وانت تقرأ هذا الموضوع استمع لتلاوة الشيخ علي جابر يعتبر من افضل القراء في العالم الاسلامي رحمه الله
ملخص كتاب الرفع والتكميل في الجرح والتعديل للشيخ محمد أبو الهدى اليعقوبي
التحصيل (الكتاب كاملا)
لفوائد الرفع والتكميل في الجرح والتعديل
للشيخ محمد أبو الهدى اليعقوبي
مقدمة
الحمد لله الذي خص العلماء بالرفع والتكميل، وشرفهم بالمدح في محكم التنزيل، والصلاة والسلام على أجل الناس قدرا وأرفعهم ذكرا سيدنا محمد وآله الأطهار وصحبه الأخيار من المهاجرين والأنصار.
أما بعد فإني رأيت كتاب الرفع والتكميل في الجرح والتعديل للإمام أبي الحسنات محمد عبد الحي الأنصاري اللكنوي المتوفى سنة ١٣٠٤ عن أربعين سنة كتابا جليل القدر لا غنى لطالب العلم عنه، وقد زاد في نفاسته العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله إذ حلاه بالحواشي الفريدة والاستدراكات اللطيفة. غير أن حجم الكتاب قد زاد بالاستطراد حتى كاد يفوت منه المراد، وصار الطالب يحتاج في مطالعته إلى وقت طويل، وصبر في استخراج المسائل جميل. وكنت قد قرأته قديما في أيام، وطالعت فيه بعد ذلك على مر الأعوام.
فأحببت اليوم أن أجمع فرائده في صفحات معدودات، وأقتنص من خرائده الحور المقصورات، مع درر من كلام المحقق في الحواشي والتعليقات، مما تمس الحاجة إليه، ولا غنى للطالب عن الاطلاع عليه. فجاء بحمد الله جزءًا لطيفا، يجمع ما لا غنى عنه من أصول هذا العلم، يقرؤه العالم في مجلس واحد، ليستذكر ما غاب عنه من الفوائد، ويحفظه طالب العلم حفظ التنزيل، ليضبط قواعد الجرح والتعديل. وسميت هذا الاختصار والتهذيب: التحصيل لفوائد الرفع والتكميل في الجرح والتعديل، وقد اعتمدت فيه على الطبعة السابعة للكتاب.
وقد أطال المصنف رحمه الله في مباحث الإرجاء، واستطرد في رد الطعن على أبي حنيفة، بما هو بغير هذا الكتاب أولى، وإلى سواه من العلوم أقرب، فاقتصرت من ذلك على ما يُحتاج إليه في هذا الفن. وقد أبان العلامة المحقق رحمه الله في التعليقات عن علم غزير واطلاع واسع، وطرز حواشي الكتاب بدرر، هي في صحائف العلوم طرر، وفي جبين التحقيق غرر، ولكنه أطال في ذلك النفَس، والطالب يكتفي بشهابٍ قبَس، فلم أنقل من حواشيه إلا ما رأيت له مسيس اتصال بمباحث الأصل. وراجعت بعض النصوص على ما بين يدي من الأصول، ولم أُخْلِ هذا المختصر من نظر واستدراك، أو تصحيح أو تعقيب، وزدت فوائد عديدة، وقدمت بين يدي الكتاب بمدخل مفصل، شرحت فيه المبادئ العشرة لعلم الجرح والتعديل، فإني لم أر من تعرض للكلام فيها، مع شدة الاحتياج إلى بيان معانيها، لتزداد فوائد هذا التلخيص، ولا يباع معها بثمن رخيص.
والله تعالى هو المأمول أن يمن علينا فيه بالقبول، وأن يتغمد بالرحمة المؤلف الجليل ويجزل الثواب للمحقق النبيل، وأن يجزي بالخير من أحسن فينا الظن، وغض عن تقصيرنا الطرف، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
قاله بفمه ورقمه بقلمه خادم العلم الشريف محمد أبو الهدى اليعقوبي برباط الفتح في المملكة المغربية حرسها الله تعالى لثلاث ليال بقين من شهر صفر الخير من سنة ١٤٣٥ قبل رأس سنة ٢٠١٤ المسيحية بيوم.
مدخل
المبادئ العشرة لعلم الجرح والتعديل
قال الإمام شهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني المالكي المتوفى سنة ١٠٤٠ في منظومته "إضاءة الدجنة في اعتقاد أهل السنة":
من رام فنّــًا فليقدم أولا
علمــًا بحده وموضوعٍ تلا
وواضعٍ ونسبةٍ وما استمدّ
منه وفضلِه وحكمٍ يُعتمد
واسمٍ وما أفادَ والمسائلْ
فتلك عشرٌ للمنى وسائل
وبعضهم منها على البعض اقتصرْ
ومن يكن يدري جميعًا انتصرْ
تعريفه:
هو علم يبحث في أحوال الرواة من حيث ما يعرض لهم مما يؤثر في قبول الرواية وردها. ولم نقل يبحث في جرح الرواة وتعديلهم لما يلزم على ذلك من الدور. وقيدنا البحث في أحوال الرواة بأنه من حيث ما يعرض لهم مما يوثر في قبول الرواية وردها لنخرج بقية العلوم المتعلقة بأحوال الرواة كالطبقات والتراجم والتاريخ والسابق واللاحق وغير ذلك. وقيدنا ما يعرض لهم بكونه مؤثرا في قبول الرواية وردها إذ ليس من متعلقات هذا الفن البحث في عامة ما يعرض للرواة إن لم يكن له مدخل في العدالة.
ولم يذكره الجرجاني في التعريفات ولا الكفوي في الكليات، ولا التهانوي في الكشاف. وعرفه حاجي خليفة في كشف الظنون ونقله عنه صديق حسن خان في أبجد العلوم، قال: هو علم يُبحث فيه عن جرح الرواة وتعديلها بألفاظ مخصوصة وعن مراتب تلك الألفاظ. وهو التعريف المتداول اليوم، فقد نقله المعلِّمي في مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم. وقد تقدم ما فيه من الدور، وهو منتقد عندنا أيضا أولا بكون العلم إنما وضع لكشف أحوال الراوي من خلال النظر فيه وفي حديثه، والحكم عليه بالجرح أوالتعديل هو ثمرة ذلك النظر. وثانيا بأن تقييد الجرح والتعديل بألفاظ مخصوصة تحصيل حاصل، وبأن بيان مراتب تلك الألفاظ هو من توابع البحث في أحوال الرواة.
والجَرح لغةً: مصدرُ جَرَحَ يَجْرَحُ من الباب الثالث، لامُه حرفُ حلقٍ، ومعناه: التأثير في البدن بشَقّ ونحوه، قال في اللسان: "جرحه يجرحُه جَرْحًا: أثر فيه بالسلاح" . واستُعمل مجازًا في المعاني كما في البيت المشهور:
جراحاتُ السِّنان لها التئامٌ ولا يلتامُ ما جرحَ اللسانُ
جاء في اللسان: ويقال: جَرَحَ الحاكمُ الشاهدَ إذا عثر منه على ما تسقطُ به عدالته من كذب وغيره. وقد قيل ذلك في غير الحاكم فقيل: جرحَ الرجلَ غضّ شهادتَه.
والجَرحُ اصطلاحًا: وصف الراوي بما يؤثر في قبول روايته.
والتعديل لغةً: مصدر عدّل بتشديد عينه فعل مضعّف، ومعناه في المحسوسات التقويم والتسوية قال الله تعالى: {الّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَّلَكَ} بالتشديد وهي قراءة عامة قراء المدينة ومكة والشام والبصرة أي جعلك معتدلا معدّل الخَلق مقوَّمًا، وقرأ أهل الكوفة بالتخفيف، كما في تفسير ابن جرير الطبري. واستُعمل في المعاني المجردة كما في اللسان بمعنى التزكية، قال: وتعديل الشهود: أن تقول إنهم عدول، وعدّل الحكمَ أقامه، وعدّل الرجلَ: زكاه. والعدَلَةُ والعُدَلة: المزكون، الأخيرة عن ابن الأعرابي، ثم قال: وقدعَدُل الرجلُ عدالة.
والتعديلُ اصطلاحًا: وصف الراوي بما يفيد قبول روايته.
موضوعه:
رواة الحديث ونقلة الأخبار، من حيث القبول والرد.
واضعه:
الكلام في الرجال جرحًا وتعديلاً ثابتٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه والتابعين، وربما كان محمد بن سيرين (-١١٠) أولَ من نبه إلى وجوب النظر في الأسانيد، فقد أخرج الترمذي في آخر الشمائل عنه: "إن هذا الحديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"، وأخرجه مسلم في مقدمة الصحيح بلفظ: "إن هذا العلم دين". وأخرج عنه أيضا: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سَمُّوا لنا رجالَكم، فيُنظرَ إلى حديث أهل السنة فيُؤخذَ حديثُهم، ويُنظرَ إلى حديث أهل البدع فلا يُؤخذَ حديثُهم". ونص ابن رجب في شرح العلل على أنه أول من انتقد الرجال وميز الثقات. واختُلف في المراد بالفتنة ،وأرجح الأقوال عندنا ما روي عن النخعي أنها فتنة المختار بن أبي عُبيد الثقفي.
وربما كان شعبة بن الحجاج (٨٢-١٦٠) أولَ من انصرف للاشتغال بالجرح والتعديل والنظر في الأسانيد والمعارضة بين الروايات، قال ابن الصّلاح رحمه الله في المقدمة: "أول من تكلم فِي الرجال شُعبةُ بن الحجاج ثم تبعه يحيى بنُ سعيد القطانُ ثم بعده أحمد بنُ حنبلٍ ويحيى بنُ معينٍ وهؤلاءِ. قلت: يعني أنه أول من تَصدَّى لذلك وعُنِي به". وقد عقد ابن أبي حاتم الرازي في تقدمة الجرح والتعديل بابًا في: "ما ذُكر من علم شعبة بناقلة الآثار وكلامِه فيهم على حروف الهجاء".
وأول من دَوّن فيه الإمام يحيى بن سعيد القطان (١٢٠-١٩٨)، قال الذهبي في الميزان: "أول من جمع في ذلك الإمام يحيى بن سعيد القطان وتكلم فيه بعده تلامذتُه يحيى بن معين وعلي بن المديني وأحمد بن حنبل وعمرو بن علي القلانسي وأبو خيثمة زهير وتلامذتهم" ويحيى القطان من تلاميذ شعبة.
نسبته إلى غيره من العلوم:
هو أداة يُحتاج إليها في الحديث، فلا يتوصل إلى إثبات الحديث إلا به، فهو آلة للتحقق من الأحاديث والروايات ومعرفة مراتبها لا غنى عنها.
استمداده:
من الكتاب والسنة وعلم التاريخ والتراجم. أما استمداده من الكتاب والسنة فذلك في الاستدلال على أصول الجرح والتعديل نحو الآية: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}، وحديث البخاري: "بئس أخو العشيرة" وحديث مسلم: "أما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له". وفي التعديل نحو قوله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} والحديث المتواتر: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". وأما استمداده من علم التاريخ فذلك في معرفة تواريخ الولادة والرحلة والوفاة ونحوها، واستمداده من التراجم في معرفة شيوخ الراوي ومن لقيه وأين لقيه وفي أي سنة لقيه.
وأما علاقته بعلم مصطلح الحديث فإنه فرع عنه لكنه خادم له، فلا يمكن للمحدث أن يحكم على حديث أنه صحيح أو حسن أو ضعيف أو ثابت أو موضوع إلا بعد النظر في كلام أئمة الجرح والتعديل في رجال إسناده.
أما وسائل هذا العلم المؤديةُ إلى معرفة أحوال الرواة من المعاصرين مما لم يذكر في تاريخ فهي الاجتهاد والنظر والمصاحبة وتتبعُ الحديث والسؤالُ للامتحان، قال القاضي أبو الوليد الباجي في التعديل والتجريح: "أحوال المحدثين في الجرح والتعديل مما يُدرَك بالاجتهاد ويُعْلَم بضربٍ من النظر، ووجه ذلك أن الإنسان إذا جالس الرجل وتكررت محادثته له وإخبارُه إياه بمثل ما يخبر ناس عن المعاني التي يخبر عنها تحقق صدقة وحكم بتصديقه" إلى آخر كلام الباجي الذي فصل فيه وجوه استخراج الحكم على الراوي.
فضله:
هو من أجَلّ العلوم قدرًا إذ عليه المعول في قبول الحديث النبوي الشريف ورده، وله فضل على معظم العلوم لأن الرواية تدخل في التفسير والحديث والتعبير والفقه والاعتقاد والأخلاق واللغة.
حكمه:
أما حكم تعلمه والاشتغالِ به شرعًا فهو الوجوبُ كفايةً، أي يجب تعلمه ومدارسته والاعتناءُ به وجوبًا كفائيا على الأمة، وقد يتعين الوجوب على شخص اشتغل بالحديث وملك أدوات هذا العلم.
وأما حكم التصدي لجَرح الرواة، فالأصل أن ذلك غيبةٌ والغيبة حرام، لكن الجَرح استُثنِي منها، وقد ذكر اللكنوي أن الغيبة تباح في أحوال: للمتظلم على من ظلمه بقدر الظلامة، وللاستعانة على تغيير المنكر إن كان جهرًا، وللمستفتي إذ يطلب معرفة الحكم، وللمستشار في نحو الخِطبة والشركة والوديعة، وللمدعي يجرح الشاهد، وللمحدث يجرح الراوي، ولتحذير الناس من المجاهر بفسقه، وللتعريف بمن فيه وصف يدل على عيب لكن شُهر به. قال ابن الصلاح في بيان علة جواز جرح الرواة: "وجُوّزَ ذلك صَونًا للشَّريعة ونفيًا للخطأِ والكذب عنها".
قال: ولا يجوز الجَرح بما فوق الحاجة، وإن حصل التجريح بواحد أغنى عن الزيادة. ويجب نقل التعديل إن وجد مع الجرح. ولا يجوز الطعن في العلماء. وإنما يُجرح من له رواية، وذلك في الصدر الأول، أما في العصور المتأخرة بعد اكتمال تدوين الحديث فيكفي ثبوت السماع مع صلاح الحال. قال ابن دقيق العيد في الاقتراح: "أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف عـلـى شـفـيرها طائفتان من الناس: المحدثون، والحكام". وشرط الجارح والمعدل العلم والتقوى والورع وترك التعصب ومعرفة أسباب الجرح والتعديل.
اسم العِلم:
علمُ الجرح والتعديل، وقد أُطلق هذا الاسم عليه في بداية القرن الثالث في تقديرنا، فقد ذكر حاجي خليفة في كشف الظنون كتاب الجرح والتعديل لأبي الحسن أحمد بن عبد الله العجلي الكوفي (١٨٢-٢٦١) قال الذهبي: "له مصنفٌ مفيٌد في الجرح والتعديل طالعته وعلقت منه فوائد تدل على تبحره بالصنعة وسعة حفظه"، والعجلي هذا هو ابن صاحب كتاب الثقات الإمام عبد الله بن صالح.
ولعل أول من شَهر هذا الاسم هو الإمام عبد الرحمن ابن أبي حاتم الرازي (-٣٢٧) إذ جعله عنوانًا لكتابه الجليل: "الجرح والتعديل". وقد ألف أبو جعفر محمد بن عمرو العُقَيليّ (-٣٢٢) كتاب الجرح والتعديل وألف عبد الملك بن محمد بن عدي الجرجاني (٢٤٢-٣٢٣) كتابًا بهذا العنوان أيضا.
وقد عُرف العلم قبل ذلك باسم علم معرفة الرجال وعلم الرجال وتاريخ الرجال والتاريخ. ولكنه أخص من علم الرجال وعلم التاريخ، لأنهما يشملان من التراجم والأخبار ما لا مدخل له في الجرح والتعديل. وكتب علل الحديث من أهم مصادر الجرح والتعديل. وتسمى صناعة الجرح والتعديل أيضا صناعة النقد ونقد الرجال، والمشتغل بها هو الناقد لأنه يكشف زيف الحديث ويميز الجيد من الرديء.
ثمرته:
تحقيقُ الأحاديث وتمييز الصحيح من الضعيف والثابت من الموضوع صيانةً للدين وحفظًا للشريعة.
مسائله:
أوصاف الرواة نحو ثقة وصدوق ومقبول أو كذاب ومتروك وواه، وبيانُ ما يُعد قدحًا وما لا يُعدّ، ومراتب الجرح والتعديل وأيهما يقدم عند التعارض للحكم على الرجال.
المرصد الأول
هل يشترط بيان سبب الجرح
المعتمد أن التعديل يقبل مطلقًا، وأن الجرح لا يقبل إلا مع بيان السبب. واقتصر عليه ابن الصلاح، وقال الزين العراقي: إنه الصحيح المشهور. قال النووي: لا يقبل الجرح إلا مفسرًا مبين السبب.
فإن وجدنا في رجل جرحًا مبهمًا نحو: "فلان ضعيف أو ليس بشيء" وهذا كثير، توقفنا عن قبول حديثه للريبة التي أورثها الجرح المبهم، ثم بحثنا عن حاله، فإن انزاحت الريبة قبلنا حديثه كالذين احتج بهم الشيخان، وإلا بأن تبين سبب الجرح رددنا حديثه، كما ذكره ابن الصلاح.
والقول الثاني القوي هو أن الجرح والتعديل كلاهما يقبلان ولو لم يبيَّن السبب، وعزاه الباقلاني للجمهور، واختاره الغزالي والرازي والخطيب والآمدي، وصححه العراقي والبُلقيني، وذكر محقق الكتاب أنه الذي جرى عليه علماء الجرح والتعديل من المتأخرين، أي لم يبينوا السبب مع الجرح. وقال في الاستدلال على فساد القول الأول: "فعلى رأي ابن الصلاح تتعطل علينا أقوال هؤلاء الأئمة كلهم ولا نستفيد منها سوى التوقف". وفي هذا عندنا نظر.
واختار العسقلاني أن الجرح المبهم يقبل في حق من خلا عن التعديل لأنه كالمجهول، وإعمال قول المجرّح أولى من إهماله. أما من وثقه بعض الأئمة فلا يقبل فيه الجرح إلا مبيّنًا، وهذا تحقيق مستحسن كما قال اللكنوي رحمه الله، وهو الذي نختاره، وفيه الجمع بين القولين الأول بعدم قبول الجرح إلا مفسرًا والثاني بالقبول مطلقًا، فاشتراط بيان سبب الجرح مقتصر على من اختُلف في توثيقه، وفي المرصد الثاني زيادة إيضاح.
المرصد الثاني
هل يقدم الجرح أو التعديل عند التعارض
يثبُت الجرح والتعديل بقول الواحد، لأن العدد لم يُشترط في قبول الخبر فلا يشترط في جرح راويه وتعديله، بخلاف الشهادة. ويُقبل الجرح والتعديل من أهل المعرفة من الذكر والأنثى والحر والعبد قياسًا على قبول الخبر.
والجرح إذا كان مفسرًا قُدّم على التعديل ولو كثر المعدّلون، هذا قول الجمهور. والجرح المبهم غير مقبول ولا يمكن أن يعارض التعديل ولو كان التعديل مبهما. ومن أطلق من الأئمة تقديم الجرح على التعديل فمراده التفصيل.
قال الحافظ في ديباجة لسان الميزان: "إذا اختلف العلماء في جرح رجل وتعديله فالصوابُ التفصيلُ: فإنْ كانَ الجرحُ والحالةُ هذه مفسَّرًا قُبل، وإلا عُملَ بالتعديل. فأما من جُهل ولم يُعلم فيه سوى قولِ إمام من أئمة الحديث إنه ضعيفٌ أو متروكٌ ونحوِ ذلك فإنّ القولَ قوله، ولا نطالبه بتفسير ذلك".
وقد يقدم التعديل على الجرح المفسر إذا كان الحاملَ على الجرح التعصبُ أو العداوةُ والتنافر. ولهذا تتمة في آخر الكتاب.
المرصد الثالث
في ألفاظ الجرح والتعديل
أعلى عبارات التعديل:
ثبْتٌ حُجة، ثبْتٌ حافظ، ثقةٌ متقنٌ، ثقةٌ ثقةٌ.
ثم: ثقةٌ، ثبْتٌ، وأَلحق به المحقق لفظة: رضًا، ولفظة مسلمٍ: اكتبْ عنه.
ثم: صدوقٌ، لا بأسَ به، ليس به بأسٌ، مأمونٌ.
ثم: محلّهُ الصدق، جيّدُ الحديث، صالحُ الحديث، شيخٌ وسطٌ، شيخٌ حسنُ الحديثِ، صدوقٌ إن شاء اللهُ، صُويلِحٌ، مقارَِب الحديث - بفتح الراء وكسرها معا - ونحوُها.
وأردأ عبارات الجرح:
دجّالٌ، كذّابٌ، وضّاعٌ، يضعُ الحديثَ، وألحق بها المحقق: له بلايا. وأشد هذا النوع ما جاء بأفعل التفضيل كأكذب الناس.
ثم: متّهمٌ بالكذبِ، متّفقٌ على تركهِ، وأَلحق به المحقق عبارة أبي حاتم: هو على يدَيْ عدلٍ أي يُئِسَ منه، و: مُودٍ أي هالكٌ. وأصل عبارة "على يدي عدلٍ" أن العدل وهو أخو جَزء بن سعد العشيرة بن مالك كان ولي شُرَطَ تُبّعٍ، فكان تُبّعٌ إذا أراد قتل أحد دفع به إليه، فمن ذلك قال الناس: وُضع على يدي عدلٍ، أي هلك، ثم قيل لكل شيئ قد يُئس منه، نقله السخاوي عن إصلاح المنطق لابن السِّكّيت وأدب الكاتب لابن قتيبة.
ثم: متروكٌ، ليسَ بثقةٍ، سكتوا عنه، فيه نظرٌ، ذاهبُ الحديثِ. وهالكٌ، وساقطٌ.
ثم: واهٍ بِمَرّةٍ، ليسَ بشيْءٍ، ضعيفٌ جدًّا، ضعّفوه، ضعيفٌ، واهٍ، ونحوها.
ثم: يضعّفُ، فيه ضعفٌ، قد ضُعّفَ، ليسَ بالقويّ، ليس بحجة، ليس بذاك، يُعْرَفُ ويُنْكَرُ، والصواب في هذه اللفظة: تَعرفُ وتُنكِر وإليه مال المحقق، فيه مقال، تُكُلّمَ فيه، ليّنٌ، سيّءُ الحفظِ، اختُلفَ فيه، صدوقٌ لكنه مبتدعٌ، ونحوها.
ولبعض الأئمة اصطلاحات في بعض هذه الألفاظ تأتي فيما بعد. منها: أن كلمة "سكتوا عنه" وكلمة "فيه نظر" عند البخاري هما في المرتبة الأولى من ألفاظ التجريح فإنه قلما يقول كذاب أو وضاع تورعا، قال العراقي: "فلان فيه نظر، وفلان سكتوا عنه: هاتان العبارتان يقولهما البخاري فيمن تركوا حديثه". ومع ذلك فإنه إذا قال في راو: "فيه نظر" فمراده أنه متهم عنده، لكن قد لا يكون كذلك عند غيره. و نقل المحقق كلاما لشيخه حبيب الرحمن الأعظمي يثبت فيه أن كبار الأئمة كأبي حاتم وابن معين والنسائي والعجلي وابن عدي أثنَوا على بعض من قال فيه البخاري فيه نظر.
وكذلك "فيهٍ لينٌ" فإن الدارقطني قال: "إذا قلتُ ليّنٌ لا يكون ساقطا متروك الاعتبار، ولكن مجروحا بشيء لا يسقُطُ به عن العدالة".
وليُنظَر اختلافُ مدلولات بعض هذه الألفاظ في اللغة خارجَ هذا السياق، إذ قد يقال للواهم والمخطئ كَذَبَ أو كذّابٌ، وهذا غير ما نحن فيه. وقد تتفاوت الألفاظ في المرتبة الواحدة، فالحجة مثلا أقوى من الثقة.
وقد يكون التعديل للراوي بالفعل لا بالقول كالحكم بخبره أو العمل به أو الرواية عنه.
المرصد الرابع
اصطلاحات الحفاظ
* صحيح الإسناد وحسن الإسناد دون صحيح وحسن في الرتبة غالبا، لأن صحة الإسناد لا تقتضي صحة الحديث، لاحتمال أن يكون في المتن شذوذ أو علة.
* قول المحدث هذا حديث صحيح أو حسن أو ضعيف معناه فيما ظهر له عملا بظاهر الأدلة، لجواز الخطأ والنسيان على الثقة، وجواز إصابة كثير الخطأ. لكن الاحتمال لا ينفي ثبوت العدالة أو الخطأ، فيبقى وجوب العمل بحكم المحدث، فالخطأ وإن جاز على الثقة عقلا لكنه منتف عادة، ولذلك وجب العمل بأخبار الآحاد الثقات، وكذلك الإصابة وإن جازت عقلا على من ثبت كذبه أو كثر خطؤه لكنها منتفية عنه عادة.
* قول العلماء لا يصح أو لا يثبُتُ لا يلزم منه الضعف، لاحتمال أن يكون حسنا. قال الزركشي: "بين قولنا موضوع وقولنا لا يصح بَونٌ كبير"، ويدخل هذا تحت قاعدةِ أن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، لكن في اصطلاح المصنفين في الموضوعات: "لا يصح أو لم يثبت" تساوي الموضوع.
* قولهم هذا حديث منكر لا يستلزم أن راويه غير ثقة، قال السخاوي: "وقد يُطلَق ذلك على الثقة إذا روى المناكير عن الضعفاء. قال الحاكم: قلت للدارقطني: فسليمان ابن بنت شُرَحْبيلٍ؟ قال: ثقة، قلت: أليس عنده مناكير؟ قال: يحدّث بها عن قوم ضعفاء، أما هو فثقة.
وكذلك قولهم في الراوي: روى المناكير أو يروي المناكير أو في حديثه نكارَة، فهذه عبارات لا تقدح الراوي قدحا يُعتد به. فإذا كثرت المناكير في حديثه استحق الترك لحديثه وقيل فيه "منكر الحديث". قال ابن دقيق العيد في شرح الإلمام: "قولهم روى مناكير لا يقتضي بمجرده ترك روايته، حتى تكثر المناكير في روايته، وينتهي إلى أن يقال فيه: منكر الحديث، لأن منكر الحديث وصف في الرجل يستحق به الترك لحديثه، والعبارة الأخرى لا تقتضي الديمومة".
وللبخاري اصطلاح في منكر الحديث أنه لا تحل الرواية عنه، قال الذهبي: ونقل ابن القطان أن البخاري قال : "كل من قلت فيه: منكر الحديث، فلا تحل الرواية عنه"، وزاد ابن حجر في اللسان: "وهذا القول مروي بإسناد صحيح عن عبد السلام بن أحمد الخفاف عن البخاري".
لكن الإمام أحمد يطلق هذه اللفظة كما قال الحافظ في مقدمة الفتح على من يُغرِبُ على أقرانه بالحديث، قال المحقق: أي يتفرد وإن لم يخالف. ونصُّ كلام الحافظ: "المنكر أطلقه أحمد بن حنبل وجماعة على الحديث الفرد الذي لا متابع له".
وقول ابن عدي والذهبي في الراوي: "أنكَرُ ما روى" لا يقتضي ضعف الراوي، فإنهم يطلقونه على الحديث الحسن والصحيح بمجرد تفرد راويه به.
والمتقدمون يطلقون "حديثٌ منكرٌ" على ما تفرد به راويه وإن كان من الأثبات، والمتأخرون يطلقونه على رواية راو ضعيف خالف الثقات، ويطلقونه في كتب الموضوعات على الحديث الموضوع.
* إذا قال ابن معين في الراوي: "ليس بشيء" فإن مراده غالبًا أن أحاديثه قليلة جدا، نقله الحافظ في مقدمة الفتح عن ابن القطان الفاسي، وقد يَقصِد به تضعيف الراوي كما أثبته المحقق في حواشيه بثلاثين شاهدًا. وإذا قال: لا بأس به أو ليس به بأس فإنه عنده ثقة، وإذا قال: يكتب حديثه فإنه ضعيف.
* إذا قال أحمد في الرجل: "هو كذا وكذا" فمراده الكناية عمن فيه لين وذلك باللفظ المقترن بالإشارة باليد.
* إذا قال الذهبي في الميزان في الراوي: "مجهول" من غير عزو القول إلى أحد، فإنه ناقلٌ ذلك عن أبي حاتم، إلا مواضع استدركها عليه الحفاظ. ومراد أبي حاتم بقوله مجهولٌ جهالةُ الوصف لا العين، خلافا لجمهور المحدثين.
* وإذا سكت المحدثون كالبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم وابنه عن الراوي هل يكون السكوت تعديلا أو تجهيلا؟ مذهب ابن القطان أن سكوت هؤلاء تجهيل له، قال الزيلعي في نصب الراية عند ذكر موسى بن أبي إسحق الأنصاري: "ذكره ابن أبي حاتم ولم يُعرِّف من أمره بشيء فهو عنده مجهول"، وابن القطان متشدد في الرجال.
والذي رجحه المحقق ابتداءً هو القول بأن السكوت تعديلٌ، واستدل على ذلك بالبراءة الأصلية، وبنفيِ وجود الجارح، وبما نقله ابن أبي حاتم عن أبيه أن رواية الثقة عن المجهول تنفعه. واعتمادا على كلام ابن أبي حاتم نفسه، فإنه قال: "على أنا قد ذكرنا أساميَ كثيرةً مهملة من الجرح والتعديل رجاءَ وجود الجرح والتعديل فيهم، فنحن ملحقوها بهم من بعدُ إن شاء الله تعالى". واتهم المحقق ابن القطان بأنه حمّل البخاريَّ وابنَ أبي حاتم ما لم يقولاه.
وذهب ابن كثير والزركشي إلى أن المسكوت عنه مستور الحال، وهو عدلُ الظاهرِ مجهولُ العدالة باطنا، وحديثه قد يحتج به، وهو ما رجحه المحقق أخيرا، اعتمادا على تعذر الخبرة برجال القرون الثلاثة الأولى، ونَقل عن الذهبي الاستدلالَ برواية مستور الحال واستدل بقوله: "ففي الصحيحين من هذا النمط خلق كثير مستورون ما ضعفهم أحد ولا هم بمجاهيل".
قال الآمدي: "ومن كان مجهول الحال فقط مع كونه معروف العين، أو كان عدل الظاهر خفيّ الباطن، ويقال له عندهم المستور، فمذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر أهل العلم أن مجهولَ الحال غيرُ مقبول الرواية، بل لا بد من خبرةٍ باطنةٍ بحاله. وقال أبو حنيفة وأتباعه: يُكتفى في قبول الرواية بظهور الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهرا".
وقد قيد المتأخرون من الحنفية مذهب أبي حنيفة بصدر الإسلام أي بأهل القرون الثلاثة الأولى للخيرية، وذهب الصاحبان إلى وجوب التزكية فيما بعد تلك القرون لغلبة الفسق. ونقل الزركشي في البحر المحيط أن ابن فُورَكٍ وافق الحنفية، وقد صحح النووي من الشافعية في شرح المهذب صحة رواية مستور الحال، وقال ابن الصلاح - وهو شافعي: "يشبه أن يكون العمل عليه في كثير من كتب الحديث المشهورة في جماعة من الرواة تقادمَ العهد بهم وتعذرت خبرتُهم باطنا". وعليه مشى ابن حبان، فالعدل عنده: من لا يُعرف فيه الجرح.
ولكن المحقق عاد فرجح المذهب الأول بقوله: "فإذا عُلم هذا كله إلخ يُعدّ سكوتُهم عنه من باب التوثيق والتعديل ولا يعد من باب التجريح والتجهيل، ويكون حديثه صحيحا أو حسنا أو لا ينزل عن درجة الحسن إذا سلم من المغامز".
أقول: وبين القولين فرق كما ترى، فعلى الأول يُعد المسكوت عنه ثقة، وعلى الثاني يُعد مستورا، وبينهما فرق ظاهر، وفي المسألة بحث لم يشبعه المحقق رحمه الله لعلنا نرجع إليه.
* والمجهول عند أهل الحديث قال الخطيب: هو كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه ولا عرفه العلماء به، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد". وترتفع جهالة العين برواية اثنين.
* لا يقبل قول أبي حاتم في الراوي إنه مجهول ما لم يوافقه غيره، كما نص عليه ابن دقيق العيد، فقد جهَّل أي حكم بجهالة من هو معروف.
* إذا قال ابن القطان في راو: لا يعرف له حال فالمراد أن أحدا من العلماء الذين عاصروا ذلك الراوي أو أخذوا عمن عاصره لم ينقل عنه ما يدل على عدالته. وابن القطان هو علي بن محمد الفاسي توفي سنة ٦٢٨ صاحب كتاب بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام أي الكبرى لعبد الحق الإشبيلي.
* لا يسقط الاحتجاج بالراوي إذا قيل تركه يحيى القطان، لأنه كان متشددا إذا رأى الراوي يحدث عن حفظه مرة هكذا ومرة هكذا ولا يثبت على رواية واحدة تركه.
* قول العلماء في الراوي إنه ليس مثلَ فلان ليس بجرح.
* قد يصدر من الناقد جرح وتعديل لراو إما لاختلاف السؤال، أو لتغيّر الاجتهاد، أو لأنه سئل عن روايته عن رجل فوقه فضعفه بالنسبة إليه، أو أدرج السؤال عنه مع غيره، كما نبه إليه الباجي. قال رحمه الله في التعديل والتجريح: "واعلم أنه قد يقول المعدل: فلان ثقة، ولا يريد به أنه ممن يُحتج بحديثه، ويقول: فلان لا بأس به، ويريد أنه يُحتج بحديثه، وإنما ذلك على حسب ما هو فيه ووجْهِ السؤال له. فقد يُسأل عن الرجل الفاضل في دينه المتوسطِ حديثُه فيقرنُ بالضعفاء فيقال: ما تقول في فلان وفلان؟ فيقول: فلان ثقة، يريد أنه ليس من نمط من قُرن به وأنه ثقة بالإضافة إلى غيره. وقد يُسأل عنه على غير هذا الوجه فيقول: لا بأس به، فإذا قيل: أهو ثقة؟ قال: الثقة غير هذا".
من ذلك ما قال عثمان الدارمي: "سألت ابن معين عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه كيف حديثهما؟ فقال: ليس به بأس، فقلت: هو أحب إليك أو سعيد المَقبُري؟ قال: سعيد أوثق، والعلاء ضعيف". فلم يرد ابن معين أن العلاء ضعيف مطلقا، وإنما أراد أنه ضعيف بالنسة لسعيد.
* لا يحل الأخذ بقول كل جارح في أي راو كان إلا بعد التنقيح، فقد يكون الجارح مجروحا، قال الحافظ في ترجمة أحمد بن شبيب الحبطي البصري من تهذيب التهذيب بعدما نقل عن الأزدي فيه أنه غير مرضي: "قلت: لم يلتفت أحد إلى هذا القول، بل الأزدي غير مرضي".
وقد يكون الجارح متشددا يَجرح بأدنى جَرح، كأبي حاتم والنسائي وابن معين وابن القطان ويحيى القطان وابن حبان فإنهم معروفون بالإسراف في الجرح والتعنت فيه.
وقد قسم الذهبي من تكلم في الرجال أقساما ثلاثة:
الأول: متعنت في الجرح متثبت في التعديل يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث، فهذا إذا وثّق رجلا فعَضّ على قوله، وإذا ضعف رجلا فانظر هل وافقه غيره على تضعيفه، فإن وافقه ولم يوثّق ذلك الرجلَ أحدٌ من الحفاظ فهو ضعيف، وإن وثقه أحد فهذا الذي قالوا فيه: لا يقبل فيه الجرحُ إلا مفسرا، يعني لا يكفي فيه قول ابن معين مثلا ضعيف ولم يبين سبب ضعفه ثم يجيئ البخاري وغيره يوثقه". ومثل هذا يُختلف في تصحيح حديثه وتضعيفه.
والثاني: منهم متسمّح كالترمذي والحاكم، قال المحقق: أي في تدوينهما حديث بعض الضعفاء، وزاد السخاوي في هذا الصنف ابن حزم لأنه قال عن الترمذي وأبي القاسم البغوي وغيرهما من المشاهير إنه مجهول، واستحسن المحقق عده في المتعنتين في الجرح.
والثالث: معتدل كأحمد والدارقطني وابن عدي.
وكل طبقة من النقاد لا تخلو من متشدد ومتوسط، فمن الأولى: شعبة وسفيان الثوري وشعبة أشد منه. ومن الثانية: يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى أشد منه. ومن الثالثة يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وابن معين أشد منه. ومن الرابعة: أبو حاتم والبخاري وأبو حاتم أشد من البخاري.
وللذهبي عبارة تعب العلماء في شرحها والتماس وجه الصواب فيها هي في قوله: "ولكن هذا الدين مؤيد محفوظ من الله تعالى لم يجتمع علماؤه على ضلالة، لا عمدا ولا خطأ، فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة، وإنما يقع اختلافهم في مراتب القوة أو مراتب الضعف". وموضع النظر هو قوله: "فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة". وقد أطال المحقق في نقل تفسيرات العلماء لهذه الجملة واختار هو أن المراد بلفظ "اثنان" جميع العلماء من غير مخالف، قال: "ويكون معنى كلمة الحافظ الذهبي: لم يقع الاتفاق من العلماء على توثيق ضعيف بل إذا وثقه بعضهم ضعفه غيره، كما لم يقع الاتفاق منهم على تضعيف ثقة، فإذا ضعفه بعضهم وثقه غيره".
والذي أراه بعد التأمل والنظر، أن كلمة "اثنان" قد دخلها التحريف في الخط، والصواب أنها "الناس" وتكون العبارة صحيحة لا حاجة إلى التكلف في التأويل في شرحها. إذ المراد بالناس العلماء، أخرج الخطيب في تاريخ بغداد عن فضيل بن عياض قال: سئل ابن المبارك: من الناس؟ قال العلماء. قيل: فمن الملوك؟ قال الزهاد. قيل: فمن السفلة؟ قال: الذي يأكل بدينه. ومن عرف خط الإمام الذهبي وصعوبته ووصله للحروف والكلمات وتمرس به أدرك أن مثل هذا التحريف وارد، بل هو المخرج الوحيد الذي يستقيم معه النص بغير تأويل. وأنا أعجب كيف لم يهتد إليه المحقق رحمه الله، ولكن كم ترك الأول للآخر.
ومن النقاد من تعنت في جرح بعض أهل البلاد أو المذاهب خاصة فيجب النظر والتنقيح الأمر، فلا يقبل جرح الجوزجاني في أهل الكوفة لشدة انحرافه ونَصْبه، ولا عبرة لحط الذهبي على الأشاعرة والصوفية لتحامله عليهم، وزاد المحقق تعنت نعيم بن حماد على أهل الرأي.
قال التاج السبكي مبينا تحامل الذهبي: "وعنده على أهل السنة تحامل مفرط، فلا يجوز أن يُعتمد عليه، وهو شيخنا ومعلمنا، غير أن الحق أحق بالاتباع. وقد وصل من التعصب المفرط إلى حد يُستحيى منه. وأنا أخشى عليه من غالب علماء المسلمين وأئمتهم الذين حملوا الشريعة فإن غالبهم أشاعرة، وهو إذا وقع بأشعري لا يبقي ولا يذر، والذي أعتقده أنهم خصماؤه يوم القيامة". وعدّ المحقق هذا الكلام من السبكي مبالغة وشططا، ولا نعده كذلك بل هو حقيقة حال الذهبي رحمه الله.
ومن المحدثين من تعنت في رد الأحاديث بالقدح اليسير كأبي الفرج ابن الجوزي وعمر بن بدر الموصلي والرضي الصغّاني في موضوعاتهم، والجوزقاني في الأباطيل، وابن تيمية في منهاج السنة، والفيروزبادي في سفر السعادة.
وقد تعقب العلماء على ابن الجوزي ثلاثمائة حديث حكم بوضعها، منها مائة وثلاثون في الكتب الستة والمستدرك أحدها في صحيح مسلم، فلا يؤخذ بكتابه إلا بعد النظر في تعقبات السيوطي له. وذكر الذهبي أن من عيوب كتاب ابن الجوزي في الموضوعات أنه يسرد الجرح ويسكت عن التوثيق.
وقال الحافظ في لسان الميزان في حق ابن تيمية: "طالعت رد ابنِ تيمية على الحِلّي فوجدته كثير التحامل في رد الأحاديث التي يوردها ابن المطهَّر الحلي، ورد في رده كثيرا من الأحاديث الجياد".
ومن زيادات المحقق: وابن حبان حكم بوضع عدد من الأحاديث لمخالفتها ظاهرا لحديث صحيح، كحديث عبد الله بن أُبيّ أنه أصيبت ثنيتُه يوم أحد فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ثنية من ذهب". وفعل نحو ذلك الجوزقاني ويعقوب الفسَوي لعدم الجمع بين الفقه والحديث، ورد عليهم الأئمة. وقد ساق ابن الجوزي في أخبار الحمقى والمغفلين جملة من الفتاوى المضحكة لبعض كبار المحدثين.
* كتاب الثقات لابن حبان مرتب على ثلاثة أقسام: الصحابة والتابعين وتَبَعِ التابعين. وقد نُسب إلى التساهل في التوثيق، لكن هذه النسبة لا تصح، بل هو معدود ممن له تعنت وإسراف في جرح الرجال. هذا مذهب اللكنوي، وتابعه التهانوي صاحب مقدمة إعلاء السنن. وقد خالفهما المحقق فعده جامعا بين التساهل في التعديل والتشدد في الجرح، إذ القاعدة عنده أن العدل من لم يعرف فيه الجرح، فمن لم يجرح فهو عدل حتى يتبين جرحه، وكل راو انتفت جهالة عينه ولو برواية واحد مشهور عنه كان ثقة عنده إلى أن يتبين جرحه. والجمهور على أن رواية العدل عن المجهول لا تعد تعديلا له. اللهم إلا من عرف أنه لا يروي إلا عن ثقة غالبا كمالك وشعبة والقطان وابن مهدي.
قال السيوطي في التدريب: "قيل: ما ذكر من تساهل ابن حبان ليس بصحيح، فإن غايته أن يسمي الحسن صحيحا فإن كانت نسبته إلى التساهل باعتبار وِجدان الحسن في كتابه فهي مشاحة في الاصطلاح. وإن كانت باعتبار خفة شروطه - فإنه يخرج في الصحيح ما كان راويه ثقة غير مدلس، سمع من شيخه، وسمع الآخذ عنه، ولا يكون هناك إرسال ولا انقطاع. وإذا لم يكن في الراوي جرح ولا تعديل، وكان كل من شيخه والراوي عنه ثقة فهو عنده ثقة. وفي كتاب الثقات له كثير ممن هذه حاله. ولأجل هذا ربما اعتَرض عليه في جعلهم ثقات من لم يعرف حاله، ولا اعتراض عليه، فإنه لا مشاحة في ذلك". وعزا السخاوي هذا الكلام للحافظ.
* الكامل في الضعفاء لأبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني المتوفى سنة ٣٦٥ عن ٨٨ سنة. وشرط فيه أن يذكر كل من تُكُلِّمَ فيه وإن كان ثقة فاضلا، قال في ترجمة أحمد بن صالح المصري: "لولا أني شرطت في كتابي أن أذكر كل من تُكُلم فيه لكنت أُجلُّ أحمد بن صالح أن أذكره". وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: "وفائدة إيراد كل ما قيل في الرجل من جرح وتوثيق تظهر عند المعارضة". وذكر في مقدمة الفتح أن من عادة ابن عدي أن يخرج الأحاديث التي أُنكرتْ على الثقة".
وتابعه الذهبي على هذا الشرط في الميزان، بل بنى الميزان على كتاب ابن عديّ. قال في آخره: "فأصله وموضوعه في الضعفاء، وفيه خلق من الثقات ذكرتهم للذب عنهم أو لأن الكلام غير مؤثر فيهم ضعفا". وقال في ترجمة ثابت البُناني: "ثابت ثابت كاسمه، ولولا ذكرُ ابن عدي له ما ذكرته".
* ولكي تُعرفَ طرق تحقيق الأئمة ضبطَ الرواة وكشف من يخطئ منهم أسوق ما روي عن يحيى بن معين أنه جاء إلى عَفان يسمع منه حديث حماد بن سلمة، فقال: سمعتَه من غيري؟ فقال: نعم، سمعتُه من سبعة عشر رجلا، فأبى أن يحدثه به. فقال: إنما هو درهم وأنحدرُ إلى البصرة وأسمعُه من التبوذكي أي من أبي سلمة. فقال له التبوذكي: سمعتَه من غيري؟ فقال: نعم سمعتُه من سبعة عشر رجلا، فقال: ما تريد بذلك؟ قال أريد أن أميز خطأ حماد بن سلمة من خطأ من روى عنه، فإذا اتفق لي الجميع على خطإ عرفت أنه من حماد بن سلمة، وإذا انفرد به بعض الرواة عنه عرفت أنه منه.
* إرجاء السنة وإرجاء البدعة:
يتردد في كتب الرجال في ألفاظ الجرح الطعن بالإرجاء فيقولون: رُمي بالإرجاء أو كان مرجئا. وقد رمي بالإرجاء عدد من رواة الحديث وأئمة كبار منهم أبو حنيفة رحمه الله، ولكنه إرجاء السنة الذي لا يضر وليس هو بضلال: فقد كان أبو حنيفة وأصحابه يعتقدون أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان لا يزيد ولا ينقص، ولا يدخل العمل فيه، ولكن الطاعات تنفع والمعاصي تضر. وإنما رماه بالإرجاء القدرية فقد كانوا كما ذكر الآمدي يلقبون كل من خالفهم في القدر مرجئا.
ومرجئة الضلال يكتفون في الإيمان بمعرفة الله تعالى، ويجعلون ما سواه من الطاعات غير نافع وما سوى الكفر من المعاصي غير ضار، وهو خارج عن مذهب أهل السنة، وحاشا أبا حنيفة أن يقول به.
ومنهم من أراد به تأخير القول في تصويب إحدى الطائفتين من الذين اقتتلوا بعد عثمان، أي عدمَ القطع بكون أي منهما مخطئا أو مصيبا بل يرجِئُ ذلك. وأول من قال بهذا الحسن بن محمد (ابن الحنفية) الهاشمي كما قال الحافظ في تهذيب التهذيب.
وعد الشهرستاني من فرق المرجئة: الثَّوبانية أصحاب أبي ثوبان المرجئ، والتُّومَنية أصحاب أبي معاذ التومَني، والصالحية أصحاب صالح بن عمرو (أو عمر)، واليونسية، والعُبيدية أصحاب عُبيد المُكَتّب، والغسانية أصحاب غسان بن أبان الكوفي.
وقسم الخادمي في كتاب الطريقة المحمدية المرجئة أقساما:
فضرب يرجئون أمر المؤمنين والكافرين إلى الله يغفر لمن يشاء من المؤمنين والكافرين معا ويعذب من يشاء، وهم كفار.
وضرب يقولون حسناتنا متقبلة قطعا وسيئاتنا مغفورة والأعمال ليست بفرائض وإنما هي فضائل، وهم كفار أيضا.
وضرب يقولون لا نتولى المؤمنين المذنبين ولا نتبرأ منهم، فهؤلاء المبتدعة، ولا تخرجهم بدعتهم من الإيمان إلى الكفر.
وضرب هم أهل السنة يقولون نرجئ أمر المؤمنين ولو فساقا إلى الله، فلا ننزلهم جنة ولا نارا ولا نتبرأ منهم، ولكن نتولاهم في الدين، وهؤلاء اقتدَوا بقوله عز وجل: {وآخرونَ مـُرجَونَ لأمر الله إما يعذبهم أو يتوب عليهم}. وروي عن عثمان البَتّيّ أنه كتب إلى أبي حنيفة وقال: أنتم مرجئة؟ فأجابه بأن المرجئة على ضربين: مرجئة ملعونة وأنا بريءٌ منهم، ومرجئة مرحومة وأنا منهم. وكتب فيه بأن الأنبياء كانوا كذلك، قال عيسى عليه السلام: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}.
* ما جاء في الغنية للشيخ عبد القادر الجيلاني من نسبة هذا القول لأبي حنيفة رحمه الله وعدّ الحنفية بين فرق الضلالة خطأ بيّنٌ. واختار المحقق السيالكوتي والعارف النابلسي أن تلك العبارة مدسوسة مكذوبة على الشيخ كما دسوا على الشيخ محيي الدين ابن العربي والمجد الفيروزبادي والإمام الشعراني. ورد المصنف القول بالدس بعدم وجود نسخ خالية عن تلك البلية، وأطال في توجيه هذا القول بما لا حاجة له.
وقد أثبت المحقق أن ترجمة أبي حنيفة في الميزان قد دُست على الذهبي، فقد اطلع هو على نسخة المصنف في الخزانة العامة بالرباط (المكتبة الوطنية) وهي نحو النصف الثاني من الكتاب ولم يجد فيها ترجمة أبي حنيفة، وقد نص على ذلك الصنعاني في توضيح الأفكار فقال: "لم يترجَم لأبي حنيفة في الميزان"، كما أنها لم ترد في نسخة سبط ابن العجمي التي اعتُمدت في التحقيق.
* وأبو جعفر محمد بن عمرو العُقَيليّ المتوفى بمكة سنة ٣٢٢ له كتاب الضعفاء الكبير وكتاب الجرح والتعديل، وله في الجرح جراءة وقد تكلم في الثقات الأثبات، وقد رد العلماء عليه وقالوا: لا يُتابَع عليه.
* والجرح إذا صدر عن تعصب أو عداوة أو منافرة فهو مردود، ولذا لم يُقبلْ قولُ مالك في محمد بن إسحق صاحب المغازي، ولا قدح الثوري في أبي حنيفة، ولا قدح ابن معين في الشافعي، ولا قدح أحمد في المحاسبي. ولا يُقبلُ جرح الأقران إلا بشرطين: أن لا يكون بينهما تعصب ومنافرة وأن يكون الجرح مبينا. قال الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمة أبي بكر بن أبي داود السجستاني المتوفى سنة ٣١٦ بعدما نقل توثيقه عن جمع من الثقات: "وعن ابن صاعد وغيرِه تضعيفُه. قلت: لا ينبغي سماع قول ابن صاعد فيه، كما لم يقدح تكذيبه لابن صاعد. وكذا لا يُسمع كلام ابن جرير فيه، فإن هؤلاء بينهم عداوة بيّنة. فقف في كلام الأقران بعضهم في بعض". وقال في ترجمة أبي الزناد عبد الله بن ذكوان: "قال فيه ربيعة: ليس بثقة ولا رضًا" قلت: لا يُسمع قول ربيعة فيه، فإنه كانت بينهما عداوة ظاهرة".
قال التاج السبكي في الطبقات الكبرى:"الحذر كل الحذر أن تفهم أن قاعدتهم: الجرحُ مقدم على التعديل على إطلاقها. بل الصواب أن من ثبتت إمامتُه وعدالته وكثر مادحوه وندَر جارحوه وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره لم يُلتفَت إلى جرحه".
وقال أيضا: "ينبغي لك أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين، وأن لا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض إلا إذا أتى ببرهان واضح. ثم إن قدرت على التأويل وتحسين الظن فدونك، وإلا فاضرب صفحًا عما جرى بينهم فإنك لم تُخلق لهذا فاشتغل بما يعنيك ودع ما لا يعنيك. ولا يزال طالب العلم نبيلا حتى يخوض فيما جرى بين الماضين".
وقد تم بفضل الله تعالى ما قصدنا إليه من التهذيب والاختصار لكتاب الرفع والتكميل للإمام اللكنوي والتعليقات عليه، مع زيادات لطيفة وتحقيقات نادرة امتن الله تعالى بها علينا، فجاء بحمد الله تعالى لطيفا الحجم عظيم النفع، نسأل الله تعالى أن يتقبله منا وأن يتجاوز عنا ما كان فيه من خطأ أو تقصير، فما تصدينا لذلك إلا للضرورة، وأن يتغمد بالرحمة مؤلف الأصل ومحققه، وأن ينفع بهذا المختصر قارئه وكاتبه، وأن يُجزل الثواب لمشايخنا ومن أفادنا وأجازنا ومشايخهم أجمعين. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التحصيل (الكتاب كاملا)
لفوائد الرفع والتكميل في الجرح والتعديل
للشيخ محمد أبو الهدى اليعقوبي
مقدمة
الحمد لله الذي خص العلماء بالرفع والتكميل، وشرفهم بالمدح في محكم التنزيل، والصلاة والسلام على أجل الناس قدرا وأرفعهم ذكرا سيدنا محمد وآله الأطهار وصحبه الأخيار من المهاجرين والأنصار.
أما بعد فإني رأيت كتاب الرفع والتكميل في الجرح والتعديل للإمام أبي الحسنات محمد عبد الحي الأنصاري اللكنوي المتوفى سنة ١٣٠٤ عن أربعين سنة كتابا جليل القدر لا غنى لطالب العلم عنه، وقد زاد في نفاسته العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله إذ حلاه بالحواشي الفريدة والاستدراكات اللطيفة. غير أن حجم الكتاب قد زاد بالاستطراد حتى كاد يفوت منه المراد، وصار الطالب يحتاج في مطالعته إلى وقت طويل، وصبر في استخراج المسائل جميل. وكنت قد قرأته قديما في أيام، وطالعت فيه بعد ذلك على مر الأعوام.
فأحببت اليوم أن أجمع فرائده في صفحات معدودات، وأقتنص من خرائده الحور المقصورات، مع درر من كلام المحقق في الحواشي والتعليقات، مما تمس الحاجة إليه، ولا غنى للطالب عن الاطلاع عليه. فجاء بحمد الله جزءًا لطيفا، يجمع ما لا غنى عنه من أصول هذا العلم، يقرؤه العالم في مجلس واحد، ليستذكر ما غاب عنه من الفوائد، ويحفظه طالب العلم حفظ التنزيل، ليضبط قواعد الجرح والتعديل. وسميت هذا الاختصار والتهذيب: التحصيل لفوائد الرفع والتكميل في الجرح والتعديل، وقد اعتمدت فيه على الطبعة السابعة للكتاب.
وقد أطال المصنف رحمه الله في مباحث الإرجاء، واستطرد في رد الطعن على أبي حنيفة، بما هو بغير هذا الكتاب أولى، وإلى سواه من العلوم أقرب، فاقتصرت من ذلك على ما يُحتاج إليه في هذا الفن. وقد أبان العلامة المحقق رحمه الله في التعليقات عن علم غزير واطلاع واسع، وطرز حواشي الكتاب بدرر، هي في صحائف العلوم طرر، وفي جبين التحقيق غرر، ولكنه أطال في ذلك النفَس، والطالب يكتفي بشهابٍ قبَس، فلم أنقل من حواشيه إلا ما رأيت له مسيس اتصال بمباحث الأصل. وراجعت بعض النصوص على ما بين يدي من الأصول، ولم أُخْلِ هذا المختصر من نظر واستدراك، أو تصحيح أو تعقيب، وزدت فوائد عديدة، وقدمت بين يدي الكتاب بمدخل مفصل، شرحت فيه المبادئ العشرة لعلم الجرح والتعديل، فإني لم أر من تعرض للكلام فيها، مع شدة الاحتياج إلى بيان معانيها، لتزداد فوائد هذا التلخيص، ولا يباع معها بثمن رخيص.
والله تعالى هو المأمول أن يمن علينا فيه بالقبول، وأن يتغمد بالرحمة المؤلف الجليل ويجزل الثواب للمحقق النبيل، وأن يجزي بالخير من أحسن فينا الظن، وغض عن تقصيرنا الطرف، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
قاله بفمه ورقمه بقلمه خادم العلم الشريف محمد أبو الهدى اليعقوبي برباط الفتح في المملكة المغربية حرسها الله تعالى لثلاث ليال بقين من شهر صفر الخير من سنة ١٤٣٥ قبل رأس سنة ٢٠١٤ المسيحية بيوم.
مدخل
المبادئ العشرة لعلم الجرح والتعديل
قال الإمام شهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني المالكي المتوفى سنة ١٠٤٠ في منظومته "إضاءة الدجنة في اعتقاد أهل السنة":
من رام فنّــًا فليقدم أولا
علمــًا بحده وموضوعٍ تلا
وواضعٍ ونسبةٍ وما استمدّ
منه وفضلِه وحكمٍ يُعتمد
واسمٍ وما أفادَ والمسائلْ
فتلك عشرٌ للمنى وسائل
وبعضهم منها على البعض اقتصرْ
ومن يكن يدري جميعًا انتصرْ
تعريفه:
هو علم يبحث في أحوال الرواة من حيث ما يعرض لهم مما يؤثر في قبول الرواية وردها. ولم نقل يبحث في جرح الرواة وتعديلهم لما يلزم على ذلك من الدور. وقيدنا البحث في أحوال الرواة بأنه من حيث ما يعرض لهم مما يوثر في قبول الرواية وردها لنخرج بقية العلوم المتعلقة بأحوال الرواة كالطبقات والتراجم والتاريخ والسابق واللاحق وغير ذلك. وقيدنا ما يعرض لهم بكونه مؤثرا في قبول الرواية وردها إذ ليس من متعلقات هذا الفن البحث في عامة ما يعرض للرواة إن لم يكن له مدخل في العدالة.
ولم يذكره الجرجاني في التعريفات ولا الكفوي في الكليات، ولا التهانوي في الكشاف. وعرفه حاجي خليفة في كشف الظنون ونقله عنه صديق حسن خان في أبجد العلوم، قال: هو علم يُبحث فيه عن جرح الرواة وتعديلها بألفاظ مخصوصة وعن مراتب تلك الألفاظ. وهو التعريف المتداول اليوم، فقد نقله المعلِّمي في مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم. وقد تقدم ما فيه من الدور، وهو منتقد عندنا أيضا أولا بكون العلم إنما وضع لكشف أحوال الراوي من خلال النظر فيه وفي حديثه، والحكم عليه بالجرح أوالتعديل هو ثمرة ذلك النظر. وثانيا بأن تقييد الجرح والتعديل بألفاظ مخصوصة تحصيل حاصل، وبأن بيان مراتب تلك الألفاظ هو من توابع البحث في أحوال الرواة.
والجَرح لغةً: مصدرُ جَرَحَ يَجْرَحُ من الباب الثالث، لامُه حرفُ حلقٍ، ومعناه: التأثير في البدن بشَقّ ونحوه، قال في اللسان: "جرحه يجرحُه جَرْحًا: أثر فيه بالسلاح" . واستُعمل مجازًا في المعاني كما في البيت المشهور:
جراحاتُ السِّنان لها التئامٌ ولا يلتامُ ما جرحَ اللسانُ
جاء في اللسان: ويقال: جَرَحَ الحاكمُ الشاهدَ إذا عثر منه على ما تسقطُ به عدالته من كذب وغيره. وقد قيل ذلك في غير الحاكم فقيل: جرحَ الرجلَ غضّ شهادتَه.
والجَرحُ اصطلاحًا: وصف الراوي بما يؤثر في قبول روايته.
والتعديل لغةً: مصدر عدّل بتشديد عينه فعل مضعّف، ومعناه في المحسوسات التقويم والتسوية قال الله تعالى: {الّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَّلَكَ} بالتشديد وهي قراءة عامة قراء المدينة ومكة والشام والبصرة أي جعلك معتدلا معدّل الخَلق مقوَّمًا، وقرأ أهل الكوفة بالتخفيف، كما في تفسير ابن جرير الطبري. واستُعمل في المعاني المجردة كما في اللسان بمعنى التزكية، قال: وتعديل الشهود: أن تقول إنهم عدول، وعدّل الحكمَ أقامه، وعدّل الرجلَ: زكاه. والعدَلَةُ والعُدَلة: المزكون، الأخيرة عن ابن الأعرابي، ثم قال: وقدعَدُل الرجلُ عدالة.
والتعديلُ اصطلاحًا: وصف الراوي بما يفيد قبول روايته.
موضوعه:
رواة الحديث ونقلة الأخبار، من حيث القبول والرد.
واضعه:
الكلام في الرجال جرحًا وتعديلاً ثابتٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه والتابعين، وربما كان محمد بن سيرين (-١١٠) أولَ من نبه إلى وجوب النظر في الأسانيد، فقد أخرج الترمذي في آخر الشمائل عنه: "إن هذا الحديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"، وأخرجه مسلم في مقدمة الصحيح بلفظ: "إن هذا العلم دين". وأخرج عنه أيضا: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سَمُّوا لنا رجالَكم، فيُنظرَ إلى حديث أهل السنة فيُؤخذَ حديثُهم، ويُنظرَ إلى حديث أهل البدع فلا يُؤخذَ حديثُهم". ونص ابن رجب في شرح العلل على أنه أول من انتقد الرجال وميز الثقات. واختُلف في المراد بالفتنة ،وأرجح الأقوال عندنا ما روي عن النخعي أنها فتنة المختار بن أبي عُبيد الثقفي.
وربما كان شعبة بن الحجاج (٨٢-١٦٠) أولَ من انصرف للاشتغال بالجرح والتعديل والنظر في الأسانيد والمعارضة بين الروايات، قال ابن الصّلاح رحمه الله في المقدمة: "أول من تكلم فِي الرجال شُعبةُ بن الحجاج ثم تبعه يحيى بنُ سعيد القطانُ ثم بعده أحمد بنُ حنبلٍ ويحيى بنُ معينٍ وهؤلاءِ. قلت: يعني أنه أول من تَصدَّى لذلك وعُنِي به". وقد عقد ابن أبي حاتم الرازي في تقدمة الجرح والتعديل بابًا في: "ما ذُكر من علم شعبة بناقلة الآثار وكلامِه فيهم على حروف الهجاء".
وأول من دَوّن فيه الإمام يحيى بن سعيد القطان (١٢٠-١٩٨)، قال الذهبي في الميزان: "أول من جمع في ذلك الإمام يحيى بن سعيد القطان وتكلم فيه بعده تلامذتُه يحيى بن معين وعلي بن المديني وأحمد بن حنبل وعمرو بن علي القلانسي وأبو خيثمة زهير وتلامذتهم" ويحيى القطان من تلاميذ شعبة.
نسبته إلى غيره من العلوم:
هو أداة يُحتاج إليها في الحديث، فلا يتوصل إلى إثبات الحديث إلا به، فهو آلة للتحقق من الأحاديث والروايات ومعرفة مراتبها لا غنى عنها.
استمداده:
من الكتاب والسنة وعلم التاريخ والتراجم. أما استمداده من الكتاب والسنة فذلك في الاستدلال على أصول الجرح والتعديل نحو الآية: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}، وحديث البخاري: "بئس أخو العشيرة" وحديث مسلم: "أما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له". وفي التعديل نحو قوله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} والحديث المتواتر: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". وأما استمداده من علم التاريخ فذلك في معرفة تواريخ الولادة والرحلة والوفاة ونحوها، واستمداده من التراجم في معرفة شيوخ الراوي ومن لقيه وأين لقيه وفي أي سنة لقيه.
وأما علاقته بعلم مصطلح الحديث فإنه فرع عنه لكنه خادم له، فلا يمكن للمحدث أن يحكم على حديث أنه صحيح أو حسن أو ضعيف أو ثابت أو موضوع إلا بعد النظر في كلام أئمة الجرح والتعديل في رجال إسناده.
أما وسائل هذا العلم المؤديةُ إلى معرفة أحوال الرواة من المعاصرين مما لم يذكر في تاريخ فهي الاجتهاد والنظر والمصاحبة وتتبعُ الحديث والسؤالُ للامتحان، قال القاضي أبو الوليد الباجي في التعديل والتجريح: "أحوال المحدثين في الجرح والتعديل مما يُدرَك بالاجتهاد ويُعْلَم بضربٍ من النظر، ووجه ذلك أن الإنسان إذا جالس الرجل وتكررت محادثته له وإخبارُه إياه بمثل ما يخبر ناس عن المعاني التي يخبر عنها تحقق صدقة وحكم بتصديقه" إلى آخر كلام الباجي الذي فصل فيه وجوه استخراج الحكم على الراوي.
فضله:
هو من أجَلّ العلوم قدرًا إذ عليه المعول في قبول الحديث النبوي الشريف ورده، وله فضل على معظم العلوم لأن الرواية تدخل في التفسير والحديث والتعبير والفقه والاعتقاد والأخلاق واللغة.
حكمه:
أما حكم تعلمه والاشتغالِ به شرعًا فهو الوجوبُ كفايةً، أي يجب تعلمه ومدارسته والاعتناءُ به وجوبًا كفائيا على الأمة، وقد يتعين الوجوب على شخص اشتغل بالحديث وملك أدوات هذا العلم.
وأما حكم التصدي لجَرح الرواة، فالأصل أن ذلك غيبةٌ والغيبة حرام، لكن الجَرح استُثنِي منها، وقد ذكر اللكنوي أن الغيبة تباح في أحوال: للمتظلم على من ظلمه بقدر الظلامة، وللاستعانة على تغيير المنكر إن كان جهرًا، وللمستفتي إذ يطلب معرفة الحكم، وللمستشار في نحو الخِطبة والشركة والوديعة، وللمدعي يجرح الشاهد، وللمحدث يجرح الراوي، ولتحذير الناس من المجاهر بفسقه، وللتعريف بمن فيه وصف يدل على عيب لكن شُهر به. قال ابن الصلاح في بيان علة جواز جرح الرواة: "وجُوّزَ ذلك صَونًا للشَّريعة ونفيًا للخطأِ والكذب عنها".
قال: ولا يجوز الجَرح بما فوق الحاجة، وإن حصل التجريح بواحد أغنى عن الزيادة. ويجب نقل التعديل إن وجد مع الجرح. ولا يجوز الطعن في العلماء. وإنما يُجرح من له رواية، وذلك في الصدر الأول، أما في العصور المتأخرة بعد اكتمال تدوين الحديث فيكفي ثبوت السماع مع صلاح الحال. قال ابن دقيق العيد في الاقتراح: "أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف عـلـى شـفـيرها طائفتان من الناس: المحدثون، والحكام". وشرط الجارح والمعدل العلم والتقوى والورع وترك التعصب ومعرفة أسباب الجرح والتعديل.
اسم العِلم:
علمُ الجرح والتعديل، وقد أُطلق هذا الاسم عليه في بداية القرن الثالث في تقديرنا، فقد ذكر حاجي خليفة في كشف الظنون كتاب الجرح والتعديل لأبي الحسن أحمد بن عبد الله العجلي الكوفي (١٨٢-٢٦١) قال الذهبي: "له مصنفٌ مفيٌد في الجرح والتعديل طالعته وعلقت منه فوائد تدل على تبحره بالصنعة وسعة حفظه"، والعجلي هذا هو ابن صاحب كتاب الثقات الإمام عبد الله بن صالح.
ولعل أول من شَهر هذا الاسم هو الإمام عبد الرحمن ابن أبي حاتم الرازي (-٣٢٧) إذ جعله عنوانًا لكتابه الجليل: "الجرح والتعديل". وقد ألف أبو جعفر محمد بن عمرو العُقَيليّ (-٣٢٢) كتاب الجرح والتعديل وألف عبد الملك بن محمد بن عدي الجرجاني (٢٤٢-٣٢٣) كتابًا بهذا العنوان أيضا.
وقد عُرف العلم قبل ذلك باسم علم معرفة الرجال وعلم الرجال وتاريخ الرجال والتاريخ. ولكنه أخص من علم الرجال وعلم التاريخ، لأنهما يشملان من التراجم والأخبار ما لا مدخل له في الجرح والتعديل. وكتب علل الحديث من أهم مصادر الجرح والتعديل. وتسمى صناعة الجرح والتعديل أيضا صناعة النقد ونقد الرجال، والمشتغل بها هو الناقد لأنه يكشف زيف الحديث ويميز الجيد من الرديء.
ثمرته:
تحقيقُ الأحاديث وتمييز الصحيح من الضعيف والثابت من الموضوع صيانةً للدين وحفظًا للشريعة.
مسائله:
أوصاف الرواة نحو ثقة وصدوق ومقبول أو كذاب ومتروك وواه، وبيانُ ما يُعد قدحًا وما لا يُعدّ، ومراتب الجرح والتعديل وأيهما يقدم عند التعارض للحكم على الرجال.
المرصد الأول
هل يشترط بيان سبب الجرح
المعتمد أن التعديل يقبل مطلقًا، وأن الجرح لا يقبل إلا مع بيان السبب. واقتصر عليه ابن الصلاح، وقال الزين العراقي: إنه الصحيح المشهور. قال النووي: لا يقبل الجرح إلا مفسرًا مبين السبب.
فإن وجدنا في رجل جرحًا مبهمًا نحو: "فلان ضعيف أو ليس بشيء" وهذا كثير، توقفنا عن قبول حديثه للريبة التي أورثها الجرح المبهم، ثم بحثنا عن حاله، فإن انزاحت الريبة قبلنا حديثه كالذين احتج بهم الشيخان، وإلا بأن تبين سبب الجرح رددنا حديثه، كما ذكره ابن الصلاح.
والقول الثاني القوي هو أن الجرح والتعديل كلاهما يقبلان ولو لم يبيَّن السبب، وعزاه الباقلاني للجمهور، واختاره الغزالي والرازي والخطيب والآمدي، وصححه العراقي والبُلقيني، وذكر محقق الكتاب أنه الذي جرى عليه علماء الجرح والتعديل من المتأخرين، أي لم يبينوا السبب مع الجرح. وقال في الاستدلال على فساد القول الأول: "فعلى رأي ابن الصلاح تتعطل علينا أقوال هؤلاء الأئمة كلهم ولا نستفيد منها سوى التوقف". وفي هذا عندنا نظر.
واختار العسقلاني أن الجرح المبهم يقبل في حق من خلا عن التعديل لأنه كالمجهول، وإعمال قول المجرّح أولى من إهماله. أما من وثقه بعض الأئمة فلا يقبل فيه الجرح إلا مبيّنًا، وهذا تحقيق مستحسن كما قال اللكنوي رحمه الله، وهو الذي نختاره، وفيه الجمع بين القولين الأول بعدم قبول الجرح إلا مفسرًا والثاني بالقبول مطلقًا، فاشتراط بيان سبب الجرح مقتصر على من اختُلف في توثيقه، وفي المرصد الثاني زيادة إيضاح.
المرصد الثاني
هل يقدم الجرح أو التعديل عند التعارض
يثبُت الجرح والتعديل بقول الواحد، لأن العدد لم يُشترط في قبول الخبر فلا يشترط في جرح راويه وتعديله، بخلاف الشهادة. ويُقبل الجرح والتعديل من أهل المعرفة من الذكر والأنثى والحر والعبد قياسًا على قبول الخبر.
والجرح إذا كان مفسرًا قُدّم على التعديل ولو كثر المعدّلون، هذا قول الجمهور. والجرح المبهم غير مقبول ولا يمكن أن يعارض التعديل ولو كان التعديل مبهما. ومن أطلق من الأئمة تقديم الجرح على التعديل فمراده التفصيل.
قال الحافظ في ديباجة لسان الميزان: "إذا اختلف العلماء في جرح رجل وتعديله فالصوابُ التفصيلُ: فإنْ كانَ الجرحُ والحالةُ هذه مفسَّرًا قُبل، وإلا عُملَ بالتعديل. فأما من جُهل ولم يُعلم فيه سوى قولِ إمام من أئمة الحديث إنه ضعيفٌ أو متروكٌ ونحوِ ذلك فإنّ القولَ قوله، ولا نطالبه بتفسير ذلك".
وقد يقدم التعديل على الجرح المفسر إذا كان الحاملَ على الجرح التعصبُ أو العداوةُ والتنافر. ولهذا تتمة في آخر الكتاب.
المرصد الثالث
في ألفاظ الجرح والتعديل
أعلى عبارات التعديل:
ثبْتٌ حُجة، ثبْتٌ حافظ، ثقةٌ متقنٌ، ثقةٌ ثقةٌ.
ثم: ثقةٌ، ثبْتٌ، وأَلحق به المحقق لفظة: رضًا، ولفظة مسلمٍ: اكتبْ عنه.
ثم: صدوقٌ، لا بأسَ به، ليس به بأسٌ، مأمونٌ.
ثم: محلّهُ الصدق، جيّدُ الحديث، صالحُ الحديث، شيخٌ وسطٌ، شيخٌ حسنُ الحديثِ، صدوقٌ إن شاء اللهُ، صُويلِحٌ، مقارَِب الحديث - بفتح الراء وكسرها معا - ونحوُها.
وأردأ عبارات الجرح:
دجّالٌ، كذّابٌ، وضّاعٌ، يضعُ الحديثَ، وألحق بها المحقق: له بلايا. وأشد هذا النوع ما جاء بأفعل التفضيل كأكذب الناس.
ثم: متّهمٌ بالكذبِ، متّفقٌ على تركهِ، وأَلحق به المحقق عبارة أبي حاتم: هو على يدَيْ عدلٍ أي يُئِسَ منه، و: مُودٍ أي هالكٌ. وأصل عبارة "على يدي عدلٍ" أن العدل وهو أخو جَزء بن سعد العشيرة بن مالك كان ولي شُرَطَ تُبّعٍ، فكان تُبّعٌ إذا أراد قتل أحد دفع به إليه، فمن ذلك قال الناس: وُضع على يدي عدلٍ، أي هلك، ثم قيل لكل شيئ قد يُئس منه، نقله السخاوي عن إصلاح المنطق لابن السِّكّيت وأدب الكاتب لابن قتيبة.
ثم: متروكٌ، ليسَ بثقةٍ، سكتوا عنه، فيه نظرٌ، ذاهبُ الحديثِ. وهالكٌ، وساقطٌ.
ثم: واهٍ بِمَرّةٍ، ليسَ بشيْءٍ، ضعيفٌ جدًّا، ضعّفوه، ضعيفٌ، واهٍ، ونحوها.
ثم: يضعّفُ، فيه ضعفٌ، قد ضُعّفَ، ليسَ بالقويّ، ليس بحجة، ليس بذاك، يُعْرَفُ ويُنْكَرُ، والصواب في هذه اللفظة: تَعرفُ وتُنكِر وإليه مال المحقق، فيه مقال، تُكُلّمَ فيه، ليّنٌ، سيّءُ الحفظِ، اختُلفَ فيه، صدوقٌ لكنه مبتدعٌ، ونحوها.
ولبعض الأئمة اصطلاحات في بعض هذه الألفاظ تأتي فيما بعد. منها: أن كلمة "سكتوا عنه" وكلمة "فيه نظر" عند البخاري هما في المرتبة الأولى من ألفاظ التجريح فإنه قلما يقول كذاب أو وضاع تورعا، قال العراقي: "فلان فيه نظر، وفلان سكتوا عنه: هاتان العبارتان يقولهما البخاري فيمن تركوا حديثه". ومع ذلك فإنه إذا قال في راو: "فيه نظر" فمراده أنه متهم عنده، لكن قد لا يكون كذلك عند غيره. و نقل المحقق كلاما لشيخه حبيب الرحمن الأعظمي يثبت فيه أن كبار الأئمة كأبي حاتم وابن معين والنسائي والعجلي وابن عدي أثنَوا على بعض من قال فيه البخاري فيه نظر.
وكذلك "فيهٍ لينٌ" فإن الدارقطني قال: "إذا قلتُ ليّنٌ لا يكون ساقطا متروك الاعتبار، ولكن مجروحا بشيء لا يسقُطُ به عن العدالة".
وليُنظَر اختلافُ مدلولات بعض هذه الألفاظ في اللغة خارجَ هذا السياق، إذ قد يقال للواهم والمخطئ كَذَبَ أو كذّابٌ، وهذا غير ما نحن فيه. وقد تتفاوت الألفاظ في المرتبة الواحدة، فالحجة مثلا أقوى من الثقة.
وقد يكون التعديل للراوي بالفعل لا بالقول كالحكم بخبره أو العمل به أو الرواية عنه.
المرصد الرابع
اصطلاحات الحفاظ
* صحيح الإسناد وحسن الإسناد دون صحيح وحسن في الرتبة غالبا، لأن صحة الإسناد لا تقتضي صحة الحديث، لاحتمال أن يكون في المتن شذوذ أو علة.
* قول المحدث هذا حديث صحيح أو حسن أو ضعيف معناه فيما ظهر له عملا بظاهر الأدلة، لجواز الخطأ والنسيان على الثقة، وجواز إصابة كثير الخطأ. لكن الاحتمال لا ينفي ثبوت العدالة أو الخطأ، فيبقى وجوب العمل بحكم المحدث، فالخطأ وإن جاز على الثقة عقلا لكنه منتف عادة، ولذلك وجب العمل بأخبار الآحاد الثقات، وكذلك الإصابة وإن جازت عقلا على من ثبت كذبه أو كثر خطؤه لكنها منتفية عنه عادة.
* قول العلماء لا يصح أو لا يثبُتُ لا يلزم منه الضعف، لاحتمال أن يكون حسنا. قال الزركشي: "بين قولنا موضوع وقولنا لا يصح بَونٌ كبير"، ويدخل هذا تحت قاعدةِ أن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، لكن في اصطلاح المصنفين في الموضوعات: "لا يصح أو لم يثبت" تساوي الموضوع.
* قولهم هذا حديث منكر لا يستلزم أن راويه غير ثقة، قال السخاوي: "وقد يُطلَق ذلك على الثقة إذا روى المناكير عن الضعفاء. قال الحاكم: قلت للدارقطني: فسليمان ابن بنت شُرَحْبيلٍ؟ قال: ثقة، قلت: أليس عنده مناكير؟ قال: يحدّث بها عن قوم ضعفاء، أما هو فثقة.
وكذلك قولهم في الراوي: روى المناكير أو يروي المناكير أو في حديثه نكارَة، فهذه عبارات لا تقدح الراوي قدحا يُعتد به. فإذا كثرت المناكير في حديثه استحق الترك لحديثه وقيل فيه "منكر الحديث". قال ابن دقيق العيد في شرح الإلمام: "قولهم روى مناكير لا يقتضي بمجرده ترك روايته، حتى تكثر المناكير في روايته، وينتهي إلى أن يقال فيه: منكر الحديث، لأن منكر الحديث وصف في الرجل يستحق به الترك لحديثه، والعبارة الأخرى لا تقتضي الديمومة".
وللبخاري اصطلاح في منكر الحديث أنه لا تحل الرواية عنه، قال الذهبي: ونقل ابن القطان أن البخاري قال : "كل من قلت فيه: منكر الحديث، فلا تحل الرواية عنه"، وزاد ابن حجر في اللسان: "وهذا القول مروي بإسناد صحيح عن عبد السلام بن أحمد الخفاف عن البخاري".
لكن الإمام أحمد يطلق هذه اللفظة كما قال الحافظ في مقدمة الفتح على من يُغرِبُ على أقرانه بالحديث، قال المحقق: أي يتفرد وإن لم يخالف. ونصُّ كلام الحافظ: "المنكر أطلقه أحمد بن حنبل وجماعة على الحديث الفرد الذي لا متابع له".
وقول ابن عدي والذهبي في الراوي: "أنكَرُ ما روى" لا يقتضي ضعف الراوي، فإنهم يطلقونه على الحديث الحسن والصحيح بمجرد تفرد راويه به.
والمتقدمون يطلقون "حديثٌ منكرٌ" على ما تفرد به راويه وإن كان من الأثبات، والمتأخرون يطلقونه على رواية راو ضعيف خالف الثقات، ويطلقونه في كتب الموضوعات على الحديث الموضوع.
* إذا قال ابن معين في الراوي: "ليس بشيء" فإن مراده غالبًا أن أحاديثه قليلة جدا، نقله الحافظ في مقدمة الفتح عن ابن القطان الفاسي، وقد يَقصِد به تضعيف الراوي كما أثبته المحقق في حواشيه بثلاثين شاهدًا. وإذا قال: لا بأس به أو ليس به بأس فإنه عنده ثقة، وإذا قال: يكتب حديثه فإنه ضعيف.
* إذا قال أحمد في الرجل: "هو كذا وكذا" فمراده الكناية عمن فيه لين وذلك باللفظ المقترن بالإشارة باليد.
* إذا قال الذهبي في الميزان في الراوي: "مجهول" من غير عزو القول إلى أحد، فإنه ناقلٌ ذلك عن أبي حاتم، إلا مواضع استدركها عليه الحفاظ. ومراد أبي حاتم بقوله مجهولٌ جهالةُ الوصف لا العين، خلافا لجمهور المحدثين.
* وإذا سكت المحدثون كالبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم وابنه عن الراوي هل يكون السكوت تعديلا أو تجهيلا؟ مذهب ابن القطان أن سكوت هؤلاء تجهيل له، قال الزيلعي في نصب الراية عند ذكر موسى بن أبي إسحق الأنصاري: "ذكره ابن أبي حاتم ولم يُعرِّف من أمره بشيء فهو عنده مجهول"، وابن القطان متشدد في الرجال.
والذي رجحه المحقق ابتداءً هو القول بأن السكوت تعديلٌ، واستدل على ذلك بالبراءة الأصلية، وبنفيِ وجود الجارح، وبما نقله ابن أبي حاتم عن أبيه أن رواية الثقة عن المجهول تنفعه. واعتمادا على كلام ابن أبي حاتم نفسه، فإنه قال: "على أنا قد ذكرنا أساميَ كثيرةً مهملة من الجرح والتعديل رجاءَ وجود الجرح والتعديل فيهم، فنحن ملحقوها بهم من بعدُ إن شاء الله تعالى". واتهم المحقق ابن القطان بأنه حمّل البخاريَّ وابنَ أبي حاتم ما لم يقولاه.
وذهب ابن كثير والزركشي إلى أن المسكوت عنه مستور الحال، وهو عدلُ الظاهرِ مجهولُ العدالة باطنا، وحديثه قد يحتج به، وهو ما رجحه المحقق أخيرا، اعتمادا على تعذر الخبرة برجال القرون الثلاثة الأولى، ونَقل عن الذهبي الاستدلالَ برواية مستور الحال واستدل بقوله: "ففي الصحيحين من هذا النمط خلق كثير مستورون ما ضعفهم أحد ولا هم بمجاهيل".
قال الآمدي: "ومن كان مجهول الحال فقط مع كونه معروف العين، أو كان عدل الظاهر خفيّ الباطن، ويقال له عندهم المستور، فمذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر أهل العلم أن مجهولَ الحال غيرُ مقبول الرواية، بل لا بد من خبرةٍ باطنةٍ بحاله. وقال أبو حنيفة وأتباعه: يُكتفى في قبول الرواية بظهور الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهرا".
وقد قيد المتأخرون من الحنفية مذهب أبي حنيفة بصدر الإسلام أي بأهل القرون الثلاثة الأولى للخيرية، وذهب الصاحبان إلى وجوب التزكية فيما بعد تلك القرون لغلبة الفسق. ونقل الزركشي في البحر المحيط أن ابن فُورَكٍ وافق الحنفية، وقد صحح النووي من الشافعية في شرح المهذب صحة رواية مستور الحال، وقال ابن الصلاح - وهو شافعي: "يشبه أن يكون العمل عليه في كثير من كتب الحديث المشهورة في جماعة من الرواة تقادمَ العهد بهم وتعذرت خبرتُهم باطنا". وعليه مشى ابن حبان، فالعدل عنده: من لا يُعرف فيه الجرح.
ولكن المحقق عاد فرجح المذهب الأول بقوله: "فإذا عُلم هذا كله إلخ يُعدّ سكوتُهم عنه من باب التوثيق والتعديل ولا يعد من باب التجريح والتجهيل، ويكون حديثه صحيحا أو حسنا أو لا ينزل عن درجة الحسن إذا سلم من المغامز".
أقول: وبين القولين فرق كما ترى، فعلى الأول يُعد المسكوت عنه ثقة، وعلى الثاني يُعد مستورا، وبينهما فرق ظاهر، وفي المسألة بحث لم يشبعه المحقق رحمه الله لعلنا نرجع إليه.
* والمجهول عند أهل الحديث قال الخطيب: هو كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه ولا عرفه العلماء به، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد". وترتفع جهالة العين برواية اثنين.
* لا يقبل قول أبي حاتم في الراوي إنه مجهول ما لم يوافقه غيره، كما نص عليه ابن دقيق العيد، فقد جهَّل أي حكم بجهالة من هو معروف.
* إذا قال ابن القطان في راو: لا يعرف له حال فالمراد أن أحدا من العلماء الذين عاصروا ذلك الراوي أو أخذوا عمن عاصره لم ينقل عنه ما يدل على عدالته. وابن القطان هو علي بن محمد الفاسي توفي سنة ٦٢٨ صاحب كتاب بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام أي الكبرى لعبد الحق الإشبيلي.
* لا يسقط الاحتجاج بالراوي إذا قيل تركه يحيى القطان، لأنه كان متشددا إذا رأى الراوي يحدث عن حفظه مرة هكذا ومرة هكذا ولا يثبت على رواية واحدة تركه.
* قول العلماء في الراوي إنه ليس مثلَ فلان ليس بجرح.
* قد يصدر من الناقد جرح وتعديل لراو إما لاختلاف السؤال، أو لتغيّر الاجتهاد، أو لأنه سئل عن روايته عن رجل فوقه فضعفه بالنسبة إليه، أو أدرج السؤال عنه مع غيره، كما نبه إليه الباجي. قال رحمه الله في التعديل والتجريح: "واعلم أنه قد يقول المعدل: فلان ثقة، ولا يريد به أنه ممن يُحتج بحديثه، ويقول: فلان لا بأس به، ويريد أنه يُحتج بحديثه، وإنما ذلك على حسب ما هو فيه ووجْهِ السؤال له. فقد يُسأل عن الرجل الفاضل في دينه المتوسطِ حديثُه فيقرنُ بالضعفاء فيقال: ما تقول في فلان وفلان؟ فيقول: فلان ثقة، يريد أنه ليس من نمط من قُرن به وأنه ثقة بالإضافة إلى غيره. وقد يُسأل عنه على غير هذا الوجه فيقول: لا بأس به، فإذا قيل: أهو ثقة؟ قال: الثقة غير هذا".
من ذلك ما قال عثمان الدارمي: "سألت ابن معين عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه كيف حديثهما؟ فقال: ليس به بأس، فقلت: هو أحب إليك أو سعيد المَقبُري؟ قال: سعيد أوثق، والعلاء ضعيف". فلم يرد ابن معين أن العلاء ضعيف مطلقا، وإنما أراد أنه ضعيف بالنسة لسعيد.
* لا يحل الأخذ بقول كل جارح في أي راو كان إلا بعد التنقيح، فقد يكون الجارح مجروحا، قال الحافظ في ترجمة أحمد بن شبيب الحبطي البصري من تهذيب التهذيب بعدما نقل عن الأزدي فيه أنه غير مرضي: "قلت: لم يلتفت أحد إلى هذا القول، بل الأزدي غير مرضي".
وقد يكون الجارح متشددا يَجرح بأدنى جَرح، كأبي حاتم والنسائي وابن معين وابن القطان ويحيى القطان وابن حبان فإنهم معروفون بالإسراف في الجرح والتعنت فيه.
وقد قسم الذهبي من تكلم في الرجال أقساما ثلاثة:
الأول: متعنت في الجرح متثبت في التعديل يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث، فهذا إذا وثّق رجلا فعَضّ على قوله، وإذا ضعف رجلا فانظر هل وافقه غيره على تضعيفه، فإن وافقه ولم يوثّق ذلك الرجلَ أحدٌ من الحفاظ فهو ضعيف، وإن وثقه أحد فهذا الذي قالوا فيه: لا يقبل فيه الجرحُ إلا مفسرا، يعني لا يكفي فيه قول ابن معين مثلا ضعيف ولم يبين سبب ضعفه ثم يجيئ البخاري وغيره يوثقه". ومثل هذا يُختلف في تصحيح حديثه وتضعيفه.
والثاني: منهم متسمّح كالترمذي والحاكم، قال المحقق: أي في تدوينهما حديث بعض الضعفاء، وزاد السخاوي في هذا الصنف ابن حزم لأنه قال عن الترمذي وأبي القاسم البغوي وغيرهما من المشاهير إنه مجهول، واستحسن المحقق عده في المتعنتين في الجرح.
والثالث: معتدل كأحمد والدارقطني وابن عدي.
وكل طبقة من النقاد لا تخلو من متشدد ومتوسط، فمن الأولى: شعبة وسفيان الثوري وشعبة أشد منه. ومن الثانية: يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى أشد منه. ومن الثالثة يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وابن معين أشد منه. ومن الرابعة: أبو حاتم والبخاري وأبو حاتم أشد من البخاري.
وللذهبي عبارة تعب العلماء في شرحها والتماس وجه الصواب فيها هي في قوله: "ولكن هذا الدين مؤيد محفوظ من الله تعالى لم يجتمع علماؤه على ضلالة، لا عمدا ولا خطأ، فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة، وإنما يقع اختلافهم في مراتب القوة أو مراتب الضعف". وموضع النظر هو قوله: "فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة". وقد أطال المحقق في نقل تفسيرات العلماء لهذه الجملة واختار هو أن المراد بلفظ "اثنان" جميع العلماء من غير مخالف، قال: "ويكون معنى كلمة الحافظ الذهبي: لم يقع الاتفاق من العلماء على توثيق ضعيف بل إذا وثقه بعضهم ضعفه غيره، كما لم يقع الاتفاق منهم على تضعيف ثقة، فإذا ضعفه بعضهم وثقه غيره".
والذي أراه بعد التأمل والنظر، أن كلمة "اثنان" قد دخلها التحريف في الخط، والصواب أنها "الناس" وتكون العبارة صحيحة لا حاجة إلى التكلف في التأويل في شرحها. إذ المراد بالناس العلماء، أخرج الخطيب في تاريخ بغداد عن فضيل بن عياض قال: سئل ابن المبارك: من الناس؟ قال العلماء. قيل: فمن الملوك؟ قال الزهاد. قيل: فمن السفلة؟ قال: الذي يأكل بدينه. ومن عرف خط الإمام الذهبي وصعوبته ووصله للحروف والكلمات وتمرس به أدرك أن مثل هذا التحريف وارد، بل هو المخرج الوحيد الذي يستقيم معه النص بغير تأويل. وأنا أعجب كيف لم يهتد إليه المحقق رحمه الله، ولكن كم ترك الأول للآخر.
ومن النقاد من تعنت في جرح بعض أهل البلاد أو المذاهب خاصة فيجب النظر والتنقيح الأمر، فلا يقبل جرح الجوزجاني في أهل الكوفة لشدة انحرافه ونَصْبه، ولا عبرة لحط الذهبي على الأشاعرة والصوفية لتحامله عليهم، وزاد المحقق تعنت نعيم بن حماد على أهل الرأي.
قال التاج السبكي مبينا تحامل الذهبي: "وعنده على أهل السنة تحامل مفرط، فلا يجوز أن يُعتمد عليه، وهو شيخنا ومعلمنا، غير أن الحق أحق بالاتباع. وقد وصل من التعصب المفرط إلى حد يُستحيى منه. وأنا أخشى عليه من غالب علماء المسلمين وأئمتهم الذين حملوا الشريعة فإن غالبهم أشاعرة، وهو إذا وقع بأشعري لا يبقي ولا يذر، والذي أعتقده أنهم خصماؤه يوم القيامة". وعدّ المحقق هذا الكلام من السبكي مبالغة وشططا، ولا نعده كذلك بل هو حقيقة حال الذهبي رحمه الله.
ومن المحدثين من تعنت في رد الأحاديث بالقدح اليسير كأبي الفرج ابن الجوزي وعمر بن بدر الموصلي والرضي الصغّاني في موضوعاتهم، والجوزقاني في الأباطيل، وابن تيمية في منهاج السنة، والفيروزبادي في سفر السعادة.
وقد تعقب العلماء على ابن الجوزي ثلاثمائة حديث حكم بوضعها، منها مائة وثلاثون في الكتب الستة والمستدرك أحدها في صحيح مسلم، فلا يؤخذ بكتابه إلا بعد النظر في تعقبات السيوطي له. وذكر الذهبي أن من عيوب كتاب ابن الجوزي في الموضوعات أنه يسرد الجرح ويسكت عن التوثيق.
وقال الحافظ في لسان الميزان في حق ابن تيمية: "طالعت رد ابنِ تيمية على الحِلّي فوجدته كثير التحامل في رد الأحاديث التي يوردها ابن المطهَّر الحلي، ورد في رده كثيرا من الأحاديث الجياد".
ومن زيادات المحقق: وابن حبان حكم بوضع عدد من الأحاديث لمخالفتها ظاهرا لحديث صحيح، كحديث عبد الله بن أُبيّ أنه أصيبت ثنيتُه يوم أحد فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ثنية من ذهب". وفعل نحو ذلك الجوزقاني ويعقوب الفسَوي لعدم الجمع بين الفقه والحديث، ورد عليهم الأئمة. وقد ساق ابن الجوزي في أخبار الحمقى والمغفلين جملة من الفتاوى المضحكة لبعض كبار المحدثين.
* كتاب الثقات لابن حبان مرتب على ثلاثة أقسام: الصحابة والتابعين وتَبَعِ التابعين. وقد نُسب إلى التساهل في التوثيق، لكن هذه النسبة لا تصح، بل هو معدود ممن له تعنت وإسراف في جرح الرجال. هذا مذهب اللكنوي، وتابعه التهانوي صاحب مقدمة إعلاء السنن. وقد خالفهما المحقق فعده جامعا بين التساهل في التعديل والتشدد في الجرح، إذ القاعدة عنده أن العدل من لم يعرف فيه الجرح، فمن لم يجرح فهو عدل حتى يتبين جرحه، وكل راو انتفت جهالة عينه ولو برواية واحد مشهور عنه كان ثقة عنده إلى أن يتبين جرحه. والجمهور على أن رواية العدل عن المجهول لا تعد تعديلا له. اللهم إلا من عرف أنه لا يروي إلا عن ثقة غالبا كمالك وشعبة والقطان وابن مهدي.
قال السيوطي في التدريب: "قيل: ما ذكر من تساهل ابن حبان ليس بصحيح، فإن غايته أن يسمي الحسن صحيحا فإن كانت نسبته إلى التساهل باعتبار وِجدان الحسن في كتابه فهي مشاحة في الاصطلاح. وإن كانت باعتبار خفة شروطه - فإنه يخرج في الصحيح ما كان راويه ثقة غير مدلس، سمع من شيخه، وسمع الآخذ عنه، ولا يكون هناك إرسال ولا انقطاع. وإذا لم يكن في الراوي جرح ولا تعديل، وكان كل من شيخه والراوي عنه ثقة فهو عنده ثقة. وفي كتاب الثقات له كثير ممن هذه حاله. ولأجل هذا ربما اعتَرض عليه في جعلهم ثقات من لم يعرف حاله، ولا اعتراض عليه، فإنه لا مشاحة في ذلك". وعزا السخاوي هذا الكلام للحافظ.
* الكامل في الضعفاء لأبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني المتوفى سنة ٣٦٥ عن ٨٨ سنة. وشرط فيه أن يذكر كل من تُكُلِّمَ فيه وإن كان ثقة فاضلا، قال في ترجمة أحمد بن صالح المصري: "لولا أني شرطت في كتابي أن أذكر كل من تُكُلم فيه لكنت أُجلُّ أحمد بن صالح أن أذكره". وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: "وفائدة إيراد كل ما قيل في الرجل من جرح وتوثيق تظهر عند المعارضة". وذكر في مقدمة الفتح أن من عادة ابن عدي أن يخرج الأحاديث التي أُنكرتْ على الثقة".
وتابعه الذهبي على هذا الشرط في الميزان، بل بنى الميزان على كتاب ابن عديّ. قال في آخره: "فأصله وموضوعه في الضعفاء، وفيه خلق من الثقات ذكرتهم للذب عنهم أو لأن الكلام غير مؤثر فيهم ضعفا". وقال في ترجمة ثابت البُناني: "ثابت ثابت كاسمه، ولولا ذكرُ ابن عدي له ما ذكرته".
* ولكي تُعرفَ طرق تحقيق الأئمة ضبطَ الرواة وكشف من يخطئ منهم أسوق ما روي عن يحيى بن معين أنه جاء إلى عَفان يسمع منه حديث حماد بن سلمة، فقال: سمعتَه من غيري؟ فقال: نعم، سمعتُه من سبعة عشر رجلا، فأبى أن يحدثه به. فقال: إنما هو درهم وأنحدرُ إلى البصرة وأسمعُه من التبوذكي أي من أبي سلمة. فقال له التبوذكي: سمعتَه من غيري؟ فقال: نعم سمعتُه من سبعة عشر رجلا، فقال: ما تريد بذلك؟ قال أريد أن أميز خطأ حماد بن سلمة من خطأ من روى عنه، فإذا اتفق لي الجميع على خطإ عرفت أنه من حماد بن سلمة، وإذا انفرد به بعض الرواة عنه عرفت أنه منه.
* إرجاء السنة وإرجاء البدعة:
يتردد في كتب الرجال في ألفاظ الجرح الطعن بالإرجاء فيقولون: رُمي بالإرجاء أو كان مرجئا. وقد رمي بالإرجاء عدد من رواة الحديث وأئمة كبار منهم أبو حنيفة رحمه الله، ولكنه إرجاء السنة الذي لا يضر وليس هو بضلال: فقد كان أبو حنيفة وأصحابه يعتقدون أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان لا يزيد ولا ينقص، ولا يدخل العمل فيه، ولكن الطاعات تنفع والمعاصي تضر. وإنما رماه بالإرجاء القدرية فقد كانوا كما ذكر الآمدي يلقبون كل من خالفهم في القدر مرجئا.
ومرجئة الضلال يكتفون في الإيمان بمعرفة الله تعالى، ويجعلون ما سواه من الطاعات غير نافع وما سوى الكفر من المعاصي غير ضار، وهو خارج عن مذهب أهل السنة، وحاشا أبا حنيفة أن يقول به.
ومنهم من أراد به تأخير القول في تصويب إحدى الطائفتين من الذين اقتتلوا بعد عثمان، أي عدمَ القطع بكون أي منهما مخطئا أو مصيبا بل يرجِئُ ذلك. وأول من قال بهذا الحسن بن محمد (ابن الحنفية) الهاشمي كما قال الحافظ في تهذيب التهذيب.
وعد الشهرستاني من فرق المرجئة: الثَّوبانية أصحاب أبي ثوبان المرجئ، والتُّومَنية أصحاب أبي معاذ التومَني، والصالحية أصحاب صالح بن عمرو (أو عمر)، واليونسية، والعُبيدية أصحاب عُبيد المُكَتّب، والغسانية أصحاب غسان بن أبان الكوفي.
وقسم الخادمي في كتاب الطريقة المحمدية المرجئة أقساما:
فضرب يرجئون أمر المؤمنين والكافرين إلى الله يغفر لمن يشاء من المؤمنين والكافرين معا ويعذب من يشاء، وهم كفار.
وضرب يقولون حسناتنا متقبلة قطعا وسيئاتنا مغفورة والأعمال ليست بفرائض وإنما هي فضائل، وهم كفار أيضا.
وضرب يقولون لا نتولى المؤمنين المذنبين ولا نتبرأ منهم، فهؤلاء المبتدعة، ولا تخرجهم بدعتهم من الإيمان إلى الكفر.
وضرب هم أهل السنة يقولون نرجئ أمر المؤمنين ولو فساقا إلى الله، فلا ننزلهم جنة ولا نارا ولا نتبرأ منهم، ولكن نتولاهم في الدين، وهؤلاء اقتدَوا بقوله عز وجل: {وآخرونَ مـُرجَونَ لأمر الله إما يعذبهم أو يتوب عليهم}. وروي عن عثمان البَتّيّ أنه كتب إلى أبي حنيفة وقال: أنتم مرجئة؟ فأجابه بأن المرجئة على ضربين: مرجئة ملعونة وأنا بريءٌ منهم، ومرجئة مرحومة وأنا منهم. وكتب فيه بأن الأنبياء كانوا كذلك، قال عيسى عليه السلام: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}.
* ما جاء في الغنية للشيخ عبد القادر الجيلاني من نسبة هذا القول لأبي حنيفة رحمه الله وعدّ الحنفية بين فرق الضلالة خطأ بيّنٌ. واختار المحقق السيالكوتي والعارف النابلسي أن تلك العبارة مدسوسة مكذوبة على الشيخ كما دسوا على الشيخ محيي الدين ابن العربي والمجد الفيروزبادي والإمام الشعراني. ورد المصنف القول بالدس بعدم وجود نسخ خالية عن تلك البلية، وأطال في توجيه هذا القول بما لا حاجة له.
وقد أثبت المحقق أن ترجمة أبي حنيفة في الميزان قد دُست على الذهبي، فقد اطلع هو على نسخة المصنف في الخزانة العامة بالرباط (المكتبة الوطنية) وهي نحو النصف الثاني من الكتاب ولم يجد فيها ترجمة أبي حنيفة، وقد نص على ذلك الصنعاني في توضيح الأفكار فقال: "لم يترجَم لأبي حنيفة في الميزان"، كما أنها لم ترد في نسخة سبط ابن العجمي التي اعتُمدت في التحقيق.
* وأبو جعفر محمد بن عمرو العُقَيليّ المتوفى بمكة سنة ٣٢٢ له كتاب الضعفاء الكبير وكتاب الجرح والتعديل، وله في الجرح جراءة وقد تكلم في الثقات الأثبات، وقد رد العلماء عليه وقالوا: لا يُتابَع عليه.
* والجرح إذا صدر عن تعصب أو عداوة أو منافرة فهو مردود، ولذا لم يُقبلْ قولُ مالك في محمد بن إسحق صاحب المغازي، ولا قدح الثوري في أبي حنيفة، ولا قدح ابن معين في الشافعي، ولا قدح أحمد في المحاسبي. ولا يُقبلُ جرح الأقران إلا بشرطين: أن لا يكون بينهما تعصب ومنافرة وأن يكون الجرح مبينا. قال الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمة أبي بكر بن أبي داود السجستاني المتوفى سنة ٣١٦ بعدما نقل توثيقه عن جمع من الثقات: "وعن ابن صاعد وغيرِه تضعيفُه. قلت: لا ينبغي سماع قول ابن صاعد فيه، كما لم يقدح تكذيبه لابن صاعد. وكذا لا يُسمع كلام ابن جرير فيه، فإن هؤلاء بينهم عداوة بيّنة. فقف في كلام الأقران بعضهم في بعض". وقال في ترجمة أبي الزناد عبد الله بن ذكوان: "قال فيه ربيعة: ليس بثقة ولا رضًا" قلت: لا يُسمع قول ربيعة فيه، فإنه كانت بينهما عداوة ظاهرة".
قال التاج السبكي في الطبقات الكبرى:"الحذر كل الحذر أن تفهم أن قاعدتهم: الجرحُ مقدم على التعديل على إطلاقها. بل الصواب أن من ثبتت إمامتُه وعدالته وكثر مادحوه وندَر جارحوه وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره لم يُلتفَت إلى جرحه".
وقال أيضا: "ينبغي لك أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين، وأن لا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض إلا إذا أتى ببرهان واضح. ثم إن قدرت على التأويل وتحسين الظن فدونك، وإلا فاضرب صفحًا عما جرى بينهم فإنك لم تُخلق لهذا فاشتغل بما يعنيك ودع ما لا يعنيك. ولا يزال طالب العلم نبيلا حتى يخوض فيما جرى بين الماضين".
وقد تم بفضل الله تعالى ما قصدنا إليه من التهذيب والاختصار لكتاب الرفع والتكميل للإمام اللكنوي والتعليقات عليه، مع زيادات لطيفة وتحقيقات نادرة امتن الله تعالى بها علينا، فجاء بحمد الله تعالى لطيفا الحجم عظيم النفع، نسأل الله تعالى أن يتقبله منا وأن يتجاوز عنا ما كان فيه من خطأ أو تقصير، فما تصدينا لذلك إلا للضرورة، وأن يتغمد بالرحمة مؤلف الأصل ومحققه، وأن ينفع بهذا المختصر قارئه وكاتبه، وأن يُجزل الثواب لمشايخنا ومن أفادنا وأجازنا ومشايخهم أجمعين. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق