابه "الموطأ" في صحيح الحديث بناء علي طلب الخليفة المنصور . وفي القرن الثاني الهجري دون أصحاب المسانيد في السنة مسانيدهم . والمسند هو ما تجمع فيه الاحاديث حسب رواتها فيجمع ما رواه عمر علي حدة ، وما رواه أبو بكر علي حدة ، بصرف النظر عن موضوع الحديث ، وأقدم ما وصل الينا منها مسند الامام احمد .
- وفي القرن الثالث الهجري دونت كتب صحاح الستة وهي : صحيح البخاري ، ومسلم ، وابي داود ، والنسائي والترمذي ، وابن ماجه . واذا قيل في الحديث رواه الستة ، او متفق عليه ، فالمراد انه رواه هؤلاء جميعهم ، ودون كثير غير هؤلاء عدة مجاميع في السنة .
- ولكن هذا التدوين الذي حفظ السنة من الضياع لم يؤد الي جمع المسلمين علي مجموعة واحدة من السنة تكون مرجعا لخاصتهم وعامتهم علي السواء كما جمعت كلمتهم علي مجموعة واحدة من نصوص القرآن ، ولهذا بقيت السنة بعد تدوينها فيها مجال للاختلاف ، واليها منفذ للوضع والافتراء ، وقد فكر الخليفة المنصور العباسي في ان يكون مجموعة من السنة وينشرها بين المسلمين ويجمع كلمتهم عليها والرجوع اليها ، فأمر مالك بن انس ان يكتب من السنن كتابا يتجنب فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر ، فكتب الامام مالك كتابه "الموطأ" ، وأراد المنصور أن ينفذ فكرته ويحمل الناس علي الرجوع اليه وحده ، فقال له مالك : لا سبيل الي ذلك يا أمير المؤمنين لأن الصحابة افترقوا بعد الرسول كل يتبع ما صح عنده , وكلهم علي هدى وكلهم يريد الله ، فعدل المنصور عما اراد .
- أسباب اختلاف الائمة المجتهدين وتكوين المذاهب :
يرجع اختلاف الخطة التشريعية للأئمة المجتهدين الي اختلافهم في امور ثلاثة : الاول : في تقدير بعض المصادر التشريعية .
والثاني : في النزعة التشريعية .
والثالث : في بعض المبادئ اللغوية التي تطبق في فهم النصوص .
- فأما اختلافهم في تقدير بعض مصادر التشريع فقد ظهر فيما يأتي :
أولا : في طريق الوثوق بالسنة والميزان الذي ترجح به رواية علي رواية ، وذلك ان الوثوق بالسنة مبني علي الوثوق برواتها وكيفية روايتها . وقد اختلف الائمة في طريق هذا الوثوق .
- فمجتهدو العراق : ابو حنيفة وأصحابه يحتجون بالسنة المتواترة والمشهورة ويرجحون ما يرويه الثقات من الفقهاء ولهذا قال ابو يوسف ، وعليك بما عليه الجماعة من الحديث وما يعرفه الفقهاء .
- ومجتهدو المدينة : مالك وأصحابه يرجحون ما عليه أهل المدينة بدون اختلاف ويتركون ما خالفه من اخبار الآحاد .
- وباقي الائمة : يحتجون بما رواه العدول الثقات من الفقهاء وغير الفقهاء وافق عمل أهل المدينة أو خالفه .
- وترتب علي هذا ان مجتهدى العراق جعلوا المشهور في حكم المتواتر وخصصوا به العام في القرآن وقيدوا به المطلق فيه ، وغيرهم لم يجعلوا له هذه القوة .
-وترتب أيضا ان الحديث المرسل وهو ما رواه الصحابي بقوله أمر رسول الله بكذا ، او نهي عن كذا ، او قضي بكذا ، من غير ان يصرح بأنه سمع ذلك بنفسه او شافهه او شاهده ، يحتج به بعض رجال التشريع ولا يحتج به بعضهم . فهذا الاختلاف في طريق الوثوق بالسنة ادي الي ان بعضهم احتج بسنة لم يحتج بها الآخر ، وبعضهم رجح بسنة هي مرجوحة عند الآخر وعن هذا نشأ اختلاف الأحكام .
وثانيا : في فتاوي الصحابة وتقديرها : فإن الائمة اختلفوا في الفتاوي الاجتهادية التي صدرت عن افراد الصحابة .
- فابو حنيفة ومن تابعه خطته بالنسبة اليها ان يأخذ بأية فتوى منها ولا يتقيد بواحدة معينة ولا يخرج
عنها جميعا .
- والشافعي ومن تابعه خطته بالنسبة اليها انها فتاوي اجتهادية فردية صادرة من غير معصومين فله ان يأخذ بأية فتوى منها ، وله ان يفتي بخلافها كلها ,وعن هذا نشأ ايضا اختلاف في الاحكام .
ثالثا : في القياس : فإن بعض المجتهدين من الشيعة والظاهرية انكروا القياس ونفوا أن يكون مصدرا للتشريع ولهذا سموا : نفاة القياس . وجمهور الائمة احتجوا بالقياس وعدوه المصدر التشريعي بعد القرآن والسنة والاجماع ولكنهم مع اتفاقهم علي انه حجة اختلفوا فيما يصلح ان يكون علة للحكم ويبني عليه القياس . ونشأ عن هذا ايضا اختلاف في الاحكام .
وأما اختلافهم : في النزعة التشريعية ، فقد ظهر في انقسامهم الي فريق :
- أهل الحديث ومنهم أكثر مجتهدي الحجاز .
- وفريق أهل الرأي : ومنهم أكثر مجتهدي العراق .
- وليس معني هذا الانقسام ان فقهاء اهل العراق لا يصدرون في تشريعهم عن الحديث ، وان فقهاء الحجاز لا يصدرون في تشريعهم عن الاجتهاد بالرأي ، لأنهم جميعا متفقون علي ان الحديث حجة شرعية ملزمة ، وان الاجتهاد بالرأي أي بالقياس حجة شرعية فيما لا نص فيه .
- وإنما معني هذا الانقسام وسبب هذه التسمية ان فقهاء العراق أمعنوا النظر في مقاصد ا لشارع وفي الاسس التي بني عليها التشريع ، فاقتنعوا بأن الاحكام الشرعية معقول معناها ومقصود بها تحقيق مصالح الناس . وبأنها تعتمد علي مبادئ واحدة وترمي الي غاية واحدة ، وهي لهذا لا بد ان تكون متسقة ولا تعارض ولا تباين بين نصوصها وأحكامها . وعلي هذا الاساس يفهمون النصوص ويرجحون نصا علي نص ، ويستنبطون فيما لا نص فيه ولو أدي استنباطهم علي هذا الاساس الي صرف نص عن ظاهره .أو ترجيح نص علي آخر أقوى منه رواية حسب الظاهر
وهم من أجل هذا لا يتحرجون من السعة في الاجتهاد بالرأي ، ويجعلون له مجالا في أكثر بحوثهم التشريعية .
- أما فقهاء الحجاز فقد عنوا بحفظ الاحاديث وفتاوي الصحابة ، واتجهوا في تشريعهم الي فهم هذه الآثار حسبما تدل عليه عبارتها ، وتطبيقها علي ما يحدث من الحوادث غير باحثين فى علل الاحكام ومبادئها ، فإذا وجدوا ما فهموه من النص لا يتفق مع ما يقتضيه العقل لم يبالوا بهذا وقالوا هو النص . وكانوا من اجل هذ يتحرجون من الاجتهاد بالرأي ولا يلجأون اليه الا عند الضرورة القصوي .
مثلا : ورد في الحديث ان في كل اربعين شاة شاة . وان صدقة الفطر صاع من تمر او شعير ، وان من رد الشاة المصراة بعد احتلاب لبنها رد معها صاعا من تمر .
فقهاء العراق : يفهمون من هذه النصوص علي ضوء معناها المعقول ومقصد الشارع من تشريعها . وهو ان المالك أربعين شاة يجب عليه ان ينفع الفقراء بواحدة أو ما يعادلها ، وأن المتصدق بصدقة الفطر يجب عليه أن ينفعهم بصاع من تمر أو ما يعادلها . واللبن المحتلب يضمن بمثله أو قيمته وليس خصوص الشاة او الصاع مقصودا للشارع . فمن تزكي بقيمة الشاة او تصدق بقيمة الصاع أو ضمن لبن المصراة بقيمته أجزأه لأن المقصود نفع الفقراء وتعويض المال المتلف .
- أما فقهاء الحجاز : فيفهمون هذه النصوص حسبما تدل عليه عبارتها الظاهرة ولا يبحثون في علة التشريع ولا يتجهون الي التأويل بناء علي مراعاة العلل المعقولة . وعلي هذا يوجبون الشاة بخصوصها ، والصاع بخصوصه ، ولا يجزئ في مذهبهم القيمة .
وأهم الاسباب التي أدت الي اختلاف هاتين النزعتين هي :
1 – ان الاحاديث وفتاوي الصحابة لم تكن كثيرة في العراق كثرتها في الحجاز . فالحجازيون وجدوا عندهم ثروة من الآثار اعتمدوا عليها في تشريعهم وركنوا اليها . وأما فقهاء العراق فلم تكن لديهم هذه الثروة فاعتمدوا علي عقولهم ، واجتهدوا في تفهم معقول النص وعلة التشريع لتتسع معاني النصوص لما لم تتسع له الفاظها ، وأسوتهم في هذا أستاذهم عبد الله بن مسعود .
2 – إن العراق كانت فيها الفتن التي أدت الي افتراء الاحاديث وتحريفها لأنها كانت مهد الشيعة ومقر الخوارج ، وقد شاهد فقهاء العراق من الجرأة علي وضع الاحاديث والتحريف فيها ما لم يشاهده فقهاء الحجاز ، فلهذا تشددوا في قبول الرواية والتزموا أن يكون الحديث مشهورا بين أهل الفقه وإذا وجدوا حديثا يفهم منه ما لا يتفق وحكمة الشارع أولوه أو تركوه .
3 – إن بيئة العراق غير بيئة الحجاز ، والاقضية والحوادث في البلدين مختلفة لأن دولة الفرس خلفت في العراق أنواعا من المعاملات والعادات والنظم لا يعهد مثلها في بلاد الحجاز فكان مجال الاجتهاد في العراق ذا سعة ، وأفق البحث ممتدا ، ولهذا تكونت في فقهاء العر اق ملكة البحث والتفكير وبدت لهم وجوه عديدة من الرأي والنظر في التشريع . وأما فقهاء الحجاز فقلما حدث لهم ما يحدث لسلفهم من التابعين والصحابة لأن البيئة واحدة وقلما حدث لهم ما لم يحفظوا في حكمه حديثا أو فتوي صحابي .
فلما لم يجدوا للاجتهاد المجال الذي وجده العراقيون اعتادوا فهم النصوص من علي ظواهرها ولم تدعهم الحاجة الي البحث في عللها او التعمق في مقاصدها .
وأما اختلافهم في بعض المبادئ الاصولية اللغوية فقد نشأ من اختلاف وجهات النظر في استقراء الاساليب العربية .
يليه بإذن الله تعالي عهدالتقليد وهو آخر الكتاب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق